الحكم الأوّليّ والثانويّ
الحكم-الاولي-والثانوي
بسم الله الرحمن الرحيم الحمدلله ربّ العالمين، والصلاة والسّلام على خير خلقه وأشرف بريّته محمّد وأهل بيته الطيّبين الطّاهرين.
3
4
الحكم الأوّلي والثانوي
السيّد علي الأكبر الحائري
المقدّمة:
طالما وصف الأصحاب ـ في الفقه والاُصول ـ بعض الأحكام الشرعيّة بأنّها أحكام أوّليّة وبعضها بأنّها أحكام ثانويّة، وقد يعبّر عن القسم الأوّل بالحكم الثابت بالعنوان الأوّلي وعن القسم الثاني بالحكم الثابت بالعنوان الثانوي، وقالوا: إنّ الحكم الثابت بالعنوان الثانوي يتقدّم في مورده على الحكم الثابت بالعنوان الأوّلي، ولكنّهم لم يدلوا بتعريف واضح لهذين القسمين من الأحكام ولم يبيّنوا الفارق الجوهري بينهما.
ونحن نحاول في هذا المقال أن نلقي الضوء ـ قدر الإمكان ـ على هذا التقسيم الوارد في ألسنة الأصحاب، توطئةً لبحثٍ آخر سنخوضه ـ إن شاء الله تعالى ـ في مجال تحقيق هويّة الأحكام الظاهريّة، حيث يقع الكلام هناك في أنّ ما يصطلح عليه بالحكم
5
الظاهري هل هو من الأحكام الثابتة في عرض الأحكام الواقعيّة، وهو يجتمع مع الحكم الواقعي في فعل واحد، كما عليه المشهور، أو هو من الأحكام الثابتة بالعنوان الثانوي فيزول به الحكم الواقعي على أساس تقدّم الحكم الثانوي على الحكم الأوّلي؟
وبما أنّ هذا البحث يتقوّم من أساسه على كون الأحكام الشرعيّة منصبّة على العناوين وتابعة لها، وجدنا من الضروري أن نبحث أوّلاً قاعدة تبعيّة الأحكام للعناوين بقطع النظر عن كون العنوان أوّليّا أو ثانويّا، ثمّ نحاول طرح تعريف واضح للعنوان الأوّلي والثانوي.
تبعيّة الأحكام للعناوين:
ولا شكّ أنّ تبعيّة الأحكام للعناوين تنبع عن أخذ عناوين معيّنة في عالم التشريع في موضوعات الأحكام ومتعلّقاتها.
مثال العناوين المأخوذة في الموضوعات: “الخمر”، و”القبض”، و”الشرط”.
ومثال العناوين المأخوذة في المتعلقات: “الإحسان”، و”النفقة”، و”الإسراف”، و”القمار”.
ومعنى تبعيّة الأحكام للعناوين المأخوذة في الموضوعات أنّ
6
فعليّة الحكم تتبع سلباً وإيجاباً صدق تلك العناوين، فلا تكون حرمة شرب الخمر مثلاً فعليّةً إلّا عند صدق عنوان “الخمر” على موجود خارجي، ولا يكون وجوب الوفاء بالعقد في بيع الصرف ـ مثلاً ـ فعليّاً؛ إلّا عند صدق عنوان “القبض”، ولا يكون وجوب الوفاء بالشرط فعليّاً إلّا عند صدق عنوان “الشرط” على شيء معيّن بين المتعاملين.
ومعنى تبعيّة الأحكام للعناوين المأخوذة في المتعلّقات أنّ الامتثال أو العصيان يتبع سلباً وإيجاباً صدق تلك العناوين على الفعل الذي يصدر من المكلف بحسب الظروف التي يريد امتثال الحكم فيها، فلا يتحقّق امتثال وجوب الإحسان إلى الوالدين ـ مثلاً ـ إلّا عند صدق عنوان “الإحسان” على تعامل الولد تجاه والديه، ولا يتحقّق امتثال وجوب النفقة على الزوج لزوجته مثلاً في حالة وجوبها عليه إلّا عند صدق عنوان “النفقة” كمّاً وكيفاً على ما يبذله لها من المال، ولا تتحقّق المعصية تجاه حرمة الإسراف إلّا عند صدق عنوان “الإسراف” على فعل الإنسان، ولا تتحقّق المعصية ـ أيضاً ـ تجاه حرمة القمار إلا عند صدق عنوان “القمار” على فعل الإنسان، كلّ ذلك بحسب ظرف الامتثال.
