أصول الفقه – يوم الأحد ١٨ جمادى الأولى ١٤٤٥
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.
خلاصة الأبحاث السابقة
قلنا إنّ للمحقّق النائينيّ بياناً جديداً يختلف عن البيانات السابقة لإثبات عدم وجوب الاجتناب عن الثوب الملاقي لأحد طرفي العلم الإجماليّ. فإذا كان لدينا علم إجماليّ بنجاسة إمّا ألف أو باء والثوب لاقى ألف فقالوا بانحلال هذا العلم الإجماليّ أو بشيء من الأشكال فيسقط ولا يجب حينئذ الاجتناب عنه لجريان البراءة عنه.
وقلنا بأنّه توجد أربعة بيانات لإثبات رأيهم، والبيان الرابع للمحقّق النائينيّ، وقلنا إنّ بيانه يبتني على أربعة مباني:
المبنى الأوّل: دعوى انحلال العلم الإجماليّ بقيام منجّز سابق في أحد طرفيه، علماً إجماليّاً كان أو أمارة منجّزة.
والمبنى الثاني: تعميم هذه الدعوى لفرض كون ذلك المنجّز علماً إجماليّاً نجّز أحد طرفي العلم الإجماليّ الثاني.
والمبنى الثالث: كون العبرة بالتقدّم والتأخّر في المعلومين لا في العلمين، كما أصرّ عليه المحقّق النائينيّ.
والمبنى الرابع: تعميم التقدّم والتأخّر، للتقدّم والتأخّر الرتبيّين، لا فقط الزمانيّين.
وصرنا بصدد مناقشة هذه الأربعة.
تكملة المناقشة الأولى
ففي المناقشة الأولى قال أستاذنا الشهيد بأنّا لا نوافق هذه القاعدة العامّة في المبنى الأوّل؛ لما سبق في التنبيه الخامس[1]. ووجدنا نحن فيه الإشارة إلى التنبيه الثاني، وقال في التنبيه الثاني إنّ هذا مبحوث في مناقشتنا للأخباريّين حول وجود العلم الإجماليّ بالتكاليف في دائرة الأمارات والأصول المنجّزة للتكليف[2]، فقالوا ينحلّ بذلك العلم الإجماليّ الكبير، فراجعت ذلك البحث، فالشيء الذي حصلت عليه أخيراً هو أنّ أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه يناقش في القاعدة المدّعاة بأنّه إذا كان أحد طرفي العلم الإجماليّ منجّزاً بمنجّز سابق فهو غير صالح للتنجيز فيسقط هذا العلم الإجماليّ الثاني.[3]
ثمّ ذكر هنا أنّ المحقّق النائينيّ يقول بأنّ سقوط هذا العلم الإجماليّ إنّما يكون لأجل أنّ المعلوم في أحد طرفيه ليس أمراً حدوثيّاً؛ فإنّه يشترط أن يكون العلم الإجماليّ على كلا تقديريه علماً بحدوث التكليف، بينما هنا يكون علماً ببقاء التكليف في أحد طرفيه.
وقلنا لعلّ المحقّق النائينيّ يقصد بقوله: «لا بدّ أن يكون حدوثيّاً لا بقائيّاً» ما يقارب أو ما يكون مرجعه إلى ما قاله المحقّق العراقيّ من أنّه لا بدّ أن يكون غير منجّز بمنجّز سابق.
