أصالة الثبات في ظهورات الأدلّة الشرعيّة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله ربّ العالمين، والصلاة والسّلام على خير خلقه وأشرف بريّته محمّد وأهل بيته الطيّبين الطّاهرين.
3
4
أصالة الثبات في ظهورات الأدلّة الشرعيّة
المقدّمة:
بعد أن آمنّا بأصل قاعدة حجيّة الظهور في الأدلّة الشرعيّة تمسّكاً بالسيرة العقلائيّة والمتشرعيّة، وقلنا: إنّ موضوع هذه الحجيّة هو ظهور زمان الصدور لا ظهور زمان الوصول، وقع الكلام في طريقة إثبات كون الظهور الواصل إلينا مطابقاً لظهور زمان الصدور، وكان الجواب عبارة عن التمسّك بأصالة عدم النقل أو بأصالة الثبات في اللغة بحسب تعبير اُستاذنا الشهيد (رحمه الله).
وقد أشار اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) إلى إشكالٍ قد يثار حول جريان أصالة الثبات في ظهورات الأدلة الشرعيّة، وأجاب عنه بالجواب المناسب للصياغة البدائيّة للإشكال1
مباحث الاُصول / الجزء الثاني من القسم الثاني / الصفحة 193 / الطبعة الاُولى.
.

  • مباحث الاُصول / الجزء الثاني من القسم الثاني / الصفحة 193 / الطبعة الاُولى.
5
ولكن مقرّر بحثه (سماحة السيّد الحائري حفظه الله) لم يكتف بالصياغة البدائيّة لذلك الإشكال، بل حاول ـ في هامش تقريره ـ تعميقه بالنحو الذي لا يتمّ معه الجواب الذي طرحه اُستاذنا الشهيد (رحمه الله)، ثم تصدّى للإجابة عنه بوجوه ثلاثة أهمّها هو الوجه الثالث الذي أشار فيه إلى وجود امتياز خاصّ لنوع معيّن من العلوم الإجماليّة في ضوء القواعد العامّة لحساب الاحتمالات.
وقد أثار هذا الوجه الثالث انتباهي إلى الامتياز الخاصّ الذي أشار إليه ـ بعبارة مقتضبة جدّاً ـ لبعض العلوم الإجماليّة، ورأيته جديراً بالاهتمام والعناية في حدّ ذاته.
ولأجل إعطاء مزيد من الاهتمام والعناية للامتياز الذي يختصّ به النوع الخاصّ المذكور من العلوم الإجماليّة رأيت من الضروري توضيح الإشكال أوّلاً بصيغته البدائيّة مع الجواب الذي طرحه اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) عنه، ثمّ توضيح الصيغة المعمّقة للإشكال التي طرحها السيّد المقرّر مع الوجوه الثلاثة التي حاول بها الإجابة عنها، ليتسنّى لنا توضيح الامتياز الخاصّ الذي يتمتّع به النوع المذكور من العلوم الإجماليّة والدفاع عنه بالردّ على الشبهات التي قد تثار ضدّه، لنصل إلى صورة واضحة وجميلة عن هذا النوع الخاصّ من العلوم الإجمالية والامتياز الخاصّ الذي يمتاز به، وهذا ما صنعناه
6
في هذه المقالة متّكلين على الله سبحانه وتعالى:
الصيغة البدائيّة للإشكال: أمّا الصيغة البدائيّة للإشكال الذي أشار إليه اُستاذنا الشهيد (رحمه الله)، فهي عبارة عن أنّنا كيف يصحّ لنا التمسّك بأصالة الثبات في ظهورات الأدلّة الشرعيّة الواصلة إلينا مع علمنا ببطلان بعضها على وجه الإجمال، إذ لا يمكن مضي قرون متطاولة على صدور تلك الأدلّة ولا يتغيّر شيء من ظهوراتها مع وجود كثير من مقتضيات التغيّر في اللغة وأسباب الظهور خلال هذا الزمان الطويل، وهذا العلم الإجمالي سيمنع عن التمسّك بالاُصول في جميع أطرافه ويلزم علينا الاحتياظ فيها جميعاً بمقتضى منجزيّة العلم الإجمالي لوجوب الموفقة القطعيّة في جميع الأطراف.
وهذا ما أجاب عنه اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) بأنّ العلم الإجمالي لا يمنع عن جريان الاُصول في جميع أطرافه ما لم يؤدّ جريانها جميعاً إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة لحكمٍ إلزاميٍ معلومٍ بالإجمال، وفي ما نحن فيه ليس جريان أصالات الثبات في مجموع الظهورات الواصلة إلينا مؤديّاً إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة لحكمٍ إلزاميّ معلومٍ بالإجمال، لأنّ الظهورات الواصلة إلينا بعضها إلزاميّة وبعضها ترخيصيّة، ونحن وإن كنّا نعلم إجمالاً بأنّ بعضها لا يطابق الظهورات
7
الصادرة من المعصومين عليهم السلام لوقوع التغيّر في بعضها قطعاً على الإجمال، ولكنّنا نحتمل كون التغيّرات الواقعة فيها مندرجة جميعاً ضمن الظهورات التي كانت ترخيصيّة عند الصدور وقد وصلتنا في قالب الظهورات الإلزاميّة دون العكس، وبالتالي لا تكون أصالة الثبات الجارية في مجموع تلك الظهورات مؤديّة إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة لحكم ٍ إلزامي معلومٍ بالإجمال حتى تتساقط.
