أصول الفقه – يوم الأربعاء ٢٥ ربيع الأوّل ١٤٤٥
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.
قلنا: توجد صورتان للاضطرار إلى بعض الأطراف.
الصورة الأولى كان فيما إذا تعلّق الاضطرار بطرف معيّن من طرفي العلم الإجماليّ وهذا ما انتهينا عن بحثه.
الصورة الثانية من الاضطرار إلى بعض أطراف العلم الإجمالي
وأمّا الصورة الثانية هي ما إذا تعلّق الاضطرار بطرف غير معيّن من طرفي العلم الإجماليّ بمعنى أنّه عالم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين فإمّا يحرم عليه التناول من الإناء الأوّل الذي عبّرنا عنه بـ«ألف» أو يحرم عليه التناول من الإناء الثاني الذي عبّرنا عنه بـ«باء» فإنّه غير معيّن، وكذا اضطراره غير معيّن أيضاً، فإنّه مضطرّ [إلى تناول أحد الإناءين بدون تعيّن]، بمعنى أنّه جوعان أو عطشان إلى درجة هو مضطرّ إلى أن يتناول من أحدهما على الأقلّ ولا يمكنه ترك كليهما.
التنجّز بلحاظ وجوب الموافقة القطعيّة
فنقول في هذه الصورة الثانية بأنّ منجزيّة العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة ساقطة قطعاً؛ لأنّه لا يمكنه الموافقة القطعيّة بل هو مضطرّ إلى ترك الموافقة القطعيّة، فإذن هذا العلم الإجماليّ لا ينجّز وجوب الموافقة القطعيّة مسلّماً؛ لأنّه مضطرّ إلى ترك الموافقة القطعيّة. هذا بلحاظ منجّزيّة العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة.
التنجّز بلحاظ حرمة المخالفة القطعيّة
وأمّا بلحاظ منجّزيّة العلم الإجماليّ لحرمة المخالفة القطعيّة فهذا هو الذي وقع فيه البحث من أنّه هل يجوز له أن يتناول من كلا الطرفين بحيث يؤدّي إلى المخالفة القطعيّة للعلم الإجماليّ؟
فإن قلنا بجواز تناوله من كلا الإناءين فهذا يعني أنّه قد سقط هذا العلم الإجماليّ حتّى عن التنجيز لحرمة المخالفة القطعيّة، وليس فقط أنّه سقط عن تنجيزه لوجوب الموافقة القطعيّة.
وإن قلنا بعدم جواز ذلك – بمعنى أنّه للمضطرّ في هذا الفرض إمّا أن يأخذ من هذا أو من ذاك وليس له التناول من كلاهما – فهذا يعني أنّ العلم الإجماليّ قد بقي على منجّزيّته لحرمة المخالفة القطعيّة وإن سقطت منجّزيّته لوجوب الموافقة القطعيّة كما ذكرنا.
القول بجواز المخالفة القطعيّة والبرهان عليه
فإنّ ظاهر المحقق الخراساني صاحب الكفاية (رحمه الله) أنّه يقول بجواز ارتكاب كلا الطرفين، رغم أنّه ليس مضطرّاً إلى تناولهما.
والدليل على هذا الرأي يتكوّن من ثلاث خطوات، وبضمّ بعضها إلى بعض ننتهي إلى القول بجواز المخالفة القطعيّة لهذا العلم الإجماليّ. وما ندري هل أنّه ذكر هذه الخطوات الثلاث أو الآخرون ذكروها دعماً له.
الخطوة الأولى: أنّ العلم الإجماليّ علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة.
وسبق البحث حول علّيّة العلم الإجماليّ [بحيث لا يمكن التخلّص من منجّزيّة العلم الإجمالي تمسّكاً بالأصول المؤمّنة الشرعيّة] أو اقتضاءِه للتنجّز بحيث يمكن أن يرتفع هذا الاقتضاء بالأصول المؤمّنة الشرعية. فيبدو أنّ صاحب الكفاية من القائلين بالعلّيّة.
