أصول الفقه – يوم الاثنين، ٢١ ربيع الثاني ١٤٤٥
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.
خلاصة البحث السابق
قلنا إنّ للسيّد الخوئيّ رضوان الله تعالى عليه إيرادين على الشيخ الأنصاري رضوان الله تعالى عليه حيث إنّ الشيخ الأنصاري رضوان الله تعالى عليه قال توجد اختلاف رتبيّ بين أصالة الطهارة الجارية في ألف وباء وبين أصالة الطهارة الجارية في الثوب الملاقي لألف، فقال إنّ هذا الاختلاف الرتبيّ يؤدّي إلى أنّ الثوب لا يدخل في التعارض بل الأصل الجاري في باء وفي ألف يتعارضان ويتساقطان في رتبة سابقة ثمّ تصل النوبة إلى الثوب وتجري فيه أصالة الطهارة بدون معارض.
وكان الإيراد الأوّل [من السيّد الخوئي رضوان الله تعالى عليه] هو أنّه لا يصحّ القول بوجود الاختلاف الرتبيّ، والإيراد الثاني أنّه حتّى لو سلّمنا بوجود الاختلاف الرتبيّ لكنّه لا يؤثّر على نجاة الثوب [من التعارض الحاصل] من العلم الإجماليّ.
الإيراد الثاني على الأمر الثاني من الأمور الأربعة
وحاصل بيان السيّد الخوئيّ لإيراده الثاني هو أنّ ظرف الأحكام الشرعيّة زمانيّ لا رتبيّ حتّى يأتي اختلاف الرتبة ويؤثّر، فإنّ اختلاف الرتبة يجري في الأمور التكوينيّة كالعلّة والمعلول، فيقال كيف يمكن أن يجتمع العلّة والمعلول في زمان واحد؟ والجواب أنّهما وإن كانا في زمان واحد في نفس اللحظة الزمانيّة التي يجتمع العلّة والمعلول، ولكنّ العلّة أسبق رتبة والمعلول متأخّر رتبة، فإنّ هذا الكلام لا يجري في الأحكام الشرعيّة؛ لأنّ ظرفها زمانيّ لا رتبيّ.
الجواب عن الإيراد الثاني
ويقول أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه: هذا الكلام [بأنّ الاختلاف بين الأحكام زمانيّ لا رتبيّ] وإن كان صحيحاً ولكنّ ما نحن فيه ليس من موارد تطبيقه.
ولأجل توضيح ذلك يشرح بحثاً آخر خارجاً عن محلّ بحثنا، ويوضّح أنّ هذا الكلام يجري هناك في ذاك البحث. فلابدّ لنا أن نبيّن تلك المسألة الفقهيّة الأخرى التي لا علاقة لها لمحلّ بحثنا، والتي يجري فيها كلام السيّد الخوئيّ.
توضيح قاعدة «ظرف الأحكام زمانيّة لا رتبيّة»
والمسألة هي أنّه لو اشترى الولد أباه أو أمّه (أحد العمودين) فينعتق؛ لأنّ الابن لا يمكن أن يتملّك أباه؛ لاحترام الأب. فبمجرّد شراءه ينعتق. فيقع الكلام أنّه هل يدخل في ملكه آناً ما – ولعلّه رأي الشيخ الأنصاري رضوان الله تعالى عليه – ثمّ ينعتق؟ أو أنّه بدون أن يدخل في ملك الابن ينعتق الأب في مقابل خسارة الابن للثمن، فيبذله في مقابل انعتاقه لا في مقابل أن يتملّكه؟
فأثيرت الشبهة الفنّيّة وهي أنّه إن دخل في ملكه آناً ما ورد الإشكال من أنّ الأب لا يمكن دخوله في ملك ولده ولا فرق بين آناً ما وبين ساعات، وإن قلنا بأنّه لا يدخل في ملك ولده بل ينعتق رأساً ورد عليه أنّ هذا خلاف موازين البيع، فإنّ معنى البيع شرعاً أنّ السلعة تخرج من ملك بائعها وتدخل في ملك المشتري، والثمن يخرج من ملك المشتري ويدخل في ملك البائع، [فإذا لم يدخل الأب في ملك الابن ولو آناً ما] فلا يحصل البيع هنا بهذا المعنى [الشرعيّ]؛ لأنّ الثمن يخرج ولا يدخل بدله في ملكه وهو الأب، فهذا خلاف موازين البيع.
هناك طبعا محاولات وردود على هذه الشبهة الفنّيّة، لكنّ شاهِدَنا في بحثنا يكون في أحد الأجوبة لحلّ هذه الشبهة، وهو أن يقال: إنّ الأب يدخل في ملك الابن بالبيع وأيضاً يخرج من ملكه بالانعتاق في لحظة واحدة [فلا يصبح الأب في ملك الابن ولو آناً ما]، فكلا هذين الأمرين يحصلان في زمان واحد لكن ضمن رتبتين.
فهذا الجواب يريد حلّ الشبهة المذكورة تمسّكاً باختلاف الرتبة، فيقول هذان الأمران أسبق رتبة من الآخر؛ لأنّ الدخول في ملكه في الرتبة السابقة يترتّب على ذلك خروجه من ملكه الذي هو في مرتبة متأخّرة، فهنا يأتي كلام السيّد الخوئيّ من أنّ الأحكام الشرعيّة ليست رتبيّة وإنّما هي زمانيّة، فلا يمكن أن يدخل في الملك ويخرج منه في الظرف الزمانيّ الواحد، واختلاف الرتبة لا يحلّ المشكلة ما دام الزمان واحداً، وليس هذا مثل اختلاف الرتبة بين العلّة والمعلول في الأمور التكوينيّ، فيصحّ أن نقول فيها إنّ العلّة والمعلول يتحقّقان في زمان واحد باختلاف الرتبة، فرتبة العلّة سابقة ورتبة المعلول متأخّرة.
وجه عدم صحّة التمسّك بكون الأحكام زمانيّة للإيراد على الشيخ الأعظم
ولكن لا محلّ لهذا الكلام في ما نحن فيه؛ لأنّ من يقول باختلاف الرتبة بأنّ الأصل الجاري في ألف وباء أسبق رتبة من الأصل الجاري في الثوب لا يقصد مثل اختلاف الرتبة بين العلّة والمعلول حتّى يقال له إنّ هذا يكون في التكوينيّات لا في الأحكام الشرعيّة، وإنّما يقصد بذلك أنّ الأصل العمليّ في الثوب يكون في طول عدم وجود أصل عمليّ في الأصلين ألف وباء، وأمّا إذا جري الأصل الجاري في ألف وباء فهما يتعارضان ويتساقطان في رتبة سابقة والثوب ينجو عن المعارض، وهذا سواء كان [ظرف الأحكام الشرعيّة والأصول العمليّة] زمانيّاً أو غير زمانيّ، كان رتبيّاً بالمعنى الفلسفي أو لا. فهو يقصد باختلاف الرتبة أنّ أصل عملي في باء ما دام موجوداً لا تصل النوبة إلى الأصل العمليّ في الثوب وإذا سقط الأصل العمليّ في باء وصل النوبة إلى الأصل العمليّ في الثوب، وهذا لا علاقة له بفكرة أنّ الأحكام الشرعيّة زمانيّة وليست رتبيّة، فاستعمل السيّد الخوئيّ هذا الكلام في غير محلّه.
فالإيراد للسيّد الخوئيّ غير صحيح أيضاً.
والحمد لله ربّ العالمين.