أصول الفقه – يوم الثلاثاء، ٢٦ جمادى الثانية ١٤٤٥
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.
فرض الشكّ في السراية والسببيّة
لدينا بحث جديد تحت عنوان فرض الشكّ في السراية والسببيّة. وهذا من جملة الأبحاث الجانبيّة التي تبحث ضمن مسألة ملاقي أحد أطراف العلم الإجماليّ، فقلنا إنّ الأصحاب قالوا بعدم وجوب الاجتناب عن الثوب.
والآن نقول إنّ هذا الذي قلنا من عدم وجوب الاجتناب عن الثوب إن تمّ فإنّما يتمّ على نظريّة السببيّة لا على نظريّة السراية. ولا بدّ من توضيح المعنى المقصود بنظريّة السببيّة والمعنى المقصود بنظريّة السراية.
لا شكّ من وجود التلازم بين الملاقى والملاقي، فإن كان الملاقى – وهو ألف – نجساً فالثوب نجس أيضاً، وإن لم يكن نجساً فالثوب أيضاً غير نجس، فيكون التلازم سلباً وإيجاباً بين نجاستهما، لكنّ هذا التلازم يمكن تفسيره بنحوين أحدهما يسمّى بالسببيّة والآخر بالسراية.
مبنى السببيّة
أمّا معنى السببيّة فهو أنّ نجاسة الملاقي شيء ثان غير نجاسة الملاقى، ولكن بينهما سببيّة، فنجاسة ألف ونجاسة الثوب حكمان مستقلّ أحدهما عن الآخر ولكنّ الثاني (أي الثوب) مسبّب عن الأوّل (أي ألف).
مبنى السراية
ونظريّة السراية تقول إنّ نجاسة الثوب عين أو جزء من نجاسة ألف، وليس شيئاً ثانياً، فكأنّ هذه النجاسة هي هي، انتقلت هي أو جزء منه إلى الثوب. كيف أنّ النجاسة إذا كانت عينيّة مادّيّة موجودة على ألف فقسمٌ منه إذا حوّلناه إلى الثوب فهذا ليس شيئاً مستقلّاً بل جزء من نفس ذلك انتقلناه. فمن علم بنجاسة ألف فقد علم بنجاسة الثوب ضمناً لا بعلم آخر ولا أنّه علم بالسبب ثمّ إنّ السبب له مسبّب فيتولّد علم جديد بالمسبّب، فالنجاسة نجاسة واحدة لا نجاستان.
فقالوا إنّ نتيجة البحث تختلف على المبنيين، وما بحثناه سابقاً تناسب نظريّة السببيّة، وانتهوا إلى القول بعدم وجوب الاجتناب عن الثوب.
ولأجل توضيح النتائج على كلتا النظريّتين يقول أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه نختار واحداً من المباني – لأنّ كلّها لو نختار يطوّل – فلنبحث في ضوء نظريّة الشيخ الأنصاريّ. ويوضّح أنّ الشيخ الأنصاريّ الذي انتهى إلى القول بعدم وجوب الاجتناب عن الثوب كان بحثه وفقاً لنظريّة السببيّة، أمّا لو كان يريد يمشي وفقا لنظريّة السراية فلم يكن ينتهي إلى ذلك، بل كان ينتهي إلى وجوب الاجتناب عنه.
توضيح حكم الثوب على مبنى السراية
مبنى الشيخ الأنصاري كان يقول بأنّ الأصول المؤمّنة التي تريد أن تجري في باء قد سقطت في رتبة سابقة بالتعارض مع الأصول التي تجري في ألف، وبعد ذلك لا يبقى معارض للأصل المؤمّن عن الثوب فلا يجب الاجتناب عنه.
وهذا إنّما يتمّ بناء على مبنى السببيّة، ولا يتمّ على مبنى السراية، وذلك لأنّه بناء على السببيّة هذا الذي قاله الشيخ الأنصاري لا غبار عليه والعلم الإجماليّ بين ألف وباء لا يعني العلم الإجماليّ بين الثوب وباء، وهذا العلم الإجماليّ يسقّط الأصل الجاري في باء في رتبة سابقة ويصبح الأصل الجاري في الثوب بلا معارض، ولكن بناء على السراية فإذا علمنا بنجاسة ألف ولو بالعلم الإجماليّ فهذا العلم الإجماليّ بنجاسة ألف علم بتمام موضوع وجوب الاجتناب عن الثوب؛ لما قلنا – بناء على السراية – من أنّ نجاسة الثوب ليست مستقلّة عن نجاسة ألف بل عينها أو جزء منها، فيجب الاجتناب عنه، فلا يمكن القول بأنّه قد سقط الأصل المؤمّن في باء وبقي الأصل المؤمّن في الثوب بلا معارض؛ لأنّ كلا العلمين الإجماليّين يؤدّيان إلى وجوب الاجتناب عن الثوب. أمّا العلم الإجماليّ الأوّل فلأنّه أصبح هذا طرفاً له كما أنّ ألف طرف له [بعد ما] كان نجاسة الثوب جزء من نجاسة ألف، فالعلم الإجماليّ الأوّل ينجّز نجاسة الثوب أو قُل ينجّز وجوب الاجتناب عن الثوب، وأمّا العلم الإجماليّ الثاني فلأنّه لا يوجد موجبٌ لسقوطه؛ لأنّه بأيّ سبب كان يسقط العلم الإجماليّ الثاني في رأي الشيخ الأنصاري؟
كان العلم الإجماليّ الأوّل يسقط الأصل المؤمّن في باء فالعلم الإجماليّ يعني أحد طرفيه خلا عن المؤمّن فكان يسقط.
هذا البيان يبطل بناءً على السراية، وذلك لأنّ العلم الإجماليّ الأوّل شمل الثوب بأحد طرفيه، فما هو العلم الإجماليّ بين باء والثوب؟ فما دام الثوب تنجّز [حكمه] بالعلم الإجماليّ الأوّل فلا يبقى العلم الإجماليّ الثاني أو قل إنّ طرفيه قد انتفيا، فالثوب صار طرفاً للعلم الإجماليّ الأوّل وباء كان من الأوّل هو طرف العلم الإجماليّ الأوّل.
والموجود في الكتاب (أي كتاب مباحث الأصول) هو أنّ كلا العلمين الإجماليّين نجّزا الأحكام التكليفيّة المترتّبة على نجاسة الثوب، ولكنّ الذي أفهمه أنّه لا تصل النوبة إلى العلم الإجماليّ الثاني.
فنتيجة نظريّة السراية اختلفت عن نظريّة السببيّة وهي وجوب الاجتناب [عن الثوب] على رأي الشيخ الأنصاريّ.
هذا هو توضيح الفرق بين النظريّتين واختلاف النتائج بينهما، ولكنّ ما عقد له أستاذنا الشهيد هذا البحث الجديد هو أنّه لو شككنا في أنّ نظريّة السببيّة هي الصحيحة أو السراية هي الصحيحة فما ذا نصنع؟ يأتي بحثه في الدرس القادم إن شاء الله.
والحمد لله ربّ العالمين.