ومهما تبدّل العنوان الدخيل في موضوع الحكم ـ كما إذا صار
7
الخمر خلاً مثلاً ـ تبدّل الحكم المترتّب عليه من حيث الفعليّة، فتزول فعليّة حرمة الخمر في هذا المثال ويصبح جواز شرب الخل فعليّاً.
ومهما تبدّل العنوان الدخيل في متعلّق الحكم ـ كما إذا أصبح المال الوافي بالنفقة في زمان سابق غير وافٍ بها في زمان آخر ـ تبدّل الحكم المترتّب عليه من حيث الامتثال أو العصيان، فلا يحصل الامتثال في هذا المثال بالمال المذكور.
وفي هذا البحث ينبغي إلفات النظر إلى اُمور:
الأوّل: إنّ تبدّل الحكم على أساس تبدّل العناوين المأخوذة في موضوعه أو متعلّقه بالنحو الذي شرحناه لا ينافي فكرة «حلال محمّد(صلى الله عليه و آله وسلم) حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة» ضرورة أنّ هذه الفكرة إنّما تعني أنّ الحكم الشرعي المنصب على العناوين الكليّة لا يتبدّل إلى يوم القيامة بما هو منصب على تلك العناوين الكليّة وبقطع النظر عن مصاديقها الخارجيّة، وهذا لا ينافي تبدّل الحكم عند تبدّل صدق تلك العناوين على المصاديق الخارجيّة.
الثاني: إنّ المقصود بصدق العنوان الذي يتبعه الحكم سلباً وإيجاباً إنّما هو صدق المفهوم المراد بذلك العنوان في عهد الصدور، وليس المقصود بذلك صدق التسمية اللغويّة، فالمصداق الجديد لذلك
8
المفهوم هو الذي يجري عليه نفس الحكم، بخلاف المفهوم الجديد الذي حمل نفس الإسم لغةً أو عرفاً، كما أنّ زوال صدق ذلك المفهوم عن مصداق معيّن هو الذي يوجب نفي الحكم عنه، بخلاف زوال صدق التسمية بسبب تغيّر اللغة مادام المفهوم نفس المفهوم السابق، فإنّه لا يؤدّي إلى نفي الحكم عنه، ولهذا ترى أنّه لو تغيّرت اللغة في يوم من الأيام فصار الخمر يسمّى خلّاً وصار الخلّ يسمّى خمراً، فسوف لا يتبدّل بذلك حكم الخمر والخل، وهذا بخلاف ما إذا تبدّل مصداق من مصاديق الخمر فانقلب خلّاً، أو تبدّل مصداق من مصاديق الخلّ فصار خمراً، فسوف يتبدّل بذلك الحكم الشرعي المترتب على كل منهما، وليس ذلك إلّا لأنّ الحكم الشرعي المنصب على عنوان معيّن لا يتبدّل إلّا بتبدّل صدق نفس ذلك المعنى على المصاديق الخارجيّة، لا بتبدّل التسمية اللفظية لذلك العنوان.
الثالث: إنّ تعيين العنوان الذي يتبعه الحكم نفياً وإثباتاً بحاجة إلى بحث فقهي في كلّ مورد بحسبه، وربما نجد الأدلّة الفقهيّة في مسألة واحدة مختلفة، ففي بعضها يصبّ الحكم على عنوانٍ وفي بعضها يصبّه على عنوانٍ آخر، كما في مثل «إذا خفي الأذان فقصّر» و«إذا خفي الجدران فقصّر» ومثل العنوان المأخوذ في السفر الشرعي
9
حيث عبّر عنه في بعض الأدلّة بمسيرة يوم وفي بعضها بثمانية فراسخ. وفي أمثال ذلك لابدّ من مراعاة الأبحاث والضوابط الفقهيّة كاستظهار كون أحد العنوانين موضوعيّا والآخر طريقيّا، أو إيقاع التعارض بين منطوق أحدهما ومفهوم الآخر، أو غير ذلك من الضوابط.
