الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ [القسم الثاني]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسّلام على خير خلقه وأشرف بريّته محمّد وأهل بيته الطيّبين الطّاهرين.
3
4
الجمع بين الحكم الظاهري و الواقعي
في ضوء تفسيرنا الجديد للأحكام الظاهريّة
(القسم الثاني)
المقدّمة:
بعد أن استعرضنا في القسم الأوّل لهذا البحث وجوهاً ثلاثة لحلّ الشبهات المحيطة بالأحكام الظاهريّة بناءً على تفسيرنا لها بأنّها نوع من الأحكام الواقعيّة الثانويّة، وقلنا: إنّها لا تناسب التفسير المشهور بين الأصحاب للأحكام الظاهريّة الذي يقتضي القول ببقاء الأحكام الواقعيّة الى جنب هذه الأحكام رغم تقدّم هذه الأحكام عليها في مقام التنجيز والتعذير، بقي علينا أن نستعرض الوجوه التي قدّمها الأصحاب لحلّ تلك الشبهات بشأن الأحكام الظاهريّة بحسب تفسيرهم لها، لنجد مدى نجاحها في حلّ تلك الشبهات بناءً على تفسيرنا نحن للأحكام الظاهريّة، فنقول:
5
الحلول التي قدّمها الأصحاب:
وأمّا الحلول التي قدّمها الأصحاب للشبهات الثلاث المذكورة بشأن الأحكام الظاهريّة بحسب تفسيرهم لها، فلا بدّ من استعراضها هنا لكي نعرف مدى إمكان استخلاص وجهٍ صحيح منها قابل لحل الشبهات المذكورة في باب الأحكام الظاهريّة حتى بعد تفسيرنا لها بأنها نوع من الأحكام الواقعيّة الثانويّة، أو في مطلق الأحكام الثانويّة، بما فيها الأحكام الخارجة عن إطار ما يسمّى بالأحكام الظاهريّة.
وهذه الحلول التي قدّمها الأصحاب على قسمين:
فقسم منها قدّموها لغرض حلّ الشبهات الراجعة الى إدراك العقل النظري، أعني شبهة التضاد، وشبهة نقض الغرض مبنيّاً على استحالته.
والقسم الآخر قدّموها لغرض حلّ الشبهات الراجعة إلى إدراك العقل العملي، أعني شبهة نقض الغرض بناءً على قبحه، وشبهة إيقاع الناس في المفسدة أو حرمانهم عن المصلحة.
حلّ الشبهات من ناحية العقل النظري: أما القسم الأوّل، وهي الحلول التي قدّموها لحلّ الشبهات الناشئة من إدراك العقل العملي وهي عبارة عن شبهة التضاد وشبهة نقض الغرض بناءً
6
على استحالته، فهناك وجوه ذكرها الأصحاب لحلّ تلك الشبهات أو لحلّ بعضها على أقلّ تقدير، سنستعرض أهمّها في هذا المجال:
الوجه الأول: أنّ شبهة التضاد إنّما تنشأ من توهّم كون الحكم الظاهري حكماً تكليفيّاً مشابهاً للحكم الواقعي المشكوك، فإذا كان مخالفاً له وقع التضاد بينهما على أساس كون الأحكام التكليفيّة الخمسة متضادةً فيما بينها، في حين أنّ الحكم الظاهري ليس حكماً تكليفيّاً كالحكم الواقعيّ المشكوك حتّى يقع التضاد فيما بينهما، وإنّما هو عبارة عن جعلٍ اعتباري آخر ليس من سنخ الحكم الواقعيّ المشكوك، وقد اختلف أصحاب هذا الوجه في تحديد ذلك الجعل الاعتباريّ الآخر الذي هو خارج عن سنخ الحكم الواقعي المشكوك، بين من يقول بأنّه عبارة عن جعل الحجّية أو جعل المنجزيّة على وجهٍ خاص، كما ذكره صاحب الكفاية(رحمه الله)، ومن يقول بأنّه عبارة عن جعل الطريقيّة والعلميّة بمعنى جعل الظنّ علماً بالادعاء والاعتبار، كما ذكره الميرزا النائيني(رحمه الله)، وما شابه ذلك من دعاوى وفروض، وعلى هذا الأساس سوف لا يقع التضادّ بين الحكم الواقعي والظاهري.
إلاّ أنّ هذا الوجه ـ بجميع فروعه وصياغاته ـ لا يفي بحلّ شبهة التضادّ ولا شبهة نقض الغرض، حتّى لو سلّمنا صحّة صدور بعض تلك الصياغات إثباتاً بحسب دلالة أدلّة حجّية بعض الأمارات أو الاُصول، كما نبّه عليه
7
اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)، وذلك لأنّ التضادّ ونقض الغرض غير منوطين بالصيغة الاعتباريّة للحكم حتى يزولا بتبديل صياغة الحكم الظاهري من صيغة جعل الحكم المماثل إلى صيغة جعل الطريقيّة أو المنجزيّة أو نحو ذلك، وإنّما هما منوطان بعالم مبادئ الحكمين، فيقع السؤال في أنّ الحكم الظاهري هل يشتمل على مبادئ تقتضي توجيه المكلّف إلى غير ما تقتضيه مبادئ الحكم الواقعي مهما كانت صياغته الاعتباريّة في الحالات التي تكون الأمارة أو الأصل على خلاف الواقع، أو لا يشتمل على مبادئ من هذا القبيل؟
فإن لم يكن مشتملاً على مبادئ من هذا القبيل فَقَدَ الحكم الظاهري دوره في توجيه عمل المكلّف، وإن كان مشتملاً على ذلك رجعت شبهة التضاد ونقض الغرض.
وهذا الرّد على الوجه المذكور كما يثبت قصوره عن حلّ الشبهتّين في الأحكام الظاهريّة بناءً على تفسيرهم للأحكام الظاهريّة بما يقتضي بقاء الحكم الواقعي إلى جنب الحكم الظاهري، كذلك يثبت قصوره عن حلّهما في هذه الأحكام بناءً على تفسيرنا لها بما يقتضي سقوط الحكم الواقعي ـ على مستوى الحكم والخطاب ـ عند مجيء الحكم الظاهري على خلافه، ما دمنا نؤمن ببقاء الحكم الواقعي على مستوى الملاكات الأوّليّة للأحكام، التي تقتضي ترتّب الإرادة أيضاً على طبقها بحسب ذوق الأصحاب.
8
كما أنّ الردّ المذكور على هذا الوجه يثبت أيضاً قصوره عن حلّ الشبهتين في الأحكام الثانويّة التي هي خارجة عن نطاق ما يسمّى بالأحكام الظاهريّة، كالأحكام المترتّبة على مثل عنوان (الاضطرار) و (الإكراه) ونحوهما، ما دمنا نؤمن فيها أيضاً ببقاء ملاكات الأحكام الأوّليّة فيها.
الوجه الثاني: ما ذكره السيّد الخوئي(رحمه الله) ـ كوجه قابل للقبول ولو في بعض الأحكام الظاهريّة ـ من أنّ مبادئ الحكم الظاهري يمكن أن لا تجتمع مع مبادئ الحكم الواقعي في مركز واحد حتى يقع التضاد بينهما، وإنّما ينصبان على مركزين مختلفين، وذلك بأن يكون مصب مبادئ الحكم الواقعي عبارة عن متعلّق الحكم بوصفه فعلاً من أفعال المكلّف، ومصب مبادئ الحكم الظاهري عبارة عن نفس الحكم بوصفه جعلاً صادراً من المولى تبارك وتعالى، وبهذا ينتفي التضاد بينهما تماماً.
وقد أورد عليه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) بما حاصله: أنّه ما المراد بكون مبادئ الحكم الظاهري في نفس الحكم لا في متعلّقه؟ فإن كان المراد بذلك أنّ مصلحة الحكم الظاهري في نفس جعله حقيقةً بوصفه فعلاً لله تبارك وتعالى، بحيث لا يبقى للمولى بعد صدور هذا الجعل منه أيّ غرضٍ في صدور هذا الفعل من المكلّف بتاتاً، لا بعنوانه الأوّلي ولا بعنوان كونه طاعةً وامتثالاً للمولى تبارك وتعالى، فهذا يؤدّي الى لغويّة امتثال المكلّف للحكم الظاهري نهائيّاً، ولا يحكم
9
العقل بتنجيز مثل هذا الحكم، وأمّا إن كان المراد بذلك أنّ هذا الفعل بعنوانه الأوّلي لا مصلحة فيه، وإنّما المصلحة في أن يؤدّيه المكلّف بعنوان كونه امتثالاً لحكم الله تبارك وتعالى، حتّى يقوّي في نفسه روح الطاعة والعبوديّة مثلاً، فيأمره المولى حتّى يتّصف فعله بامتثال ذلك الأمر فيؤدّيه بروح الطاعة والعبوديّة، فهذا معقول جدّاً، ولعلّ جلّ الأحكام العباديّة ـ إن لم نقل كلّها ـ تكون من هذا القبيل، ولكنّ هذا لا يحل شبهة التضاد في عالم المبادئ في الأحكام الظاهريّة، وذلك لأنّ مبادئ الحكم الظاهري بناءً على هذا التفسير لها ستكون في المتعلّق بوصفه فعلاً للمكلّف لا في الجعل الاعتباري بوصفه فعلاً للمولى، غاية الأمر أن هذا الفعل إنّما يتّصف بالمصلحة لا بعنوانه الأوّلي بل بعنوان كونه طاعةً وامتثالاً للمولى، وبالتالي سيقع التضاد بين هذه المصلحة والحبّ المتعلّقين بهذا الفعل ولو بهذا العنوان وبين مبادئ الحكم الواقعي المتعلّقة بنفس هذا الفعل في حال كونه مغايراً للحكم الظاهري.
أقول: هذا ما استفدناه من بيان اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) إيراداً على الوجه المذكور بحسب ما جاء في تقرير بحثه1
مباحث الأصول/ الجزء الثاني من القسم الثاني/ الصفحة 31-32.
، ويمكن أن نضيف إليه احتمالاً ثالثاً لما أراده السيّد الخوئي بفرضيّة كون مصلحة الحكم الظاهري في جعله لا في متعلّقه، وهو أن يكون حال الحكم الظاهري كحال الأوامر الامتحانيّة التي لا

  • مباحث الأصول/ الجزء الثاني من القسم الثاني/ الصفحة 31-32.
10
مصلحة حقيقيّة في متعلّقاتها وإنّما المصلحة في حصول الامتحان للعباد حتى يعرف المطيع عن العاصي، فإذا تمّ غرض الامتحان ولو بدون تحقّق الفعل المأمور به لم تبق حاجة إلى تحقّق الفعل، كما حصل ذلك في قصّة ذبح إسماعيل(عليه السلام)، وهذا يختلف عن ما أشار اليه أُستاذنا الشهيد(رحمه الله) من كون المصلحة في صدور الفعل بعنوان الطاعة والامتثال لله تبارك وتعالى، فإنّ ذلك ليس من باب الأمر الامتحاني المحض الذي لا مصلحة في متعلّقه أصلاً، بل من باب كون المصلحة في الفعل المتّصف بعنوان الطاعة والامتثال لله تبارك وتعالى.
