أصول الفقه – يوم الثلاثاء ٢٠ جمادى الأولى ١٤٤٥
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.
خلاصة البحث السابق
قلنا إنّ المحقّق النائينيّ رضوان الله تعالى عليه استند في تقريبه الذي ذكره لعدم وجوب الاجتناب عن الثوب الملاقي لأحد طرفي العلم الإجماليّ إلى أربعة مبان ذكرها أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه وأخذ يبيّن الإشكالات الممكن إيرادها عليها أو على بعضها.
المناقشة الرابعة في المباني الأربعة، وهي تورد على المبنى الرابع
والآن نأتي إلى الإشكال المورَد على المبنى الرابع وهو كان عبارة عن كفاية التقدّم والتأخّر الرتبيّين بين المعلوم بالعلم الإجماليّ الأوّل والمعلوم بالعلم الإجماليّ الثاني، وأنّه ليس من الضروريّ أن يتمّ التقدّم والتأخّر الزمانيّين بينهما بل يكفي التقدّم الرتبيّ الموجود في المعلوم بالعلم الإجماليّ الأوّل؛ فإنّ الضابطة عنده التقدّم والتأخّر في المعلومين لا في العلمين فيقول يكفي التقدّم والتأخّر بين المعلومين بلحاظ الرتبة.
وسبق وأن ذكرنا أنّه استدلّ على كون المعلوم بالعلم الإجماليّ الثاني متأخّراً رتبة دائماً عن المعلوم بالعلم الإجماليّ الأوّل بأنّ نجاسة الثوب يكون بملاقاته لأحد طرفي العلم الإجماليّ، فهذا الثوب إن كان نجساً فنجاسته حاصلة بسبب سراية النجاسة من ألف في فرض كونه هو النجس الواقعيّ، فالعلّة هي نجاسة ألف والمعلول نجاسة الثوب، فنجاسة الثوب إن كانت واقعيّة فهي متأخّرة رتبة عن نجاسة ألف، وهذا يعني أنّ المعلوم بالعلم الإجماليّ الثاني متأخّر رتبة عن المعلوم بالعلم الإجماليّ الأوّل.
وقال أستاذنا الشهيد إنّه اكتفى بهذا المقدار من الاستدلال على كون العلم الإجماليّ الثاني متأخّراً رتبة، ويقصد بـ«اكتفى» أنّه غير كاف ولكنّه اكتفى به. ونحن ذكرنا وجه عدم كفايته من أنّه إنّما صار متأخّراً على أحد التقديرين لا على كلا التقديرين، بأن كان هذا العلم الإجماليّ الثاني بين بنجاسة باء أو الثوب المعلوم بهذا العلم الإجماليّ الثاني إن كان في الثوب فمتأخّر رتبة ولكن إن كان في باء فليس كذلك، فغريب من المحقّق النائينيّ أنّه لم يلتفت إلى ذلك.
وعلى كلّ حال ومع غضّ النظر عن ذلك والبناء على أنّ المعلوم بهذا العلم الإجماليّ متأخّر رتبة عن العلم الإجماليّ الأوّل بين ألف وباء، فهل هذا التقدّم والتأخّر الرتبيّين يكفيان لما ذكره من أنّ هذا المتأخّر رتبة يسقط ولا ينجّز علمه الإجماليّ بسبب أنّ معلومه متأخّر رتبة عن معلوم العلم الإجماليّ الأوّل؟
وكان لوجه انحلال العلم الإجماليّ الثاني – سواء انحلالاً حكميّاً أو حقيقيّاً – فيما إذا كان المعلوم متأخّراً رتبة عن المعلوم بالعلم الإجماليّ الأوّل صيغتان، صيغة ميرزائيّة وصيغة ضيائيّة حسب تعبير أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه. فالميرزا النائينيّ يقول بأنّه ينحلّ؛ لأنّه ليس علماً بحدوث التكليف على كلا التقديرين بل إنّه على أحد التقديرين علم بالبقاء، والصياغة الضيائيّة تقول بأنّه ينحلّ؛ لأنّ المنجّز لا ينجّز مرّتين والعلم الإجماليّ لا بدّ أن يكون صالحاً لتنجيز معلومه على كلّ حال وتقدير، وإذا كان أحد الطرفين منجّزاً سابقاً فعلى تقدير كون معلومه في هذا الطرف يكون تنجيزاً ثانياً.