ومن جملة ما يؤثّر كثيراً في البحث الفقهي هي مناسبات الحكم والموضوع، فمثلاً عنوان الشطرنج اُخذ دخيلاً في الحرمة بحسب ألسنة الروايات، ولكن قد يحمله الفقيه بمناسبات الحكم والموضوع على كون الشطرنج مثالاً للقمار، أو على دخالة صفة القماريّة فيه بحيث لو زالت هذه الصفة عنه ارتفعت الحرمة.
العنوان الأوّلي والثانوي:
ثمّ إنّ العنوان المأخوذ في موضوع الحكم أو متعلّقه بالنحو الذي شرحناه كثيرامّا يوصف بكونه عنواناً أوليّاً، أو بكونه عنواناً ثانوياً، وعند اجتماع العنوان الأوّلي والثانوي يتقدّم حكم العنوان الثانوي على حكم العنوان الأوّلي.
وبما أنّ الأصحاب لم يتصدّوا لتعريف العنوان الأوّلي والثانوي بصورة دقيقة وإنّما عبّروا بذلك في موارد معيّنة بصورة إرسال
10
المسلّمات، لهذا نضطرّ أن نتأمّل في موارد استعمالهم لهذين الاصطلاحين ونقتنص منها تعريفاً مناسباً لكلٍ منهما، وإليك نماذج من تلك الموارد، فمثلاً:
1ـ قالوا: إنّ “الكذب” حرام بالعنوان الأوّلي وقد يحلّ بالعنوان الثانوي، كعنوان “إصلاح ذات البين”.
2ـ قالوا: إنّ عنوان “الاضطرار” و”الإكراه” من العناوين الثانويّة التي يحلّ بها المحرمات الثابتة بالعناوين الأوليّة، كعنوان “شرب الخمر” و”أكل النجس” وغير ذلك.
3ـ قالوا: إنّ “الجبن” حلال بالعنوان الأوّلي وقد يحرم بالعنوان الثانوي كعنوان “المتنجّس” أو “المغصوب”.
4ـ قالوا: إنّ “الغصب” حرام بوصفه عنواناً أوليّاً، وقد يحلّ بصدق عنوانٍ ثانويٍ عليه، كعنوان “كونه وسيلة لإنقاذ الغريق”.
وفي ضوء هذه الأمثلة وغيرها يمكن أن نعرّف العنوان الأوّلي والثانوي بأحد وجوه:
الوجه الأوّل: إنّ العنوان الأوّلي هو العنوان الغالب انطباقه، والعنوان الثانوي هو العنوان النادر انطباقه.
وهذا غير صحيح، لأنّ كلّ عنوان لو قايسناه إلى مصاديقه هو،
11
فهو قابل للانطباق عليها دائماً، ولو قايسناه إلى مصاديق عنوان آخر بينهما عموم من وجه ـ كما هو الغالب في العناوين الأوليّة والثانويّة ـ فعلى فرض كون مادّة الاجتماع نادرةً سوف يكون انطباق كلٍ منهما على مصاديق الآخر نادراً، وندرة الانطباق بهذا المعنى جارية على كلا العنوانين ولا تختص بالعنوان الثانوي.
الوجه الثاني: إنّ العنوان الأوّليّ هو العنوان المعبّر عن ذاتيّة أفراده وما هيّتها كالجبن، والعنوان الثانوي هو العنوان المعبّر عن الصفات العرضيّة لأفرادها كالمتنجّس والمغصوب.
وهذا ـ أيضاً ـ غير صحيح إذ قد يكون عنوان واحد عنواناً أوّليّاً بالنسبة إلى بعض العناوين وعنواناً ثانويّاً بالنسبة إلى بعض العناوين الاُخرى، فعنوان “المتنجّس” ـ مثلاً ـ عنوان ثانوي بالنسبة إلى عنوان “الجبن” وعنوان أوّليّ بالنسبة إلى عنوان “ما اضطرّوا إليه”، وكيف يمكن لعنوان واحد أن يكون معبّراً عن ذاتية أفراده وماهيّتها، ويكون معبراً عن الصفات العرضية لها في نفس الوقت.
الوجه الثالث: أن يقال: إنّ العنوان الثانوي هو العنوان الذي يتقدّم حكمه على حكم عنوان آخر عند صدقهما معاً على مصداق واحد، وإنّ العنوان الأوّلي هو العنوان الآخر من ذينك العنوانين وهو
12
الذي يسقط حكمه عند صدقهما على مصداق واحد، وذلك بحسب موازين تقديم بعض أدلّة الأحكام على بعض إثباتاً، وبقطع النظر عن ملاكاتها الثبوتيّة.
