أصول الفقه – يوم السبت ١٦ جمادي الأولى ١٤٤٥
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.
قيل إذا حصلت الأمور بنحو ترتيبيّ منظّم حيث تكون المرحلة الأولى حصول الملاقاة قبل أن يحصل العلم الإجماليّ، والمرحلة الثانية خروج الملاقى (ألف) عن محلّ الابتلاء، والمرحلة الثالثة حصول العلم الإجماليّ بنجاسة إمّا ألف أو باء، والمرحلة الرابعة رجوع الملاقى (ألف) إلى محلّ الابتلاء، فقالوا في هذه الحالة يتبدّل الحكمان في الثوب وألف، يعني أنّ الثوب يجب الاجتناب عنه وألف لا يجب الاجتناب عنه، بعكس ما كنّا نقول سابقاً.
وقلنا يقع الكلام في ذلك ضمن ثلاث جهات، الجهة الأولى في حكم هذا الثوب قبل الرجوع إلى محلّ الابتلاء، والنتائج التي انتهينا إليه في هذه الجهة أنّه على جميع المباني يجب الاجتناب عن الثوب إلّا على مبنى الشيخ الأنصاريّ، فإنّه على مبناه لا يجب الاجتناب عن الثوب.
وبدأنا بالجهة الثانية التي كان البحث فيها عن حكم ألف بعد رجوعه إلى محلّ الابتلاء حتّى نرى في الجهة الثالثة ماذا حكم الثوب بعد رجوع ألف إلى محلّ الابتلاء؟ حتّى نجد أنّه هل يتبادلان في الحكم حقّاً أو لا؟
الجهة الثانية في بحث التبادل في الحكم بين الملاقي والملاقى
فأستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه يبحث هنا أيضاً على اختلاف المباني الأربعة.
الجهة الثانية على مبنى السيّد الخوئي رحمه الله
فعلى مبنى السيّد الخوئيّ فلا يجب الاجتناب عنه، وهذا ما يقرّبنا إلى النتيجة التي يريدونها من «عدم وجوب الاجتناب عن ألف ووجوب الاجتناب عن الثوب»، فإذا ثبت في الجهة الثالثة أنّ الثوب يجب الاجتناب عنه فتكون النتيجة أنّه لا يجب الاجتناب عن ألف ويجب الاجتناب عن الثوب، وهذا يعني أنّ ما قالوه من تبادل الحكمين يتمّ.
الجهة الثانية على مبنى الشيخ الأنصاري رحمه الله
القول الأوّل: وجوب الاجتناب عن ألف
وعلى مبنى الشيخ الأنصاري قد يقال بوجوب الاجتناب عن ألف، وذلك لأنّه على مبناه قلنا بأنّ الاختلاف الرتبي في الأصول يكفي للانحلال، فيجب الاجتناب عن ألف لانحلال العلم الإجماليّ الثاني وبقاء العلم الإجماليّ الأوّل (بين ألف وباء)، فما دام الأصل الجاري في ألف ساقطاً مسبقاً [رتبةً] للتعارض مع الأصل الجاري في باء، فيجب الاجتناب عنه.
القول الثاني: عدم وجوب الاجتناب عن ألف
وقد يقال في مقابل ذلك بأنّ أصالة الطهارة لا تسقط بتمام مصبّاتها مع أصالة الطهارة في باء؛ لأنّ أصالة الطهارة تعني التعبّد بآثار الطهارة، فقد يتمّ التعبّد ببعض آثارها ولا يتمّ التعبّد ببعضها [الآخر]، رغم أنّه نعلم بالتلازم بين آثار الطهارة بحسب الحكم الواقعيّ، فهو [بحكمه الواقعيّ] إمّا طاهر فتجري كلّ الآثار وإمّا غير طاهر فلا تجري أيّ واحد من الآثار، ولكن بحسب الحكم الظاهريّ يمكن التفكيك بالتعبّد ببعض آثارها وعدم التعبّد ببعضها الأخرى.
