أصول الفقه – يوم الأحد ٢٠ ربيع الثاني ١٤٤٥
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.
إعادة الدرس السابق ببيان أوضح وأدق
أرى من الصالح أن أعيد درس أمس ببيان أوضح وأدقّ إن شاء الله.
قلنا إنّ الشيخ الأنصاري رضوان الله تعالى عليه ممّن دافع عن القول بعدم وجوب الاجتناب عن ملاقي أحد طرفي العلم الإجماليّ وقد استفاد في بيان الدفاع عن هذا الرأي من التقدّم والتأخّر الرتبيّين بين أصالة الطهارة الجارية في ألف وباء وبين أصالة الطهارة الجارية في الثوب بخلاف السيّد الخوئيّ الذي استفاد من التقدّم والتأخّر الزمانيّين لا الرتبيّين.
وحاصل بيان الشيخ الأنصاري رضوان الله تعالى عليه أنّ اختلاف الرتبة بين الأصلين المتعارضين يزيل التعارض، فالأصل الجاري في المتقدّم رتبة يجري بخلاف الأصل الجاري في المتأخّر رتبة، وهو يرى أنّ الأصلين الجاريين في ألف وباء سابقان رتبة على الأصل الجاري في الثوب.
وأورد عليه السيّد الخوئيّ رضوان الله تعالى عليه بإيرادين.
الإيراد الأوّل من السيّد الخوئي رحمه الله على الأمر الثاني من الأمور الأربعة
الإيراد الأوّل هو أنّا لو سلّمنا كفاية التقدّم والتأخّر الرتبيّين لجريان السابق رتبة وعدم جريان الأصل في المتأخّر رتبة، ولكنّ الأصل الجاري في الثوب هنا [إنّما] متأخّر رتبة عن الأصل الجاري في ألف وليس متأخّراً عن الأصل الجاري في باء، وإنّ هذا الثوب بما أنّ الشكّ في طهارته ونجاسته ناشئ من الشكّ في طهارة أو نجاسة ألف فيوجد بينهما التقدّم والتأخّر الرتبيّين، ولكن بالنسبة إلى الأصل الجاري في باء ليس كذلك، بالرغم من أنّ الأصل الجاري في ألف والأصل الجاري باء في رتبة واحدة.
يقول أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه إنّ الأصل الجاري في ألف والأصل الجاري في باء في رتبة واحدة فكيف يمكن أن يكون الأصل الجاري في الثوب متأخّراً رتبة عن أحدهما ولا يكون متأخّرا رتبة عن الآخر؟ فكيف يمكن التفكيك بينهما؟
المناقشة في الإيراد الأوّل
ثمّ يقول هذا التفكيك ممكن ثبوتاً على مبانينا لا على مباني السيّد الخوئيّ، وليس بممكن أيضاً على مبانينا لمحاذير العرفيّة الإثباتيّة. نعم بحسب مبانينا الثبوتيّة العقليّة الدقيقة لا الإثباتيّة يمكن التفكيك بأن نقول إنّ الأصل الجاري في الثوب متأخّرٌ رتبة عن الأصل الجاري في باء وليس متأخّراً رتبة عن الأصل الجاري في ألف. وهذا يحتاج إلى التوضيح.
فيقول: من الممكن على مبانينا أن يجعل الشارع تبارك وتعالى الأصل المؤمّن في كلا طرفي العلم الإجماليّ لأجل مراعاة التزاحم الحفظيّ أي التزاحم في مقام الحفظ التشريعيّ، وذلك في ما إذا وجد الشارع أنّ ملاك الإباحة أقوى من الملاك الإلزاميّ المعلوم بالإجمال رغم كونه معلوماً بالإجمال، فيمكن ثبوتاً للشارع في مقام الحفظ التشريعيّ لملاكاته الواقعيّة أن يضحّي بالملاك الإلزاميّ المعلوم إجمالاً في سبيل حفظ ملاك الإباحة إن كان اقتضائيّاً، وبالتالي يجعل الأصل المؤمّن في كلا طرفي العلم الإجماليّ، وبهذا سيخسر ملاك المعلوم بالإجمال ولكن يضمن ملاك الإباحة. فهذا ممكن ثبوتاً حسب مبانينا التي بُحثَت في بحث التزاحم الحفظيّ، وعلى هذا فيمكن أن يبتلى الأصل الجاري في الثوب بـ[ـالتعارض مع] أحد هذين الأصلين؛ لأنّ الأصل جار في ألف وهو أيضاً جار في باء، ونعلم إجمالاً إمّا باء نجس أو ثوب كذلك، فإذا كان الأصل المؤمّن في ألف جارياً والأصل المؤمّن في الثوب أيضاً جارياً إذا كانا غير متساقطين – كما هو ممكن ثبوتاً عندنا أن يجري الأصل المؤمّن في كلا طرفي العلم الإجماليّ الأوّل بين ألف وباء – فيكون لأحدهما معارض وللآخر لا يوجد معارض، فإنّ هذا معقول رغم كونهما في رتبة واحدة.
