أصول الفقه – يوم الإثنين ٢٧ جمادى الأولى ١٤٤٥
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.
خلاصة الدرس السابق
قلنا إنّ بعض من رأى عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي لأحد طرفي العلم الإجماليّ ذكروا أنّه في بعض الحالات يجب الاجتناب عن الملاقي (أي الثوب) ولا يجب الاجتناب عن الملاقى (أي ألف)، فيتبدّل حكم الملاقي والملاقى، وذلك مثلاً في حالة ما إذا تدخّل عنصر الخروج عن محلّ الابتلاء وتسلسلت الأمور بالنحو التالي ضمن أربعة مراحل.
وهي أوّلاً أن حصل الملاقاة بين الثوب وبين ألف أسبق من كلّ شيء من حصول العلم الإجماليّ بين ألف وباء والخروج عن محلّ الابتلاء. ثمّ خرج الملاقى عن محلّ الابتلاء. ثمّ في المرحلة الثالثة حصل العلم الإجماليّ بنجاسة إمّا ألف – الذي خرج عن محلّ الابتلاء – وبين باء. ثمّ بالمرحلة الرابعة رجع الذي خرج عن محلّ الابتلاء إلي محلّ الابتلاء مرّة أخرى.
ولا بدّ أوّلاً أن نعرف حكم هذا الملاقي بين المرحلة الثالثة والرابعة (أي بعد حصول الملاقاة وخروج الملاقى عن محلّ الابتلاء وحصول العلم الإجماليّ [وقبل رجوع الملاقى إلى محلّ الابتلاء])، وبعد ذلك نتحوّل إلى البحث عن أنّه هل يصحّ ما قالوا من أنّ حكميهما يتبادل بعد المرحلة الأخيرة أو لا يصحّ؟
وقلنا إنّ هذا يختلف باختلاف المباني الأربعة المنقولة عن الأصحاب رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
وذكرنا أنّه على مبنى السّيد الخوئيّ رحمه الله الذي جعل الميزان في التقدّم والتأخّر ميزاناً زمانيّاً يجب الاجتناب عن الثوب في هذه المرحلة وعلى المبنى الثاني (أي مبنى الشيخ الأنصاري رضوان الله عليه) لا يجب، وقد وضحّنا ذلك بالدرس الماضي.
ولكن هناك شبهة حول الفرق بين المبنى الأوّل والثاني وأنّه لماذا انتهى أستاذنا الشهيد بأنّه يجب الاجتناب على المبنى الأوّل ولا يجب على الثاني.
فمرّ أنّ أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه ذكر أنّ العلمان الإجماليّان [في هذه المرحلة] تولّدا في زمان واحد دفعة واحدة فلا يكون بينهما التقدّم والتأخّر الزمانيّين في هذه الحالة، فعلى مبنى السيّد الخوئي رضوان الله عليه لا ينحلّ العلم الإجماليّ الثاني بالعلم الإجماليّ الأوّل؛ لأنّ سبب الانحلال عنده هو التقدّم والتأخّر الزمانيّ الذي لا يوجد هنا؛ لأنّ العلمان الإجماليّان حصلا في زمان واحد، وهذا يعني أنّ الأصل المؤمّن في باء تعارض دفعة واحدة بمادّتي الافتراق في هذين العلمين الإجماليّين، يعني أنّ الأصل المؤمّن في باء تعارض مع الأصل المؤمّن في ألف وكذلك أيضاً تعارض مع الأصل المؤمّن في الثوب دفعة واحدة، وبالتالي لا يوجد موجب لانحلال هذا العلم الإجماليّ.
بينما أنّ الميزان على مبنى الشيخ الأعظم الأنصاريّ رضوان الله تعالى عليه ليس زمانيّاً، فلا يؤمن بأنّ المتقدّم زماناً يوجب انحلال المتأخّر زماناً، بل الضابط عنده هو التقدّم والتأخّر الرتبيّ، فيقول بأنّ العلم الإجماليّ السابق رتبة يوجب انحلال العلم الإجماليّ المتأخّر رتبة، فعلى هذا الأساس يقول بأنّه في المرحلة الثالثة يحصل العلمان الإجماليّان في رتبتين وإن كانا مقارنين زماناً، فعند حصولهما نرى بينهما الاختلاف الرتبيّ؛ لأنّ العلم الإجماليّ بنجاسة إمّا ألف أو باء هو الذي ولّد العلم الإجماليّ بنجاسة إمّا باء أو الثوب فلم ينتف التقدّم والتأخّر الرتبيّ بينهما. فبما أنّ العلم الإجماليّ الأوّل موجود في الرتبة السابقة فإنّه يوجب انحلال العلم الإجمالي الثاني المتأخّر رتبةً.