فإن كان هذا هو مراد السيّد الخوئي(رحمه الله) في الوجه المذكور أمكن الإيراد عليه بأنّه هل يفترض أنّ غرض الامتحان في باب الأحكام الظاهريّة يحصل بمجرد بروز الاستعداد التام للعمل وفق الحكم الظاهري، كما حصل في قصّة ذبح اسماعيل(عليه السلام)، أو أنّ غرض الامتحان لا يحصل إلا بقيام المكلّف فعلاً بمتعلّق الحكم الظاهري ولو من باب أنّ مجرّد إبراز الاستعداد قد لا يدلّ على الاستعداد الحقيقي إلا بضمّ العمل الحقيقي بمتعلّق الأمر؟ فإن كان يفترض الأوّل لزم سقوط الحكم الظاهري بمجرّد إبراز المكلّف استعداده التامّ لامتثاله، وهذا ما لم يقل به أحد، وإن كان يفترض الثاني فهذا يعني أنّ المصلحة في الفعل الذي تعلّق به الأمر لكنّه لا بعنوانه الأوّلي بل بعنوان كونه محقّقاً
11
للامتحان، فحاله حال الفرضيّة التي أشار إليها اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) من كون المصلحة في الفعل ولكنّه بعنوان كونه طاعة لله تبارك وتعالى، فترجع المصلحة إلى الفعل الذي تعلّق به الأمر الظاهري ولو بعنوان ثانوي، لا الى مجرّد الجعل بوصفه فعلاً لله تبارك وتعالى، وبذلك ترجع شبهة التضاد بين مبادئ الحكم الواقعي ومبادئ الحكم الظاهري عند تغايرهما لاجتماعهما في مركز واحد وهو الفعل الذي تعلّق به الحكمان.
هذا بالإضافة إلى أنّه سواء كان يحصل الامتحان بمجرّد إبراز الاستعداد التامّ للعمل بما تعلّق به الأمر الامتحاني، أو كان يحصل بقيام المكلّف بذلك العمل بالفعل، فلا أقلّ من توقّف حصول الامتحان على اعتقاد العبد بكون متعلّق الأمر الذي توجّه إليه مطلوباً حقيقيّاً لله تبارك وتعالى كما حصل لنبي الله إبراهيم(عليه السلام) في قصّة ذبح ولده اسماعيل، ضرورة أنّه لو لم يكن قد حصل عنده هذا الاعتقاد لما كان يحصل منه الاستعداد التامّ لقتل ولده، وبالتالي لم يكن يحصل غرض الامتحان الإلهي له(عليه السلام)، ففي الأحكام الظاهريّة أيضاً لو افترضنا أنّها تعبّر عن أوامر امتحانيّه لله تبارك وتعالى على العباد، لا بدّ وأن يعتقد العبد بأنّ متعلّقاتها مطلوبة لله تبارك وتعالى حقيقةً حتى يمكن أن يحصل بها غرض الامتحان، وهذا مالا يجتمع مع احتمال وجود حكم واقعي مغاير للحكم الظاهري الذي توجّه إلى العبد، لأنه يستبطن احتمال وقوع التضاد بين
12
مبادئ الحكم الواقعي ومبادئ الحكم الظاهري، ومن الضروري أنّ احتمال تحقّق اجتماع الضدّين مستحيل كما أنّ تحققه مستحيل، وعليه فلا يمكن التخلّص من شبهة التضاد بافتراض أن يكون حال الأحكام الظاهريّة كحال الأوامر الامتحانيّة.
وبهذا يكتمل الردّ الذي أورده أستاذنا الشهيد(رحمه الله) على الوجه المذكور للتخلّص من شبهة التضاد في الأحكام الظاهريّة، سواء على المبنى المشهور القائل ببقاء الحكم الواقعي إلى جنب الحكم الظاهري حتى وإن كان مغايراً له، أو على المبنى الذي اخترناه القائل بأنّ الحكم الواقعي الأوّلي يزول ويسقط على مستوى الجعل والخطاب فيما إذا كان مغايراً للحكم المستفاد من الأمارة أو الأصل، ولكنّه يبقى على مستوى الملاك، فإنّ شبهة التضاد بين الحكمين تبقى قائمة بين الحكمين على مستوى المبادئ حتى على هذا المبنى، ولا يمكن دفعها بافتراض كون مصلحة الحكم الناشئ من الأمارة أو الأصل إنّما هي في جعلها لا في متعلّقها مهما قصد بذلك من الاحتمالات الثلاثة التي جاءت الإشارة إلى إثنين منها في بيان أستاذنا الشهيد(رحمه الله) وأضفنا الاحتمال الثالث ببيان منّا بهذا الشأن.
كما لا يمكن حل شبهة التضاد أيضاً بهذا الوجه في شأن الأحكام الثانويّة الخارجة عن نطاق ما يسمّى بالأحكام الظاهريّة كالأحكام الجارية عند
13
الاضطرار والإكراه ونحوهما، بسبب نفس الردود المذكورة على الاحتمالات الثلاثة للوجه المذكور.
الوجه الثالث: عبارة عمّا ذكره المحقّق الخراساني(رحمه الله) لحلّ التضاد بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري بغضّ النظر عمّا نقلناه عنه في الوجه الأوّل من هذه الوجوه، وحاصل ما يستنبط عادةً من عباراته ـ على ما جاء في تقرير أُستاذنا الشهيد(رحمه الله) ـ أنّ للحكم مرتبتين هما مرتبة (الإنشاء) ومرتبة (الفعليّة) والتضادّ الموجود بين الأحكام إنّما هو في مرتبة الفعليّة لا في مرتبة الإنشاء، فالوجوب والحرمة مثلاً لا تضادّ بينهما في مرتبة الإنشاء، وإنّما يقع التضاد بينهما فيما إذا بلغا معاً مرتبة الفعليّة، والذي يبلغ مرتبة الفعليّة عند اختلاف الحكم الواقعي والظاهري المجتمعين على متعلّق واحد إنّما هو الحكم الظاهري المستفاد من الأمارة أو الأصل، وأمّا الحكم الواقعي المخالف له فيبقى على مستوى مرتبة الإنشاء فحسب ولا يبلغ مرتبة الفعليّة حتى يقع التضاد بينهما.
وقد نبّه أُستاذنا الشهيد(رحمه الله) على أنّ ما قصده المحقّق الخراساني(رحمه الله) في هذا البحث من مصطلحي (الإنشاء) و (الفعليّة) يختلف عن المعنى المعروف لمصطلحي (الجعل) و (فعليّة المجعول) عند المحقّق النائيني(رحمه الله)، فإنّ المعنى المعروف عند المحقّق النائيني(رحمه الله) لمصطلحي (الجعل) و (فعليّة المجعول) تابع لتحقّق الموضوع في عالم الخارج وعدم تحقّقه فيه عندما يكون الحكم منصبّاً على
14
موضوعٍ مقدّر الوجود على نحو القضيّة الحقيقيّة، فالجعل يعبّر عن أصل صدور الحكم منوطاً بموضوعه المقدّر الوجود على نحو القضيّة الحقيقيّة، ولا يتّصف هذا الحكم بفعليّة المجعول إلاّ حين تحقّق ذلك الموضوع في عالم الخارج، والحكم سواء كان واقفاً على مستوى الجعل أو كان بالغاً مستوى فعليّة المجعول بالمعنى الذي ذكرناه يكون معتمداً عادة على دليل شرعي تام الدلالة من حيث (الدلالة التصوّرية) و (التصديقية الأولى) و (التصديقية الثانية) وليس الفارق بين مستوى (الجعل) ومستوى (فعليّة المجعول) كون الثاني مشتملاً على كل الدلالات الثلاث دون الأوّل.
وأمّا مراد المحقّق الخراسانيمنصبّاً على بمصطلحي (الإنشاء) و (الفعليّة) في هذا البحث فهو ـ بحسب توضيح اُستاذنا الشهيدمنصبّاً على ـ عبارة عن أنّ الدليل الصادر من المولى يشتمل عادةً على ثلاث دلالات: الدلالة الاُولى عبارة عن الدلالة التصوّرية المحضة، والدلالة الثانية عبارة عن دلالته على تحقّق الإنشاء، على كلامٍ في أنّ حقيقة الإنشاء هل هي أمر إيجاديّ أو أمر اعتباري، فالأمر مثلاً بوصفه جملةً إنشائيّة يدلّ على أنّ المولى قد أوجد الطلب والتحريك في العالم المناسب له إيجاداً حقيقيّاً على أحد المبنيين، ويدلّ على أنّ المولى قد اعتبر الوجوب مثلاً في ذمة المكلّف، بمعنى وضع هذا الفعل في عهدة المكلّف بالجعل والاعتبار من دون إيجاد شيء حقيقي اسمه الطلب أو التحريك على
15
المبنى الآخر، وعلى كلّ حال فهذه هي الدلالة الثانية، وهي المعبّر عنها بالدلالة التصديقيّة الاُولى، والدلالة الثالثة عبارة عن دلالة الدليل على أنّ المتكلّم إنّما أنشأ هذا الحكم بأحد المعنيين المذكورين لا لغواً واعتباطاً بل على أساس وجود مبادئ له ـ من المصلحة والمحبوبيّة مثلاً ـ دعته إلى هذا الإنشاء، وهذه هي المعبّر عنها بالدلالة التصديقيّة الثانية.
فالحكم المشتمل على كلّ هذه المداليل الثلاثة يسمى بالحكم الفعلي بحسب مصطلح المحقّق الخراساني(رحمه الله)، والحكم المشتمل على المدلول الأوّل والثاني فحسب دون الثالث يسمّى بالحكم الإنشائي الذي لم يبلغ مرتبة الفعليّة، وبحسب الوجه المذكور لحلّ التضاد بين الحكم الواقعي والظاهري يقال: إنّ الحكم الظاهري يكون بالغاً مرتبة الفعليّة باشتماله على كلّ المداليل الثلاثة المذكورة، ولكنّ الحكم الواقعي المخالف له فهو حكم إنشائي غير مشتمل على المدلول الثالث من هذه المداليل أعني المدلول التصديقي الثاني المعبّر عن وجود مبادئ لذلك الحكم، وبالتالي لا يقع التضاد بينهما لعدم كونهما معاً بالغين مرتبة الفعليّة.
هذا غاية ما يمكن توضيحه لمراد المحقّق الخرساني(رحمه الله) بحسب هذا التفسير لكلامه.
وعلّق أُستاذنا الشهيد(رحمه الله) على هذا الوجه ـ بعد الدفاع عنه بالرد على
16
ما أورده عليه كلّ من المحقّق النائيني والمحقّق العراقي(رحمهما الله) ـ بأنّ الكلام يقع في أنّ ما أفاده المحقّق الخراساني(رحمه الله) هل هو دفع لإشكال التضاد بين الحكم الواقعي والظاهري، أو هو التزام بهذا الإشكال وتسليم له.
