أصول الفقه – يوم الأحد ١١ جمادى الأولى ١٤٤٥
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.
خلاصة البحث السابق
قلنا إنّ أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه أورد نقضاً على ما قاله المحقّق النائينيّ من أنّ العلم الإجماليّ لا بدّ من أن يكون على كلا تقديريه علماً لحدوث التكليف لا لبقائه، وفيما نحن فيه بما أنّ العلم الإجماليّ الثاني – أي العلم الإجماليّ بنجاسة باء أو الثوب الملاقي لألف – على أحد تقاديره علمٌ بحدوث التكليف وهو ما إذا كان المعلوم بالإجمال في طرف الثوب، ولكن إذا كان المعلوم بالإجمال في باء فهذا علم بالبقاء وليس علماً بحدوث التكليف.
فأورد عليه النقض بأنّه إذا كان أحد طرفي العلم الإجماليّ مشكوكاً بالشكّ البدويّ فعندئذ وإن لم يكن منجّزاً ولكن سيكون المعلوم بالإجمال في هذا الطرف بقائيّاً ولو احتمالاً، فنحتمل كون النجاسة في هذا الطرف المشكوك بالشكّ البدويّ مسبقة ونحتمل أن تكون النجاسة فيه بقاء لذاك المشكوك، فلا يعلم علماً إجماليّاً بحدوث الحكم على كلّ تقدير.
مقايسة البيان المحقّق النائيني والمحقّق العراقيّ رضوان الله تعالى عليهما
ثمّ يقول: لو أدمجنا بين كلام المحقّق العراقيّ وبين كلام المحقّق النائينيّ وقلنا لعلّ مراد المحقّق النائينيّ بقوله لا بدّ من أن يكون العلم على كلا تقديره علماً بحدوث التكليف لا ببقائه، فهو ما قاله المحقّق العراقيّ من أنّ أحد الطرفين إذا كان منجّزاً بمنجّز سابق لا يقبل التنجيز مرّة أخرى. فكلامهما متقاربان جدّاً، فالمحقّق العراقيّ يقول يجب أن يكون على كلا التقديرين علمٌ بما لم يتنجّز مسبقاً، والمحقّق النائينيّ يقول يجب أن يكون على كلا التقديرين علمٌ بالحدوث لا بالبقاء، يعني أن يكون هذا في الواقع ثابتاً سابقاً وقع الآن طرفاً للعلم الإجماليّ وعلى تقديره بقائيّ، فإن كان هكذا فيزول العلم الإجماليّ، ويسمّيه بالانحلال الحقيقيّ. والمحقّق العراقيّ قال بدل «لابدّيّة كون كلا طرفيه حدوثيّاً لا بقائياً»: لا بدّ من أن يكون كلّ طرف غير منجّز مسبقاً. فأحدهما يقول غير موجود مسبقاً حتّى يصير بقائيّاً، والآخر يقول غير منجّز مسبقاً.
احتمال وحدة مراد المحقّق النائينيّ مع ما أفاده المحقّق العراقيّ رضوان الله تعالى عليهما
فخطر ببال أستاذنا الشهيد أنّه لعلّ مراد المحقّق النائينيّ هو مراد المحقّق العراقيّ ولكنّه باختلاف التعبير. ويقول إن كان هذا مراده فهذا سوف يرفع هذا النقض الذي ذكرناه من أنّ أحد طرفيه قد يكون مشكوكاً مسبقاً بشكّ بدويّ سابق فلا يحرز كونه حدوثيّاً، فإذا اكتفينا بهذا المقدار بصيغة المحقّق النائينيّ السابقة يرد النقض عليه؛ لأنّه لا نحرز كونه حدوثيّاً ولكن إذا تكلّمنا وفق تعبير المحقّق العراقيّ بأن يشترط عدم كونه منجّزاً بمنجّز سابق فهذا غير منجّز بمنجّز سابق، فهذا الشرط متوفّر فلا نقض عليه. نعم إنّه قد لا يكون حدوثيّاً بل بقائيّاً. فلو كان مراده ما قاله المحقّق العراقيّ لا يرد عليه النقض.
