أصول الفقه – يوم الأحد ٢٧ ربيع الثاني ١٤٤٥
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.
خلاصة البحث السابق
الوجه الثاني لجريان الأصل المؤمّن في الملاقي كان للشيخ الأنصاري وكان يقول إنّ أصالة الطهارة في ألف وفي باء يتعارضان ويتساقطان في رتبة سابقة. فاستفاد من التقدّم والتأخّر الرتبيّين، ومن ثمّ أنتج إلى ألّا يبقى طرف للتعارض مع أصالة الطهارة في الملاقي لألف؛ لأنّ طرف المعارضة مع الأصل الجاري في الملاقي إنّما هي أصالة الطهارة في باء بحكم العلم الإجماليّ الثاني بنجاسة إمّا باء أو الملاقي لألف، فيسقط أصالة الطهارة في أحد طرفيه بالعلم الإجماليّ الأوّل الذي هو مقدّم رتبة فلا يبقى معارض لأصالة الطهارة في الملاقي.
وقلنا هذا الكلام يبتني على أربعة أمور وكنّا في البحث عن الأمر الرابع وهو عبارة عن أنّه يبتني صحة كلامه على ألّا يوجد أصل طوليّ آخر للأصل الجاري في باء كما وجد لأف، وإلّا لحصل لنا بالعلم الإجماليّ أنّه إمّا أصالة الطهارة في الملاقي باطلة وإمّا ذاك الأصل الطوليّ المترتّب على المتأخّر رتبة عن أصالة الطهارة في باء باطل.
وقلنا يوجد وجهان لإبطال هذا الأمر. أي يوجد [دائماً] هكذا أصل [في طول باء]؛ فإنّ نفي النفي – وهو عدم وجود هكذا أصل – إثبات، وهو وجود هذا الأصل.
الوجه الثاني لإثبات وجود أصل طولي لباء، المسمّى بالشبهة الحيدريّة
الوجه الثاني ما ذكره المرحوم السيّد حيدر والد السيّد الشهيد رضوان الله تعالى عليهما، وسمّي في بعض المصادر بالشبهة الحيدريّة، وهو أنّه يوجد أصل طوليّ للأصل الجاري في باء وهو أصالة الإباحة فيه. وإذا قلنا باختصاص أصالة الإباحة بإباحة الأكل والشرب لا بمعنى إباحة الصلاة فيه – كما لعلّه القول المشهور – فلابدّ من أن نبدّل المثال بمثال طعامٍ ما.
فيقول: يوجد في طرف باء أصالة الطهارة وأصالة الإباحة، وأصالة الطهارة أصل سببيّ بالنسبة إلى أصالة الإباحة؛ لأنّ الشكّ في الطهارة سبّب الشكّ في إباحة أكله وشربه، فالشكّ في الطهارة يسقط بالعلم الإجماليّ الأوّل بين نجاسة ألف وباء، ولكن يوجد أصل مسبّبيّ وهو أصالة الإباحة، وبما أنّها في طول أصالة الطهارة فإذا سقطت أصالة الطهارة في باء بالتعارض مع أصالة الطهارة في ألف تحيى أصالة الإباحة؛ لأنّ هذا هو شأن الأصلين الطوليّين؛ لأنّ الإباحة تبقى مشكوكة؛ لأنّها رغم إجراء أصالة الطهارة في باء ولكنّ هذا الأصل إنّما تنفي نفياً ظاهريّاً للطهارة، أمّا آثار الطهارة المسبّبة فتظلّ مشكوكة وهي بحاجة إلى أصل آخر لدفع الشكّ عنها.
وعندئذ يقول المرحوم السيّد حيدر رضوان الله تعالى عليه إنّ أصالة الإباحة تجري ولكنّه يوجد عندنا علم إجماليّ بأنّه إمّا أصالة الإباحة في باء باطلة وإمّا أصالة الطهارة في ملاقي ألف؛ لأنّ النجس الحقيقيّ إن كان في ألف فهذا الملاقي نجس أيضاً وإن كان في باء فأصالة الإباحة غير صحيحة في باء. إذاً إمّا أصالة الإباحة باطلة وإمّا أصالة الطهارة في الملاقي لألف، فهذان الأصلان يتعارضان ويتساقطان. فالملاقي لألف بهذا التعارض بين أصالة الطهارة في الملاقي لألف تبطل، فلا يبقى مؤمّن لممارسة الملاقي لألف؛ لأنّ الملاقي لألف كانت بحاجة إلى أصل مؤمّن وقد فقد أصله المؤمّن؛ لأنّه إمّا الأصل المؤمّن في هذا الملاقي باطل وإمّا أصالة الإباحة التي بقت في باء باطلة وبالتالي في الملاقي لا يبقى أصل مؤمّن فيجب الاحتياط فيه خلافاً لما قاله الشيخ الأنصاريّ رضوان الله تعالى عليه.
تساؤلات حول الشبهة الحيدريّة
هذا بيان السيّد حيدر، ولكنّه بحاجة إلى توضيحات؛ لأنّ هناك تساؤلات يمكن إثارتها في بيانه.