فيقول أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه: سواء [شرحنا الانحلال] بالصياغة الميرزائيّة أو العراقيّة لا يمكن قياس التقدّم والتأخّر الرتبيّين بالتقدّم والتأخّر الزمانيّين. فلو سلّمنا بكلّ ما قال به المحقّق النائينيّ في التقدّم والتأخّر الزمانيّين من أنّه إذا كان معلوم أحد من العلمين الإجماليّين (أي العلم الإجماليّ الثاني بين باء والثوب) متأخّراً زماناً عن معلوم الآخر (أي العلم الإجماليّ الأوّل بين ألف وباء) فهذا التأخّر الزماني يوجب انحلال العلم الإجماليّ الثاني، فلا نسلّم هذا البيان في التقدّم والتأخّر الرتبيّين. فإنّ التأخّر الرتبيّ لا يكفي للانحلال، وهذا يحتاج إلى توضيح، تارة بحسب الصياغة الميرزائيّة وتارة بحسب الصياغة الضيائيّة.
أمّا بحسب الصياغة الميرزائيّة فالمعلوم بهذا العلم الإجماليّ هو التكليف، وحدوثه الذي يريده زمانيّ ولا يكون رتبيّاً عقليّاً فهذا ليس من الأمور العقليّة الصالحة للتقدّم والتأخّر الرتبيّين بل بطبعه زمانيّ، ففي طول الزمان يمكن أن يكون حدوث المعلوم بالعلم الإجماليّ متأخّراً زماناً عن حدوث المعلوم بالعلم الإجماليّ الأوّل، فظرف حدوث التكليف زمانيّ وفي عمود الزمان لا بدّ أن نجد بأنّه متقدّم أو متأخّر، وليس ظرفه الظرف الرتبيّ حتّى نجد أيّاً منهما متقدّم أو متأخّر رتبة، فحتّى لو افترضنا وجود التقدّم والتأخّر الرتبيّين بينهما – كما استدلّ عليه بدليل ناقص – إنّه لا يضرّ بما يريده من كون العلم علماً بالحدوث لا بالبقاء، فالعلم علم بالحدوث زماناً، فإن لم يكن علماً بالحدوث زماناً فإنّه لا وجه لأن يقال بأنّه من حيث الرتبة حادث.
فنسلّم أنّ المعلوم بهذا العلم الإجماليّ إذا كان متأخّراً زماناً يوجب الانحلال ولكن إذا كان متأخّراً رتبة لا يؤثّر ذلك في الانحلال؛ لأنّ سبب الانحلال عند المحقّق النائينيّ ألّا يكون العلم علماً بالحدوث وهذا ظرفه زمانيّ. وإذا كان زمان هذا المعلوم وذاك مقترنين لا يمكن القول بأنّ اختلافهما رتبة يوجب الانحلال.
وأمّا بحسب الصياغة الضيائيّة فلسببين:
الأوّل: أنّه لو سلّمنا وجود التقدّم والتأخّر الرتبيّين بين المعلومين بهذين العلمين، ولكن بحسب المبنى المحقّق العراقي نحتاج إلى التقدّم والتأخّر بين التنجيزين، فالتنجّز يلزم ألّا يكون مرّة ثانية لا العلم؛ فإنّه لا يقول إنّ المعلوم لا يُعلم مرّة ثانية، بل إنّ المنجّز لا ينجّز، فالتنجيز لا يتكرّر.