ولكن بعد أن أثار هذا الاحتمال قال إن كان هذا مراده ونضمّ إليه أنّ المناط هو التقدّم والتأخّر في المعلومين لا في العلمين والمعلوم بالعلم الإجماليّ الثاني متأخّر دائماً عن المعلوم بالعلم الإجماليّ الأوّل، والعلمان قد يتقدّم هذا تارة وذاك أخرى وتارة يقترنان زماناً ولكنّ المعلومين دائماً حصل هذا المعلوم بملاقاة الثوب لألف، فإذاً بضمّ كون المناط ما ذكر إلى كون مراده هو ما قاله المحقّق العراقيّ قد ينتهي إلى صحّة مراده النهائيّ وهو أنّه متى ما تمّ ملاقاة شيء لأحد طرفي العلم الإجماليّ، فهذا العلم الإجماليّ الثاني ينحلّ ولا يجب الاجتناب عندئذ عن هذا الملاقي؛ لانحلال هذا العلم الإجماليّ الثاني.
مناقشات على المباني الأربعة التي يبتني عليها الوجه الرابع
وتوجد مناقشات على تلك المباني الأربعة التي على أساسها حكم المحقّق النائينيّ بعدم وجوب الاجتناب عن ملاقي أحد طرفي العلم الإجماليّ.
ولكن هذه المناقشات التي أثارها على تلك المباني بعضها مبنيّة على صحّة هذا الاحتمال من اتّفاق مرادهما، وبعضها مطلقة سواء كان مراد المحقّق النائينيّ هو مراد المحقّق العراقيّ من الحيثيّة التي ذكرناها أو لم يكن مراده ذاك، بل كان يقصد حقيقة الحدوث في مقابل البقاء. فلنبدأ بالمناقشات التي أعمّ من النوعين.
المناقشة الأولى حول المبنى الأوّل من المباني الأربعة
المناقشة الأولى حول المبنى الأوّل من المباني الأربعة المفترض قبولها عند المحقّق النائينيّ وهو دعوى انحلال العلم الإجماليّ بقيام منجّز سابق في أحد طرفيه ككبرى كلّيّة، فيحوّلها أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه إلى بحث سبق في التنبيه الخامس من تنبيهات العلم الإجماليّ [بعنوان «تداخل العلمين في بعض الأطراف»] وهو ما سبق بيانه[1] من أنّه لم يتنجّز هذا العلم الإجماليّ فيما نحن فيه بمنجّز سابق بل بمنجّز مقارن لهذا العلم الإجماليّ في الرتبة، وتأخّره زماناً فلا قيمة له؛ لأنّ العلم بوجوده البقائيّ يؤثّر في الزمان المتأخّر فيصير أيضاً مقارناً زماناً، وهذا الذي شرحناه أكثر من مرّة. وأمّا التأخّر الرتبيّ ففي الأبحاث الماضية بحثناه بأنّ العلم الإجماليّ الأوّل ولّد شيئين في عرض واحد هما منجّزيّته نفسه لطرفيه الذي أحدهما عبارة عن الطرف المشترك وهو باء، والثاني هو العلم الإجماليّ الثاني، فيولّدهما دفعة واحدة في عرض واحد، فالعلم الإجماليّ الثاني وليد العلم الإجماليّ الأوّل إلى جنب منجّزيّة العلم الإجماليّ الأوّل، فالعلم الإجماليّ الثاني أو هذا الطرف لم يتنجّز بمنجّز سابق بل تنجّز بمنجّز مقارن في الرتبة، فما يقال في المبنى الأوّل لا مورد ومصداقيّة له.
وبعد ذلك نتحوّل إلى المناقشة حول المبنى الثالث من هذه المباني وسيأتي الكلام عنه في الدرس القادم.
والحمد لله ربّ العالمين.
[1]. راجع مباحث الأصول: الجزء الرابع من القسم الثاني، الصفحة 158.