إذاً فالعلم الإجمالي المذكور لا يمنع عن جريان أصالة الثبات في الظهورات الواصلة إلينا، وبها نحرز موضوع حجيّة الظهور فيها جميعاً ونعمل بالظهور .
الصيغة المعمّقة للإشكال:
وامّا الصيغة المعمّقة للإشكال التي طرحها المقرّر حفظه الله تعالى فتوضيحها: أنّ ما يقال من أنّ مانعيّة العلم الإجمالي عن جريان الاُصول في الأطراف مشروطة بكون تلك الاُصول مؤدّيةً إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة، إنّما يصحّ فيما إذا كانت الأصالات الجارية في أطراف العلم الإجمالي من الاُصول العمليّة البحتة التي لا تكون مداليلها الالتزاميّة حجّة تنجيزاً وتعذيراً أبداً، وأمّا إذا كانت من الأصالات العقلائيّة التي تعدّ من الأمارات التي هي حجّة في مداليلها المطابقيّة والالتزاميّة معاً، فسيكون التكاذب الحاصل فيما بينها بسبب
8
العلم الإجمالي كافياً لتساقطها، وذلك لأنّ كلّ واحدة منها تدلّ بالدلالة الالتزاميّة على كذب الاُخرى، فيقع التعارض بين الدلالات الالتزاميّة والدلالات المطابقيّة لتلك الأصلات الجارية في أطراف العلم الإجمالي، فتتساقط كلّها بهذا التعارض، بمعنى أنّها تفقد حجّيتها جميعاً، سواء كانت تلك الحجّيات في مجال التنجيز أو في مجال التعذير، وسواء أدّت إلى الترخيص في مخالفة حكم إلزامي معلوم بالإجمال أو لا .
وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ أصالة الثبات في اللغة من الاُصول العقلائيّة التي مرجعها إلى الأمارات، ومثبتاتها حجّة بطبعها لولا التعارض، فيقع التكاذب في ما بينها بسبب العلم الإجمالي بتغيّر بعض الظهورات، وبالتالي تتساقط حجيّة مداليلها المطابقيّة والالتزاميّة كلّها، وإن لم تؤدّ إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة لحكم إلزامي.
وجوه الإجابة عن الإشكال:
وأمّا الوجوه التي حاول المقرّر أن يجيب بها عن الإشكال فهي ما يلي:
الوجه الأول: أنّ أصالة الثبات في اللغة غير صالحة للحجيّة بطبعها في بعض أطراف هذا العلم الإجمالي، وذلك لأنّ عدداً كبيراً من الظهورات الواصلة إلينا في الروايات تندرج ضمن النطاق الخارج
9
عن الأحكام الشرعيّة، كالظهورات الواردة في الروايات الراجعة إلى الكون، أو إلى العقائد واُصول الدين، أو إلى أوصاف الجنّة والنار، أو غير ذلك مما لاتجري فيه المنجّزية والمعذّرية، وبما أنّنا لا نعرف أنّ معلومنا بالإجمال ـ أعني الظهورات التي تغيّرت في طول الزمان ـ هل هي في الأطراف الصالحة للحجيّة أو في الأطراف غير الصالحة للحجّية، فسيزول التعارض والتساقط بين أصالات الثبات الجارية في تلك الأطراف،وذلك لأنّ أصالة الثبات في الأطراف غير الصالحة للحجيّة غير حجّةٍ بطبعها، فتبقى أصالة الثبات في الأطراف الصالحة للحجيّة سليمة عن المعارض، فتكون حجّة .
ولكنّ هذا الوجه قابل للردّ عليه بسببين أشار إليهما المقرّر حفظه الله، وهما:
أوّلاً: قد يدّعى وجود العلم الإجمالي بتغيّر بعض الظهورات ضمن نطاق روايات الأحكام وبقطع النظر عن الروايات الاُخرى الواردة في غير الأحكام، وهذا العلم الإجمالي يوجب تساقط أصالات الثبات الجارية في هذا النطاق .