وذكر في توضيح ذلك أنّ الأمر يختلف باختلاف مدى الإيمان ببطلان التصويب في ضوء قاعدة اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل، فإن قلنا بأنّه يكفي للتخلّص من التصويب المستحيل أن يشترك الحكم بين العالم والجاهل في مرتبة الإنشاء فحسب وإن كان خالياً من المبادئ، تمّ الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي بما أفاده المحقّق الخراساني(رحمه الله) من دون وجود تضادٍّ بينهما، بسبب افتراض خلوّ الحكم الواقعي عن المبادئ من المصلحة والإرادة لانسلاخه عن المدلول التصديقي الثاني كما مضى توضيحه، وأمّا إن قلنا بأن ما تقتضيه استحالة التصويب أن يشترك الحكم بين العالم والجاهل في مرتبة الفعليّة المشتملة على مبادئ التكليف من المصلحة والمحبوبية، ولا يكفي اشتراك الحكم بين العالم والجاهل على مستوى مرتبة الإنشاء فحسب، فسيكون ما أفاده المحقّق الخراساني اعترافاً بالتضاد بين الحكم الواقعي والظاهري بسبب ضرورة كون الحكم الواقعي بالغاً مرتبة الفعليّة لأجل التخلّص من التصويب فيقع التضاد بين الحكمين لاشتمالهما معاً على المدلول التصديقي الثاني كما نبّه عليه المحقّق الخراساني(رحمه الله).
17
أقول: لا يمكن للمحقّق الخراساني أن يعترف بوقوع التضاد بين الحكم الظاهري والواقعي سواء كان التخلّص من التصويب المستحيل لا يستدعي سوى اشتراك الحكم بين العالم والجاهل على مستوى مرتبة الإنشاء، أو كان يستدعي اشتراك الحكم بينهما على مستوى مرتبة الفعليّة، فلا بدّ وأن نحمل مراده رضوان الله تعالى عليه على ضرورة الالتزام بأنّ الحكم الواقعي لم يبلغ مرتبة الفعليّة المشتملة على مبادئ التكليف حتى يستلزم التضاد، وإن أدّى ذلك إلى كون الحكم المشترك بين العالم والجاهل على مستوى الإنشاء فحسب، وعدم اشتراكهما في الحكم الفعلي المشتمل على المبادئ، بمعنى أنّ من شمله الحكم الظاهري سوف لا تشمله مبادئ الحكم الواقعي المخالف له وإن شمله الحكم الواقعي على مستوى الإنشاء فحسب، وهذا ليس مستحيلاً عنده(رحمه الله) من ناحية التصويب سواء سُمّي باسم التصويب أو لم يسمّ بهذا الإسم.
والظاهر أنّ هذا هو مراد اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) بما علّق به على كلام صاحب الكفاية، وإن كان ظاهر العبارة الواردة في تقرير بحثه أنّ ما أفاده صاحب الكفاية هو دفعٌ لإشكال التضاد على أحد التقديرين والتزام بهذا الإشكال على التقدير الآخر.
وبالتوضيح الذي ذكرناه ظهر أنّ صاحب الكفاية(رحمه الله) إن كان يَتبنّى حقاً هذا الوجه للجمع بين الحكم الظاهري والواقعي فهو أقرب منّا إلى القول
18
بالتصويب، لأنّه يقول بعدم شمول روح الحكم الواقعي المتمثّل بمبادئه لحال المكلّف عند توجّه حكم ظاهري مخالف له إليه، وإن شمله الحكم الإنشائي الخالي عن الروح والمبادئ، ونحن نقول بعكس ذلك، بمعنى أنّ روح الحكم الواقعي المتمثّل بملاكه على أقل تقدير يبقى بشأن المكلّف عند توجّه حكم ظاهري مخالف له إليه، وإن كان يسقط عنه على مستوى الجعل الاعتباري للحكم.
وعلى كلّ حال فقد ظهر أنّ هذا الوجه للتخلّص من شبهة التضاد بين الحكمين إنّما يناسب مبنى القائلين ببقاء الحكم الواقعي إلى جنب الحكم الظاهري وإن كان مخالفاً له، ولا يناسب المبنى الذي ذهبنا إليه من سقوط الحكم الواقعي على مستوى الجعل والاعتبار عند توجه حكم ظاهري مخالف له إلى المكلّف، وإن بقي ملاكه ثابتاً بشأنه.
كما أنّ هذا الوجه لا يمكن التمسّك به أيضاً لحل شبهة التضاد بين الحكم الأوّلي والثانوي بحسب عالم المبادئ في الأحكام الثانويّة الخارجة عن نطاق ما يسمّى بالأحكام الظاهريّة، بناءً على ما ذهبنا إليه من بقاء ملاكات الأحكام الأوّليّة رغم سقوطها هي عند مجيء الحكم الثانوي، وذلك لأنّ الوجه المذكور قد انتهى إلى القول بأنّ الحكم الأوّل سيكون خالياً عن المبادئ على فرض بقائه إلى جنب الحكم الثاني، على خلاف ما ذهبنا إليه.
19
الوجه الرابع: ما ينسب إلى المحقّق العراقي(رحمه الله)، وحاصله: أنّنا لو سلّمنا بأنّ الحكم الواقعي يشتمل على ملاكٍ وإرادةٍ في متعلّقه يدعوان إلى ذلك الحكم، والحكم الظاهري أيضاً يشتمل على ملاكٍ وإرادة في نفس ذلك المتعلّق يدعوان إلى حكمٍ مغاير للحكم الأوّل فيما إذا كانا مختلفين، ولكن سوف لا يقع التضاد بينهما، لكون الملاك والإرادة لكلّ من هذين الحكمين قد تعلّقا بذلك المتعلّق المشترك ـ الذي هو فعل من أفعال المكلّف ـ من خلال جهةٍ تختلف عن الجهة التي تعلّق من خلالها الملاك والإرادة للحكم الآخر بنفس ذلك المتعلّق، وهذا نوع من التبعيض في مبادئ الحكم، وبه يزول التضاد بين الحكمين في عالم المبادئ.
توضيح ذلك ـ بحسب ما نسب إلى المحقّق العراقي(رحمه الله) ـ أنً الوجود الواحد من فعل المكلّف يمكن أن يشتمل على عدّة جهات بحسب المقدّمات الدخيلة في إيجاده، ويكون ذلك الفعل محبوباً من خلال بعض تلك الجهات وغير محبوب من خلال جهة اُخرى، دون وقوع أيّ تضاد بينهما، لاختلاف الجهة بين الأمرين.
وقد شبّه المحقّق العراقي(رحمه الله) ذلك ـ بحسب النقل ـ بوجود المركّب الواحد المشتمل على أجزاء عديدة، حيث يمكن أن يكون ذلك المركّب محبوباً من جهة اشتماله على
20
بعض تلك الأجزاء، وغير محبوب من جهة اشتماله على جزء آخر، فبدلاً عن الأجزاء العديدة قد يشتمل الفعل الواحد على مقدّماتٍ عديدةٍ دخيلةٍ في تحقّق وجود ذلك الفعل، ويكون ذلك الفعل محبوباً من جهة بعض تلك المقدّمات التي يتوقّف عليها ذلك الفعل، وغير محبوب من جهة مقدّمة أُخرى رغم وحدة الفعل.
فالفعل الذي تعلّق به الحكم الواقعي والحكم الظاهري المختلفان ـ كالوجوب والبراءة مثلاً ـ يتوقف وجوده على يد المكلّف ـ على فرض كونه مطيعاً لمولاه ـ على مقدّمتين:
الاُولى: إبراز المولى إرادته المتعلّقة بذلك الفعل من خلال خطابه الواقعي بالحكم.
والاُخرى: وصول ذلك الحكم إلى المكلّف إمّا بنفسه أو من خلال إيجاب الاحتياط عليه عند الشكّ فيه.
فقد يكون ذلك الفعل محبوباً للمولى من جهة المقدّمة الاُولى، وغير محبوب له من جهة المقدّمة الثانية، فتكون النتيجة أنّ المولى يصدّر أمراً واقعيّاً بهذا الفعل ليبرز به إرادته المتعلّقة به، ولكنّه لا يتصدّى لإيصال ذلك الأمر لا بنفسه ولا بإيجاب الاحتياط على المكلّف، بل قد يصدّر البراءة الشرعيّة عند الشكّ فيه، فيكون الأمر هو الحكم الواقعي والبراءة هي الحكم الظاهري المخالف له من دون وقوع تضادٍّ بينهما في المبادئ رغم تعلّقهما بفعل واحد، لأنّ
21
هذا الفعل الواحد فيه مبادئ الوجوب من جهة المقدّمة الاُولى فحسب، وفيه مبادئ البراءة من جهة المقدّمة الثانية، فلا تضادّ بينهما، نعم إذا تحقّقت المقدّمة الثانية صدفةً من دون تصدّي المولى لها تنجّز الوجوب على المكلّف ولم تصل النوبة الى الحكم الظاهري.
هذا غاية ما يمكن توضيحه لمراد المحقّق العراقي(رحمه الله) في هذا الوجه المنقول عنه طبقاً للبيان المنقول عنه.
وقد حاول اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) ـ في بادئ الأمر ـ أن يصحّح بيان هذا الوجه ببيان جديد يؤدّي روح المطلب تلافياً لخطأ فنّي موجود في هذا البيان، حيث أنّ هذا البيان يوجد فيه خطأ فنّي تورّط فيه المحقّق العراقي(رحمه الله) ـ لو صحّ النقل المنقول عنه ـ يستدعي تبديل بيانه ببيان آخر خالٍ عن ذلك الخطأ الفني.
أمّا الخطأ الفنّي فهو أنّ وجود الشيء لا يمكن تحليله إلى جهات عديدة بحسب تعدّد المقدّمات الدخيلة في تحقّق ذلك الوجود ما دامت تلك المقدّمات بمجموعها دخيله في تحقّقه لا بجامعها، بمعنى أنّ كلّ واحد من تلك المقدّمات لا تكفي لتحقّق ذلك الوجود حتى يقال بأنّ المطلوب عند المولى إنما هو تحقّق هذا الوجود من جهة هذه المقدّمة دون تلك، بل لا بدّ من تحقّق كلّ تلك المقدّمات حتى يتحقّق الوجود المطلوب، كما هو كذلك في المقدمتين اللتين صوّرهما المحقّق العراقي في تحقّق متعلّق الحكم الواقعي على يد المكلّف،
22
وهما إبراز المولى إرادته المتعلّقة بذلك الفعل من ناحيةٍ، ووصوله إلى المكلّف بنفسه أو بوجوب الاحتياط عليه عند الشك فيه من ناحية أخرى، إذ لا بدّ من تحقّق كلا هذين الأمرين حتّى ينبعث المكلّف إلى تحقيق ذلك الفعل الذي تعلّق به الأمر، بقطع النظر عن نظريّة حقّ الطاعة التي تقتضي شمول حقّ طاعة الله تبارك وتعالى لحال الشكّ بدون حاجة إلى جعل الاحتياط، فلا يمكن القول بأنّ هذا الفعل محبوب ومطوب للمولى من جهة المقدّمة الاُولى لا من جهة المقدّمة الثانية.