والخطوة الثانية: أنّ هذا المعلول ساقط فيما نحن فيه ولو بسبب الاضطرار، فإنّ وجوب الموافقة القطعيّة ساقط بسبب الاضطرار؛ لأنّه مضطرّ إلى ترك الموافقة القطعيّة، فوجوب الموافقة القطعيّة الذي هو معلول العلم الإجماليّ ساقط هنا.
والخطوة الثالثة: هي ما ذكروا في علمي الفلسفة والكلام من أنّه لا يمكن التفكيك بين العلّة والمعلول، فإذا سقط المعلول فإنّه يكشف عن كون العلّة ساقطة.
فالمعلول – وهو وجوب الموافقة القطعيّة – ساقط هنا؛ لأنّه مضطرّ إلى ترك الموافقة القطعيّة، إذن علّته الذي هو «العلم الإجماليّ بثبوت التكليف بين هذين الطرفين» لابدّ وأن يكون ساقطاً؛ لأنّه بسقوط المعلول يُستكشف سقوط العلّة. إذن فلابد من أن يكون العلم الإجماليّ بالتكليف منتفياً.
وكيف يمكن أن ينتفي العلم الإجماليّ بالتكليف؟ فيجاب بانتفاء أصل التكليف، فإنّ ذلك التكليف – الذي لو لا الاضطرار لعلمنا به – لابدّ من أن ينتفي حتّى ينتفي العلم الإجماليّ، فانتفاء العلم الإجماليّ بالتكليف يكون بسقوط التكليف. فإذا كان التكليف المعلوم بالإجمال ساقطاً منتفياً لا يبقى وجوبٌ للموافقة القطعيّة ولا حرمة للمخالفة القطعيّة.
فبضمّ هذه الخطوات الثلاث يُستنتج سقوط العلم الإجمالي بالتكليف، وبالتالي لا بأس بالمخالفة القطعيّة بارتكاب كلا الطرفين؛ لأنّه لا يبقى تكليف في البين حتّى يحرم مخالفته القطعيّة.
هذا بيان البرهان على هذا الرأي.
المناقشة في البرهان الدال على جواز المخالفة القطعيّة
ويناقشه أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه، ولعلّ هذه المناقشات أو بعضها صادرة من غيره ويناقشه أستاذنا الشهيد أيضاً.
فإنّ عنده ثلاث مناقشات:
المناقشة الأولى: أنّنا بالمبنى نخالف الرأي القائل بالعلّيّة، فإنّا بانين على الاقتضاء، فهذا البرهان ينهار من أساسه على اختلاف المبنى.
المناقشة الثانية: أنّنا لو سلّمنا بأنّ العلم الإجماليّ علّة وليس مقتضياً فهنا لا بدّ وأن نوضّح ما معنى العلّية، فمعناه عدم إمكان زوال تنجيزه بالأصول المؤمّنة الشرعيّة. فإنّ الفرق بين القول بالعلّيّة والقول بالاقتضاء في باب العلم الإجماليّ هو أنّ القائل بالعلّيّة يقول بأنّه لا يمكن للأصول المؤمّنة الشرعيّة أن تُزيل منجزّيةَ العلم الإجماليّ، بل إنّ العلم الإجماليّ هو الذي يمنع عن مجيء الأصول المؤمّنة الشرعيّة.
والقول بالاقتضاء يقول بأنّه يمكن للعلم الإجماليّ أن يزول منجّزيته بالأصول المؤمّنة الشرعيّة ولو في بعض أطرافه.
ويظهر ثمرة الفرق بين القولين في [إمكان جريان] الأصول المؤمّنة الشرعيّة لا في سقوط التكليف.