فإنّ التنجّز من عوارض المعلوم. فإنّه ولو سلّمنا وجود التقدّم والتأخّر الرتبيّين بين المعلومين فهذا لا يلزم أن يكون بين تنجّز هذا وتنجّز ذاك تقدّم وتأخّر رتبيّ، فليس كلّ ما يوجد التقدّم والتأخّر بين الشيئين لزم أن يكون بين عوارضهما التقدّم والتأخّر الرتبيّين أيضاً، فقد يكونان بين المعروضين ولا يكونان بين عوارضهما.
فإنّه حسب صياغة المحقق العراقيّ يلزم أن يكون التقدّم والتأخّر بين التنجّزين حتّى يوجب الانحلال؛ لأنّه يؤدّي إلى تكرار التنجّز ولا يمكن ذلك على شيء واحد، ونحن نقول: لا يكون التقدّم والتأخّر بينهما حتّى الرتبيّ.
وأمّا الثاني: لو سلّمنا أنّ التقدّم والتأخّر في شيئين يوجبان التقدّم والتأخّر فيما يعرض عليهما، ولكن ليس ذلك دائميّاً. ولْنجد أنّ ما نحن فيه من النوع الذي إذا يكون التقدّم والتأخّر بين المعروضين هذا يسبّب التقدّم والتأخّر بين العارضين أو لا؟
فيقول أستاذنا الشهيد إنّه يوجد سببٌ للتقدّم والتأخّر الرتبيّين بين المعلومين كما يدّعيه الميرزا، وسببه أنّ الثوب إن كان نجساً فنجاسته معلولة لنجاسة ألف (لأنّه ملاق لألف)، فلا بدّ أن نجد أنّ ما يعرض على هذا المعلوم من التنجّز هل هو ممّا يكون صالحاً للتقدّم والتأخّر الرتبيّين [نظراً إلى السبب الموجود في التقدّم والتأخّر بين المعلومين] أو لا؟ هل يكون من الأمور الواقعيّة (أو الأمور العقليّة) التي يمكن فيها التقدّم والتأخّر الرتبيّين؟
[فقد قلنا سابقاً إنّ] التقدّم والتأخّر الرتبيّين يكون فيما إذا كان بين الشيئين رابطة العلّيّة التي من الأمور العقليّة المسبِّبة لتأخّر المعلول رتبة عن العلّة، ولكن تنجّز هذا المعلوم في العلم الإجماليّ الثاني مع تنجّزه في العلم الإجماليّ الأوّل ليس من هذا القبيل، فليس التنجّزان من عالم العقليّات حتّى يكون بينهما التقدّم والتأخّر الرتبيّين، وليس بينهما علّيّة بأن يكون تنجّز هذا معلولاً لتنجّز ذاك، بل نفس المعلومين – لو سلّمنا أنّ النجاسة المعلومة بالعلم الإجماليّ الثاني إن كان في الثوب فهو متأخّر رتبة عن النجاسة المعلومة بالعلم الإجماليّ الأوّل؛ لأنّ الثوب إن كان نجساً فنجاسته بسبب نجاسة ألف – يكون بينهما رابطة العلّيّة، لكن ليس بين تنجّز هذا وذاك علّيّة حتّى نقول هذا متأخّر رتبة عن ذاك.
فالفرق بين هذين الوجهين أن نقول في الوجه الأوّل هذا لا يوجب الطوليّة إطلاقاً فلا طوليّة بين العوارض إذا كان الطوليّة بين المعروضين.
وفي الوجه الثاني نقول لو سلّمنا أنّ من المعقول أن يؤدّي الطوليّة في المعروضين إلى الطوليّة في العارضين ولكن ليس هذا دائميّاّ، بل هو إمّا يكون من الأمور العقليّة أو ليس من هذه الأمور، والتنجّز في ما نحن فيه ليس من الأمور التي توجد بينهما علّيّة.
وإلى هنا ينتهي إشكالات أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه على المباني الأربعة التي يبتني عليها تقريب المحقّق النائينيّ. وعند أستاذنا بعد ذلك إشكال عامّ عليه حتّى لو سلّمنا كل هذه المباني الأربعة.
والحمد لله ربّ العالمين.