ولا يمكن قياس تعدّد جهات الوجود بلحاظ المقدّمات إلى تعدّدها بلحاظ الأجزاء، وذلك لأنّ الوجود ينبسط على الأجزاء ولا ينبسط على المقدّمات، فمن الممكن أن يكون الوجود المركّب من عدّة أجزاء محبوباً من جهة بعض أجزائه وغير محبوب من جهة الجزء الآخر، بخلاف الوجود المشتمل على عدّة مقدّمات، فيما إذا كانت تلك المقدّمات بمجموعها دخيلةً في تحقّق ذلك الوجود، فلا يمكن أن يكون ذلك الوجود محبوباً من جهة إحدى تلك المقدّمات وغير محبوب من جهة المقدّمة الاُخرى.
وأمّا البيان الجديد الذي اقترحه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) تفادياً لهذا الخطأ الفنّي فهو أن يُصبّ دعوى تعدّد الجهات على جانب العدم لا على جانب الوجود، فيقال: إنّ عدم تحقّق وجود الشيء تارة يكون مستنداً إلى عدم تحقّق هذه المقدّمة، واُخرى يكون مستنداً إلى عدم تحقّق المقدّمة الاُخرى، فهما جهتان
23
وبابان يمكن أن يؤدّي كلّ منهما إلى عدم تحقّق الوجود الواحد، فمن الممكن أن يكون المطلوب عند المولى سدّ باب عدم تحقّق الوجود من إحدى الجهتين دون الجهة الأُخرى.
فبالنسبة إلى وجود الفعل الذي تعلّق به الحكم الواقعي يمكن القول بأنّ عدم تحقّق وجود ذلك الفعل تارة يكون مستنداً إلى عدم قيام المولى بتحقيق المقدّمة الاُولى من قبله، أعني إبراز إرادته لذلك الفعل من خلال الحكم الواقعي، واُخرى يكون مستنداً إلى عدم تحقّق المقدّمة الثانية، أعني وصول ذلك الحكم إلى المكلّف أو جعل الاحتياط عليه عند الشكّ فيه، ومن الممكن أن يكون المطلوب عند المولى هو سدّ باب عدم تحقّق وجود ذلك الفعل من الجهة الاُولى فحسب من هاتين الجهتين دون الجهة الثانية، فيقوم بتحقيق المقدّمة الاُولى ليسدّ بها الباب الأوّل لعدم تحقّق وجود ذلك الفعل، ولا يقوم بتحقيق المقدّمة الثانية لعدم كون سدّ الباب الثاني مطلوباً عنده، وهذه هي النتيجة التي يريدها المحقّق العراقي(رحمه الله)، ولكنّها ببيان جديد لا يبتلى بالخطأ الفني الذي ابتلي به البيان الأوّل.
وما أحلى هذا البيان الجديد الذي اقترحه أُستاذنا(رحمه الله) لتصحيح الوجه المذكور المنقول عن المحقّق العراقي(رحمه الله) لدفع التضادّ بين مبادئ الحكم الواقعي ومبادئ الحكم الظاهري عند اختلافهما، ولعلّ هذا هو مراد المحقّق العراقي(رحمه الله) وإن خانه التعبير في مقام بيانه.
ولكنّ الوجه المذكور ــ حتّى بعد تصحيحه بالبيان الجديد المذكور ــ لا
24
يمكن المساعدة عليه، وذلك لما أورده عليه أُستاذنا الشهيد(رحمه الله) بعد عمليّة تصحيح بيانه، وحاصل ما أورده عليه أنّ المقدّمة الاُولى من هاتين المقدّمتين اللتين ذكرهما المحقّق العراقي عبارة عن (إبراز المولى إرادته لذلك الفعل من خلال حكمه الواقعي المتعلّق به) وهذا يعني أنّ متعلّق حكمه الواقعي الذي هو فعل المكلّف يشتمل على مبادئ الحكم من الملاك والإرادة في مرحلةٍ سابقةٍ على الإبراز، وعلى هذا الأساس يمكن أن نتساءل عن تلك الإرادة، المتعلّقة بفعل المكلّف بقطع النظر عن هذا الإبراز هل هي متعلقة بهذا الفعل من جميع الجهات، أو أنّها قد تعلّقت به من جهة كونه متوقّفاً على إبراز إرادةٍ أسبق، ولو بمعنى كون المطلوب سدّ باب عدم تحقّق هذا الفعل من جهة عدم إبراز إرادةٍ أسبق، كي لا نبتلى بالخطأ الفني السابق، وعلى تقدير كونها قد تعلّقت بفعل المكلّف من تلك الجهة الخاصّة فستكون تلك الجهة الخاصّة معبّرةً أيضاً عن وجود إرادة أسبق، فيتكرّر السؤال بلحاظ تلك الإرادة الأسبق من أنّها هل تعلّقت بالفعل من جميع الجهات أو من جهة كونه متوقّفاً أيضاً على إبراز أسبق، وكلّما جاء الجواب بتعلّق الإرادة بذلك الفعل من تلك الجهة الخاصّة تكرّر السؤال عن الإرادة الأسبق التي يتوقّف الفعل على إبرازها، وسيتسلسل ذلك إلى ما لا ينتهي إلّا بالاعتراف بتعلّق إرادة المولى بذات ذلك الفعل من جميع الجهات لا من جهة توقّفه على إبراز الإرادة بوجهٍ خاصّ، وإذا توصّلنا إلى
25
الاعتراف بذلك رجعت شبهة التضادّ بين الحكم الواقعي والظاهري بلحاظ عالم المبادئ على أساس كون الفعل مشتملاً على مبادئ الحكم بصورة مطلقة لا بالنحو الجهتي الذي إدعاه المحقّق العراقي(رحمه الله).
هذا إذا كان يبني على أنّ مبادئ الحكم الواقعي تشمل العالم والجاهل معاً، وأمّا إذا كان يبني على أنّ تلك المبادئ خاصّة بحال العلم ولا تكون ثابتة في حال الشكّ الذي يجري فيه الحكم الظاهري، فهذا يعني القول بأنّ الحكم الواقعي يكون إنشائيّاً محضاً في حال مجيء الحكم الظاهري على خلافه، وهذا معناه الرجوع إلى الوجه السابق من وجوه حلّ التضاد بين الحكم الواقعي والظاهري، ولا علاقة حينئذٍ لكون متعلّق الحكم مطلوباً للمولى من جهة خاصّة أو من جميع الجهات.
وعلى كلّ حال فالوجه المذكور لحلّ شبهة التضادّ غير صحيح بلحاظ الأحكام الظاهريّة سواء على المبنى المشهور القائل ببقاء الحكم الواقعي إلى جنب الحكم الظاهري، أو على المبنى الذي ذهبنا إليه من سقوط الحكم الواقعي على مستوى الجعل والخطاب عند مجيء الحكم الظاهري على خلافه، وإن كانت مبادئ الحكم الواقعي تبقى ثابتةً بعد سقوطه، فتجري شبهة التضاد بلحاظ عالم المبادئ.
كما أنّ الوجه المذكور غير صحيح أيضاً لحلّ التضادّ بين مبادئ الأحكام
26
الأوّليّة والثانويّة التي هي خارجة عن نطاق ما يسمى بالأحكام الظاهريّة، ولا فرق في الردّ الذي ذكره اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) على هذا الوجه بين ما يسمّى بالأحكام الظاهريّة وما يسمّى بالأحكام الثانويّة، كالأحكام الجارية عند الاضطرار والإكراه ونحوهما.
الوجه الخامس: ما جاء في مقالات المحقّق العراقي(رحمه الله)1
مقالات الأصول/ الجزء الثاني/ ص47 – 48/ ط مجمع الفكر الإسلامي.
ببيان معقّد جدّاً، والظاهر أنّه يختلف تماماً عن الوجه السابق المنقول عنه في تقرير بحثه، ونحن سنوضّح بيان هذا الوجه الجديد باختصار طبقاً لتفسير اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) لمراده(قدس سره)، بعد الإشارة إلى ما يبدو من أنّ المحقّق العراقي(رحمه الله) إنّما ذكر هذا الوجه مبنياً على قبول أن الحكم الظاهري لا يشتمل على مبادئ مستقلّة منافية لمبادئ الحكم الواقعي عند اختلافهما، وإنّما جُعلت الأحكام الظاهرية لحفظ أكبر قدر ممكن من مبادئ الأحكام الواقعيّة، فلا تضادَّ بين الحكم الواقعي والظاهري من حيث المبادئ، وإنّما التضادّ الذي قد يتوهّم بينهما فهو ناشئ عمّا نرى من حصول نقض الغرض من جعل الحكم الظاهري على خلاف الواقع.
فيقول(رحمه الله): أنّ المولى تبارك وتعالى لو أراد تحقيق غرضه الواقعي والتجنّب عن نقض غرضه كان عليه إبراز إرادته لمتعلّق حكمه الواقعي بنحوٍ يؤدّي إلى إلزام المكلّف بفعله حتى عند الشكّ فيه، ولو بجعل الاحتياط مثلاً

  • مقالات الأصول/ الجزء الثاني/ ص47 – 48/ ط مجمع الفكر الإسلامي.
27
عليه عند الشكّ، فسيكون (إبراز إرادته لمتعلّق حكمه بالنحو المذكور) مقدّمةً للتوصل إلى مراده وعدم وقوع نقضٍ للغرض، ولكنّ هذه المقدّمة ليست من المقدمات التي تدعو إليها الإرادة المتعلّقة بذي المقدّمة حتّى يضطرّ المولى عقلاً إلى تحقيقها، لأنّ الإرادة المتعلّقة بذي المقدّمة إنّما تدعو عقلاً إلى تحقيق المقدّمة التي يتوقّف عليها ذو المقدّمة في حدّ ذاته وبقطع النظر عن تعلّق الإرادة به، كقطع المسافة بالنسبة إلى الحجّ، فإنّ أفعال الحجّ متوقّفة على قطع المسافة في حدّ ذاتها وبقطع النظر عن كونها محبوبةً أو غير محبوبة، وأمّا المقدّمة التي لا يتوقّف عليها ذو المقدّمة إلاّ في طول محبوبيّته وتعلّق الإرادة به فلا يمكن أن تكون إرادة ذي المقدّمة داعيةً إليها لأنّ تلك المقدّمة في طول تلك الإرادة حسب الفرض، فكيف يمكن لتلك الإرادة أن تدعو إلى ما في طولها.