وهذا الوجه ـ أيضاً ـ غير صحيح؛ لأنّه يؤدّي إلى كون الحكم المطروح في الدليل الخاص حكماً ثانويّاً بالنسبة إلى الحكم المطروح في الدليل العام دائماً، وكذلك المقيّد بالنسبة إلى المطلق، وذلك بسبب تقديم حكم الدليل الخاص على الدليل العام، وتقديم حكم الدليل المقيد على الدليل المطلق، بحسب الموازين الإثباتية لتقديم بعض الأدلة على بعض، في حين أنّ كثيراً من موارد التخصيص والتقييد ليس من العناوين الأوّليّة والثانويّة قطعاً، فمثلاً لو قال: «أكرم الفقير» وقال: «لا تكرم الفقير الفاسق» فهل هذا يعني أنّ “الفقير” عنوان أوّلي و”الفقير الفاسق” عنوان ثانوي؟ بل حتى وإن كانت النسبة بين الدليلين عموم من وجه وتقدّم أحدهما على الآخر في مادّة الاجتماع بسبب من أسباب الجمع العرفي بين الدليلين، فليس ذلك داخلاً في العنوان الأوّلي والثانوي دائماً، كما هو مقتضى هذا الوجه. ففي مثل «صلّ» و«لا تغصب» بناءً على امتناع اجتماع الأمر والنهي لو قدّمنا النهي على الأمر على أساس أقوائيّة الظهور مثلاً، فليس هذا يعني
13
كون الصلاة عنواناً أوّليّا والغصب عنواناً ثانوياً. الوجه الرابع: أن يقال: إنّ ميزان الفرق بين العناوين الأوّلية والعناوين الثانويّة ميزان ثبوتي منوط بعالم الملاكات، وليس مجرّد تقديم حكم أحد العنوانين على حكم العنوان الآخر بحسب الموازين الإثباتية كافياً لتسمية الأوّل بالعنوان الثانوي و تسمية الآخر بالعنوان الأوّلي، بل الأمر الذي يوجب تسمية أحدهما بالعنوان الثانوي وتسمية الآخر بالعنوان الأوّلي إنّما هو تقديم حكم أحدهما على حكم الآخر عند تصادقهما على مصداق واحد لأجل كونه صالحاً للتقديم عليه ثبوتاً رغم بقاء ملاك الآخر وعدم انتفائه في مادّة الاجتماع، بحيث يكون المقتضي الثبوتي لكلا الحكمين موجوداً في مادّة الاجتماع، ورغم ذلك يتقدّم أحدهما على الآخر إمّا لكون صدق هذا العنوان مانعاً عن إمكان استيفاء ملاك الحكم الآخر رغم وجود الملاك فيه، وإمّا لكون الملاك الكامن تحت هذا العنوان أقوى وأشدّ من الملاك الكامن تحت العنوان الآخر، فيتقدّم عليه في مادّة الاجتماع لأجل تغلّبه عليه في قوّة التأثير ثبوتاً مع قطع النظر عن عالم الإثبات.
ففي الأحكام الاضطراريّة مثلاً يمكن القول بأنّ صدق عنوان
14
الاضطرار إمّا يمنع عن إمكان استيفاء مصلحة الحكم الاختياري في ذلك المورد أو أنّه يوجب اشتمال المورد على مصلحة أقوى من مصلحة الحكم الاختياري، ولهذا أو ذاك يتقدّم الحكم الاضطراري على الحكم الاختياري رغم وجود مصلحة الحكم الاختياري وعدم انتفائها في حالة صدق الاضطرار، فيسمّى الحكم الاختياري بالحكم الثابت بالعنوان الأوّلي، والحكم الاضطراري بالحكم الثابت بالعنوان الثانوي.
وهذا ما يصدق أيضاً في مثل عنوان الإكراه والعسر والحرج وماشابه من العناوين الثانويّة.
