الإبداع في تفسير حقيقة الأحكام الظاهريّة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله ربّ العالمين، والصلاة والسّلام على خير خلقه وأشرف بريّته محمّد وأهل بيته الطيّبين الطّاهرين.
3
4
الإبداع في تفسير حقيقة الأحكام الظاهريّة1
الغرض من هذا المقال توضيح وجه الإبداع الموجود في نظريّة الاُستاذ الشهيد الصدر في تفسير حقيقة الأحكام الظاهريّة والجمع بينها وبين الأحكام الواقعيّة، رغم وجود جذور أوّليّة لتلك النظريّة في ألسنة الأصحاب، ممّا قد يوهم اقتباس تلك النظريّة من العلماء السابقين، فقد حاول الكاتب أن يدفع هذا التوهّم ويبرئ ساحة اُستاذه الشهيد من الاتهام المبتني على ذلك بقطع النظر عن تفاصيل تلك النظريّة والحكم لها أو عليها.
السيّد علي الأكبر الحائري
المقدّمة:
من أهمّ المسائل التي أبدع فيها اُستاذنا الشهيد الصدر (رحمه الله) في علم الاُصول وتوصّل فيها إلى نظريّةٍ متكاملة جديدة لم يتوصّل إليها المحقّقون الأفذاذ من قَبله، مسألة تفسير حقيقة الأحكام الظاهريّة وكيفيّة الجمع بينها وبين الأحكام الواقعيّة، حيث نجد في الحلقة الثالثة من كتابه (دروس في علم الاُصول) ما يفي ببيان نظريّته هذه باختصار، تحت عنوان (الحكم الواقعي

  • الغرض من هذا المقال توضيح وجه الإبداع الموجود في نظريّة الاُستاذ الشهيد الصدر في تفسير حقيقة الأحكام الظاهريّة والجمع بينها وبين الأحكام الواقعيّة، رغم وجود جذور أوّليّة لتلك النظريّة في ألسنة الأصحاب، ممّا قد يوهم اقتباس تلك النظريّة من العلماء السابقين، فقد حاول الكاتب أن يدفع هذا التوهّم ويبرئ ساحة اُستاذه الشهيد من الاتهام المبتني على ذلك بقطع النظر عن تفاصيل تلك النظريّة والحكم لها أو عليها.
5
والظاهري) ضمن الجواب على الشبهات المطروحة حول الأحكام الظاهريّة، ونجد تفصيل ذلك بصورة مشروحة في تقرير بحثه (رحمه الله)1
مباحث الاُصول: الجزء الثاني من القسم الثاني: صص 49 ـ 67.
.
وقد أدّت نظريّته هذه إلى اختيار تعريف جديد للأحكام الظاهريّة يختلف اختلافاً جذريّاً عن التعريف المشهور لها، وهو كما ورد في الحلقة الثالثة عبارة عن كونها «خطابات تعيّن الأهمّ من الملاكات والمبادئ الواقعيّة حين يتطلّب كلّ نوعٍ منها الحفاظ عليه بنحوٍ ينافي ما يضمن به الحفاظ على النوع الآخر» وقد جاءَ توضيحه في محلّه.
ولكنّ الذي قد يورث التشكيك أو التساؤل حول وجه إبداع هذه النظريّة وجود بعض الجذور الأوّليّة لها في ألسنة الأصحاب، وهي لا تعدو أن تكون جذوراً أوّليّة لها، والمسافة بينها وبين هذه النظريّة بعيدة جدّاً.
ولأجل توضيح ذلك لابدّ من عرض أصل نظريّته (رحمه الله) في هذه المسألة بإيجاز، ثمّ الإشارة إلى الجذور الأوّليّة الموجودة في

  • مباحث الاُصول: الجزء الثاني من القسم الثاني: صص 49 ـ 67.
6
ألسنة الأصحاب لهذه النظريّة، ثمّ بيان وجوه التكامل التي امتازت بها هذه النظريّة حتّى بلغت صورتها النهائيّة وأصبحت نظريّةً مستقلّةً جديدةً ومبدعة.
