أصول الفقه – يوم الأربعاء ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٥
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.
مناقشة في بيان المحقّق النائيني مع التسلّم على المباني الأربعة
إنّ لأستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه إشكالاً جديداً على المحقّق النائينيّ رضوان الله تعالى عليه حتّى مع قبول المباني الأربعة المبتني عليها تقريبه من الناحية الكبرويّة، فلو سلّمناها كبرويّاً لكن في تطبيقها على محلّ الكلام إشكال يمكن توضيحه بأنّ التقدّم والتأخّر سواء كانا زمانيّين أو رتبيّين – ولم يفرّق المحقّق النائينيّ بينهما – لا بدّ أن يكونا في العنصر المشترك بين العلمين الإجماليّين لا في العنصر الخاصّ للعلم الإجماليّ الثاني. ألم نقل إنّ عندنا علماً إجماليّاً بنجاسة ألف أو باء ثمّ على أثر ملاقاة الثوب لأحد الطرفين صار عندنا علم إجماليّ ثان في الطرف الآخر بأنّه إمّا باء نجس أو الثوب الملاقي لألف؟ فالتقدّم والتأخّر سواء كانا زمانيّين أو رتبيّين لا بدّ أن يكونا بلحاظ باء الذي هو مشترك بين العلمين الإجماليّين لا بلحاظ الثوب، فإنّهما بلحاظ باء لا يكفي.
والهدف في هذا الإشكال أن نثبت أنّ التقدّم والتأخّر الرتبيّين يكونان بلحاظ الثوب فقط لا بلحاظ الطرف المشترك الذي هو باء، وهذا لا يكفي للانحلال حتّى عند المحقّق النائينيّ حسب هذه المباني. وللتوصّل إلى هذه النتيجة يمثّل أستاذنا الشهيد بأمثلة ثلاثة بعد أن نتذكّر أنّ المحقّق النائينيّ قد شبّه بحثنا هذا ببحث وقوع قطرة دم في أحد الإناءين ثمّ وقوع قطرة منه إمّا في أحد هذين الإناءين الأوّلين أو في إناء ثالث، وبين البحثين عنصر مشترك.
ولتوضيح أنّ «المحقّق النائينيّ لا يفيده التقدّم والتأخّر – سواء زماناً أو رتبة – في مادّتي الافتراق وإنّما يحتاجهما في الجانب المشترك»، يمثّل أستاذنا الشهيد بثلاثة أمثلة في ذاك البحث أي بحث قطرتي الدم.
فلنفترض أنّه يوجد في بحث قطرتي الدم ثلاثة أوان، أسود وأبيض وأصفر، والطرف المشترك هو الأبيض.
فالمثال الأوّل ما إذا كان الطرف المشترك والطرف الخاصّ كلاهما مسبوقين بالعلم الإجماليّ الأوّل.
والمثال الثاني ما إذا كان الطرف المشترك مسبوقاً به ولكنّ الطرف الخاصّ بالعلم الإجماليّ الثاني غير مسبوق بعلم إجماليّ سابق.
والمثال الثالث ما إذا كان الطرف المشترك غير مسبوق به وإنّما يكون الطرفان الخاصّان مسبوقين به.
ويوضّح أنّ المحقّق النائينيّ يقبل بالانحلال في المثالين الأوّلين بخلاف المثال الثالث؛ لأنّ الطرف المشترك ليس مسبوقاً بعلم إجماليّ سابق.
توضيح المثال الأوّل: فهو ما إذا علمنا إجمالاً بوقوع قطرة دم صباحاً إمّا في الإناء الأسود أو في الإناء الأبيض وعلمنا كذلك بوقوع قطرة دم عصراً إمّا في الأبيض أو الأصفر، فكلا طرفي العلم الإجماليّ مبتلى بتعلّق علم إجماليّ سابق به أي الأبيض والأسود، فلا شكّ أنّ المحقّق النائينيّ يبني فيه على الانحلال.