وفي ضوء هذا الوجه لتفسير العناوين الأوّلية والثانويّة يمكن توجيه الفرق بين حالة سقوط الصوم عن المكلّف بسبب انطباق عنوان “المسافر” عليه وبين حالة سقوطه عنه بسبب انطباق عنوان “العسر والحرج” عليه، حيث إنّ الحالة الاُولى لا تدخل في مجال العنوان الأوّلي والثانوي ـ بناءً على التصوّر السائد عند الأصحاب ـ فلا يقال مثلاً: إنّ المكلّف بالعنوان الأوّلي يجب عليه الصوم ولكنّه بالعنوان الثانوي وهو عنوان “المسافر” يسقط عنه الصوم، والحالة الثانية تدخل في مجال العنوان الأوّلي والعنوان الثانوي، فيقال: إنّ
15
المكلّف بعنوانه الأوّلي يجب عليه الصوم ولكنّه بالعنوان الثانوي وهو “العسر والحرج” يسقط عنه الصوم، وليس ذلك إلّا لأنّ ملاك الصوم من أساسه يختص بغير المسافر ففي حالة كونه مسافراً لا مقتضيَ لوجوب الصوم عليه، بخلاف حالة سقوط الصوم عنه على أساس العسر والحرج، فإنّ المقتضي لوجوب الصوم عليه موجود فيها، ولكنّه في نفس الوقت يسقط عنه هذا الوجوب، إمّا لوجود مانع يمنع عن إمكان استيفاء ملاك الصوم في حالة السفر، أولوجود ملاك أقوى من ذلك الملاك يدعو إلى نفي إلزامه بالصوم في تلك الحالة.
وهذا الوجه وجه لطيف ولا بأس به لتفسير العناوين الأوليّة والثانويّة، ولكن العيب الوحيد الذي أجده فيه أنّه إنّما يتمّ فيما إذا كان ملاك حكم العنوان الأوّلي اقتضائيّا كما هو الحال في الأحكام الإلزاميّة وبعض الأحكام الترخيصيّة، وأمّا إذا كان ملاك حكم العنوان الأوّلي لا اقتضائيّاً كما يمكن لبعض الأحكام الترخيصيّة ـ كحليّة الجبن مثلاً ـ أن تكون كذلك، فقد تقول حينئذ: إنّه كيف يمكن للعنوان الثانوي أن يكون مانعاً عن تأثير الملاك المقتضي للحكم في العنوان الأوّلي، أو يكون أقوى منه، حتى يدخل في مجال اصطلاح العنوان الأوّلي والثانوي؟. وعلى هذا الأساس لابدّ من تطوير هذا
16
الوجه بنحو يمكن إجراؤه حتى فيما إذا كان ملاك حكم العنوان الأوّلي لا اقتضائياً، كما تجد ذلك في الوجه القادم.
الوجه الخامس: أن يقال: إنّ العنوان الثانوي هو العنوان الذي يتقدّم حكمه على حكم عنوانٍ آخر عند تصادقهما على مصداق واحد من دون أن يتغيّر به حال الحكم الآخر بحسب عالم الملاك، سواء كان اقتضائياً أو لا اقتضائياً، والعنوان الأوّلي هو العنوان الآخر من ذينك العنوانين، وهو الذي يسقط حكمه عند تصادقهما من دون أن يتغيّر حاله عمّا هو عليه بحسب علام الملاك من اقتضاء أولااقتضاء.
وهذا ما يمكن انطباقه حتى على العناوين الأوّليّة التي تكون أحكامها من نوع الإباحة اللا اقتضائية، كما يحتمل ذلك في إباحة الجبن، فيكون عنوان «الجبن» عنواناً أوليّاً في مقابل عنوان «المتنجّس» مثلاً، ويكون عنوان «المتنجّس» عنواناً ثانويّاً في مقابل عنوان «الجبن»، على أساس أنّ حرمة أكل المتنجّس تتقدّم على إباحة أكل الجبن عند اجتماع العنوانين على مصداق واحد رغم عدم تغيّر ملاك تلك الإباحة في مادّة الاجتماع بحسب عالم الملاك، سواء كان اقتضائيّاً أو غير اقتضائي، بمعنى أنّ انطباق عنوان المتنجّس على مصداق من مصاديق الجبن لا يغيّره عما كان عليه بحسب عالم
17
الملاك من اقتضاء الاباحة أو مجرّد عدم اقتضاء حكمٍ إلزاميٍ فيه بوصفه جبناً، ورغم ذلك يتقدّم حكمه عليه في مادّة الاجتماع بسبب كون هذا العنوان الجديد مشتملاً على ملاك اقتضائي يقتضي الحرمة.
