أصول الفقه – يوم الإثنين ١٩ جمادي الأولى ١٤٤٥
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.
خلاصة البحث السابق
قلنا إنّ بيان المحقّق النائينيّ رضوان الله تعالى عليه يبتني على أربعة مبان وبدأنا بالمناقشات التي ذكرها أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه في هذه المباني الأربعة.
ففي المناقشة الأولى ذكر أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه أنّ القاعدة الكليّة المذكورة في المبنى الأوّل من هذه المباني غير مقبولة عندنا لما سبق، وأشرنا إلى وجه بطلان هذه القاعدة المذكور سابقاً في الأبحاث والتنبيهات السابقة.
المناقشة الثانية بعد التنزّل عن المناقشة الأولى وقبول هذه القاعدة العامّة – من أنّ المنجّز سابقاً لا يقبل التنجيز مرّة أخرى – فإنّه ولو قبلناها سيلغى ما جاء في المبنى الثالث من هذه المباني – من الحاجة إلى كون التقدّم والتأخّر من حيث «المعلوم» لا من حيث «العلم»–، وذلك لأنّ التنجيز يكون من آثار العلم، فما يقال من أنّ التنجيز لا يتكرّر على شيء واحد يرتبط بالعلم لا بالمعلوم، سواء كان متقدّماً أو متأخّراً. فمن يقول بهذه القاعدة فلا بدّ أن يجعل الميزان التقدّم والتأخّر في العلم لا في المعلوم.
المناقشة الثالثة في المباني الأربعة، وهي تورد على المبنى الثاني
والآن في المناقشة الثالثة نتنزّل من كلتا المناقشتين السابقتين، فأوّلاً نسلّم جدلاً القاعدة الكلّيّة التي تقول بأنّ المنجّز لا ينجّز مرّة أخرى، وثانياً نرفع اليد أيضاً عمّا ذكرناه في المناقشة الثانية من أنّه لا يمكن أن يكون الميزان بالتقدّم والتأخّر في المعلوم بل لا بدّ أن يكون الميزان هو التقدّم والتأخّر في العلم. ولنوضّح صياغة التنزّل عنه ثمّ نقول ماذا هو الإشكال الذي يترتّب عليه.
فصياغة التنزّل عنه أن يقال بأنّ الميزان هو التقدّم والتأخّر في المعلوم لا في العلم (حسب ما يريده المحقّق النائينيّ) يكون بسبب أنّ العلم إنّما ينجّز بوصفه كاشفاً عن معلومه، فلو أنّ العلم في زمان متأخّر كشف عن معلوم في زمان متقدّم فتنجيزه يتقدّم عليه، وهذا البيان وإن كان واضح البطلان لكنّه صياغة رفع اليد عمّا ذكرنا في المناقشة الثانية، بأن يقال إنّ العلم قد يتأخّر عمّا ينجّزه فينجّز معلوماً سابقاً، وذلك بحجّة أنّ العلم ينجّز بوصفه كاشفاً عن معلومه، فحتّى وإن كان المعلوم في زمان سابق على العلم فالعلم كما يكشف عن ذلك المعلوم السابق ينجّز ذلك المعلوم السابق أيضاً، فيكون الميزان بالتقدّم والتأخّر في المعلوم؛ لأنّ المعلوم يمكن أن يكون سابقاً على علمه في التنجيز كما يمكن أن يكون سابقاً على العلم به في الكاشفيّة.
والإشكال المترتّب عليه هو أنّ هذا التوجيه لو صحّ في منجّز غير العلم الإجماليّ في الأوّل الذي ينجّز أحد طرفي العلم الإجماليّ الثاني، فلو كان بدلاً عن العلم الإجماليّ الأوّل، استصحاب ما أو أمارة ما أو خبر عدلين مهما كان نجّز أحد طرفي العلم الإجماليّ بحيث لا يكون علم إجماليّ سابق وعلم إجماليّ لاحق بل علم إجماليّ واحد ولكن قد تنجّز أحد طرفيه بمنجّز مثل استصحاب أو غيره، فلو صحّ هذا التوجيه هناك لكنّه لا يصحّ في ما نجّز علم إجماليّ أحد طرفي علم إجماليّ آخر كما في ما نحن فيه، وبهذا سيبطل المبنى الثاني من هذه المباني وهو تعميم هذه الدعوى لفرض كون ذلك المنجّز علماً إجماليّا آخر.