توضيح المثال الثاني: فهو ما إذا علمنا إجمالاً أن وقعت قطرة دم صباحاً في الأسود أو الأبيض وعلمنا الإجماليّ تغيّر وهو العلم إجمالاً بوقوعها في الأبيض المشترك عصراً أو في الأصفر صباحاً. فالطرف المشترك متأخّر زماناً عن العلم الإجماليّ الأوّل، ولكن الطرف الثاني والعلم الإجماليّ الثاني وهو وقوعها في الأصفر ليس متأخّراً.
فيقبل المحقّق النائينيّ في هذين المثالين الانحلال، والنكتة التي جعلته يقبل هي أنّ العنصر المشترك هو المتأخّر زماناً عن العلم الإجماليّ الأوّل وهو أيضاً لم يفرّق بين أن يكون زماناً أو رتبةً.
توضيح المثال الثالث: ولم يكن الطرف المشترك في المثال الثالث متأخّراً زماناً، وإنّما يكون هكذا الطرف الآخر للعلم الإجماليّ الثاني وهو الأصفر. ومثاله أن علمنا إجمالاً بقوع قطرة دم صباحاً إمّا في الأسود أو الأبيض ثمّ علمنا إجمالاً بقوع قطرة دم منها إمّا في الأبيض صباحاً أو الأصفر عصراً، فعلى فرض كون القطرة الثانية قد وقعت في مادّة الاشتراك فهو ليس متأخّراً عن العلم الإجماليّ الأوّل بل مقارن له وعلى فرض كونها واقعاً في مادّة الافتراق وهو الأصفر فهو متأخّر ولا يفيده فلم يقبل بالانحلال.
وقبوله الانحلال في الأوّلين وعدمه في الثالث شاهد واضح ودليل على أنّ الميزان عنده كون الطرف المشترك بالذات متأخّراً عن العلم الإجماليّ السابق أو مسبوقاً بعلم إجماليّ. فنقول عندئذ إنّه واضح [أنّه لاحظ التقدّم والتأخّر] بلحاظ الزمان، فهو قابل للانطباق في بحث أن يكون العلم الإجماليّ بألف أو باء ثمّ لاقى الثوب ألفاً، فيمكن فيه من حيث التقدّم والتأخّر الزمانيّين افتراض أنّ بحثنا هذا مشابه للمثال الأوّل أو الثاني لا الثالث، لكن من حيث التقدّم والتأخّر الرتبيّين يشبه المثال الثالث الذي لا يقبل فيه الانحلال؛ لأنّ التقدّم والتأخّر الرتبيّين حصلا في الثوب أمّا الطرف المشترك فليس متقدّماً رتبة وإن تفترضه متقدّماً زماناً، ولكن من حيث الرتبة يكون الثوب هو الذي رتبته متأخّرة عن العلم الإجماليّ الأوّل؛ لأنّه إن كان نجساً من الصبح فنجاسته معلولة لنجاسة ألف، ولكنّ الطرف المشترك ليس معلولاً لمتعلّق العلم الإجماليّ الأوّل، وعليه لا يمكن قياس التقدّم والتأخّر الرتبيّين بالتقدّم والتأخّر الزمانيّين في ما نحن فيه، فمن المسلّم في التقدّم والتأخّر الرتبيّين أنّ في مادّة الافتراق (وهو الثوب) يوجد التقدّم والتأخّر الرتبيّين، ولكن مادّة الاشتراك ليس فيه تقدّم وتأخّر رتبيّ، والنتيجة أنّه بحسب التقدّم والتأخّر الرتبيّين لا يحقّ للمحقّق النائينيّ أن يقول بالانحلال وإن كان من حقّه – بعد التنزّل عن كلّ ما سبق – أن يقول به في التقدّم والتأخّر الزمانيّين.
والحمد لله ربّ العالمين.