وثانياً: لو سلّمنا عدم وجود العلم الإجمالي المذكور في نطاق الروايات الواردة في الإحكام فحسب، وإنّما العلم الإجمالي المذكور جارٍ في النطاق الواسع لكلّ الروايات الواصلة إلينا بما فيها الروايات
10
الواردة في غير الأحكام، ولكنّ أصالة الثبات لا تفقد صلاحيّتها للحجيّة نهائياً في ظهورات الروايات الواردة في غير الأحكام حتى تنجو ظهورات الروايات الواردة في الأحكام عن المعارض كما ذكر، وإنّما تفقد أصالة الثبات صلاحيّتها للحجيّة في غير نطاق الأحكام بلحاظ دلالاتها المطابقيّة فحسب، لأنّها بدلالاتها المطابقيّة لا تعبّدنا بحكم إلزامي أو ترخيصي حتى تكون صالحة للحجّية، وأمّا بلحاظ دلالاتها الالتزاميّة التي تقتضي وقوع التطوّر والتغيير في الظهورات الاُخرى التي هي في نطاق الأحكام، فهي صالحة للحجّية لكونها داخلة في نطاق الأحكام، وتريد أن تعبّدنا بحكم أو بنفي حكمٍ من الأحكام التي تطرّقت إليها الروايات الواردة في باب الأحكام، وهذا يعني أنّ أصالات الثبات الجارية في ظهورات الروايات الواردة في غير الأحكام صالحة للحجيّة بلحاظ دلالاتها الالتزاميّة وإن لم تكن صالحة لها بلحاظ دلالاتها المطابقيّة .
ولا تجري هنا قاعدة تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للدلالة المطابقيّة في سقوط الحجيّة، لأنّ هذه القاعدة إنّما تجري فيما إذا ابتليت الدلالة المطابقيّة بمحذورٍ سبّب سقوط حجّيتها، كوجود معارض ٍ لها، أو العلم بكذبها، أو نحو ذلك، فإنّ ذلك المحذور يسري حينئذٍ إلى الدلالة الالتزاميّة فتسقط حجّيتها أيضاً، وأمّا إذا كانت الدلالة
11
المطابقيّة غير حجّة لا لمحذورٍ في حجّيتها، بل لأنّها لا تؤدّي إلى حكم إلزاميّ أو ترخيصيّ أبداً حتّى تصلح للحجيّة، فهذا لا يمنع عن حجيّة الدلالة الالتزاميّة فيما إذا كانت تؤدّي إلى حكمٍ إلزاميّ أو ترخيصي، كما فيما نحن فيه .
إذاً فالدلالات الالتزاميّة الموجودة لأصالات الثبات الجارية في مجموع الظهورات الواصلة إلينا تكون صالحة بطبعها للحجّية فيقع التعارض بينها وبين الدلالات المطابقيّة الثابتة في مجال الأحكام، وتسقط حجيّتها جميعاً كما ذكر في الإشكال .
الوجه الثاني لعلاج الإشكال: هو أنّ العلم الإجمالي المذكور بوقوع التغيّر في بعض الظهورات إنّما هو علم إجماليّ في الشبهة غير المحصورة، وذلك لسعة دائرة أطرافه، والمعروف أنّ كون الشبهة غير محصورة يوجب سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز، وبالتالي لا يبقى محذور في جريان الاُصول في أطرافه، فتجري أصالات الثبات في أطرافه بدون محذور .
وقد يورد على هذا الوجه: أنّ كون الشبهة غير محصورة إنّما يوجب إمكان جريان الاُصول في أطراف العلم الإجمالي فيما إذا كان المحذور الذي يمنع عن جريان الاُصول في الأطراف عبارة عن استلزامها للترخيص في المخالفة القطعيّة لحكم إلزاميٍ معلومٍ
12
بالإجمال، كما هو كذلك في الاُصول التعبّديّة التي لا تكون دلالاتها الالتزاميّة حجّة بطبعها، فإنّ كون الشبهة غير محصورة سيعالج حينئذٍ محذور الترخيص في المخالفة القطعيّة للحكم الإلزامي المعلوم بالإجمال، لأنّ أطراف العلم الإجمالي إذا كثرت جدّاً فسوف لا تؤدّي الاُصول الجارية في أطرافها إلى المخالفة القطعيّة للحكم المعلوم بالإجمال. وأمّا إذا كان المحذور الذي يمنع جريان الاُصول في الأطراف عبارة عن وقوع التعارض والتساقط بين الدلالات المطابقيّة والدلالات الالتزاميّة لتلك الاُصول، كما إذا لم تكن تلك الاُصول من الاُصول العمليّة التعبديّة بل كانت من الأصالات العقلائيّة التي مرجعها إلى أمارات، و كانت دلالاتها الالتزاميّة حجّة بطبعها فسوف لا يعالج هذا المحذور بكون الشبهة في أطراف العلم الإجمالي غير محصورة، بل سيقع التعارض و التساقط بين تلك الأصالات سواءً كانت الشبهة محصورة أو غير محصورة، كما هو كذلك فيما نحن فيه، لأنّ أصالات الثبات الجارية في الظهورات إنّما هي من الأصالات العقلائيّة التي مرجعها إلى أمارات، فستتعارض وتتساقط فيما بينها رغم كون العلم الإجمالي في شبهة غير محصورة، وبالتالي سنفقد أصالات الثبات في
