أصول الفقه – يوم السبت ۱٠ جمادى الأولى ١٤٤٥
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.
خلاصة الدرس السابق
وضّحنا أصل مبنى المحقّق النائينيّ رضوان الله تعالى عليه في حاكميّة العلم الإجماليّ الأوّل على العلم الإجماليّ الثاني بمعنى أنّه متى ما كان علم إجماليّ قد تنجّز أحد طرفيه بمنجّز سابق – بقطع النظر عن أنّ هذا المنجّز السابق ما هو، فإنّه قد يكون استصحاباً أو غير ذلك – يسقط [عن التنجيز]، وأصل الحكم العقليّ بمنجّزيّة العلم الإجماليّ يزول لا لمجرّد كون أحد طرفيه فيه أصل مؤمّن بدون معارض كما قاله السيّد الخوئيّ، فهذا العلم الإجماليّ يصير حاله كالعدم ولهذا يسمّيه بالانحلال الحقيقيّ كما شرحناه في الدرس الماضي.
وكان مبناه هذا على أساس إيمانه بأنّ العلم الإجماليّ لا بدّ أن يتضمّن بحدوث التكليف لا ببقائه، فإنّه يفرّق بينهما ويقول بأنّ العلم ببقاء التكليف لا قيمة له وإنّما القيمة في العلم الإجماليّ بحدوثه، فإذا كان العلم الإجماليّ على أحد تقديريه علماً بالحدوث وعلى التقدير الآخر علماً ببقاء التكليف بمنجّز سابق مهما كان فالمعلوم في الأوّل هو الحدوث وفي الثاني ليس حدوثاً بل بقاء بمنجّز سابق وهذا العلم الإجماليّ لا قيمة له.
وهذا مبناه بصورة عامّة.
وقلنا إنّ له امتيازين عن الوجهين السابقين ومضى السرّ فيهما، والآن نأتي إلى تطبيقه على محلّ كلامنا يعني تطبيق فكرة كون العلم الإجماليّ ليس علماً بالحدوث على كلّ تقدير بل إنّه على أحد التقديرين علم بالحدوث وعلى الآخر علم ببقاء التكليف بمنجّز سابق.
تطبيق مبنى الميرزا النائيني رحمه الله على بحث الملاقي
ولأجل التطبيق يقول المحقّق النائينيّ رضوان الله تعالى عليه إنّ العلم الإجماليّ الثاني وهو العلم الإجماليّ بنجاسة إمّا باء أو الثوب الملاقي لألف ابتلي بهذا العيب من أنّه على أحد تقديريه علم بالحدوث وعلى التقدير الآخر علم ببقاء تكليف منجّز بالعلم الإجماليّ السابق؛ لأنّ هذا العلم الإجماليّ أحد طرفيه باء والطرف الآخر هو الثوب الملاقي، فإذا كان المعلوم بالإجمال في الثوب فهذا علم بحدوث تكليف وإذا كان في باء فهذا علم ببقاء تكليف ثابت منجّز بالعلم الإجماليّ السابق، وهو يرى أنّ التقدّم والتأخّر لا بدّ أن يكونا بين المعلومين لا بين العلمين الإجماليّين، فعند ما نقول إنّ أحد طرفي هذا العلم الإجماليّ منجّز بمنجّز سابق يعني معلومه منجّز بمنجّز سابق، والمنجّز السابق سواء كان [سابقاً] زماناً أو رتبة فإنّه لا يفرّق بينهما، ويقول إنّ المعلوم بالعلم الإجماليّ الثاني تأخّره زماناً ليس دائميّاً؛ إذ قد يكون الملاقاة قبل حصول العلم الإجماليّ الأوّل أو قبل النجاسة الحاصلة بالعلم الإجماليّ الأوّل ولكنّه من حيث الرتبة دائميّ؛ لأنّ هذا المعلوم بالإجمال متأخّر رتبة عن ذاك المعلوم بالإجمال دائماً.
واستدلّ على تأخّره رتبةً عن المعلوم بالعلم الإجماليّ الأوّل بوجه غريب، وهو أنّ الثوب إن كان نجساً فنجاسته مسبّبة عن نجاسة المعلومة بالعلم الإجماليّ الأوّل وهو ألف؛ لأنّه بملاقاته تنجّس إن كان هو النجس.
