أصول الفقه – يوم السبت ٩ جمادى الثانية ١٤٤٥
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.
ذكرنا أنّ أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه استعرض البحث عن عدّة أمور أكثر فائدتها علميّة ولربما تكون ثمرتها العمليّة ضعيفة.
التبادل في الحكم بين الملاقي والملاقى
ودخلنا في البحث عن الأمر الأوّل، وهو التبادل في الحكم بين الملاقي والملاقى، يعني أنّ الثوب الذي قالوا بعدم وجوب اجتنابه سيجب الاجتناب عنه، وألف الملاقى الذي قالوا بوجوب اجتنابه بعنوان أحد طرفي العلم الإجماليّ يصبح بالعكس ويجوز الاستفادة منه.
وذلك في حالة دخول عنصر الخروج عن محلّ الابتلاء في الحساب بنحو تسلسليّ معيّن، لا بأيّ صورة كانت، بل في ما إذا حصل الملاقاة أوّلاً بين الثوب وبين ألف قبل مجيء العلم الإجماليّ بالنجاسة، وثانياً خرج الملاقى عن محلّ الابتلاء، ولا علم إجماليّ لنا بالنجاسة في هذه الحالة كذلك، وثالثاً حصل العلم الإجماليّ بنجاسة إمّا ألف أو باء، فالعلمان الإجماليّان يحصلان دفعة واحدة زماناً؛ لأنّ الملاقاة حصلت قبل العلم بالنجاسة فإذا حصل العلم الإجماليّ بنجاسة ألف أو باء يحصل العلم الإجماليّ بنجاسة باء أو الثوب مقارناً للعلم الإجماليّ [الأوّل]، ثمّ في المرحلة الرابعة رجع الذي كان خارجاً عن محلّ الابتلاء إلى المحلّ الابتلاء.
وبما أنّنا انتهينا سابقاً إلى عدم تماميّة أدلّة القائلين بعدم وجوب الاجتناب عن الملاقي وأبطلنا كلّها فلا أثر في رأينا لترتيب المراحل وعلى كلّ حال يجب الاجتناب عن الملاقي والملاقى معاً، ولكنّ الكلام حسب مباني الأصحاب القائلين بعدم وجوب الاجتناب عن الملاقي، فنبحث عن هذه المسألة في ثلاث جهات.
الجهة الأولى في حكم الملاقي قبل المرحلة الرابعة
فلأجل التوضيح والتحقيق في هذه المسألة قام أستاذنا الشهيد في الجهة الأولى بالبحث في حكم هذا الثوب حسب المباني الأربعة السابقة في المرحلة الثالثة وقبل المرحلة الرابعة.
والمبنى الأوّل للسيّد الخوئي والثاني للشيخ الأنصاري والثالث للمحقّق العراقيّ والرابع للمحقّق النائينيّ رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، فنتكلّم حسب كلّها.
حكم الملاقي في المرحلة الثالثة على مبنى السيّد الخوئي رحمه الله
فكان مبنى السيّد الخوئي – القائل بالاقتضاء لا العلّيّة – أنّ انحلال العلم الإجماليّ [الثاني] يكون بسبب كون أحد طرفيه مجرى للأصل المؤمّن بدون معارض لأجل تقدّم أحد العلمين الإجماليّين على الآخر زماناً. فكانت الضابطة عنده التقدّم والتأخّر الزمانيّ. فالطرف المشترك بين العلمين الإجماليّين قد تنجّز في زمان سابق وسبّب إمكان جريان الأصل المؤمّن في الطرف الآخر بدون معارض، فينحلّ العلم الإجماليّ الثاني على هذا الأساس.
وبناءً عليه فيكون حكم الثوب في ما نحن فيه في المرحلة الثالثة على مبنى السيّد الخوئي هو وجوب الاجتناب عنه؛ لأنّه لا يوجد بين هذين العلمين الإجماليّين التقدّم والتأخّر الزمانيّ (الذي يبتني عليه الانحلال على مبنى السيّد الخوئيّ) وإنّهما حسب الفرض حصلا هنا دفعة واحدة.
حكم الملاقي في المرحلة الثالثة على مبنى الشيخ الأنصاريّ رحمه الله
وأمّا المبنى الثاني وهو للشيخ الأنصاريّ رحمه الله فرقه عن مبنى السيّد الخوئيّ أنّ المناط فيه التقدّم والتأخّر الرتبيّ لا الزمانيّ، فيقول بأنّ العلمين الإجماليّين – حتّى وإن حصلا في زمان واحد – إذا كان بينهما التقدّم والتأخّر الرتبيّ فهذا التقدّم والتأخّر الرتبيّ يوجب انحلال المتأخّر رتبة بالمتقدّم رتبةً.
فعلى هذا المبنى في ما نحن فيه لا يجب الاجتناب عن الثوب؛ لأنّ التقدّم والتأخّر الرتبيّ محفوظ وإن كان التقّدم والتأخّر الزمانيّ غير موجود لحصول العملين الإجماليّين في زمان واحد. فالعلم الإجماليّ بنجاسة إمّا ألف أو باء – بعد حصول الملاقاة سابقاً بين الثوب وألف – سبّب توليد العلم الإجماليّ في نفس تلك اللحظة الزمانيّة، وهذا لا ينافي أن يحصل السبب والمسبّب في زمان واحد، وهذا هو الطبيعيّ إذا كانت العلّة تامّة مع انتفاء المانع فيقترن زماناً مع المعلول، مثل النار والحرارة يجتمعان في زمان واحد مع كون أحدهما علّة والآخر معلولاً.
حكم الملاقي في المرحلة الثالثة على مبنى المحقّق العراقيّ رحمه الله
وأمّا على المبنى الثالث فيقول أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه يجب الاجتناب عن الثوب؛ لأنّ المحقّق العراقيّ يرى أنّه إذا كان التقدّم والتأخّر الرتبيّين بين العلمين الإجماليّين يزول أصل قابليّة العلم الإجماليّ المتأخّر رتبة للتنجيز، لا أنّه بوجود مانع كالأصل المؤمّن في أحد طرفيه بدون معارضة.
والفرق الأساسيّ بين مبنى المحقّق العراقيّ وبين المبنيين الأوّلين هو أنّ انحلال العلم الإجماليّ عليهما يكون بسبب وجود أصل مؤمّن بدون معارض في أحد طرفيه، إمّا لكونه متأخّراً زماناً كما عليه السيّد الخوئيّ أو رتبة كما عليه الشيخ الأنصاريّ. بينما أنّ سبب الانحلال على مبنى المحقّق العراقيّ رضوان الله تعالى عليه هو أنّ المنجّز لا ينجّز مرّة ثانية، فيقول: إذا تنجّز أحد الأطراف المشترك (يعني باء) لا يتنجّز بعدُ بالعلم الإجماليّ الثاني؛ لأنْ لا يجتمع المنجّزان على شيء واحد. فهنا على مبناه ننتهي إلى وجوب الاجتناب عن الثوب؛ لأنّه وإن اجتمع علمان إجماليّان في زمان واحد ولكن الطرف المشترك منجّز بأحد العلمين الإجماليّين فالعلم الإجماليّ الآخر لا ينحلّ بل يوجب الاجتناب عن طرفيه أي الثوب وباء.
ويكون بعض المشاكل في هذا المبنى الثالث لا بدّ من التعرّض لها ولحلّها في الدرس القادم إن شاء الله.
والحمد لله ربّ العالمين.