وبمجموع ما ذكرناه يظهر:
أوّلاً: أنّ مصطلحي “العنوان الأوّلي” و”العنوان الثانوي” متضايفان، وليس صدق أحدهما مستقلاً عن صدق الآخر حتّى يمكن السؤال عن عنوانٍ معين ـ بقطع النظر عن العناوين الاُخرى ـ أنّه هل هو أوّلي أو ثانوي؟ وإنّما صدق كلّ منهما يكون بالنسبة إلى ما يصدق عليه الآخر، فلربّما يكون عنوان واحد أوّليّا بالنسبة إلى عنوانٍ وثانويّا بالنسبة الى عنوان آخر، مثل عنوان “المتنجّس” الذي هو عنوان ثانوي بالنسبة إلى عنوان “الجبن” وعنوان أوّلي بالنسبة إلى عنوان “العسر والحرج”.
وثانياً: أنّ مجرّد تقدّم حكم عنوانٍ على حكم عنوانٍ آخر في مادّة الاجتماع لا يدخلهما في مصطلحي “العنوان الأوّلي” و”العنوان الثانوي” إذ ربّما يكون عدم صدق العنوان المتقدّم حكمه دخيلا في حكم العنوان الآخر على مستوى الجعل الاعتباري للحكم وعلى مستوى الملاك معاً بحيث يكون ملاكه منتفياً عند صدق العنوان
18
المتقدم حكمه عليه، فلا ينبغي تسميتهما حينئذ بالعنوان الأوّلي والعنوان الثانوي، وإنّما يناسب تسمية العنوانين الذين يتقدّم حكم أحدهما على الآخر في مادّة الاجتماع باسمي “العنوان الأوّلي” و”العنوان الثانوي” فيما إذا كان حكم أحدهما يتقدّم على حكم الآخر على مستوى الجعل الاعتباري فحسب من دون أن يسبّب تغييراً في ملاكه.
وثالثاً: إنّ معنى عدم دخالة صدق العنوان الثانوي في ملاك حكم العنوان الأوّلي في فرض كون ملاك الحكم الأوّلي اقتضائياً: أنّ المقتضي لذلك الحكم تامّ سواء صدق العنوان الثانوي أو لم يصدق. ومعنى ذلك في فرض كون ملاكه لا اقتضائياً: أنّ العنوان الأوّلي لا يقتضي حكماً إلزاميّاً سواء صدق العنوان الثانوي أو لم يصدق.
وعليه فنحن نعرّف (العنوان الثانوي) بأنّه «العنوان الذي يتقدّم حكمه على حكم عنوانٍ آخر عند تصادقهما على مصداق واحد من دون أن يتغيّر به حال الحكم الآخر بحسب عالم الملاك، سواء كان اقتضائياً أو غير اقتضائي» ونعرّف (العنوان الأوّلي) بأنّه «العنوان الآخر من ذينك العنوانين، وهو الذي يسقط حكمه عند
19
تصادقهما من دون أن يتغيّر حاله عمّا هو عليه بحسب عالم الملاك من اقتضاء أو لا اقتضاء».
إلفات النظر إلى اُمور:
وفي ذيل هذا البحث لابدّ من إلفات نظر القارئ إلى اُمور:
الأمر الأول: إنّ التعريف الذي اخترناه للعنوان الأوّلي والثانوي لا نريد تحميله على الأصحاب، وإنّما نقول: إنّه التعريف الذي يناسب الذوق الفقهي العام، ويناسب غالب موارد استعمال هذين الاصطلاحين إن لم نقل جميعها، ويبقى بعد ذلك احتمال استعمالهما من قبل بعض الأصحاب في غير المعنى الذي شرحناه، وهذا ممكن ولا نتحاشاه.
الأمر الثاني: في أنّ دليل حكم العنوان الأوّلي هل يتعارض ـ ولو بتعارض غير مستقر ـ مع دليل حكم العنوان الثانوي ثمّ يتقدّم الثاني على الأوّل بتطبيق بعض قواعد باب التعارض، أو لا يقع التعارض بينهما من أوّل الأمر ويتقدّم الثاني على الأوّل من دون تعارض حتّى على مستوى التعارض غير المستقر؟
والجواب: أنّ هذا يختلف في باب الأدلّة الدالّة على الإباحة عن باب الأدلّة الدالّة على الإلزام.