والمقدّمة المذكورة ـ أعني (إبراز المولى لإرادته المتعلّقة بفعل المكلّف) ـ تكون من هذا القبيل، ضرورة أنّه لولا تعلّق إرادة المولى بفعل المكلّف لما كان هذا الإبراز مقدمةً لتحقيق هذا الفعل، وهذا يعني أنّ إرادة المولى لفعل المكلّف لا تدعوه عقلاً إلى إبراز إرادته هذه، فلو كان المولى مهتمّاً بتحقيق هذا الفعل حتّى عند الشكّ في حكمه لكان هذا يعني انعقاد إرادةٍ اُخرى له تدعوه إلى إبراز إرادته الاُولى، ولا تكفي إرادته الاُولى لذلك، لما قلنا من أن تلك الإرادة لا تدعو عقلاً إلى إبراز نفسها، والإرادة الجديدة منوطة بمدى اهتمام المولى بهذا
28
الفعل، فقد يكون اهتمامه به بالقدر الذي يؤدّي إلى الاكتفاء بالجعل الأوّل للحكم، بحيث لو وصل إلى المكلّف صدفةً بصورة قطعيّة لأثر أثره في التنجيز، وما لم يصل إليه جرت قاعدة قبح العقاب بلا بيان بناءً على القول بها، وقد يكون اهتمامه به بالقدر الذي يوجب انعقاد إرادة جديدة له لإبراز تعلّق إرادته الاُولى بهذا الفعل حتّى عند الشكّ فيه، ويؤدّي ذلك إلى جعل وجوب الاحتياط عليه مثلاً أو إلى حجيّة الأمارة المثبتة للتكليف أو نحو ذلك، وهذا يعني صيرورة الحكم الظاهري موضوعيّاً وفيه ملاك مستقل، ولولا ذلك لم ينعقد للمولى إرادة جديدة بإبراز إرادته الاُولى، ولم تكن نفس الإرادة الاُولى ملزمةً له عقلاً بإبرازها، ولهذا قلنا: إن هذا الوجه مبنيّ على كون الحكم الظاهري طريقيّا محضاً لا موضوعيّاً مشتملاً على ملاك يوجب انعقاد إرادة جديدة للمولى، وعليه فلولا انعقاد إرادة جديدة للمولى قد يضيع ملاك الحكم الواقعي ويحصل له نقض الغرض عملاً بلا تقصير منه حتّى يكون محالاً أو قبيحاً عقلاً، لأنّ المولى لم يكن ملزماً عقلاً بتحقيق المقدّمة المذكورة للمنع من حصول نقض الغرض.
وما دام نقض الغرض هذا ليس محالاً ولا قبيحاً عقلاً فما المانع من جعل براءة شرعيّة منافية لذلك الغرض بالإضافة إلى عدم قيامه بجعل وجوب الاحتياط ونحوه ممّا يحقّق تلك المقدّمة لحفظ ذلك الغرض.
29
إذاً فجعل الأحكام الظاهريّة التي تخالف الحكم الواقعي وإن كان يبدو أنّها السبب في نقض غرض المولى فيكون مستحيلاً أو قبيحاً، ولكنّ الواقع أن نقض الغرض إنّما يحصل بعدم قيام المولى بتحقيق المقدّمة المذكورة، وهو ليس مستحيلاً ولا قبيحاً بحسب ما ذكرناه.
هذا توضيح مختصر لمراد المحقّق العراقي(رحمه الله) في هذا الوجه طبقاً لما استفدته من تفسير أستاذنا الشهيد(رحمه الله) له.
وقد أورد عليه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) بإرادين:
الإيراد الأوّل: أنّ النكتة الأساسيّة التي يبتني عليها الوجه المذكور عبارة عن دعوى كون إرادة المولى لفعل المكلّف غير صالحة عقلاً لدفع المولى إلى القيام بالمقدمة الدخيلة في تحقّق ذلك الفعل، وهي عبارة عن (إبرازه لتلك الإرادة بنحو يوجب تنجيز الحكم على المكلّف حتّى عند الشكّ فيه) وذلك لأنّ مقدّميّة هذا الإبراز لتحقّق فعل المكلّف في طول إرادة ذلك الفعل، إذ لولا تعلّق إرادة المولى بذلك الفعل لما كان إبراز تلك الإرادة مقدّمة لتحقّق ذلك الفعل، فيكف يمكن لهذه الإرادة أن تدعو إلى ما هو في طولها.
وهذه النكتة الأساسيّة في البيان المذكور قابلة للنقاش لأنّنا إذا أمعنّا النظر وجدنا أنّ إبراز إرادة الفعل إنّما يكون مقدّمةّ لذلك الفعل بسبب كاشفيّة الإبراز عن تلك الإرادة، وبهذا يصبح الإبراز في طول انكشاف الإرادة لا في
30
طول ذات الإرادة، إذاً فلا مانع لذات تلك الإرادة أن تدعو المولى عقلاً الى كشفها بوسيلة الإبراز، وهذا يعني أنّ الإرادة المولويّة المتعلّقة بفعل المكلّف يترشّح منها عقلاً إرادة غيريّة للمولى لإبرازها بالنحو المذكور، وليست الطوليّة المذكورة مانعةً عن ذلك، إذاً فهذه المقدّمة حالها كحال المقدّمات التي لا طوليّة بينها وبين إرادة ذي المقدّمة، كقطع المسافة بالنسبة الى أفعال الحجّ، والنتيجة أنّه لا حاجة إلى أرادة جديدة للمولى تدعوه إلى ابراز حبّه لفعل المكلّف، بل إنّ نفس إرادته الأوّليّة المتعلّقة بفعل المكلّف تكفي لدعوة المولى عقلاً إلى مثل هذا الإبراز، وستكون جعل البراءة الظاهريّة وأمثالها منافياً لذلك.
والإيراد الثاني: أنّنا لو سلّمنا كون الإبراز المذكور في طول إرادة المولى لفعل المكلّف، لا في طول انكشاف تلك الإرادة فحسب، ولو من باب افتراض أنّ الإبراز الذي يوجب تنجيز الحكم على المكلّف ويدفعه نحو القيام بالفعل إنّما هو الإبراز الموجب لانكشاف إرادته انكشافاً مطابقاً للواقع، فكما أنّه لولا انكشاف الإرادة بهذا الإبراز لم يتمّ التنجيز على المكلّف حتى يقوم بالفعل، كذلك لولا واقع الإرادة لم يتمّ التنجيز عليه أيضاً، فهو في طولهما معاً، وإن كانت هذه النظريّة باطلة عندنا، فغاية ما يترتّب على ذلك أنّ وجود هذه المقدّمة في طول إرادة ذيها، لا أنّ مقدّميّة هذه المقدّمة ـ أي توقف ذي المقدّمة عليها في لوح الواقع ـ تكون في طول إرادة ذيها، ومثل هذه الطوليّة لا تمنع عن سراية الحبّ والإرادة من ذي المقدّمة الى المقدّمة.
31
فكأنّ المحقّق العراقي(رحمه الله) اختلط عليه كون وجود المقدّمة وتحقّقها في الخارج على يد فاعلها في طول إرادة ذي المقدّمة، وكون مقدّميّتها بمعنى توقّف ذي المقدّمة عليها في لوح الواقع في طول إرادة ذي المقدمة، فإنّ الطوليّة التي قد تمنع عن سراية الحبّ والإرادة من ذي المقدّمة إلى المقدّمة إنّما هي الطوليّة بالمعنى الثاني، وأمّا الطوليّة بالمعنى الأوّل فلا تمنع عن سراية الحبّ والإرادة من ذي المقدّمة إلى المقدّمة، ولهذا ترى أنّ وجود قطع المسافة وتحقّقه في الخارج على يد فاعله في طول إرادته لأفعال الحجّ، ضرورة أنّ من لا يريد القيام بأفعال الحجّ لا يقوم بقطع المسافة أيضاً، وهذا لا يمنع عن سراية الحبّ والإرادة من أفعال الحجّ عند من يحبّها ويريدها إلى قطع المسافة.
وفيما نحن فيه ليست مقدّميّة الإبراز المذكور لفعل المكلّف ـ بمعنى توقّف تنجّز الحكم وقيام المكلّف بالفعل على هذا الإبراز في لوح الواقع وبقطع النظر عن الوجود ـ في طول حبّ المولى وإرادته لفعل المكلّف، ضرورة أنّ هذه المقدّميّة صادقة في لوح الواقع سواء تحقّق طرفاها في الخارج أو لم يتحقّقا فيه، وإنّما الذي يكون في طول حبّ المولى وإرادته لفعل المكلّف ـ على فرض التنزّل عن الإيراد الأوّل ـ هو تحقّق وجود هذا الإبراز خارجاً على يد المولى، بمعنى أنّه ما لم يُرد تحقّق الفعل على يد المكلّف لا يقوم بهذا الإبراز ولا يحقّقه في لوح الوجود الخارجي، وبهذا سيكون حال هذه المقدّمة كحال قطع المسافة بالنسبة
32
إلى أفعال الحج، وإن كانت المقدّمة فيما نحن فيه من أفعال المولى، وفي مثال الحج من أفعال المكلّف نفسه، ومثل هذه الطوليّة لا يمنع عن سراية الحبّ والإرادة ـ سواء عند المكلّف أو عند المولى ـ من ذي المقدّمة إلى المقدّمة، كما ذكرنا.
إذاً فهذا الوجه أيضاً لا يمكن المساعدة عليه لحلّ مشكلة التضادّ أو مشكلة نقض الغرض في باب الأحكام الظاهريّة، ولا فرق في ذلك أيضاً بين نظريّة الأصحاب التي تقتضي بقاء الحكم الواقعي إلى جنب الحكم الظاهري، وبين نظريّتنا التي تقتضي زوال الحكم الواقعي على مستوى الجعل والخطاب عند قيام ما يسمّى بالحكم الظاهري على خلافه، مع بقاء ملاكه ثابتاً إلى جنب الحكم المخالف له، فإنّ الإيرادين الذين ذكرهما اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) يكفيان للردّ على الوجه المذكور على كلتا النظريّتين.
كما يتّم الردّ أيضاً على الوجه المذكور بنفس الإيرادين في باب الأحكام الثانويّة التي هي خارجة عن إطار ما يسمّى بالأحكام الظاهريّة.
الوجه السادس: ما عبّر عنه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) بأنّه الكلام الموروث من العلمين: الميرزا الشيرازي الكبير، والشيخ الأعظم الأنصاري(قدس الله سرّهما)1
مباحث الأصول: الجزء الثاني من القسم الثاني/ ص45/ ط الأولى.
وحاصله: أنّ الحكم الظاهري في طول الحكم الواقعي من حيث الرتبة فهما في رتبتين طوليّتين، ولا يمكن وقوع التضاد بين شيئين مختلفين في الرتبة.

  • مباحث الأصول: الجزء الثاني من القسم الثاني/ ص45/ ط الأولى.
33
وهناك تفسيران لما أدّعاه العَلمان من اختلاف الرتبة بين الحكم الواقعي والظاهري بحسب نقل اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): أحدهما من قبل المحقّق الخراساني(رحمه الله)، والآخر من قبل المحقّق النائيني(رحمه الله).
أمّا تفسير المحقّق الخراساني(رحمه الله) 1
كفاية الأصول: الجزء الثاني/ ص44/ ط مجمع الفكر الاسلامي.