1ـ بيان أصل النظريّة: أمّا بيان أصل نظريّته (رحمه الله) في تفسير الأحكام الظاهريّة التي يتغلّب بها على مشكلة التضاد بين الحكم الظاهري والواقعي والمشاكل الفنيّة الاُخرى التي تحوم حول الأحكام الظاهريّة، فحاصله: أنّ روح الأحكام الظاهريّة ترجع إلى بيان اهتمام المولى تبارك وتعالى ببعض ملاكاته الواقعيّة أكثر من بعض عند وقوع الخلط والاشتباه بينها لدى العبد، بالنحو الذي يؤدّي إلى التزاحم في ما بينها في مقام حفظها التشريعي من قبل المولى، وببيان اهتمامه هذا ببعض ملاكاته الواقعيّة أكثر من بعض يتمّ موضوع حكم العقل بالتنجيز تارة وبالتعذير اُخرى، من دون أن يكون بهذا الحكم الظاهري ـ المتمثّل في بيان الاهتمام المذكور ـ ملاك مستقل في مقابل ملاكات الأحكام الواقعيّة، حتى يقع التضاد بينه وبين تلك الملاكات، مهما كانت صياغة طرح هذا الحكم الظاهري من حيث لسان التشريع، كلسان جعل الحكم المماثل، أو لسان جعل الطريقيّة والكاشفيّة، أو لسان التنزيل، أو
7
أيّ لسان آخر، فإنّ أيّ لسان تشريعي يفي ببيان الاهتمام المولوي المذكور كافٍ لأداء دور الحكم الظاهري من دون أن يقع التضاد بينه وبين الأحكام الواقعيّة من حيث المبادئ والملاكات.
و هذه النظريّة تبتني ـ بطبيعة الحال ـ على تصورات معيّنة حول ما يرتبط بهذا البحث من اُمور ثلاثة:
الأمر الأوّل: أن وقوع الخلط و الاشتباه في تعيين مصبّ الأغراض والمبادئ الواقعيّة هل يوسّع من دائرة الغرض بحيث أنّ مبادئ الحكم تتسع حقيقة، أو أنّه يوسّع من دائرة المحرّكيّة فحسب من دون أن تتسع المبادئ والأغراض في واقع الأمر؟
الأمر الثاني: أنّ التزاحم المشار إليه في هذه النظريّة هل هو من نوع التزاحم الناشئ من اجتماع ملاكين متضادّين في فعل واحد، أو من نوع التزاحم الناشئ من ضيق قدرة المكلف على الجمع بين الفعلين المشتمل كلّ منهما على ملاك، أو هو من نوع آخر غير هذا وذاك؟ وما هي حقيقة ذلك النوع الآخر؟
والأمر الثالث: كيف يمكن وقوع التزاحم بين ملاك الإلزام وملاك الترخيص؟
و لأجل استيعاب البحث في هذه الاُمور الثلاثة عقد اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) ثلاث مقدّمات لبيان نظريّته المشار إليها في
8
تفسير حقيقة الأحكام الظاهريّة 1
مباحث الاُصول: الجزء الثاني من القسم الثاني: صص49 ـ 53.
.
وقد توصّل في الأمر الأوّل إلى نتيجة: أنّ الأغراض والمبادئ لا تتسع في الحقيقة عند وقوع الخلط والاشتباه، وإنّما تتسع دائرة المحركيّة فحسب.
كما توصّل في الأمر الثاني إلى أنّ هذا نوع جديد من التزاحم يختلف عن النوعين الآخرين، وقد عبّر عنه بالتزاحم في مقام الحفظ التشريعي، وهو التزاحم الحفظي بلغة الإختصار.
وأمّا الأمر الثالث فقد انتهى فيه إلى إمكان وقوع التزاحم ـ بالمعنى الجديد المطروح في الأمر السابق ـ بين ملاك الحكم الإلزامي وملاك الحكم الترخيصي، بحيث يجد المولى نفسه بين طريقين في مقام التشريع لو سلك أحدهما تمّ موضوع حكم العقل بالتنجيز ولو سلك الآخر تمّ موضوع حكم العقل بالتعذير.
ولسنا الآن بصدد الدخول في تفاصيل هذا البحث، وإنما طرحنا موجزاً لبيان هذه النظريّة للتوصّل إلى نقاط الإبداع فيها التي لم يتوصّل إليها الآخرون، ومن أراد التفصيل فيها فليرجع إلى مصادرها2
دروس في علم الاُصول, ج 2: صص26 ـ 32, ط مؤتمر الشهيد الصدر. ومباحث الاُصول, الجزء الثاني من القسم الثاني: صص 49 ـ 67.