13
كلّ الظهورات1
وقد أضاف المقرّر حفظه الله تعالى في ذيل هذا الإشكال الذي أثاره على العلاج الثاني للإشكال الأصلي كلاماً حاصله : أنّنا بعد أن نفقد أصالات الثبات في جميع الظهورات لا يحق لنا أن نترك العمل بتلك الظهورات نهائيّاً ، وذلك لوجود علمٍ إجمالي آخر لنا بعدم تغيّر عدد كبير من الظهورات الواصلة إلينا في مجال الأحكام الإلزاميّة، وهذا العلم الإجمالي يوجب علينا الاحتياط بالعمل بجميع الظهورات الإلزاميّة الواصلة إلينا، ولكنّ هذا لا يحقّق جميع الآثار المطلوبة من حجيّة الظهور، فأنّ الظهورات الواصلة إلينا إن ثبتت حجيتها جميعاً لا من باب الاحتياط بل من باب الحجية التعبديّة الشرعيّة أمكن إجراء قواعد (التقييد) و (التخصيص) و(الحكومة) وغيرها ممّا هي منوطة بإحراز صدور الظهورات من الشارع تبارك وتعالى وجداناً أو تعبّداً ، وأمّا إن لم تثبت حجيّتها إلّا من باب الاحتياط العقلي في أطراف العلم الإجمالي فستبطل أمثال هذه القواعد بأسرها ، ويلزم علينا أن نستنبط الأحكام بأساليب أخرى في موارد هذه القواعد . ولكنّك ترى أنّ هذا الكلام يبتني على أصل الإشكال الذي يقال فيه بسقوط حجيّة الظهور تبعاً لسقوط أصالات الثبات ، لا على خصوص الإشكال الذي أثاره على العلاج الثاني من العلاجات التي قدّمها لذلك الإشكال الأصلي ، فكان ينبغي له حفظه الله أن يطرح الكلام المذكور في ذيل ذلك الإشكال الأصلي ، لا في ذيل هذا الإشكال .
.
وقد أجاب المقرّر حفظه الله تعالى عن هذا الإشكال بأنّ الشبهة إذا كانت غير محصورة فستسقط الدلالات الالتزاميّة لتلك الأصالات عن الحجيّة وتبقى الدلالات المطابقيّة حجّةً بلا معارض، وذلك لأنّ مقتضى الدلالة الالتزاميّة لكلّ واحدة معيَّنة من تلك

  • وقد أضاف المقرّر حفظه الله تعالى في ذيل هذا الإشكال الذي أثاره على العلاج الثاني للإشكال الأصلي كلاماً حاصله : أنّنا بعد أن نفقد أصالات الثبات في جميع الظهورات لا يحق لنا أن نترك العمل بتلك الظهورات نهائيّاً ، وذلك لوجود علمٍ إجمالي آخر لنا بعدم تغيّر عدد كبير من الظهورات الواصلة إلينا في مجال الأحكام الإلزاميّة، وهذا العلم الإجمالي يوجب علينا الاحتياط بالعمل بجميع الظهورات الإلزاميّة الواصلة إلينا، ولكنّ هذا لا يحقّق جميع الآثار المطلوبة من حجيّة الظهور، فأنّ الظهورات الواصلة إلينا إن ثبتت حجيتها جميعاً لا من باب الاحتياط بل من باب الحجية التعبديّة الشرعيّة أمكن إجراء قواعد (التقييد) و (التخصيص) و(الحكومة) وغيرها ممّا هي منوطة بإحراز صدور الظهورات من الشارع تبارك وتعالى وجداناً أو تعبّداً ، وأمّا إن لم تثبت حجيّتها إلّا من باب الاحتياط العقلي في أطراف العلم الإجمالي فستبطل أمثال هذه القواعد بأسرها ، ويلزم علينا أن نستنبط الأحكام بأساليب أخرى في موارد هذه القواعد . ولكنّك ترى أنّ هذا الكلام يبتني على أصل الإشكال الذي يقال فيه بسقوط حجيّة الظهور تبعاً لسقوط أصالات الثبات ، لا على خصوص الإشكال الذي أثاره على العلاج الثاني من العلاجات التي قدّمها لذلك الإشكال الأصلي ، فكان ينبغي له حفظه الله أن يطرح الكلام المذكور في ذيل ذلك الإشكال الأصلي ، لا في ذيل هذا الإشكال .
14
الأصالات بطلان الدلالة المطابقيّة لواحدة غير معيّنة من العدد الباقي منها، فإذا كانت الأطراف كثيرة جدّاً فسيكون احتمال انطباق هذا المدلول الالتزامي على كلّ واحدةٍ من العدد الباقي منها ضئيلاً جدّاً، وهذا الاحتمال الضئيل لا يساعد على حجيّة تلك الدلالة الالتزاميّة في نظر العقلاء حتى تصبح حجةً شرعاً بسكوت الشارع عنها، وبهذا ستسقط الدلالات الالتزاميّة جميعاً عن الحجيّة، وتبقى الدلالات المطابقيّة حجّةً كما ذكرنا، وهذا يعني جريان أصالات الثبات في الظهورات الكثيرة الواصلة إلينا رغم دلالة كلّ واحدة منها على عدم ثبات واحدة من الباقي.