فحاصله: أنّ الحكم الظاهري متأخّر رتبةً عن الشكّ في الحكم الواقعي، لأنّ هذا الشكّ مأخوذ في موضوع الحكم الظاهري فهو متأخّر عنه تأخّر كلّ حكمٍ عن موضوعه، والشكّ في الحكم الواقعي متأخّر رتبةً عن نفس الحكم الواقعي تأخّر كلّ عارضٍ عن معروضه، وبالتالي يصبح الحكم الظاهري متأخّراً رتباً عن الحكم الواقعي بمرتبتين.
ولغرض الاختصار سنحذف هنا ذكر مناقشة المحقّق الخراساني(رحمه الله) لهذا الوجه بناءّ على تفسيره هذا مع ما أورده أستاذنا الشهيد(رحمه الله) على تلك المناقشة، لنستعرض ما أفاده اُستاذنا الشهيد في الردّ على هذا الوجه بناءً على التفسير المذكور، إذ أورد عليه بإيرادين لا غبار عليهما:
الأوّل: أنّ الحكم الظاهري وإن كان متأخّراً رتبةً عن الشكّ في الحكم الواقعي بسبب أخذه في موضوعه، ولكنّ الشكّ في الحكم الواقعي ليس متأخّراً عن نفس الحكم الواقعي، ضرورة أنّ الحكم الواقعيّ المشكوك قد لا يكون موجوداً في الواقع ولكنّ الشكّ به موجود، كما هو كذلك في كلّ شكّ

  • كفاية الأصول: الجزء الثاني/ ص44/ ط مجمع الفكر الاسلامي.
34
بالنسبة إلى مشكوكه، وهذا مّما يدلّ على أنّ كلّ شكٍّ ليس متأخّراً عن الوجود الواقعيّ لمشكوكه، والسبب في ذلك أنّه لم يعرض على ذلك الوجود الواقعي حتّى يكون متأخراً عنه كتأخّر كلّ عارض عن معروضه، وإنّما يكون الشكّ عارضاً على الصورة الذهنيّة لمشكوكه، وهي المسماة بالمشكوك بالذات، فالشكّ في الحكم الواقعي إنّما يكون متأخّراً عن الصورة الذهنيّة المتكوّنة عند الإنسان الشاكّ عن الحكم الواقعي، لا عن ذات الحكم الواقعي، وهذا ما يزيل علاقة الترتّب بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي، وبالتالي ستبطل النكتة التي تمنع عن وقوع التضادّ بينهما بحسب هذا الوجه.
والثاني: أنّه على فرض التسليم بكون الحكم الظاهري متأخّراً رتبةً عن الحكم الواقعي، فهذا لا يمنع عن وقوع التضادّ بينهما، فإنّ مجرّد اختلاف الرتبة لا يعني إمكان تحقّقهما معاً في زمانٍ واحد وإن كانا في رتبتين، ولو كان اختلاف الرتبة كافياً للمنع عن التضاد لأمكن صدور حكمين واقعيين بالوجوب والحرمة معاً فيما إذا اُخذ أحدهما المعيّن في موضوع الآخر، كما إذا قال المولى إذا وجبت عليك الصلاة فهي محرّمة عليك، بحيث يكون الوجوب والحرمة صادرين من مولىً واحد، ويجتمعان في زمان واحد، ولكنّ أحدهما قد اُخذ في موضوع الآخر، فإنّ هذا باطل بالضرورة، فمجرّد اختلاف الرتبة إذاً لا يعالج مشكلة التضادّ بين حكمين متضادّين.
35
وأما تفسير المحقّق النائيني(رحمه الله)، فقد جاء في تقرير بحثه ببيان مشوّش جدّاً 1
أجود التقريرات: الجزء الثالث: ص136 وما بعدها/ ط مؤسّسة صاحب الأمر – قم.
والذي يتحصّل منه بحسب فهم اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) لتقرير بحثه أنّ الأحكام الواقعيّة هي السبب في تشريع الأحكام الظاهريّة بصورة عامّة، إذ لولا الأحكام الواقعيّة لما وصلت النوبة إلى جعل أحكام ظاهريّة، وهذا يعني أنّ الحكم الواقعي هو السبب المقتضي لوجود الحكم الظاهري، وعليه فلا يمكن وقوع التضادّ بينهما أصلاً، لأنّ معنى وقوع التضادّ بينهما أنّ الحكم الظاهري يمنع عن وجود سببه، وهذا باطل بالضرورة لأنّه يستلزم من وجوده عدمه.
وأورد عليه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) أنّ الحكمين المتضاديّن لا يمكن أن يكون أحدهما سبباً لوجود الآخر، كما أنّ السبب والمسبب لا يمكن أن يكونا متضادّين، إذاً فدعوى وجود علاقة السببية ليست حلاً لمشكلة التضادّ، بل لا بدّ من وجود حلّ مسبق ينفي علاقة التضادّ بين الحكم الواقعي والظاهري حتّى يمكن قبول علاقة السببيّة بينهما، أو وجود حلّ مسبق ينفي علاقة السببيّة بينهما حتّى نبقى على الاعتقاد بالتضادّ بينهما وبالتالي نؤمن بعدم حجيّة الأحكام الظاهريّة كما انتهى إليه ابن قبة وأمثاله، فنحن من ناحيةٍ نشعر بوجود (السببيّة) بينهما، ومن ناحية اُخرى نشعر بوجود (التضادّ) بينهما، ولا شكّ في كون أحد الأمرين باطلاً في الواقع، فلا بدّ إذاً من التوصّل إلى أحد حلّين في الرتبة السابقة

  • أجود التقريرات: الجزء الثالث: ص136 وما بعدها/ ط مؤسّسة صاحب الأمر – قم.
36
على هذين الشعورين، وهما عبارة عن حلٍّ يقنعنا بنفي (السببية) حتّى نرفع اليد عن الشعور الأوّل، أو حلٍّ يقنعنا بنفي (التضادّ) حتّى نرفع اليد عن الشعور الثاني، وبما أنّ العلمين ـ ونحن أيضاً ـ بانون على صحّة السببيّة على وجه الإجمال إذاً لا بدّ لنا من تحصيل حلٍّ يقنعنا بعدم (التضادّ) حتّى نرفع اليد عن الشعور الثاني، وإلاّ ظلّت شبهة التضادّ باقية بلا حلّ، ومجرّد البناء على صحة علاقة السببيّة بين الحكم الواقعي والظاهري ليس حلّاً لشبهة التضادّ ما دمنا لا نزال نشعر بعلاقة التضادّ بينهما.
هذا ما أفهمه من ردّ اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) على الوجه المذكور بناءً على تفسير المحقّق النائيني(رحمه الله).
وبهذا يظهر أنّ الوجه المذكور بكلا تفسيريه لا يمكن المساعدة عليه، ولا فرق في ذلك بين نظريّة الأصحاب التي تقتضي كون الحكم الواقعي موجوداً إلى جنب الحكم الظاهري وإن كان مخالفاً له، وبين نظريّتنا التي تقول أنّ الحكم الظاهري نوع من الأحكام الواقعيّة الثانويّة والحكم الواقعي الأوّلي يزول ـ على مستوى الجعل والخطاب ـ عند مجيء الحكم الثانوي المخالف له، وإن كان ملاكه يبقى قائماً إلى جنب الحكم الجديد، فإنّ الردود التي أفادها اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) على تفسيري هذا الوجه تكفي لإبطاله على كلتا النظريّتين.
وأمّا بلحاظ الأحكام الثانويّة الخارجة عن نطاق ما يسمّى بالأحكام
37
الظاهريّة فالوجه المذكور بتفسيره الأوّل لا يجري أصلاً لحلّ شبهة التضادّ وغيرها من الشبهات لأنّ الحكم الثانوي المترتّب على مثل عنوان (الاضطرار) و (الإكراه) ونحوهما لا يؤخذ في موضوعه الشكّ في الحكم الأوّلي حتى يكون في طوله بهذا التفسير، وأمّا بالتفسير الثاني فإن أمكن جريانه في ذلك بتصوير الاختلاف في الرتبة بين الحكم الأوّلي والثانوي بنحو يناسب التفسير الثاني للوجه المذكور، ورد عليه ما أورده اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)، إذاً فالوجه المذكور حاله كحال الوجوه السابقة في عدم وفائه بحلّ شيء من الشبهات لا في ما يسمّى بالأحكام الظاهريّة ولا في الأحكام الثانويّة التي هي خارجة عنها.
وبهذا تمّ استعراض أهمّ ما قدّمه الأصحاب رضوان الله تعالى عليهم ـ عدا اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) ـ لحلّ الشبهات الناشئة من إدراك العقل النظري، وظهر ضعفها جميعاً وعدم كفاية شيء منها لحلّ شيء من تلك الشبهات.
وأمّا الحلّ الذي اختاره اُستاذنا الشهيد فبما أنّه لا يختصّ بالشبهات الناشئة من إدراك العقل النظري، بل إنّه لو صحّ لجرى لحلّ الشبهات الناشئة من إدراك العقل العملي أيضاً، لهذا نرجّح تأخير بيانه إلى حين تمام الوجوه المطروحة من قبل الأصحاب بما فيها ما اُريد به حلّ الشبهات الناشئة من إدراك العقل العملي.
38
حلّ الشبهات من ناحيَة العقل العملي:
وأمّا القسم الثاني من الحلول التي قدّمها الأصحاب فهي ما قدّموها لحلّ الإشكالات الناشئة من إدراك العقل العملي أو لحلّ بعضها على أقلّ تقدير، وهي عبارة عن إشكال نقض الغرض من زاوية قبحه لا من زاوية استحالته، وإشكال إيقاع الناس في المفسدة أو حرمانهم من المصلحة بجعل الحكم الظاهري على خلاف الواقع.
وأهّم ما ذكر بهذا الصدد ما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاري واشتهر بعد ذلك بنظريّة المصلحة السلوكيّة.
وحاصل هذه النظريّة أنّ قيام أمارةٍ أو أصلٍ على حكمٍ معيّن في فعل من الأفعال وإن كان موجباً لخسارة ملاك الحكم الواقعي في ذلك الفعل فيما إذا كان مخالفاً له، ولكنّ قيام تلك الأمارة أو الأصل على الحكم الجديد يسبّب تواجد مصلحةٍ في السير على طبق تلك الأمارة أو الأصل بالقدر الذي يجبر الخسارة الحاصلة بمخالفة الحكم الواقعي.
ولأجل توضيح ذلك لا بدّ من التأكيد على أنّ هذه النظريّة تبتني على القول بسبّية الأمارات والاُصول لحدوث ملاك جديد على طبق الحكم المستفاد من تلك الأمارة أو ذلك الأصل، في مقابل القول بالطريقيّة التي ترى أنّ الأمارات والاُصول لا تسبّب حدوث ملاك جديد في قبال ملاكات الأحكام
39
الواقعيّة ولكنّها قد جعلها المولى حجّةً لأجل الحفاظ على أكبر قدر ممكن من ملاكات الأحكام الواقعيّة.