.
2ـ الجذور الأوّليّة لنظريّة السيّد الشهيد (رحمه الله): وأمّا الجذور الأوّليّة الموجودة في ألسنة الأصحاب لهذه النظريّة فهي من قبيل ما ورد في مقالات المحقّق العراقي (رحمه الله) من أنّ الأوامر الطريقيّة «دائرة إنشائها أوسع من دائرة لبّ الإرادة الواقعيّة، إذ ربّما يكون في البين إنشاء بلا إرادة في الواقع أصلاً»3
مقالات الاُصول, ج2: ص20.
.
وما ورد أيضاً في نفس المصدر من أنّ «مثل هذه الإنشاءات الطريقيّة في ظرف الجهل بالواقع تكشف عن اهتمام المولى بحفظ مقصوده بحسب ما قنع في إبرازه بصرف خطابه الواقعي القاصر عن الشمول لظرف الجهل بنفسه، ولازمه حينئذٍ احتمال المكلّف تكليفاً يقطع بكونه مهتمّاً به بهذه المرتبة من الاهتمام، وبمثله يخرج أيضاً عن موضوع القبح، لأنّه تمحّض بصورة عدم الاهتمام بحفظه في ظرف الجهل» 4
نفس المصدر, صص 22 ـ 23.
.
وما ورد أيضاً في أجود التقريرات من قوله: «وأمّا إذا كان

  • مباحث الاُصول: الجزء الثاني من القسم الثاني: صص49 ـ 53.
  • دروس في علم الاُصول, ج 2: صص26 ـ 32, ط مؤتمر الشهيد الصدر. ومباحث الاُصول, الجزء الثاني من القسم الثاني: صص 49 ـ 67.
  • مقالات الاُصول, ج2: ص20.
  • نفس المصدر, صص 22 ـ 23.
9
حكماً ظاهريّاً ناشئاً من تحفّظ الشارع على أحكامه الواقعيّة الموجودة في جملةٍ من موارد الطرق غير العلميّة غير الممتازة عن موارد خطئها، فلا يلزم كونه ناشئاً عن ملاكٍ ملزم في كلّ موردٍ مورد، بل يكفي وجود الملاك في جعل نوعها حجّةً»1
أجود التقريرات, ج3: صص 115ـ 116.
.
وما ورد أيضاً في تقرير بحث السيّد الخوئي (رحمه الله) من قوله: «إذ العقل لا يرى مانعاً من إلزام المولى عبدَه بفعل ما هو مباح واقعاً أو بتركه تحفّظاً على غرضه المهمّ، أي المصلحة الملزمة الموجودة في بعض الأفراد، فإنّ الأحكام وإن كانت تابعةً للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها على ما هو المعروف من مذهب العدليّة، إلّا أنّه تكفي المصلحة النوعيّة، ولا يعتبر وجود المصلحة الشخصيّة دائماً، إذ قد تكون المصلحة الملزمة في بعض الأفراد، ولكن المولى يجعل الحكم بنحو العموم فيما لم يتميّز واجد المصلحة عن غيره؛ تحفّظاً على تلك المصلحة الموجودة في البعض»2
مصباح الأصول, ج2: صص92 ـ 93.
.
وما ورد في نفس المصدر من قوله: «… فالتعبّد بالأمارة

  • أجود التقريرات, ج3: صص 115ـ 116.
  • مصباح الأصول, ج2: صص92 ـ 93.
10
فيها وإن كان مستلزماً لتفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة في بعض الموارد، إلّا أنّه لا قبح فيه لو يرى المولى العالم كونها غالبة المطابقةِ للواقع»1
نفس المصدر, ص94.
.
إلى غير ذلك من العبارات المتضمّنة لما يقارب هذه المضامين.
3ـ التكامل و الأبداع في نظريّة السيّد الشهيد (رحمه الله):
وأمّا وجوه التكامل التي امتازت بها نظريّة اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) على أمثال هذه المضامين الواردة في ألسنة الأصحاب، فنكتفي بالإشارة إلى جملة منها من خلال النقاط التالية.