فيقول أستاذنا الشهيد إنّ هذه القاعدة – بعد احتمال أن يكون مراد المحقّق النائينيّ يرجع إلى مراد المحقّق العراقيّ – مردودة ببيانات سابقة، وهي ما جاء في التنبيه الخامس، ثمّ تحوّلنا منه إلى التنبيه الثاني، ومنه إلى ما جاء في النقاش مع الأخباريّين، وانتهيت إلى هذا البيان وهو:
أنّ عالم التنجيز ومنجّزيّة العلم ليس من سنخ عالم الأسباب والمسبّبات التكوينيّة حتّى يقال إذا جاء سبب فلا يجتمع معه السبب الثاني، فإنّ هذا في عالم الأسباب والمسبّبات والعلّيّات الخارجيّة، فيقولون في عالم الأسباب والمسبّبات الخارجيّة بأنّه يستحيل اجتماع العلّتين على معلول واحد، فإذا سبقت علّة فالعلّة الثانية إمّا لا تؤثّر أو تؤثّر بنحو الجزئيّة مع ذاك المؤثّر الأوّل، فيصيران جزئين من علّة واحدة على معلول واحد. فهذه القضايا التي يبحثوها في الفلسفة أيضاً في عالم العلّيّة التكوينيّة في الأشياء الخارجيّة.
فيقول أستاذنا الشهيد في بحثنا هذا في علّيّة العلم للتنجيز: إنّ هذا الباب ليس هو باب العلّيّات التكوينيّة حتّى يقال لا يجتمع علّتان على معلول واحد وإذا كان كذلك فماذا يحصل؟ هل أنّ العلّة الأولى تؤثّر والعلّة الثانية تسقط؟ أو أنّهما تندمجان ويصبح كلّ منهما جزء العلّة؟
فيقول إنّ بحث العلّيّة والمعلوليّة في علّيّة العلم للتنجيز يختلف عن ذاك الباب نهائيّاً ولا يمكن أن نبحث فيه بتلك الموازين.
إذاً ماذا هي الموازين التي لا بدّ أن نعتمد عليها في بحث علّيّة العلم للتنجيز؟
فيقول هذا يرتبط بحقّ طاعة المولى وحكم العقل العمليّ، لا حكم العقل النظريّ أصلاً، و[حكمُ] أسباب المسبّبات الخارجيّة من أحكام العقل النظريّ، مثل الإمكان والوجوب والامتناع، بينما بحثنا هذا – وهو بحث علّيّة العلم الإجماليّ للتنجيز – يرتبط ببحث العقل العمليّ، وقبح مخالة المولى ووجوب إطاعة المولى عقلاً من العقل العمليّ ومن فروع بحث الحسن والقبح العقليّين تجاه المولى تبارك وتعالى.
إذاً فبهذه الطريقة التي ذكروها لإثبات سقوط منجّزيّة العلم الإجماليّ الثاني لا يمكن إثبات سقوطه لوجود سبب سابق لتنجيز أحد طرفي هذا العلم الإجماليّ قياساً بالأسباب الخارجيّة، فلا يمكن بها إثبات الانحلال الحكميّ أو الحقيقيّ لهذا العلم الإجماليّ؛ لأنّ هذه البيانات تناسب عالم الأسباب والمسبّبات الخارجيّة التابعة للعقل النظريّ، بينما بحثنا في حدود وجوب طاعة الله عقلاً بحكم العقل العمليّ.
وما هي الحدود التي يقبح مخالفتها لأحكام الله تبارك وتعالى؟ هل يوجد في هذا العلم الإجماليّ حكم عقليّ بوجوب الطاعة في طرفيه أو لا؟ بقطع النظر عن كونه سبباً سابقاً؛ لأنّ هذا السبب السابق ليس من القضايا الخارجيّة التكوينيّة حتّى نتمسّك بهذا السبب السابق.
فهذه البيانات التي ذكرت وبالأخصّ بيان المحقّق العراقيّ من أنّ «المنجّز إذا كان موجوداً سابقاً، لا يمكن تنجيزه مرّة أخرى بهذا العلم الإجماليّ الجديد، فينحلّ هذا العلم الإجماليّ»، هذه البيانات غير صحيحة.