20
فإذا كان الدليل يدلّ على الإباحة في العنوان الأوّلي ويأتي العنوان الثانوي ليثبت الإلزام في مادّة الاجتماع، فسوف لا يقع التعارض عادةً بين دليل حكم العنوان الأوّلي ودليل حكم العنوان الثانوي، وذلك لظهور أدلّة الإباحة عادةً في كون الفعل مباحاً من جهة العنوان المطروح في الدليل مع سكوته عن الجهات الاُخرى، وهذا لا ينافي حرمة ذلك الفعل من جهة عنوان آخر.
فمثلاً: الدليل الدالّ على إباحة أكل الجبن ظاهر عرفاً في أنّ الجبن مباح من جهة كونه جبناً. وهذا لا ينافي حرمته من جهة كونه مغصوباً أو من جهة كونه متنجّساً أو نحو ذلك من العناوين الثانويّة الّتي تقتضي الحرمة للجبن، فلا يقع التعارض بين دليل إباحة الجبن ودليل حرمة المتنجس أو المغصوب، ولا فرق في ذلك بين كون الإباحة بالعنوان الأوّلي من نوع الإباحة الاقتضائيّة أو اللااقتضائيّة، فإنّه على كلا التقديرين ظاهر في الإباحة الجهتيّة، أي إنّه من جهة كونه جبناً حلال، وقد يكون حراماً من جهة اُخرى.
وأمّا إذا كان الدليل يدلّ على حكم إلزامي في العنوان الأوّلي كالوجوب أو الحرمة ثمّ يأتي العنوان الثانوي ليزيل ذلك الإلزام، أو يبدّله بإلزام آخر منافٍ له، ففي مثل ذلك يقع التعارض عادةً ـ ولو
21
على وجه غير مستقر ـ بين دليل حكم العنوان الأوّلي ودليل حكم العنوان الثانوي.
فمثلاً الدليل الدال على وجوب الصوم يدلّ بإطلاقه على وجوب الصوم حتى في حالة العسر والحرج، فيقع التعارض بينه وبين دليل نفي العسر والحرج ويتقدّم الثاني على الأوّل ببعض قواعد باب التعارض كقاعدة الحكومة المبتنية على الناظريّة مثلاً، أو ايّ قاعدة اُخرى تقتضي تقديم الثاني على الأول في مادّة الاجتماع.
الأمر الثالث: هناك بعض الثمرات الفقهيّة تترتب على المعنى الذي شرحناه للعنوان الأّوّلي والثانوي نذكر منها ثمرة واحدة، وهي تظهر فيما إذا سقط وجوب فعل من الأفعال بالعنوان الثانوي كعنوان العسر والحرج، ولكنّ المكلّف قام بذلك الفعل رغم سقوط وجوبه فإنّه في مثل هذه الحالة لا يبعد القول بصحة ذلك العمل رغم سقوط وجوبه، وذلك فيما إذا كان العنوان الثانوي لا يمنع عن إمكان استيفاء ملاك حكم العنوان الأوّلي وإنّما يتقدّم حكمه عليه لأقوائيّة ملاكه، فإذا صام المكلّف مثلاً رغم سقوط الوجوب عنه بالعسر والحرج وكان سقوط الوجوب عنه في حال العسر والحرج لا لأجل وجود مانع يمنع عن استيفاء ملاك الوجوب بل لأجل كون ملاك إطلاق
22
العنان في حال العسر والحرج أقوى من ملاك الوجوب، فلا يبعد حينئذٍ القول بصحّة صومه بناءً على ما قلناه من أنّ الملاك المقتضي لحكم العنوان الأوّلي محفوظ في حالتي صدق العنوان الثانوي وعدم صدقه على حدّ سواء، ولا يترتّب عليه القضاء بناءً على ذلك، والسبب في ذلك أنّ الملاك يحصل بهذا الفعل وإن كان وجوبه ساقطا، ويمكن التقرّب إلى الله تعالى بالملاك، نعم لو كان العنوان الثانوي يقتضي الحرمة فقد يمنع ذلك عن إمكان التقرّب بذلك الفعل إن كان عباديّا، فيبطل من هذه الناحية.