فإنّ آثار الطهارة في ما نحن فيه على قسمين في ألف؛ لأنّ بعضها مترتّبة على ذات ألف (مثل جواز أكله وشربه وجواز الصلاة فيه)، والقسم الآخر آثار غير مباشرة له وهي آثار حاصلة عن طريق الثوب الملاقي له، فهذا القسم أيضاً يعتبر بشكل غير المباشر آثاراً لطهارة ألف، فإذا كان ألف طاهراً فالثوب أيضاً طاهر فيجوز الصلاة فيه.
فإنّ خروج ألف عن محلّ الابتلاء ثمّ رجوعه إليه يكون بلحاظ القسم الثاني [من آثاره (أي آثاره المباشرة)]، فإذا كان خارجاً بلحاظ تلك الآثار عن محل الابتلاء فلا معنى لإجراء أصالة الطهارة فيها. وأمّا بلحاظ الآثار المترتّبة عليه بشكل غير المباشر عن طريق الثوب فإنّه كان في محلّ الابتلاء، إذاً فأصالة الطهارة تجري بلحاظ الآثار غير المباشرة التي هي في محلّ الابتلاء ولا تجري بلحاظ الآثار المباشرة لألف، فيتحقّق التفكيك بين جريان أصالة الطهارة بلحاظ بعض الآثار وعدم جريانها بلحاظ بعضها الأخرى. [وعلى هذا فعند رجوع ألف إلى محلّ الابتلاء فتجري أصالة الطهارة بلحاظ الآثار المباشرة له بلا معارض، لأنّ معارضها – التي هي أصالة الطهارة في باء – قد سقط سابقاً بالتعارض مع أصالة الطهارة الجارية في ألف بلحاظ الآثار غير المباشرة له.] هذا هو القول الثاني الذي قد يقال.
مقتضى التحقيق على ما يوضّحه الشهيد الصدر رحمه الله: وهو التفصيل
ولكن أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه يقول إنّ هذا التفكيك في إجراء أصالة الطهارة لا يتمّ بناءً على القول بالانحلال على أساس التقدّم والتأخّر الرتبيّين بين الأصول، وإنّما يتمّ إذا أدخلنا التقدّم والتأخّر الزمانيّين أيضاً في عنصر الاعتبار، فإنّه لا يكون منافاة بينهما بأن يكون كلّ منهما (أي التقدّم والتأخّر الرتبيّين والتقدّم والتأخّر الزمانيّين) يوجب الانحلال.
فإذا بقينا مع مبنى الشيخ الأنصاري فقط وقلنا بأنّ الميزان هو التقدّم والتأخّر الرتبيّين لا الزمانيّين، فالسابق رتبة يوجب انحلال المتأخّر رتبة. والأصل الجاري في الثوب هنا لا يكون أسبق رتبةً من الأصل الجاري ألف (ولو بلحاظ الآثار المباشرة لألف) حتّى يسبّب انحلال العلم الإجمالي بين ألف وباء، وإنّما يكون أسبق زماناً منه. فإذا بنينا على مبناه فقط لا يحصل الانحلال ولا تجري أصالة الطهارة في ألف؛ لأنّها قد تتساقط مع أصالة الطهاة في باء، وبالتالي يجب الاجتناب عن ألف.
وأمّا إذا قلنا بأنّه كما أنّ التقدّم والتأخّر الرتبيّين يوجبان تقدّم الأصل السابق على الأصل المتأخّر رتبة فكذلك التقدّم والتأخّر الزمانيّين يوجبانه، يعني أنّ كلا الميزانين من السيّد الخوئيّ والشيخ الأنصاريّ صحيح، فيتمّ ذاك التفصيل في أصالة الطهارة في حدود ما هو في محلّ الابتلاء.
إذاً فيقول الشهيد الصدر إنّ ما قيل من أنّه تجري أصالة الطهارة بلحاظ الآثار غير المباشرة ولا تجري بلحاظ الآثار المباشرة، هذا التفكيك إنّما يؤثّر في المقام بناءً على قبول تأثير زمان جريان الأصول على انحلال العلم الإجماليّ.
هذا تعليق أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه على هذا المبنى. وأمّا على مبنى المحقّق العراقيّ ثمّ على مبنى المحقّق النائينيّ فسيأتي الكلام عنهما في الدرس القادم إن شاء الله.
والحمد لله ربّ العالمين.