الوجه الثالث لعلاج الإشكال: أن أصالة الثبات الجارية في كلّ ظهور من الظهورات الواصلة إلينا لا تنعقد لها ـ بسبب العلم الإجمالي المذكور ـ دلالة التزاميّة على عدم ثبات ظهورٍ آخر من الظهورات، حتّى يؤدّي ذلك إلى التعارض والتساقط بين الدلالات المطابقيّة والدلالات الالتزاميّة كما ذكر في الإشكال، وذلك لأنّ العلم الإجمالي بتغيّر بعض الظهورات إنّما حصل لنا بسبب تراكم احتمالات التغيّر في كلّ ظهور من تلك الظهورات الكثيرة الواصلة إلينا، فإنّ كلّ واحدٍ من تلك الظهورات في معرض التغيّر في طول التاريخ، فمن البعيد جدّاً بحساب الاحتمالات أن يمرّ زمان طويل
15
على تلك الظهورات ولا يتغيّر شيء منها، ومهما زاد عدد الأطراف تقوّى هذا الاستبعاد إلى أن يحصل الجزم بتغيّر بعضها على أقل تقدير، إذاً فالعلم الإجمالي بتغيّر بعض الظهورات وليد احتمالات التغيّر الموجودة في أطرافه، وكلّما كان العلم الإجمالي وليد الاحتمالات الموجودة في أطرافه لم تنعقد بسبب ذلك العلم الإجمالي دلالة التزاميّة للأصل الجاري في كلّ طرفٍ من أطرافه على بطلان الأصل الجاري في طرفٍ آخر من الأطراف .
والسبب في ذلك أنّ مرجع هذه الدلالة الالتزاميّة إلى قضيّةٍ شرطيّةٍ شرطها عبارة عن نفي المعلوم بالإجمال في كلّ طرفٍ من الأطراف، وجزاؤها عبارة عن ثبوت المعلوم بالإجمال في طرفٍ آخر منها،ففي ما نحن فيه مرجع الدلالة الالتزاميّة في الأصل الجاري في كلّ طرف من أطراف العلم الإجمالي إلى القضيّة الشرطيّة القائلة: (إن لم يكن الظهور في هذا الطرف متغيّراً فهو متغيّر في بعض الأطراف الاُخرى) ومن الواضح أنّ نفي المعلوم بالإجمال الذي يتضمّنه الشرط في مثل هذه القضيّة الشرطيّة بلحاظ كلّ واحدٍ من الأطراف يساوي فرضيّة انتفاء أحد الاحتمالات التي ساهمت في توليد ذلك العلم الإجمالي، وبالتالي سيكون الشرط في مثل هذه القضيّة الشرطيّة متضمّناً لفرضيّة انتفاء العلم الإجمالي بانتفاء أحد أجزاء العلّة التي
16
ولّدته، وبهذه الفرضيّة ستزول الدلالة الالتزاميّة المذكورة، إذ لا موجب لهذه الدلالة الالتزاميّة سوى العلم الإجمالي، وقد افترضنا انتفاء العلم الإجمالي بمجرّد افتراض صدق الشرط في القضيّة الشرطيّة التي تعبّر عن تلك الدلالة الالتزاميّة .
وبهذا سننتهي إلى أنّ العلم الإجمالي كلّما كان مولوداً للاحتمالات الموجودة في أطرافه ـ كما هو كذلك فيما نحن فيه ـ فسوف لا تنعقد الدلالة الالتزاميّة للأصل الجاري في كلّ طرفٍ من أطرافه على بطلان الأصل الجاري في طرفٍ آخر من تلك الأطراف، وبذلك ستنجو الدلالات المطابقيّة عن المعارض، ويمكن التمسّك بأصالات الثبات الجارية في الظهورات بدون محذور .
هذا ما قصده سماحة السيّد المقرّر حفظه الله في بيان الوجه الثالث لعلاج الإشكال بعبارة مقتضبة جداً1
مباحث الأصول / الجزء الثاني من القسم الثاني /الصفحة 194/ الطبعة الأولى .
.
ولو صحّ هذا الوجه فهو يعني تميّز نوع خاصّ من أنواع العلم الإجمالي بامتياز خاصّ به قد يفيدنا في غير هذا الباب أيضاً، وحاصل هذا الامتياز هو أنّ فرضيّة انتفاء المعلوم بالإجمال في كلّ طرف من أطراف العلم الإجمالي لا تستلزم العلم بوجود المعلوم

  • مباحث الأصول / الجزء الثاني من القسم الثاني /الصفحة 194/ الطبعة الأولى .
17
بالإجمال في باقي الأطراف، رغم فعليّة علمنا بوجوده حتماً ضمن كلّ تلك الأطراف، والنوع الخاصّ الذي يتميّز بهذا الامتياز من العلوم الإجماليّة هو العلم الإجمالي الذي يكون وليداً للاحتمالات الموجودة في أطرافه ـ كما هو فيما نحن فيه ـ لا لأدلّةٍ وقرائن من خراج تلك الأطراف.
ولكنّي لا أرى المقدار المذكور من البيان لهذا الوجه الأخير من وجوه علاج الإشكال فيما نحن فيه كافياً للاقتناع به رغم ما بذلنا من الجهد في توضيحه، إلّا إذا استطعنا التغلّب على الشبهات التي قد تثار حوله في أذهان الباحثين.