بل الصحيح أنّه أساساً – بقطع النظر عمّا ذكره المحقّق العراقيّ والمحقّق النائينيّ الذي من المحتمل إرجاع قوله إلى ما ذكره المحقّق العراقيّ – لا بدّ أن نجد هل يوجد سببٌ لانحلال هذا العلم الإجماليّ بمعنى «عدم وجوب طاعة طرفيه»، لا بمعنى أنّ فيه السببيّة قياساً للسببيّة الخارجيّة، بل هذا العلم الإجماليّ الثاني هل في نفسه يوجد ما يوجب سقوطه عن التنجيز أو لا؟ لأنّ ما نعلم من قبح مخالفته لأحكام الله تبارك وتعالى هو الأحكام الواصلة إلينا بالوصول القطعيّ عند المشهور وبالوصول القطعيّ والظنّيّ والاحتماليّ عند أستاذنا الشهيد، ما لم يرد مبرّر وأصل شرعيّ لمخالفة الظنّ والاحتمال.
و[لا بدّ أن نبحث عن أنّ قبح مخالفة] العلم هل يشمل العلم التفصيليّ فقط أو حتّى العلم الإجماليّ؟
فنقول هذا العلم الإجماليّ الثاني موجود بين باء والثوب الملاقي لألف، ولا يمكن إسقاطه بما ذكره المحقّق العراقيّ، إذاً فهذا العلم الإجماليّ ما دام أنّنا نؤمن بأنّ حقّ طاعة المولى كما يجري في العلم التفصيليّ يجري في العلم الإجماليّ أيضاً فحينئذ لا بدّ من الإطاعة والاحتياط في طرفي هذا العلم الإجماليّ.
فما أشير إليه من أنّ هذه القاعدة غير مقبول عندنا ببيانات سابقة يبدو أنّ هذا هو السبب في عدم قبوله.
والظاهر أنّ أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه بإشارته إلى بيانات سابقة يقصد هذا البيان.
هذا هو الإشكال الأوّل على المباني الأربعة التي يبتني عليها تقريب المحقّق النائينيّ رضوان الله تعالى عليه وهو عدم قبول هذه القاعدة.
المناقشة الثانية في كلام المحقّق النائيني
والإشكال الثاني على هذه المباني [يكون حول المبنى الثالث القائل بكون العبرة بالتقدّم والتأخّر في المعلومين لا في العلمين] وهو أنّا لو سلّمنا بهذه القاعدة ففي ما نحن فيه لا يوجد موجب لـ[ـكون الملاك في] التقدّم والتأخّر في المعلوم لا في العلم.
وهذا الكلام إنّما يحتاجه المحقّق النائينيّ فيما إذا أصرّ على كون العلم لا بدّ أن يتعلّق بحدوث التكليف لا ببقائه، فالحدوث والبقاء يكون في المعلومات لا في العلم فلهذا أصرّ على أنّه لا بدّ أن يكون التقدّم والتأخّر في المعلومين، بينما إذا قلنا إنّ القضيّة قضيّة التنجيز [ولا بدّ] أن لا يكون [طرف العلم الإجماليّ] منجّزاً بمنجّز سابق، فالتنجيز ناشئ من العلم لا المعلوم، فلا بدّ أن يعتبر الميزان هو التقدّم في عالم التنجيز الحاصل من العلم لا عالم المعلومين في طرفي هذا العلم الإجماليّ.
إذاً يسقط ما بنى عليه في المبنى الثالث من أنّه لا بدّ أن يكون التقدّم والتأخّر في المعلومين لا في العلمين، وهذا في ما إذا قلنا إنّ مراد المحقّق النائينيّ يندمج مع مراد المحقّق العراقيّ في هذه النقطة.
والحمد لله ربّ العالمين.
[1] التنبيه الخامس من تنبيهات العلم الإجماليّ، مباحث الأصول: الجزء الرابع من القسم الثاني، الصفحة 153 – 162.
[2] التنبيه الثاني من تنبيهات العلم الإجماليّ، مباحث الأصول: الجزء الرابع من القسم الثاني، الصفحة 108.
[3] راجع بحث انحلال العلم بالأمارات في مباحث الأصول: الجزء الثالث من القسم الثاني، الصفحة 380.