لكنّه كيف يبطل؟ وأيّ فرق بين ما إذا كان ذلك المنجّز لأحد طرفي العلم الإجماليّ استصحاباً أو أمارة وما شابه، أو كان علماً إجماليّاً سابقا؟
فالجواب: أنّ الفرق هو أنّه إذا كان ذلك المنجّز عبارة عن علم إجماليّ سابق فمع فرض قبول أنّ العلم الإجماليّ يمكن أن ينجّز معلوماً سابقاً فعليه لا يبقى فرق بين هذين العلمين الإجماليّين، فكما يدّعى أنّ هذا يحلّ ذاك قد يدّعى أنّ ذاك يحلّ هذا، فلا يبقى فرق بينهما، وذلك لأنّ العلم الإجماليّ السابق بتنجيزه المتأخّر يريد أن ينجّز معلوماً متقدّماً زماناً – حسب فرض ما يريده المحقّق النائينيّ الذي يقول إذا كان المعلوم أو أحد طرفيه للعلم الإجماليّ متقدّماً لا يتنجّز المعلوم المتأخّر الثاني –، فلا يبقى مجال لهذا الكلام؛ لأنّ المعلومين صارا بنحو واحد؛ لأنّ المعلوم الذي يفترضه في زمان سابق تنجّز بمنجّز متأخّر؛ لأنّه يفترض أنّ التنجّز يمكن أن يحصل بعلم لمعلوم سابق على ذلك العلم، إذاً فلمَ ينحلّ هذا بذاك؟ فلينحلّ بالعكس؛ لأنّهما يصبحان على حدّ سواء، ولا التقدّم الزمانيّ يشفع له ولا التقدّم الرتبيّ، وإذا كان ذلك التنجيز الذي لحق أحد طرفيه العلم الإجماليّ هو علم إجماليّ سابق فحسب هذه التصوّرات لا التقدّم الزمانيّ يصحّح الأمر ويوجب بطلان المعلوم الثاني ولا التقدّم الرتبيّ، أمّا أنّ التقدّم الزمانيّ لا يشفع له فلأنّه صحيح أنّا افترضنا تنزّلاً أنّ العلم الإجماليّ قد نجّز أحد طرفي العلم الإجماليّ الثاني لمعلوم سابق زماناً ولكنّ هذا السبق الزمانيّ يكون أسبق زماناً من التنجّز الحاصل بهذا العلم الإجماليّ لا من نفس العلم الإجماليّ فالتنجّز متأخّر، يعني أنّ العلم الإجماليّ الأوّل بنجاسة إمّا ألف أو باء سابق ولكنّ تنجّزه حصل عند حصول الملاقاة وحصول العلم الإجماليّ الثاني، فصار العلم الإجماليّ الثاني إمّا بنجاسة باء أو الثوب فهذه المعلوم بالعلم الإجماليّ الثاني إذا كان متقدّماً زماناً فلا فائدة في هذا التقدّم له؛ لأنّ هذا العلم الإجماليّ الأوّل تنجّزه الحاصل متأخّراً نجّز ذاك المعلوم السابق فلا ينطبق قاعدة أنّ المنجّز لا ينجّز مرّة ثانية؛ لأنّ التنجّزين حصلا في زمان واحد، فالتنجّز الحاصل من العلم الإجماليّ الأوّل لمعلوم العلم الإجماليّ الثاني والتنجّز الحاصل بالعلم الإجماليّ الثاني لطرفه هذا صارا في زمان واحد.
فلم يتحقّق مورد لقضيّة أنّ المنجّز بتنجيز سابق يريد أن يتنجّز بتنجيز متأخّر، يعني أنّ هذه القاعدة لا تجري، فنقول للقائلين بهذه القاعدة إنّ التنجّزين صارا في زمان واحد وإن كان المنجّز بأحدهما في زمان سابق على فرض إمكان أن يكون العلم ينجّز شيئاً أسبق منه، فعلى هذا صار التنجّز متأخّراً، يعني أنّ التنجّز الحاصل بالعلم الإجماليّ الأوّل والتنجّز الحاصل بالعلم الإجماليّ الثاني تقارنا، وإذا تقارنا لا تجري القاعدة القائلة إنّ المنجّز سابقاً لا ينجّز متأخّراً؛ لأنّ التنجّز ليس سابقاً ولاحقاً بل إنّ التنجّزين اقترنا وإن كان المعلوم المنجَّز سابقاً، فهذا لا يشفع له؛ لأنّهما صارا في زمان واحد فلماذا يحلّ هذا ذاك؟ فلْيحلّ ذاك هذا. فانحلال العلم الإجماليّ الثاني بالعلم الإجماليّ الأوّل كانحلال العلم الإجماليّ الأوّل بالعلم الإجماليّ الثاني على مستوى واحد.
والتقدّم الرتبيّ أيضاً لا ينفعه لما سيأتي من عدم دخالة التقدّم والتأخّر الرتبيّين الذي جاء في المبنى الرابع من هذه المباني من توسعة أو تعميم للتقدّم والتأخّر الرتبيّين.
هذه هي المناقشة الثالثة بعد التسليم والتنزّل لما جاء في المناقشة الأولى والثانية.
والحمد لله ربّ العالمين.