فيمكن القول بالعلّيّة ومع ذلك نقول بأنّ هذا التكليف يسقط [تنجّزه لحرمة المخالفة القطعيّة] بالاضطرار لا بالأصول المؤمّنة الشرعيّة، فالقول بالعلّيّة إنّما يمنع عن سقوط منجّزيّة العلم الإجماليّ بالأصول المؤمّنة الشرعيّة، ولا يمنع عن سقوطه بالاضطرار.
وعليه فنقول بأنّ القول بالعلّيّة لا يؤدّي إلى تماميّة الخطوتين الأخريين، فإنّ القول بها لا يؤدي إلى سقوط المعلول حتّى نقول إنّا نستكشف من خلال سقوطه سقوط العلّة. فإنّ كلّ هذا البحث إنّما يتمّ (لو تمّ) فيما إذا كان العلّيّة تمنع حتّى عن تأثير الاضطرار ولا فقط عن تأثير الأصول المؤمّنة الشرعيّة، وهذا ما لا يقول به القائلون بالعلّيّة، فإنّهم لا يقولون بسقوط تأثير الاضطرار وإنّما يقولون بسقوط تأثير الأصول المؤمّنة الشرعيّة.
ونحن هنا مبتنين [بسقوط التنجّز] بالاضطرار لا بالأصول المؤمّنة الشرعيّة.
المناقشة الثالثة: أنّا لو سلّنا بالخطوات الثلاث كلّها فهل هذا يعني رفع اليد عن التكليف نهائيّاً حتّى يقال بأنّ المعلول إذن ساقط فنستكشف من خلاله سقوط العلّة وبالتالي نستكشف زوال التكليف؟
فيقول هنا أستاذنا الشهيد رحمه الله أنّه لو تمّت هذه الخطوات الثلاث فينتهي إلى أنّ التكليف بإطلاقه بما هو مطلق منتفٍ، ولكن يمكن الحفاظ على التكليف بإدخال قيد فيه وهذا ما لم يأخذه صاحب البرهان بعين الاعتبار، فإنّه تخيّل أنّه لو تمّت هذه الخطوات الثلاث يستكشف انتهاء التكليف، وبانتهاء التكليف نعرف عدم وجود العلم الإجماليّ، بينما يمكننا أن نقبل هذه الخطوات ولكن لا نقبل بانتهائه إلى استكشاف انتفاء التكليف نهائيّاً، فيمكننا هنا أن نحتفظ بالتكليف – ولكن لا مطلقاً – من دون أن نرفع اليد عن هذه الخطوات الثلاث.
وطريقته هي أن نحتفظ بالتكليف ولكن لا بصورة مطلقة، أي نبتني على أنّ إطلاقه يزول بهذه الخطوات لا أنّه يزول نهائيّاً.
وتوضيح ذلك أنّ هذا التكليف إن كان موجوداً في الواقع – وهو في أحد الطرفين طبعاً لا في كلاهما – فهو مطلق من ناحية أنّه ارتكب الطرف الآخر أو لا. فإذا كان هذا التكليف على المكلّف ثابتاً في طرف ألف فهو مطلق من ناحية أنّه سواء أرتكب الباء أم لم يرتكبها. وإن كان ثابتا في باء فهو مطلق من ناحية أنّه سواء أرتكب الألف أو لا.
فهذا الإطلاق نرفع اليد عنه فنقول بأنّ هذا التكليف إن كان في الألف نقيّده بفرض ما إذا لم يرتكب الباء، وإذا كان موجوداً في الباء نقيّده بصورة ما إذا لم يرتكب الألف، فإذا ارتكب الاثنين يصير التكليف فعليّاً؛ لأنّ قيده قد تحقّق، أمّا إذا ارتكب أحدهما فقط فلا يتحقّق هذا القيد فنقول إنّ التكليف يزول عندئذٍ لا دائماً.
وبهذا ينتهي البحث في الاضطرار إلى بعض الأطراف.
والحمد لله رب العالمين.