إزاحة الشبهات عن الوجه الأخير:
ويمكن تحديد أهمّ الشبهات التي قد تثار حول الوجه الأخير المذكور لحل الإشكال المطروح بشأن التمسّك بأصالة الثبات في ظهورات الأدلّة الشرعيّة، بما يلي:
الشبهة الاُولى: إنّ عدد المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي القائم بتغيّر بعض الظهورات الواصلة إلينا إن كان أكثر من واحد ـ كما هو كذلك قطعاً ـ فسوف لا يكون افتراض صدق الشرط في القضيّة الشرطيّة التي تعبّر عن الدلالة الالتزاميّة في كلّ طرفٍ من الأطراف مساوياً لافتراض زوال العلم الإجمالي بزوال جزء العلّة التي ولّدته
18
كما ذكر، وذلك لأنّ افتراض صدق الشرط في كلّ طرفٍ من الأطراف إنّما يساوي افتراض انتفاء احتمالٍ واحد من الاحتمالات التي ساهمت في توليد هذا العلم الإجمالي، ومن الواضح أنّ زوال واحدٍ من تلك الاحتمالات إن سبّب نزول عدد المعلوم بالإجمال عمّا هو عليه بواحد فلا يسبّب زوال باقي أعداد المعلوم بالإجمال بأجمعها حتّى يؤدّي إلى زوال العلم الإجمالي، وإذا بقي العلم الإجمالي ثابتاً ولو بلحاظ باقي أعداد المعلوم بالإجمال، كفى ذلك لانعقاد الدلالة الالتزاميّة المذكورة .
والجواب على هذه الشبهة أنّ الدلالة الالتزاميّة المتوقّع انعقادها لأصالة الثبات الجارية في كلّ طرف من أطراف العلم الإجمالي في دائرة الظهورات إنّما هي عبارة عن دلالتها على حصول التغيّر في ظهور واحدٍ من الأطراف الاُخرى، فالقضيّة الشرطيّة التي تعبّر عن الدلالة الالتزاميّة المدّعات في كلّ طرفٍ من الأطراف إنّما هي عبارة عن ( أنّ واحداً من المعلوم بالإجمال إن لم يكن في هذا الطرف فهو في طرف ٍ آخر من الأطراف ) لوضوح أنّ المعلوم بالإجمال إن كان متعدّداً فكلّ طرفٍ من الأطراف لا يمكن أن يستوعب تمام ذلك العدد، وإنّما يمكن أن يستوعب واحداً منه، فالدلالة الالتزاميّة المتوقّع انعقادها في كلّ طرفٍ إنما تقول: إنّ واحداً
19
من المعلوم بالإجمال من دون تعيين، إن لم يكن في هذا الطرف فهو في طرف آخر من الأطراف، أمّا باقي وحدات المعلوم بالإجمال فهي في باقي الأطراف قطعاً، لعدم إمكان استيعاب هذا الطرف لها، ولا علاقة لها بالدلالة الالتزاميّة لهذا الطرف .
ولا شكّ في أنّ الدلالة الالتزاميّة بهذا المقدار المتوقّع لأصالة الثبات في كلّ طرفٍ من الأطراف ستزول بمجرّد افتراض صدق الشرط في القضيّة الشرطيّة التي تعبّر عن تلك الدلالة الالتزاميّة، وذلك لأنّ العلم الإجمالي بلحاظ هذا الواحد من المعلوم بالإجمال ينتفي بانتفاء جزء العلة التي ولّدته، وإن كان باقياً بلحاظ باقي وحدات المعلوم بالإجمال .
الشبهة الثانية: أنّ العلم الإجمالي إذا كان وليد الاحتمالات الموجودة في أطرافه ـ كما هو كذلك في ما نحن فيه ـ فإذا كان عدد أطرافه أكثر من مقدار الحاجة لتوليد ذلك العلم الإجمالي، سواء كان المعلوم بالإجمال واحداً أو أكثر، فافتراض نفي المعلوم بالإجمال في كلّ واحدٍ من تلك الأطراف لا يساوي افتراض زوال جزء العلة التي ولّدت ذلك العلم الإجمالي .
فمثلاً لو افترضنا فيما نحن فيه أنّ احتمالات التغيّر في كلّ مائة ظهور تكفي لتوليد العلم الإجمالي بتغيّر واحدٍ منها على أقلّ
20
تقدير، فإذا بلغ عدد الأطراف مائتين كفى ذلك لحصول العلم الإجمالي بتغيّر اثنين منها، وإذا بلغ عددها ثلاثمائة كفى لحصول العلم الإجمالي بتغيّر ثلاثة، وهكذا، فإذا كان عدد الأطراف منتهياً على رأس مائة من المئات من دون زيادة كان المعلوم بالإجمال بعدد تلك المئات، وبافتراض نفي التغيّر في واحد من الأطراف ستنقص مائة من تلك المئات عن نصابها المطلوب وبالتالي سينقص عدد المعلوم بالإجمال بواحد، وهذا يعني أنّ افتراض صدق الشرط في القضية الشرطية التي تعبّر عن الدلالة الالتزامية لأصالة الثبات في كلّ طرف واحد من أطراف هذا العلم الإجمالي يساوي افتراض زوال جزء العلة التي ولّدت هذا العلم الإجمالي ولو بقدر واحد من المعلوم بالإجمال كما سبق .