ولكنّ المشكلة التي تواجه القول بالسببّية هي دعوى استلزامها للتصويب المرفوض عند الإماميّة، وذلك بتصوّر أنّ الأمارة أو الأصل لو سبّبت حدوث ملاك جديد يستدعي حكماً آخر غير الحكم الواقعي فهذا يعني أنّ الحكم الواقعي يتبدّل على أساس تغلّب هذا الملاك الجديد على ملاكه، فيصبح الحكم المستفاد من الأمارة أو الأصل هو الحكم الواقعي، سواء طابق الحكم الذي كان يجب اتباعه لولا الأمارة أو الأصل أو لم يطابق، وهذا يعني عدم تطرّق احتمال الخطأ في شيء من الأمارات والاُصول، فقد يقال إنّ هذا هو التصويب المرفوض عند أتباع أهل البيت(عليهم السلام).
ولأجل دفع هذه المشكلة قالوا: إنّ سببيّة الأمارات والاُصول لحدوث ملاك جديد يمكن تصويرها بثلاثة أنحاء، إثنان منها يستلزمان القول بالتصويب، وواحد منها لا يستلزم القول بذلك وهو المسمّى بالمصلحة السلوكيّة، وهذه الأنحاء الثلاثة هي:
1ـ السببيّة المدّعاة في التصويب المنسوب إلى الأشاعرة وهي أردأ أنواع التصويب، وهي دعوى أنّ أفعال المكلّفين لا حكم فيها أصلاً قبل مجيء أمارة أو أصل، ولا تشتمل في حدّ ذاتها على أيّ ملاك يستدعي الحكم، وإنّما الأمارة والأصل هما اللذان يسبّبان حدوث الحكم بشأن الأفعال، إذاً فلا حكم لله تبارك وتعالى إلاّ تبعاً للأمارات والاُصول.
وهذا النحو من السببيّة باطل بالضرورة.
40
2ـ السببيّة المدّعاة في التصويب المنسوب الى المعتزلة، وهي دعوى أنّ أفعال المكلّفين وإن كان لها أحكام من حيث الأساس ولكنّ تلك الأحكام مقيّدة بعدم قيام أمارةٍ أو أصل على خلافها، فإذا قامت أمارة أو أصل على خلافها سقطت تلك الأحكام وتبدّلت بما تقتضيه الأمارة أو الأصل.
وهذا النحو من السببيّة وإن كانت أحسن حالاً من النحو الأوّل، ولكن يقال: إنّها على خلاف الإجماع عند الشيعة الإماميّة.
وينبغي الإشارة هنا إلى أنّنا قد ذكرنا في بعض مقالاتنا السابقة تفسيرين للتصويب المنسوب إلى المعتزلة، ونبّهنا على أنّ التفسير الأوّل منهما إن كان على خلاف الإجماع فالتفسير الثاني ليس كذلك قطعاً ولا ينبغي التعبير عنه بالقول بالتصويب، والتفسيران على وجه الإجماع هما:
أوّلاً: أن يقال بسقوط الحكم الواقعي خطاباً وملاكاً عند مجيء الحكم الجديد المستفاد من الأمارة أو الأصل، فلا يبقى من الحكم الأوّل حتّى ملاكه، والظاهر أنّ هذا هو المراد بالسببيّة المستلزمة للتصويب المعتزلي.
وثانياً: أن يقال بسقوط الحكم الواقعي الأوّلي خطاباً فحسب عند مجيء الحكم الجديد المستفاد من الأمارة أو الأصل مع بقاء ملاكه، كما هو حال الأحكام الأوّليّة عند مجيء الحكم الثانوي في مثل موارد الاضطرار والإكراه ونحوهما، فتكون الأحكام المستفادة من الأمارات والاُصول نوعاً من الأحكام الواقعيّة الثانويّة.
وقد ذهبنا نحن الى قبول هذا التفسير الثاني للتصويب المعتزلي وقلنا: إنّه
41
لا ينبغي تسميته بالقول بالتصويب ولا يخفى أن هذا التفسير للتصويب الذي وافقنا عليه لا ينحصر تصويره بالقول بسببية الأمارات والاُصول لحدوث ملاك جديد على خلاف الواقع، بل يمكن تصويره أيضاً مع القول بكون الأمارات والاُصول إنّما جعلت لحفظ أكبر قدر ممكن من الملاكات الواقعيّة على أساس فكرة (الاحتياط في مقام التشريع) التي شرحناها سابقاً بالتفصيل، وطبّقناها على كلّ من الأحكام الثانويّة الخارجة عمّا يسمّى بالأحكام الظاهريّة والأحكام الثانويّة التي سميّت بالأحكام الظاهريّة، وكان هذا هو الوجه الثالث من الوجوه التي أبرزناها للتخلّص من الشبهات الواردة على ما يسمى بالأحكام الظاهرية بناءً على ما بنينا عليه من كونها أحكاماً واقعيّةً ثانويّة.
3ـ السببيّة المدّعاة فيما سمّي بالمصلحة السلوكية، والظاهر أنّ هذه التسمية إنّما هي من قبل المحقّق النائيني(رحمه الله)، وإن كان أصل الفكرة من قبل الشيخ الأنصاري(رحمه الله)، وحاصلها أنّ الحكم الواقعي لا يزول ولا يسقط لا خطاباً ولا ملاكاً عند مجيء أمارة أو أصل على خلافه، ولكن قيام الأمارة أو الأصل على خلاف الحكم الواقعي يسبّب حدوث مصلحةٍ في السير والسلوك على طبق تلك الأمارة أو الأصل بالقدر الذي تُجبر به الخسارة الناشئة من مخالفتهما للواقع.
وهذا النحو من السببيّة في الوقت الذي يُحاول التجنّب عن التورّط في التصويب بكلا النحوين السابقين، وذلك بافتراض بقاء الحكم الواقعي ملاكاً وخطاباً إلى جنب الحكم الظاهري الناشئ من الأمارة أو الأصل، ممّا يؤدّي إلى كون الأمارة والأصل في معرض الخطأ والصواب، بلحاظ تطابقهما لذلك
42
الحكم الواقعي تارةً واختلافهما له تارةً أُخرى، يُحاول أيضاً التخلّص من إشكال نقض الغرض بلحاظ قبحه، وإشكال توريط المكلّفين في المفسدة أو حرمانهم من المصلحة، وذلك بافتراض جبر الخسارة الناشئة من مخالفة الأمارة أو الأصل لملاك الحكم الواقعي بحدوث ملاك جديد ممّا يؤدّي إلى زوال القبح العقلي عن كلّ من نقض الغرض وإلقاء الناس في المفسدة أو حرمانهم من المصلحة.
ومن الملحوظ أنّ هذه النظريّة إنّما وضعت لأجل التخلّص من الشبهات الراجعة إلى أدراك العقل العملي كقبح إلقاء الناس في المفسدة فهي بحاجة الى حلٍّ مسبق لمثل شبهة التضاد الراجعة إلى إدراك العقل النظري ولولا وجود حلّ مسبق لمثل شبهة التضاد لما أمكن للنظريّة المذكورة ـ أعني نظريّة المصلحة السلوكيّة بالصيغة المطروحة من قبل الشيخ الأنصار والمحقّق النائيني(قدّس الله سرّهما) ـ أن تحلّ الشبهات الراجعة إلى إدراك العقل العملي إلاّ مع التورّط في مشكلة التصويب.
توضيح ذلك: أنّ هناك إشكاليّة أثيرت تجاه نظريّة المصلحة السلوكيّة بالصيغة المطروحة من قبل الأصحاب حاصلها أنّ هذه النظريّة وإن كانت تحل شبهة توريط الناس في المفسدة ولكنّها تبتلي بمشكلة التصويب من حيث أنّ المصلحة السلوكيّة إن كانت تجبر الخسارة الحاصلة بمخالفة الحكم الواقعي فهذا يعني أن الحكم الواقعي بصيغته التعيينيّة لابدّ وأن تزول عند قيام أمارة أو أصلٍ على حكم مخالف له، ويقوم حكم تخييري مقامه، وهو التخيير بين العمل بالحكم الواقعي المحتمل، وبين العمل بالحكم الذي دلّت عليه الأمارة أو دلّ
43
عليه الأصل، لأنّ كلاً منهما يفي بالملاك المطلوب، وبهذا يصبح الحكم الظاهري التخييري مصيباً دائماً وغير قابل للخطأ والصواب، إذ الحكم الواقعي بصيغته الواقعيّة التعيينية قد زال بحسب الفرض ولم يبق إلاّ الحكم الظاهري التخييري.
ولكنّ هذه الإشكاليّة إنّما تنشأ من التضادّ بين ملاك الحكم الواقعي التعييني وملاك الحكم الظاهري المستدعي ـ بحسب المصلحة السلوكيّة ـ للتخيير، ولو أمكن حلّ التضادّ بين ملاك الحكم الواقعي وملاك الحكم الظاهري بصورة عامّة في مرحلة سابقة لأمكن لنظريّة المصلحة السلوكيّة أن تدفع شبهة إلقاء الناس في المفسدة وأمثالها من دون الابتلاء بمشكلة التصويب، إذ لو أمكن الجمع بين ملاك الحكم الواقعي وملاك الحكم الظاهري لأمكن القول بأنّ الحكم المستفاد من الأمارة أو الأصل إن طابق الحكم الواقعي التعييني فقد أصاب الواقع، وإن لم يطابقه وأنتهى الأمر إلى المصلحة السلوكيّة المستدعية للتخيير فقد أخطأ الحكم الواقعي الموجود إلى جنبه من دون وقوع التضاد بينهما حسب الفرض، إذاً فهو في معرض الخطأ والصواب.
إذن فلا بدّ من حلّ سابق لمشكلة التضاد بين الحكم الوقعي والظاهري حتى يمكن لنظريّة المصلحة السلوكيّة ـ بالصيغة المطروحة من قبل الأصحاب ـ أن تتغلّب على الشبهات الناتجة من إدراك العقل العملي من دون التورّط في مشكلة التصويب.
ولعلّ الشيخ الأعظم(رحمه الله) قد اعتمد في حلّ شبهة التضاد بين الحكم الواقعي والظاهري على فكرة اختلاف الرتبة بينهما بأحد التفسيرين الماضيين لأجل تعبيد الطريق أمام نظريّة المصلحة السلوكيّة، كما أنّ الوجوه الاُخرى التي
44
طرحت سواء من قبل الشيخ الأنصاري نفسه أو من قبل غيره من الأصحاب، أو التفاسير والمحتمات التي طرحت لبعض تلك الوجوه لحلّ الإشكاليّة التي ذكرت أمام فكرة المصلحة السلوكيّة، لعلّها ترجع جميعاً إلى تطبيق بعض الحلول الماضيّة أو ما يقاربها لمشكلة التضاد، ولا حاجة إلى الدخول في تفاصيلها.