أوّلاً: إنّ هؤلاء الأعلام تغمّدهم الله تعالى برحمته الواسعة كأنّهم لم يخرجوا في باب الأحكام الظاهريّة عن إطار الفكرة المعروفة القائلة: إِنَّ الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد الموجودة في متعلّقاتها أو في مواردها على الإجمال، غاية الأمر إنّ المصلحة عندهم قد تكون مصلحةً شخصيّة، وقد تكون

  • نفس المصدر, ص94.
11
مصلحةً نوعيّة، واعتبروا المصلحة الموجودة في موارد الحكم الظاهري من القسم الثاني، وهي مصلحة حفظ الملاكات الواقعيّة الموجودة غالباً في موارده، فآمنوا بأوسعيّة دائرة الأحكام الظاهريّة من المبادئ الواقعيّة الموجودة في متعلّقاتها على أساس وجود هذه المصلحة النوعيّة فيها وإن لم تطابق الواقع، كما جاء التصريح بذلك في بعض العبارات التي نقلناها عن الأصحاب.
وكأنّ السيّد الخوئي (رحمه الله) تفطّن إلى ما قد يقال من أنّ هذه المصلحة النوعيّة ليست مستقلّةً عن نفس تلك المبادئ الواقعيّة، وهي موجودة غالباً لا دائماً حسب الفرض، فيبقى الحكم الظاهري غير تابع للمصلحة الموجودة في متعلّقه ولو في بعض الأحيان، فاتّجه إلى القول بأنّ المصلحة النوعيّة المذكورة إنّما هي في جعل الحكم الظاهري لا في متعلقه، وبما أنّ جعل الحكم الظاهري في إطاره الواسع يحقّق المصلحة النوعيّة المذكورة لا في خصوص موارد التطابق للواقع؛ لعدم تمييزها عن غيرها، فتكون الأحكام الظاهريّة تابعةً للمصلحة الموجودة في مواردها دائماً، وإن كانت في الجعل لا في المتعلّق.
وأمّا اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) فقد خرج عن الإطار المذكور في باب الأحكام الظاهريّة، ولم يعتبر الحكم الظاهري حكماً بالمعنى
12
الذي يستدعي التبعيّة للمصالح الموجودة في متعلّقه أو في جعله، مهما كان لسان إنشائه في مقام الإثبات، وإنّما اعتبر الحكم الظاهري مجرّد خطابات تصدر من الشارع تبارك وتعالى لتعيين الأهمّ من الملاكات والمبادئ الواقعيّة حين وقوع التزاحم بينها في مجال الحفظ التشريعي1
كما صرّح به في التعريف الذي انتهى إليه للحكم الظاهري في نهاية البحث حول الحكم الواقعي والظاهري الذي أورده ضمن الأبحاث التمهيديّة للحلقة الثالثة من كتابه (دروس في علم الاُصول), حيث قال: «وهكذا يتّضح أنّ الأحكام الظاهريّة خطابات تعيّن الأهمّ من الملاكات والمبادئ الواقعيّة حين يتطلّب كلّ نوعٍ منها الحفاظ عليه بنحوٍ ينافي ما يضمن به الحفاظ على النوع الآخر» وقال في موضوعٍ آخر من نفس المصدر ـ تحت عنوان (وفاء الدليل بدور القطع الطريقي والموضوعي) ـ : «وعليه فالمهم في جعل الخطاب الظاهري أن يكون مبرزاً لهذا الاهتمام من المولى, لأنّ هذا هو جوهر المسألة».
، بالمعنى المشروح في محلّه.
و بهذا يظهر وجه تعبيره (رحمه الله) عن الأحكام الظاهريّة بأنّها «خطابات تعيّن الأهمّ …» فإنّ كلمة (خطابات) تشمل كلّ ما يصدر من الشارع تبارك وتعالى لأداء الغرض المذكور، سواء كان

  • كما صرّح به في التعريف الذي انتهى إليه للحكم الظاهري في نهاية البحث حول الحكم الواقعي والظاهري الذي أورده ضمن الأبحاث التمهيديّة للحلقة الثالثة من كتابه (دروس في علم الاُصول), حيث قال: «وهكذا يتّضح أنّ الأحكام الظاهريّة خطابات تعيّن الأهمّ من الملاكات والمبادئ الواقعيّة حين يتطلّب كلّ نوعٍ منها الحفاظ عليه بنحوٍ ينافي ما يضمن به الحفاظ على النوع الآخر» وقال في موضوعٍ آخر من نفس المصدر ـ تحت عنوان (وفاء الدليل بدور القطع الطريقي والموضوعي) ـ : «وعليه فالمهم في جعل الخطاب الظاهري أن يكون مبرزاً لهذا الاهتمام من المولى, لأنّ هذا هو جوهر المسألة».