ولكن لو افترضنا أنّ عدد الأطراف لم ينته على رأس مائةٍ من المئات، بل تجاوزها ولم يبلغ مائةً أُخرى، فحينئذٍ سيكون عدد المعلوم بالإجمال بقدر المئات الصحيحة، ولا يزيد الكسر الزائد الموجود فيها شيئاً على عدد المعلوم بالإجمال، وبافتراض نفي التغيّر في واحدٍ من الأطراف في مثل ذلك سوف لا ينقص شيء من المئات الموجودة فيها، وبالتالي لا ينقص شيء من المعلوم بالإجمال، وهذا يعني أنّ افتراض صدق الشرط في القضيّة الشرطيّة التي تعبّر عن
21
الدلالة الالتزاميّة لأصالة الثبات في كلّ طرف واحد من الأطراف في الفرض المذكور لا يساوي افتراض زوال جزء العلة التي ولّدت هذا العلم الإجمالي ولو بقدر واحد من المعلوم بالإجمال، وبالتالي يبقى العلم الإجمالي قائماً بلحاظ تمام ما كان فيه من المعلوم بالإجمال، فلا موجب حينئذ لزوال الدلالة الالتزاميّة المذكورة لأصالة الثبات في كلّ طرف من أطراف هذا العلم الإجمالي .
والجواب على هذه الشبهة أنّ عدد أطراف العلم الإجمالي إذا كان أكثر من مقدار الحاجة لتوليد ذلك العلم الإجمالي بحسب ما فيه من عدد المعلوم بالإجمال كما في الفرض المذكور فسوف لا تنعقد للاُصول الجارية في تلك الأطراف دلالة التزاميّة على ثبوت المعلوم بالإجمال في الباقي ما لم تتناول الاُصول الجارية بعض ما يساهم في توليد ذلك العلم الإجمالي من تلك الأطراف، بمعنى أنّ الزائد على مقدار الحاجة لتوليد ذلك العلم الإجمالي إن كان عبارة عن عشرة أطراف مثلاً بدون تعيين، فالاُصول الجارية في تلك الأطراف إلى مقدار عشرة لا دلالة التزاميّة فيها على وجود المعلوم
22
بالإجمال في الباقي، لأنّ المعلوم بالإجمال موجود في الباقي قطعاً، فأيّ عشرةٍ تفرزها عن مجموع الأطراف سوف لا يطعن ذلك بالعلم الإجمالي ولا يقلّل من عدد المعلوم بالإجمال في الباقي، فليس وجود المعلوم بالإجمال في الباقي مدلولاً التزاميّاً لعدم وجوده في أيّ عشرة تختارها من تلك الأطراف .
وهذا يعني أنّ العلم الإجمالي وإن كان لا يتزلزل بجريان الاُصول النافية للمعلوم بالإجمال في عشرة من إطرافه في الفرض المذكور، ولكنّ هذا العلم الإجمالي لا يوجب انعقاد دلالة التزاميّة لهذه الاُصول العشرة على وجود المعلوم بالإجمال في الأطراف الاُخرى، إذ أنّ المعلوم بالإجمال وإن كان حقّاً موجوداً في الأطراف الاُخرى ولكنّ هذا ليس دلالة التزاميّة لتلك الاٌصول العشرة كما ذكرنا.
وإذا بلغ الاُصول الجارية في الأطراف أكثر من عشرة بحيث تناولت بعض ما يساهم في توليد ذلك العلم الإجمالي، فهذا يعني افتراض زوال جزء العلّة التي ولّدت ذلك العلم الإجمالي،وهذا يساوي افتراض زوال العلم الإجمالي نفسه، وبزواله تزول الدلالة الالتزاميّة لتلك الاُصول أيضاً، وبالتالي تكون الدلالات المطابقيّة لأصالة الثبات في الظهور سليمة عن المعارض .