ولكنّ اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) بما أنّه سبق وأن ردّ على إمكان حلّ شبهة التضادّ بفكرة اختلاف الرتبة المنسوبة إلى الميرزا الشيرازي الكبير والشيخ الأعظم(قدس الله سرهما)، كما أنّه ردّ على جميع الوجوه السابقة المطروحة من قبل الأصحاب لحلّ شبهة التضادّ بين الحكم الظاهري والواقعي، لهذا صار(رحمه الله) بصدد تعديل فكرة المصلحة السلوكيّة وطرحها بنحوٍ يصلح للتغلّب على الشبهات الناشئة من إدراك العقل النظري والشبهات الناشئة من إدراك العقل العملي معاً من دون الابتلاء بمشكلة التصويب.
وحاصل التعديل المذكور في هذه الفكرة عبارة عن القول بأنّ المصلحة السلوكيّة الناشئة من قيام الأمارة أو الأصل وإن كانت مخالفةً لملاك الحكم الواقعي ولكنّها قابلة للجمع معه بواسطة عنوانين متباينين مفهوماً كعنواني (الصلاة) و (الغصب) مثلاً، فإذا كان الحكم الواقعي يقتضي الوجوب بحسب العنوان الأوّلي لفعل المكلّف، والحكم الظاهري يقتضي حرمة ذلك الفعل لا بحسب عنوانه الأوّلي بل بعنوان لزوم اتباع الأمارة أو الأصل، كان ذلك كاجتماع الوجوب والحرمة على فعل المكلف بواسطة عنواني (الصلاة) و (الغصب) وهذا ما جوّزه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في بحث اجتماع الأمر والنهي على
45
أساس أنّ مبادئ الحكم من الحبّ والبغض إنمّا تتعلّق بالصور الذهنيّة، وهي وإن كانت تسري من الصور الذهنيّة العامّة إلى الصور الذهنيّة الخاصّة، ولكنّها لا تسري إلى الوجود الخارجي لمتعلّق الحكم، فإذا كان هناك عنوانان كليّان متباينان مفهوماً أمكن تعلّق الحبّ والوجوب بأحدهما وتعلّق البغض والحرمة بالآخر، لأنّ التباين المفهومي بينهما يقتضي عدم وجود صورة خاصّة مشتركة بينهما حتّى يسري إليها الحكمان ويتّم التضاد بينهما فيها، وأمّا الوجود الخارجي لمتعلّق الحكمين فهو وإن كان واحداً ولكنّ الحكمين والإرادتين لا يمكن سرايتهما أليه حتى يتّم التضادّ فيه، فلا يبقى محذور في تعلّق الوجوب بأحدهما وتعلّق الحرمة بالآخر لولا مشكلة تنجيزهما معاً على المكلّف، فإذا أمكن حلّ مشكلة التنجيز لم يكن هناك محذور في تعلّق حبّ المولى بعنوانٍ وتعلّق بغضه بعنوان آخر مباين له من حيث المفهوم وإن كانا يتصادقان على وجود واحد في الخارج.
إذاً فلا مانع من أن يكون فعل المكلّف ـ فيما نحن فيه ـ مصداقاً لعنوان محبوبٍ وواجبٍ عند المولى، وهو عنوانه الأوّلي الذي تعلّق به الوجوب الواقعي، ويكون في نفس الوقت مصداقاً لعنوانٍ مبغوضٍ وحرامٍ عند المولى، وهو (ما أخبر الثقة بحرمته) مثلاً الذي تعلّقت به الحرمة الظاهريّة، لكونهما عنوانين متباينين مفهوماً وإن تصادقا على مصداق واحد في الخارج.
وأمّا مشكلة تنجيزهما معاً على المكلّف، فقد ذكر اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في
46
حلّها ـ بحسب ما جاء في تقرير بحثه1
مباحث الاصول: الجزء الثاني من القسم الثاني/ ص67/ ط الاُولى.
ـ أنّ الحكم الواقعي ما دام مشكوكاً فهو غير منجّز، وإذا زال عنه الشكّ انتفى الحكم الظاهري بانكشاف الواقع، فهما لا يتنجزان معاً في آن واحد.
ولكنّ هذا التبرير لعدم تنجّزهما معاً في آن واحد مبني على قاعدة قبح العقاب بلا بيان التي لا يؤمن بها اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)، ومن المحتمل عندي أنّ أستاذنا الشهيد(رحمه الله) كان يقصد نفي تنجيزهما معاً في آن واحد بسبب آخر، وهو أنّ مبادئ الحكم الواقعي ومبادئ الحكم الظاهري رغم عدم وقوع التضاد بينهما لعدم سرايتهما إلى الوجود الخارجي الواحد كما ذكرنا، سيقع التزاحم بينهما في مقام العمل، ولا بدّ من تقديم الأهم منهما على المهمّ كما هو حال التزاحم بين فعلين واجبين لا يستطيع المكلّف الجمع بينهما، فإذا كان ملاك اتباع الأمارة والأصل أهمّ عند المولى من ملاك الحكم الواقعي تقدّم هذا على ذاك في مقام التنجيز، وبذلك تنحل مشكلة تنجيزهما معاً على المكلّف، ولا يبقى محذور في اجتماع الوجوب والحرمة.
وبهذا البيان يمكن التغلّب على شبهة التضاد ونحوها من الشبهات الراجعة الى إدراك العقل النظريّ. كما يمكن التغلّب على شبهة إلقاء الناس في المفسدة ونحوها من الشبهات الراجعة إلى إدراك العقل العمليّ، من دون الابتلاء بمشكلة التصويب.
أمّا التغلّب على شبهة التضاد ونحوها فلما قلنا من جواز اجتماع الأمر والنهي بعنوانين متباينين.

  • مباحث الاصول: الجزء الثاني من القسم الثاني/ ص67/ ط الاُولى.
47
وأمّا التغلّب على شبهة إلقاء الناس في المفسدة ونحوها فلأنّ تحمّل خسارة ملاكِ في سبيل الحفاظ على ملاك آخر أهم منه عند التزاحم بينهما لا قبح فيه بحسب إدراك العقل العملي.
وأمّا عدم الابتلاء بمشكلة التصويب، فلما قلنا من بقاء الحكم الواقعي إلى جنب الحكم الظاهري بحسب البيان المذكور وإن كان الثاني يتقدّم على الأوّل في مقام التنجيز، فيصبح كلّ من الأمارة والأصل في معرض الخطأ والصواب من حيث كونه مطابقاً لذلك الحكم الواقعي تارةّ وغير مطابق له تارة اُخرى.
وقد نبّه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) على أنّ التزاحم الذي يقع بين الحكم الواقعي والظاهري بناءً على التعديل الذي أدخله في نظريّة المصلحة السلوكيّة إنّما هو من نوع (التزاحم في مقام الامتثال) الذي هو القسم الثاني من أقسام التزاحم1
نفس المصدر: ص70.
، في مقابل القسم الأوّل منها الذي هو (التزاحم الملاكي) والقسم الثالث منها الذي هو (التزاحم الحفظي) وسيأتي توضيح الفرق بين هذه الأقسام الثلاثة من التزاحم.
وقد تبنّى اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في الدورة الاُولى من بحثه قبولَ البيان المذكور الذي عدّل به نظريّة المصلحة السلوكيّة للتغلّب على كلّ الشبهات المحيطة بالأحكام الظاهريّة بناءً على القول بالسببيّة في الأمارات والاُصول، ولكنّه رفع اليد عن ذلك في الدورة الثانية من بحثه وحصر الحلَّ المختار له للتغلّب على الشبهات المحيطة بالأحكام الظاهريّة بالحلّ المبتني على طريقيّة

  • نفس المصدر: ص70.
48
الأمارات والاُصول بالبيان الذي سيأتي توضيحه إن شاء الله في ظل فكرة (التزاحم الحفظي).
والسبب الذي لأجله رفع اليد عن هذا البيان للتخلّص من الشبهات المحيطة بالأحكام الظاهريّة بناءً على القول بالسببيّة هو ما أفاده في الدورة الثانية1
بحوث في علم الأصول: ج4/ ص210/ ط الأولى.
وحاصله أنّ البيان المذكور يبتني على دعوى وقوع (التزاحم في مقام الامتثال) ـ الذي هو القسم الثاني من أقسام التزاحم ـ بين الحكم الواقعي والظاهري مع فرض أقوائيّة المصلحة السلوكيّة التي هي ملاك الحكم الظاهري من ملاك الحكم الواقعي ليتّم تقديمها عليه عند التزاحم المذكور، ولكن ما دام هذا التزاحم من نوع التزاحم الامتثالي فلا يتمّ تقديم ملاك الحكم الظاهريّ فيه على الحكم الواقعيّ في جميع الأحوال، وذلك لأنّ الحكم الظاهري إن كان إباحةً ـ حتى وإن كانت من نوع الإباحة الاقتضائيّة ـ فهي لا تصلح أن تكون طرفاً للتزاحم الامتثالي، لأنّ الإباحة لا تستدعي امتثالاً معيّناً حتى يكون امتثاله مزاحماً لامتثال الحكم الواقعي، فسيتمّ تقديم الحكم الواقعي الإلزامي على الحكم الظاهري في الحالة المذكورة، وهذا بخلاف التزاحم الملاكي والتزاحم الحفظي حيث يمكن أن تكون الإباحة الاقتضائية طرفاً لهما وأن تتقدّم على ملاك الإلزام، كما سيأتي توضيحه عند بيان الفرق بين الأقسام الثلاثة من التزاحم.
وبهذا ينتهي الكلام في بيان الحل المعروف بين الأصحاب للشبهات

  • بحوث في علم الأصول: ج4/ ص210/ ط الأولى.
49
الراجعة إلى أدراك العقل العملي حول الأحكام الظاهريّة الناشئة من الأمارات والأصول في ظل فكرة (المصلحة السلوكية)، مع التعديل الذي أدخله فيه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)، ثم التعليق الذي علّقه عليه في دورته الثانية ممّا سبّب رفع يده عنه.
ونحن نكتفي هنا في مقام التعليق على هذه النظريّة بعد تعديلها من قبل اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) بنفس التعليق الذي علّقه عليه هو(رحمه الله) وسبّب رفع يده عنه ولا فرق فيه بين التفسير المشهور لدى الأصحاب للأحكام الظاهريّة وبين تفسيرنا نحن لتلك الأحكام، ونغضّ النظر فعلاً عن الملاحظات التي قد يمكن إيرادها على النظريّة المذكورة حتّى بعد تعديلها من قبل اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) بقطع النظر عن تعليقه الذي سبّب رفع يده عنه، وقد يظهر بعضها من خلال تعليقاتنا القادمة على الحلّ الرئيسي الذي تبّناه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) لجميع الشبهات المحيطة بالأحكام الظاهريّة بناءً على مبنى الطريقيّة المحضة لتلك الأحكام.
والآن وصل الدور بنا لبيان ذلك الحلّ الرئيسي الذي تبنّاه(رحمه الله) بناءً على الطريقيّة، وهو من أهم إبداعات اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في علم الاُصول الذي اشتهر بنظريّة (التزاحم الحفظي) في تفسير الأحكام الظاهريّة وكيفيّة الجمع بينها وبين الأحكام الواقعيّة، وهذا ما سيأتي في القسم الثالث من هذا البحث إن شاء الله.
50