ولكنّ هذا أوّلاً غير معقول على مباني السيّد الخوئيّ؛ لأنّه رضوان الله تعالى عليه لا يرى إمكان جريان الأصل المؤمّن في كلا طرفي العلم الإجماليّ حتّى يكون أحدهما مبتلى بمعارض والآخر غير مبتلى، فلا يجري عنده ما قلنا من أنّ الأصل المؤمّن في ألف وباء يجريان معاً من دون تعارض بينهما ولكن أحدهما يبتلى بمعارض.
وثانياً على مبانينا فقلنا إنّه لا محذور ثبوتيّاً فيه ولكن نرى أنّ فيه محذوراً إثباتيّاً، وهذا المحذور الإثباتيّ عبارة عن أنّه وإن كان من الممكن أن يكون الملاك الترخيصيّ بحسب موازين التزاحم الحفظي أهمّ عند الله من الملاك الإلزاميّ المعلوم بالإجمال ولا يوجد فيه محذور ثبوتيّ، ولكنّه غير مقبول عرفاً؛ فإنّ العرف لا يتصوّر أن يصبح ملاك الإباحة أولى بالحفظ من الملاك الإلزاميّ المعلوم بالإجمال. نعم كونه أولى من الملاك الإلزاميّ غير المعلوم بالإجمال معقول ولكنّ الملاك الإلزاميّ إذا كان معلوماً بالإجمال فغير معقول عرفاً أن يكون أقلّ أهمّيّة عند المولى من ملاك الإباحة.
فما دام هذا الشيء غير متوقّع عرفاً إذاً فإطلاق أدلّة أصول المؤمّنة لكلا طرفي العلم الإجماليّ يبطل وإن كان تشملهما مبدئيّاً بأنّ هذا مشكوك وذاك مشكوك، فإنّهما وإن اقترنا بالعلم الإجمالي، ولكنّ الشكّ صادق عليهما، فالمفروض أنّ دليل الأصل المؤمّن يشمل الإثنين ولكن لا يشملهما؛ لأنّه غير معقول عرفاً، وما دام غير معقول عرفاً فأدلّة الأصول المؤمّنة لا تشمل كلاهما، وهذا محذور إثباتيّ وليسا ثبوتيّا.
فالأدلّة لا دلالة فيها إثباتاً والإطلاق الإثباتي لا يشمل، وبالتالي لا يمكن القول بأنّ هذين الأصلين المؤمّنين في ألف وباء رغم كونهما في رتبة واحدة ولكنّهما أسبق رتبة من الأصل الجاري في الثوب؛ لأنّ هذا يبتني على فكرة كونهما غير متساقطين، وأنّ الأصل في ألف يجري وكذلك الأصل في باء يجري من دون تعارض بينهما حتّى نقول إنّ أحدهما ابتُلي بالتعارض والآخر لم يبتل به، هذا ممكن ثبوتاً ولكن غير مقبول إثباتا حتّى عندنا.
وبالتالي فلا يصحّ ما قاله السيّد الخوئيّ من أنّ التقدّم والتأخّر الرتبيّين يكون لأحدهما دون الآخر، فيقول إنّ الأصل الجاري في ألف سابق رتبة على الأصل الجاري في الثوب؛ لأنّ الشكّ في الثوب ناشئ عن الشكّ في ألف فيوجد التقدّم والتأخّر الرتبيّين مع الأصل الجاري في ألف ولكن ليس هناك تقدّم وتأخر مع الأصل الجاري في باء؛ وهذا الكلام لا يمكن؛ لأنّ الأصل الجاري في ألف والأصل الجاري في باء إمّا كلاهما أسبقين رتبة أو كلاهما غير أسبقين رتبة ولا يمكن التفكيك حسب الموازين العامّة لو لا فكرة التزاحم الحفظيّ.
والحمد لله ربّ العالمين.