أصول الفقه – يوم الأحد ١٠ جمادى الثانية ١٤٤٥
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.
خلاصة الأبحاث الماضية
قلنا يقع الكلام في الجهة الأولى من الجهات الثلاثة التي أوعد بها أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه في البحث عن حكم الملاقي لأحد طرفي العلم الإجماليّ في ما بعد المرحلة الثالثة وقبل الرابعة من المراحل الأربعة التي ذكروها. يعني إذا حصل الملاقاة بين الثوب وبين ألف قبل أن يحصل لنا علم إجماليّ أصلاً ثمّ خرج الملاقى – أي ألف – عن محلّ الابتلاء ثمّ حصل العلم الإجماليّ بأنّه إمّا ألف الذي حصل الملاقاة بينه وبين الثوب أو باء نجس، وقبل المرحلة الرابعة أي رجوع ما خرج عن محلّ الابتلاء إليه.
وقلنا يختلف ذلك باختلاف المباني الأربعة التي بحثناها سابقاً، فمبنى السيّد الخوئي القائل بضابطة الزمان كان أنّ المتقدّم زماناً يوجب انحلال المتأخّر زماناً، ومبنى الشيخ الأنصاريّ القائل بأنّ الضابطة رتبيّة كان أنّ السابق رتبة يوجب انحلال المتأخّر رتبة، وكان المبنى الثالث أي مبنى المحقّق العراقيّ أيضاً أنّ الضابطة هي الرتبيّة (كما قال به الشيخ الأنصاريّ) ولكنّ الفرق بينهما أنّ الشيخ الأنصاري يقول بأنّ العلم الإجماليّ ينحلّ على أساس جريان الأصل المؤمّن في الثوب بلا معارض، بينما أنّ المحقّق العراقيّ لا يقول بالانحلال على هذا الأساس، بل على أساس أنّ العلم الإجماليّ لا بدّ أن يكون صالحاً لتنجيز معلومه على كلّ حال، وإذا جاء في أحد الطرفين منجّز آخر في رتبة سابقة ونجّزه فيكون غير صالح لتنجيز معلومه في هذا الطرف الذي يوجد فيه المنجّز؛ لأنّ المنّجز لا ينجّز مرّة ثانية.
وفي ما نحن فيه ذكرنا سابقاً أنّه على مبنى السّيد الخوئيّ لا بدّ من القول بعدم الانحلال ووجوب الاجتناب عن الثوب لأنّ العلمين الإجماليّين تولّدا في زمان واحد فلا يكون التقدّم والتأخّر الزمانيّين حتّى يوجب الانحلال عنده.
وعلى مبنى الشيخ الأنصاري قلنا لا يجب الاجتناب عن الثوب؛ لأنّ التقدّم والتأخّر الرتبيّ موجودان وهذا يكفي للانحلال.
حكم الملاقي في المرحلة الثالثة على مبنى المحقّق العراقي رحمه الله
وبدأنا حكم الثوب في هذه المرحلة على مبنى المحقّق العراقيّ، فإنّ المحقّق العراقيّ إنّما يقول بالانحلال في ما إذا وجد التقدّم والتأخّر الرتبيّ بين العلمين الإجماليّين، فالعلم الإجماليّ السابق رتبة يوجب انحلال العلم الإجماليّ المتأخّر رتبة، وفي ما نحن فيه لا يوجد اختلاف رتبيّ بين العلمين الإجماليّين؛ لأنّهما تولّدا معاً في رتبة واحدة، فلا نقدر أن نقول إنّ هذا ولّد ذاك أو ذاك ولّد هذا، وإذا لم يوجد اختلاف رتبيّ بينهما فيتنجّزان معاً ولا يوجب هذا انحلال ذاك ولا ذاك انحلال هذا، وبالتالي يجب الاجتناب عن الثوب.
إشكال في وجه الفرق بين مبنى المحقّق العراقي ومبنى الشيخ الأنصاري رحمهما الله
ويوجد هنا إشكاليّة؛ بأنّه هل يوجد التقدّم والتأخّر الرتبيّ بالأخرة أو لا؟ ففي البحث على طبق رأي الشيخ الأنصاري قلنا بأنّه لا يوجد التقدّم والتأخّر الزمانيّ ولكنّ الاختلاف الرتبيّ موجود، ولهذا انتهينا إلى انحلال العلم الإجمالي الثاني المتأخر رتبةً، لأنّ العلم الإجماليّ الأوّل السابق رتبة أوجب انحلال الثاني المتأخّر رتبة، فلا يجب الاجتناب عن الثوب، بينما أنّه لمّا وصل النوبة إلى مبنى المحقّق العراقيّ قلنا بعدم وجود التقدّم والتأخّر الرتبيّ؛ لأنّ العلمين الإجماليّين تولّدا دفعة واحدة، لا هذا امتاز على ذاك ولا ذاك على هذا وهما في رتبة واحدة. فبالأخرة هل يوجد بينهما التقدّم والتأخّر الرتبيّ حتّى يتمّ مبنى الشيخ الأنصاري، أو لا يوجد الاختلاف الرتبيّ حتّى يتم مبنى المحقّق العراقيّ؟
الجواب عن الإشكال
وهذه إشكاليّة عويصة ولكن بالرجوع إلى المبنيين والتمييز بينهما بدقّة وفهم مرادهما يزول هذا الإشكال، وهذا ببيان أنّه يوجد فكرتان، فكرة التقدّم والتأخّر بين الأصول المؤمّنة وفكرة التقدّم والتأخّر بين نفس العلمين الإجماليّين.