لكن غفل عن أنّ هذا دليل لما يستدلّ عليه على أحد تقديريه أي تقدير أن يكون المعلوم في الثوب، أمّا إذا كان في باء فليس متأخّراً رتبة عن المعلوم بالعلم الإجماليّ في ألف!
وبعد ذلك يقول بأنّ هذا المعلوم بالعلم الإجماليّ الثاني ليس حدوثيّاً دائماً بل بقائيّ لما تنجّز بالعلم الإجماليّ السابق على أحد تقديريه، وسبق مبناه من أنّه إذا كان كذلك فلا قيمة لهذا العلم الإجماليّ.
هذا هو تطبيق لمبناه على محلّ بحثنا، وهو بهذا البيان يبتني على أربعة مبان يؤمن بها الميرزا النائينيّ وسنناقش كلّها.
المباني الأربعة التي يبتني عليها بيان الميرزا النائيني رضوان الله تعالى عليه
المبنى الأوّل: دعواه بأنّ العلم الإجمالي ينحلّ بقيام منجّز سابق في أحد طرفيه مهما كان، استصحاباً أو علماً إجماليّاً أو أيّ شيء.
المبنى الثاني: تعميم هذه الدعوى لفرض ما إذا كان ذلك المنجّز السابق علماً إجماليّاً آخر نسبته إلى ذلك العلم الإجماليّ عموم من وجه.
وتعرفون أنّ النسبة بين العلمين الإجماليّين في بحثنا عموم من وجه لأنّه يكون طرف مشترك بينهما وهو باء والطرف الخاصّ بالعلم الإجماليّ الأوّل هو ألف والطرف الخاصّ بالعلم الإجماليّ الثاني هو الثوب، وسيأتي في مناقشاتنا أنّ مثل هذا المنجّز السابق قد لا يُقبل.
المبنى الثالث: كون العبرة بالتقدّم والتأخّر في المعلومين لا في العلمين، فقال إنّ هذا المعلوم متأخّر عن ذاك المعلوم مهما كان العلمان، متقدّمين أو متأخّرين أو مقترنين.
المبنى الرابع: تعميم التقدّم والتأخّر للتقدّم والتأخّر الرتبيّين.
ويناقش أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه كلّها واحداً واحداً، لكنّ عنده قبل الشروع فيها نقضاً واضحاً ولطيفاً عليه، فيقول:
ألا تؤمن بأنّ العلم الإجماليّ إذا كان منجّزاً سابقاً يسقط؛ لكونه ليس علماً بحدوث التكليف في أحد طرفيه؟ فينقض بما إذا كان أحد طرفي علم إجماليّ واحد مسبوقاً بالشكّ البدويّ، فعلى تقدير كون المعلوم بالإجمال في هذا الطرف لا يكون هذا الطرف علماً إجماليّاً بالحدوث بل بالبقاء؛ لأنّه إذا كان كذلك يعني أنّا نشكّ أنّ فيه تكليفاً أو لا، واحتمال أن يكون التكليف فيه تكليفاً بقائيّاً لا حدوثيّاً؛ لاحتمال أن يكون ذاك المشكوك في علم الله ثابتاً فيصير بقائيّاً.
ونحن في هذا النقض لا نريد أن نقول له منجّز سابق لكن احتمال أن يكون التكليف في الطرف المشكوك بالشكّ البدويّ يجعل أحد طرفيه علماً بالبقاء، وهذا ما لا يقبله المحقّق النائينيّ في هذا البحث فكيف أنّه وكلّ العلماء لا يستشكلون في ما إذا كان كذلك في حين أنّ المفروض بحسب مبناه عدم قبوله.
اللهم إلا أن يقال بأنّ دليله في صميم مراده على كونه لا يقبل مثل هذا العلم الإجماليّ المسبوق بمنجّز سابق في أحد طرفيه هو كونه غير قابل لتنجيز أحد طرفيه؛ لأنّه منجّز بمنجّز سابق والمنجَّز لا ينجَّز بتنجيز جديد. فهذا كلام المحقّق العراقيّ، فمراده إذا يرجع إلى كلام المحقّق العراقيّ – وإن كان قد برهن على ذلك ببيان جديد في العبارات المنسوبة إليه – فيرتفع هذا النقض.
والحمد لله ربّ العالمين.