13
بلسان حكم تكليفيّ، أو بلسان التنزيل، أو بلسان جعل الطريقيّة والعلميّة، أو بأيّ لسانٍ آخر.
وثانياً: إنّ ما جاء في كلمات هؤلاء الأعلام، وإن كان مستبطناً للإشارة إلى دور الأحكام الظاهريّة في حفظ ملاكات الأحكام الواقعيّة التي تطابقها ـ الأمر الذي اعتمد عليه اُستاذنا الشهيد الصدر (رحمه الله) أيضاً في نظريّته ـ ولكنّهم إنّما ذكروا ذلك لحلّ بعض المشاكل التي تحوم حول الأحكام الظاهريّة، كمشكلة تنجيز الحكم الواقعي المشكوك رغم بقائه على الشكّ، أو مشكلة تفويت المصالح الواقعيّة على العباد وإلقائهم في المفاسد الواقعيّة، أو مشكلة استلزام نقض الغرض المستحيل على العاقل الملتفت، أو مشكلة استلزام عدم نشوء بعض الأحكام الظاهريّة عن المصالح والمفاسد في متعلّقاتها، فكلّ واحد منهم أشار إلى الفكرة المذكورة لحلّ واحدةٍ أو أكثر من هذه المشاكل، ولم أرَ منهم أحداً يعتمد على الفكرة المذكورة لحلّ جميع المشاكل التي تحوم حول الأحكام الظاهريّة بما فيها من مشكلة التضادّ بين الحكم الظاهري والواقعي، كما صنعه اُستاذنا الشهيد (رحمه الله).
ولهذا تجد كلّ واحد من هؤلاء عندما يصل الى معالجة مشكلة التضادّ لا يكتفي في حلّها بما يعتمد على الفكرة المذكورة،
14
بل يتحوّل إلى حلّ آخر من الحلول المردودة في محلّها من قبل اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) أو من قبل الآخرين، فالمحقّق العراقي (رحمه الله) مثلاً اعتمد على نوعٍ من اختلاف الرتبة بين الحكم الظاهري و الواقعي1
مقالات الاُصول, ج2: صص47 ـ 48.
، والمحقّق النائيني (رحمه الله) تمسّك بمسلك جعل الطريقيّة والعلميّة لحلّ مشكلة التضادّ في باب الأمارات والاُصول المحرزة أو التنزيليّة، باختلاف التعابير الواردة عنه2
أجود التقريرات, الجزء الثالث في بحث قيام الأمارة مقام القطع الطريقي: صص 19ـ27, وفي بحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي: صص129ـ131.
، و تبعه في ذلك السيّد الخوئي (رحمه الله)3
مصباح الاُصول, ج2: ص 106.
، وأمّا في باب الاُصول العلميّة البحتة فقد تمسّك الأوّل بدعوى نوعٍ من اختلاف الرتبة بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري4
أجود التقريرات, ج 3:صص135ـ 140.
وتمسّك الثاني بدعوى كون مصلحة الحكم الظاهري في الجعل5
مصباح الاُصول, ج2:صص108ـ 111.
.

  • مقالات الاُصول, ج2: صص47 ـ 48.
  • أجود التقريرات, الجزء الثالث في بحث قيام الأمارة مقام القطع الطريقي: صص 19ـ27, وفي بحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي: صص129ـ131.
  • مصباح الاُصول, ج2: ص 106.
  • أجود التقريرات, ج 3:صص135ـ 140.
  • مصباح الاُصول, ج2:صص108ـ 111.