فإنّه يوجد بينهما فرق حيث إنّ الاختلاف الرتبة على الأوّل تكون بوصف كون الشكّ في الثوب وليداً للشكّ في ألف فالأصول المؤمّنة الجارية في هذين الشكّين تعدّ من الشكّ السببيّ والمسبّبيّ؛ لأنّ الشكّ في ألف سبب للشكّ في الثوب.
وأمّا على الثاني يوجد التقدّم والتأخّر الرتبيّ بين نفس العلمين الإجماليّين بأن يكون أحدهما مولّداً للآخر.
وشتّان بين الأمرين، فعلى مبنى الشيخ الأنصاريّ القائل بكفاية التقدّم والتأخّر الرتبيّ لانحلال المتأخّر، إنّما كان يقصد الاختلاف الرتبيّ في الأصول المؤمّنة لا بين نفس العلمين الإجماليّين، وإن كان لعلّه عندما وضّحنا مبناه لم يتّضح الفكرة، فعلى مبنى الشيخ الأنصاريّ إنّ الشكّ الذي يستحقّ الأصل المؤمّن في الثوب وليد للشكّ المستحقّ للأصل المؤمّن في ألف، فإذا تساقط الأصل المؤمّن في ألف مع الأصل المؤمّن في باء لا مانع بعدُ من جريان الأصل المؤمّن في الثوب؛ لأنّ الثوب قد تساقط الأصل المؤمّن في طرفه للعلم الإجماليّ – أي باء –، وبالتالي لا مانع من وصول النوبة إلى الأصل المؤمّن في الثوب.
هذا كلام الشيخ الأنصاري ولا فرق فيه بين أن يوجد بين العلمين الإجماليّين التقدّم والتأخّر أو لا يوجد؛ لأنّه لم يقصد الاختلاف الرتبيّ بين العلمين الإجماليّين، وإنّما يركّز النظر – خلافاً لظاهره – إلى الأصول المؤّمنة، فالأصل المؤمّن الذي يستحقّه الثوب في طول الأصل المؤمّن الذي يستحقّ ألف وبما أنّ الأصل المؤمّن في ألف تساقط مع الأصل المؤمّن في باء تصل النوبة إلى الأصل المؤمّن في الثوب؛ لأنّه متأخّر رتبة. ولهذا قلنا إنّ كلامه لا زال في هذه المرحلة جارياً.
ولهذا لا ينافي هذا الكلام مع ما ذكرنا على مبنى المحقّق العراقيّ وهو يقول – حسب مبناه – تارة يكون العلم الإجماليّ بين ألف وباء علّة لتوليد العلم الإجماليّ بين باء والثوب، وتارة بالعكس فيكون العلم الإجماليّ بين باء والثوب علّة لتوليد العلم الإجماليّ بين ألف وباء، وتارة ثالثة لا هذا ولا ذاك، وإنّما التقدّم والتأخّر الرتبيّين لا يوجد، بل تولّدا دفعة واحدة، فهنا نقول بناء على هذا التفصيل الذي ذكره إنّ العلم الإجماليّ بعد المرحلة الثالثة يكون من أيّ قسم من هذه الأقسام الثلاثة؟
فهنا لا يوجد في الرتبة السابقة علم إجماليّ منجّز، وإنّما العلمان الإجماليّان في رتبة واحدة يريدان التنجيز، فلا هذا يوجب انحلال ذاك ولا ذاك يوجب انحلال هذا، فيتنجّزان معاً، ومع هذا فيجب الاجتناب عن كلّ الأطراف الثلاثة، وبالتالي يجب الاجتناب عن الثوب بهذا السبب، أي بسبب عدم وجود التقدّم والتأخّر الرتبيّ بين العلمين الإجماليّين، بخلاف الأصول المؤمّنة، فإنّه يوجد بينهما التقدّم والتأخّر؛ لأنّ الشكّ الموجود في الملاقي والملاقى يعدّ من الشكّ السببيّ والمسبّبيّ.
وبهذا ينحلّ التضادّ البادي إلى الذهن بين النتيجة الحاصلة على رأي الشيخ الأنصاريّ والنتيجة الحاصلة على رأي المحقّق العراقيّ.
والحمد لله ربّ العالمين