إشكال في انحلال العلم الإجماليّ الثاني على المبنى الشيخ الأنصاري رحمه الله
ولقائل أن يقول إنّ العلم الإجماليّ السببيّ السابق رتبة حصل بين ما لا يكون له أثر لأنّه خارج عن محلّ الابتلاء وبين ما يكون له أثر، فلا يمكن أن يكون منجّزاً؛ لأنّ أحد طرفيه خرج عن محلّ الابتلاء في المرحة الثانية ولم يرجع بعد؛ فإنّه يرجع في المرحلة الرابعة. وبالتالي لا يوجد شيء منجّز في مرتبة قبل مرتبة العلم الإجماليّ الثاني، فيبقى العلم الإجماليّ الثاني منجّزاً لطرفيه والثوب أحد طرفيه.
الجواب عن الإشكال
فيقول في الجواب: إنّ العلم الإجماليّ السابق رتبة وإن كان بلحاظ طرفه وهو ألف خارجاً عن محلّ الابتلاء، ولكن بما أنّ ألف في فرض كونه نجساً يترتّب عليه نجاسة الثوب ويترتّب على نجاسة الثوب بطلان الصلاة في الثوب والآثار التكليفيّة الأخرى، إذاً فهذه كلّها آثار لنجاسة ألف في فرض كونه نجساً وإن كان هو بنفسه خارجاً عن محلّ الابتلاء، فإنّه بلحاظ آثاره غير خارج عن محلّ الابتلاء، فلا نقدر أن نعتبره ملغى ونطبّق عليه قاعدة أنّه متى ما كان العلم الإجماليّ بين ما هو داخل في محلّ الابتلاء وبين ما هو خارج عنه لا أثر له. فيبقى هذا العلم الإجماليّ السابق رتبة [على تنجّزه] ويوجب انحلال العلم الإجماليّ الثاني المتأخّر بحسب كون الضابط رتبيّاً لا زمانيّاً. فلا يجب الاجتناب عن الثوب.
شبهة في وجه الفرق بين المبنى الشيخ الأنصاري والسيّد الخوئيّ رحمهما الله
والشبهة التي قد ترد إلى الذهن هي أنّه لمَ لم يقل بمثل هذا الحلّ – لعدم كون العلم الإجماليّ السابق رتبة له آثار ولو غير مباشرة – في المبنى الأوّل؟ فإنّه يمكننا أن نقول بأنّ العلم الإجماليّ الأوّل له آثار وإن كان أحد طرفيه خارجاً عن محلّ الابتلاء، فإنّه بلحاظ الآثار غير المباشرة ليس خارجاً عن محلّ الابتلاء كما ذكرنا ذلك في الجواب عن الإشكال المذكور. فعلى المبنى الأوّل يمكن أن يقال أيضاً بأنّ العلم الإجماليّ الأوّل يرجع ويفعّل وإذا فعّل ينحلّ به العلم الإجماليّ الثاني باختلاف الزمان.
جواب الشبهة
ويمكن أن يقال في الجواب عن الشبهة بأنّ المشكلة في المبنى الأوّل لم تكن متمحّضة في الخروج عن محلّ الابتلاء حتّى تنحلّ بهذا الجواب، وإنّما كانت المشكلة عدم وجود علم إجماليّ سابق زماناً أصلاً وإنّما العلمان الإجماليّان تولّدا في لحظة زمانيّة واحدة ولا تنحلّ هذه بالقول بأنّ ألف الخارج عن محلّ الابتلاء آثاره الشرعيّة المتأخّرة داخلة في محلّ الابتلاء. فكان توجد مشكلتان إحداهما تنحلّ بهذا الجواب والآخر لا تنحلّ، والمشكلة التي تنحّل به هي مشكلة أنّ هذا العلم الإجماليّ الأوّل – سواء كانت بلحاظ الزمان أو الرتبة – أحد طرفيه خارجٌ عن محلّ الابتلاء، ولكنّ المشكلة الرئيسيّة تبقى في المبنى الأوّل ولا تأتي في المبنى الثاني، وهي أنّه إذا جعلنا الضابط زمانيّاً فهنا لا يوجد أصلاً التقدّم والتأخّر الزمانيّ وهذا هو السبب على أنّه يجب الاجتناب [عن الثوب] على المبنى الأوّل؛ لأنّ العلمان الإجماليّان يحصلان في لحظة زمانيّة واحدة فيوجبان التعارض بين الأصول المؤمّنة الثلاثة ألف وباء والثوب، وكلّها تسقط بالتعارض، فيجب الاجتناب عن الثوب، بينما أنّ المبنى الثاني غير مبتلى بهذه المشكلة؛ لأنّ المبنى الثاني يبتني على الاختلاف الرتبيّ رغم الاتّحاد الزمانيّ بين العلمين الإجماليّين، ولا يسقط الاختلاف الرتبيّ بالتوحّد الزمانيّ، وهذا الاختلاف الرتبيّ يكون كافياً عند الشيخ الأنصاريّ لانحلال العلم الإجماليّ الثاني الذي هو متأخّر رتبة وهو العلم الإجماليّ بنجاسة إمّا باء أو الثوب، فينحلّ ولا يجب الاجتناب عن الثوب.
والحمد لله ربّ العالمين.