ومن جملتها أنّه من قال بأنّ أصالة الطهارة تظلّ حتّى بعد سقوط أصالة الطهارة في باء؟ فلقائل أن يقول إنّ أصالة الطهارة إذا سقطت في باء تسقط أصالة الإباحة أيضاً؛ لأنّ الإباحة من الآثار الملازمة للطهارة، ولكن جواب هذا التساؤل هو أنّا أشرنا إلى أنّ الإباحة مسبّبة عن الطهارة فإذا سقط الشكّ في السبب يحيا الشكّ في المسبّب ولا يسقط معه، كما قالوا إنّ الشكّ في الملاقي مسبّب عن الشكّ في الإناء الأوّل فإذا سقطت أصالة الطهارة فيه يبقى أصالة الطهارة في المسبّب.
فهذا من ذاك القبيل؛ لأنّ الشكّ في طهارة باء سبّب الشكّ في إباحته؛ لأنّ الإباحة مسبّب عن الطهارة فالشكّ في الطهارة شكّ سببيّ والشكّ في الإباحة شكّ مسبّبيّ فهما طوليّان، فالشكّ في الإباحة في طول الشكّ في الطهارة، فإذا جرت أصالة الطهارة في الشكّ في الطهارة التي سببيّ لا يسقط الشكّ المسبّبيّ التي هي أصالة الإباحة.
التساؤل الثاني: أنّه كما أنّ أصالة الطهارة في ألف وأصالة الطهارة في باء تعارضتا وتساقطتا فكذلك أصالتا الإباحة في ألف وفي باء تتعارضان وتتساقطان، ولا تبقى أصالة الإباحة في باء.
والجواب أنّ أصالة الإباحة في باء طرف لعلمين إجماليّين أحدهما يسقط والآخر لا يسقط.
فهي من ناحيةٍ طرفٌ لأصالة الإباحة في ألف فتتساقط مع أصالة الطهارة في ألف، ولكنّها صارت في نفس هذا الوقت طرفاً للعلم الإجماليّ بأنّه إمّا هذه الأصالة باطلة وإمّا أصالة الطهارة في الملاقي باطلة. فبسبب العلم الإجماليّ بأنّه إذا كانت النجاسة الواقعيّة في باء فأصالة الإباحة [في باء] باطلة، وإذا كانت النجاسة الواقعية في ألف فلا تصحّ أصالة الطهارة في هذا الملاقي.
إذاً فبالعلم الإجماليّ الثاني نقول تبقى أصالة الإباحة التي أحييت في باء طرفاً للتعارض مع أصالة الطهارة في الثوب الملاقي، فلا يبقى في هذا الملاقي بعدُ مؤمّنٌ عنه ويجب الاجتناب عنه بسبب وجود هذا الأصل الطوليّ في طرف باء.
وأمّا التساؤل الثالث: هو أن يقال إنّ أصالة الإباحة ليست من نوع أصالة الطهارة، فكيف تتعارضان؟
والجواب: أنّه سبق منا ووضّحنا أنّه إن كان هناك أصل طولي لباء – أيّ أصل طوليّ – بحيث عندما تسقط أصالة الطهارة في باء تصل النوبة إلى ذاك الأصل الطوليّ، وأمّا أصالة الطهارة في الثوب الملاقي فهي أصل طوليّ لألف يعني أنّ لكلّ من الألف والباء أصلاً طوليّاً، فيقع التعارض بين هذين الأصلين الطوليّين؛ لأنّه لا يكون فرق بينه وبين ما إذا كانا من سنخ واحد، مثل ما إذا كان لديه ثوبان ثوبٌ لاقى ألف وثوبٌ لاقى باء، فيصير عندنا علم إجماليّ بأنّه إمّا هذا الثوب صار نجساً وإمّا ذاك. فلا يكون فرق بينهما؛ لأنّ منشأ الإشكال في ذلك هو العلم الإجماليّ الثاني بأنّه إمّا هذا الأصل الطوليّ في باء باطل وإمّا الأصل الطوليّ في ألف، سواء كانا من سنخ واحد أو لم يكونا، فهذا العلم الإجماليّ هو الذي يسبّب افتقادنا للأصل المؤمّن في هذا الملاقي ونفتقد الأصل المؤمّن في هذا الملاقي، وبالتالي لا بدّ من الاحتياط في هذا الملاقي لألف خلافاً للشيخ الأنصاريّ.
التساؤل الرابع: ألم يكن الشيخ الأنصاري استفاد من اختلاف الرتبة؟ فيوجد هنا اختلاف الرتبة، فكما يوجد بين الأصلين الجاريين في ألف وفي الملاقي، فكذلك يوجد بين أصالتي الطهارة والإباحة، أو قل بين أصالة الإباحة في باء وأصالة الطهارة في الملاقي.
الجواب أنّه وقع التقابل هنا بين حكم الملاقي وبين باء، لا بين حكم الملاقي وحكم ألف الذي بينهما تقدّم وتأخّر رتبيّ، وبعد سقوط أصالة الطهارة جرت في باء أصالة الإباحة وهي في رتبة حكم الملاقي؛ لأنّ أصالةَ الطهارة هذه أصلٌ طوليّ لباء، وأصالة الطهارة في الثوب أصلٌ طوليّ لألف، وهما يصبحان في عرض واحد، فلا مجال لشبهة الطوليّة.
فكلام المرحوم السيّد حيدر تامّ ويصّححه أستاذنا الشهيد بناء على الرأي المشهور. ولكنّ بعض الأصحاب حاولوا الردّ على بيان المرحوم السيّد حيدر.
والحمد لله ربّ العالمين.