15
كلّ هذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ ما أشاروا إليه من دور الأحكام الظاهريّة في حفظ الملاكات الواقعيّة التي تطابقها لم يكن ناضجاً عندهم بالدرجة التي تكفي لحلّ جميع المشاكل التي تحوم حول الأحكام الظاهريّة بما فيها من مشكلة التضادّ بين الحكم الظاهري والواقعي، فلم يستفيدوا من ذلك إلّا لحلّ بعض المشاكل الاُخرى غير هذه المشكلة.
في حين أنّ اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) استطاع أن ينضّج الفكرة المذكورة ويستنبط منها نظريّةً متكاملةً لحلّ كلّ هذه المشاكل بما فيها مشكلة التضادّ بين الحكم الظاهري والواقعي، كما جاء توضيحه في محلّه من الحلقة الثالثة و من تقرير بحثه (قدس سره).
وثالثاً: إنّ هؤلاء وإن التفتوا ـ أو التفت بعضهم على أقلّ تقدير ـ إلى نوع من التزاحم بين الملاكات الواقعيّة، من خلال ما أشار بعضهم إليه من أنّ الحكم الظاهري وإن كان قد يؤدّي إلى خسارة بعض الملاكات الواقعيّة، ولكنّ هذه الخسارة إنّما هي في سبيل الحفاظ على الملاكات الواقعيّة الاُخرى الموجودة غالباً في موارد الحكم الظاهري، ولكنّهم لم يخوضوا في بيان حقيقة هذا النوع من التزاحم وتوضيح الفرق بينه وبين النوعين الآخرين اللذين أشار إليهما اُستاذنا الشهيد (رحمه الله)، بل ربّما وقع الخلط
16
والاشتباه عندهم بين هذا النوع من التزاحم والنوعين الآخرين، حتّى عدّ بعضُهم هذا التزاحم من نفس نوع التزاحم الواقع في مسألة تترّس الكفّار بالمسلمين في الحرب1
أجود التقريرات, ج3: ص 114.
.
وأمّا اُستاذنا الشيهد (رحمه الله) فقد خاض في بيان حقيقة هذا النوع من التزاحم بالتفصيل، ووضّح الفرق بينه وبين النوعين الآخرين، وعدّ الحكم الظاهري علاجاً شرعيّاً لهذا النوع من التزاحم لا للنوعين الآخرين، كما تجد ذلك في تقرير بحثه (قدس سره)2
مباحث الاُصول, الجزء الثاني من القسم الثاني: صص 49 ـ53.
.
ورابعاً: كأنّ هؤلاء لم يلتفتوا إلّا إلى ترجيح بعض الملاكات الواقعيّة على بعض في موارد الحكم الظاهري على أساس غلبة تطابقه مع الواقع، وهذا ما يتمّ في موارد الأهميّة الناشئة من قوّة الاحتمال، حسب تعبير اُستاذنا الشهيد (رحمه الله)، ولم يلتفتوا إلى إمكان ترجيح بعض الملاكات الواقعيّة على بعض في هذا النوع من التزاحم لا على أساس غلبة المطابقة للواقع، بل

  • أجود التقريرات, ج3: ص 114.
  • مباحث الاُصول, الجزء الثاني من القسم الثاني: صص 49 ـ53.
17
على أساس ما عبّر عنه اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) بالأهميّة الناشئة من قوّة المحتمل.
في حين أنّ اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) التفت إلى ذلك، وتعرّض له بالتفصيل، وجعل ذلك أساساً للفرق الجوهري بين الأحكام الظاهريّة في مجال الأمارات والأحكام الظاهريّة في مجال الاُصول العمليّة، كما جاء توضيحه في محلّه من الحلقة الثالثة ومن تقرير بحثه (قدس سره).
هذه جملة من وجوه التكامل التي امتازت بها نظريّة اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) على تلك الجذور الأوّليّة الموجودة في ألسنة الأصحاب، إلى غيرها من الامتيازات التي حصلت عليها هذه النظريّة حتّى بلغت صيغتها النهائيّة، وأصبحت نظريّةً مستقلةً برأسها، وحصلت لها امتدادات واسعة وتأثير وسيع في كثير من الأبحاث الاُصوليّة والفقهيّة الاُخرى.
وعلى هذا الأساس نؤكّد أنّ هذه النظريّة من أهمّ إبداعات اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في علم الاُصول رغم وجود بعض الجذور الأوّليّة لها في ألسنة الأصحاب.
18