وهذا بخلاف ما إذا سقط وجوب الصوم بمقيّد من غير العناوين الثانويّة، كعنوان السفر مثلاً، أو المرض مثلاً ـ بناءً على أنّ عنواني السفر والمرض ليسا من العناوين الثانويّة بالمعنى الذي ذكرناه، وإنّما هما من العناوين التي قيّد بها وجوب الصوم بدليل منفصل لا بوصفه عنوانا ثانويا ـ فإنّه حينئذ لو صام المكلّف رغم سقوط الوجوب كان صومه باطلاً، وذلك لاختصاص ملاك الوجوب بغير حال السفر وغير حال المرض.
الأمر الرابع: إنّ الموازين الإثباتيّة لتقديم حكم عنوانٍ على حكم عنوانٍ آخر لا تكفي وحدها لإثبات كون أحدهما عنواناً أوّليّاً
23
والآخر عنواناً ثانويّاً بالمعنى الذي شرحناه لتفسير العناوين الأوّليّة والثانويّة، لأنّ تلك الموازين لا علاقة لها عادةً بملاكات الأحكام، ولا يعرف بها أنّ ملاك الحكم الذي يسقط في حالة تصادقه مع عنوان آخر على مصداق واحد هل يبقى ملاكه ثابتاً في تلك الحالة، أو أن ملاكه أيضاً يسقط، فلإثبات كون أحد العنوانين عنواناً أوّليّاً والآخر عنواناً ثانوياً بالمعنى الذي شرحناه لا بدّ من قيام الارتكاز المتشرّعي العام على ذلك، أو قيام الضرورة الفقهيّة عليه، أو وجود ظهور خاص في أدلّة حكمي العنوانين ولو على أساس مناسبات الحكم والموضوع مثلاً، ونحو ذلك من الأدلّة الخارجة عن مجرّد تقديم حكم هذا على حكم ذاك.
وحينئذٍ تارة يثبت بدليل من هذا القبيل أنّ العنوان الذي يتقدّم حكمه في مادّة الاجتماع على حكم العنوان الآخر إنّما يتقدّم حكمه عليه بوصفه عنواناً ثانوياً، وتارة يثبت أنّ ذلك ليس بوصفه عنواناً ثانوياً بل بوصفه مكمّلاً لنفس العنوان الآخر، وتارة ثالثة يقع الشك في ذلك.
ففي الحالة الاُولى يبنى على أنّه عنوان ثانوي، وتترتّب عليه آثاره، سواءً ثبت ذلك باستظهار من نفس الدليلين المتقدّم حكم
24
أحدهما على الآخر، أو بالارتكاز المتشرّعي مثلا، أو بالضرورة الفقهيّة، أو بأيّ نحو آخر. فمتى ما ثبت بأيّ طريقة أنّ ملاك أحد الحكمين محفوظ على مستوى الاقتضاء في مادّة الاجتماع وإن منع العنوان الآخر عن الإلزام به من قبل الشارع، كفى ذلك لاعتباره عنواناً ثانوياً وترتّبت عليه آثاره.
وفي الحالة الثانية يبنى على أنّه ليس عنواناً ثانوياً مهما كان الدليل الدال على ذلك أيضاً.
وأمّا في الحالة الثالثة فلا يمكن البناء على كونه عنواناً ثانوياً بالمعنى الذي ذكرناه، وذلك لأنّ الحكم بالمعنى المطابقي للدليل ساقط عن الحجيّة حسب الفرض في مادّة الاجتماع، فستسقط دلالته الالتزاميّة على ثبوت الملاك أيضاً عن الحجيّة، طبقاً لقاعدة تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للدلاة المطابقيّة في الحجيّه.
ففي مثل عنوان “المرض” الذي يؤدّي إلى سقوط الصوم وإن لم يكن على مستوى العسر والحرج، لو شككنا أُنّه هل يوجب سقوط الصوم بوصفه عنواناً ثانوياً كالعسر والحرج، أو بوصفه قيداً مكمّلاً للعنوان الأوّلي كما هو المعروف في عنوان السفر الموجب لسقوط وجوب الصوم، فلا يمكن في مثل ذلك أن
25
نبني على ثبوت الملاك، وبالتالي لا يمكن البناء على كون ذلك العنوان من العناوين الثانويّة، فلا تترتب عليه آثار العناوين الثانويّة إن كانت على خلاف الأصل.
وإلى هنا ينتهي الكلام عن تقسيم الحكم إلى الحكم الثابت بالعنوان الأوّلي والحكم الثابت بالعنوان الثانوي.
والحمد لله أوّلاً وآخراً، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
26