الشبهة الثالثة: إنّ افتراض صدق الشرط في القضيّة الشرطيّة التي تعبّر عن الدلالة الالتزاميّة لكلّ أصالةٍ من أصالات الثبات الجارية في أطراف هذا العلم الإجمالي، وإن كان يساوي افتراض
23
رفع اليد عن واحد من أطراف العلم الإجمالي وهذا يعني زوال جزء العلة التي ولّدت هذا العلم الإجمالي كما ذكر، وهذا يوجب افتراض زوال العلم الاجمالي، ولكن لو تسلّمنا أنّ افتراض هبوط عدد أطراف العلم الإجمالي بواحد يوجب زوال العلم الإجمالي فيما إذا كان ذلك العلم الإجمالي وليداً لمجموع الاحتمالات الموجودة في تلك الأطراف فلا أقلّ من بقاء الاطمئنان المتآخم للعلم، بوجود نفس العدد الذي كان معلوماً بالإجمال، في نطاق باقي أطراف العلم الإجمالي، فإذا كان عدد أطراف العلم الإجمالي مائة وكان عدد المعلوم بالإجمال واحداً فبافتراض هبوط عدد الأطراف إلى تسع وتسعين سيتحوّل العلم الإجمالي بوجود واحد ضمن المائة إلى الاطمئنان الإجمالي بوجود واحد ضمن تسع وتسعين، وإذا كان عدد أطراف العلم الإجمالي مائتين وكان عدد المعلوم بالإجمال إثنين فبافتراض هبوط عدد الأطراف إلى مائة وتسع وتسعين، سيتحوّل العلم الإجمالي باثنين ضمن مائتين إلى الاطمئنان الإجمالي بوجود اثنين أيضاً ضمن مائة وتسع وتسعين، وهكذا. وهذا الاطمئنان الإجمالي كافٍ لانعقاد دلالة التزاميّة اطمئنانيّة لكلّ أصالةٍ من أصالات الثبات في الأطراف على وجود المعلوم بالإجمال ـ بنفس العدد المطلوب ـ في باقي الأطراف.
24
والجواب عن هذه الشبهة أنّ هناك كلاماً في أصل حجيّة مثل هذا الاطمئنان الإجمالي بوصفه وليداً لاحتمالات أطرافه، إذ قد يقال: إنّ هذا الاطمئنان ليس حجّة أصلاً لأنّه يساوي احتمالات الأطراف ولا قيمة له أكثر من قيم تلك الاحتمالات، فإن قبلنا بهذه المقولة فلا قمة للدلالات الالتزامية الناشئة من هذا الاطمئنان، وإن لم نقبل بهذه المقولة وقلنا بأنّ هذا الاطمئنان حجّة فسيكون حاله كحال العلم الإجمالي الذي يكون عدد أطرافه أكثر من مقدار الحاجة لتوليد ذلك العلم الإجمالي، حيث قلنا في الجواب على الشبهة السابقة: إنّ العلم الإجمالي إذا كان وليداً للاحتمالات الموجودة في أطرافه ولكن كان عدد أطرافه أكثر من مقدار الحاجة لتوليد ذلك العلم الإجمالي فسيكون الأصل الجاري في العدد الزائد عن مقدار الحاجة لتوليده غير متضمّنٍ للدلالة الالتزاميّة القطعيّة على وجود المعلوم بالإجمال في الباقي لأنّ المعلوم بالإجمال موجود في الباقي بقطع النظر عن ما يدّل على عدم وجوده في العدد الزائد عن مقدار الحاجة، فسواء دلّ دليلٌ أو أصل عملي على عدم وجود المعلوم بالإجمال في العدد الزائد عن مقدار الحاجة أو لم يدل دليل أو أصل عملي على ذلك فإنّ المعوم بالإجمال موجود على كلا التقديرين في الباقي، وليس الدالّ عليه والكاشف عنه عبارة عما دلّ على عدم وجود المعلوم
25
بالإجمال في ذلك العدد الزائد.
ويمكننا أن نقول بمثل هذا أيضاً في الجواب على هذه الشبهة الأخيرة فإنّ معنى وجود اطمئنان حجّة على وجود المعلوم بالإجمال في تسعة وتسعين من الأطراف المائة أنّ واحداً من تلك المائة بلا تعيين يكون زائداً عن مقدار الحاجة لتوليد هذا الاطمئنان الإجمالي، وهذا يعني أنّ المعلوم بالإجمال موجود على مستوى الاطمئنان في التسعة والتسعين سواء دلّ دليل أو أصل عملي على عدم وجوده في هذا الواحد الزائد أو لم يدل، وبهذا تنهار الدلالة الالتزاميّة الاطمئنانيّة للأصل النافي للمعلوم بالإجمال في هذا الواحد على ثبوت المعلوم بالإجمال في الباقي، كما كانت تنهار الدلالة الالتزاميّة القطعيّة للأصل النافي للمعلوم بالإجمال في العدد الزائد عن مقدار الحاجة لتوليد العلم الإجمالي على ثبوت المعلوم بالإجمال في الباقي.
الخاتمة: وبمجموع ما ذكرنا قد انحلّت الشبهات الثلاث التي قد تخطر بالبال بشأن الجواب الثالث من الأجوبة المذكورة عن الإشكال الوارد بشأن جريان أصالة الثبات في ظهورات الأدلة الشرعيّة. وقد ظهر بذلك أنّ الجواب الثالث ـ الذي كان يتلخّص في نفي وجود دلالة التزاميّة لكلّ أصالة من تلك الأصالات على ثبوت التغيّر في باقي
26
الأطراف ـ صحيح ومتين جدّاً، ولعلّه أقوى وأمتن من الجوابين الأوّلين.
وقد ظهر أيضاً أنّ الامتياز الخاصّ الذي أشرنا إليه لنوع معيّن من العلوم الإجماليّة صحيح ومتين أيضاً، وقد يستفاد منه في بعض البحوث الاُخرى الراجعة إلى العلم الإجمالي كما ذكرنا.
والحمد لله أوّلاً وآخراً، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.
27