شموليّة الأحكام الإلهيّة
بسم الله الرحمن الرحیم
الحمدلله ربّ العالمين، والصلاة والسّلام على خير خلقه وأشرف بريّته محمّد وأهل بيته الطيّبين الطّاهرين.
3
المقدَّمة
انتشر أخيراً مقطع فيديو تحدّث فيه السيد كمال الحيدري باللغة الفارسية بما صرّح فيه بأنّ جملة من الأحكام الشرعيّة التي شرّعها الإسلام قبل ألف وأربعمائة سنة لا تناسب الظروف والشروط المستجدّة في زماننا هذا، فهي إذاً مختصّة بالظروف القديمة التي كانت في زمان التشريع، ولابدّ من تغيير تلك الأحكام وتبديلها بما يناسب ظروف اليوم، وقال بأنّ تسعين بالمائة من الأحكام الراجعة إلى المرأة تكون من هذا القبيل، وطبّق ذلك على حكم الحجاب، مصرحا بأنّ الحجاب بالنحو الذي شرّع للمرأة قبل ألف وأربعمائة سنة لا يناسب ظروف المرأة المعاصرة في يومنا هذا ولابدّ من تغيير ذلك بالنحو المناسب لهذا الزمان، إلى غير ذلك من التصريحات الغريبة.
والظاهر أن هذه النظرية لها جذور وأسس أولية في فكر السيد الحيدري ضمن نظريات غريبة انتشرت عنه سابقا في محاضرات قديمة
4
لسنا الآن بصدد الردّ عليها، لكون التصدّي للرد على كل واحدة منها رغم وضوح فسادها قد يكون مستدعياً لبحث طويل.
من قبيل ما قاله في حديث له بالنصّ: «أنا أدّعي أنّ الموروث أو الكثير من الموروث الروائي الشيعي هو مدسوس ومنقول إلينا من كعب الأحبار من اليهوديّة والنصرانيّة والمجوسيّة، حتّى تفسير القمي!…»
وما قاله أيضاً بالمضمون من أنّ المجتهد إنّما هو من يكون مجتهداً في جميع شعب الفكر الإسلامي. معتقداً أنّه هو كذلك وحده في هذا العصر. ولا يكفي الاجتهاد في شعبة واحدة فقط من شعب الفكر الإسلامي، مؤكدا ذلك بأنّ فلاناً مثلاً مجتهد في الفقه والاُصول فقط، وإنّ فلاناً مجتهد في الفكر السياسي الإسلامي فقط، وقد يكون أحد مجتهداً في التفسير فقط، أو في الفلسفة فقط، أو غير ذلك، فهؤلاء في الحقيقة ليسوا مجتهدين، وإنّما هو مجتهد فقط في هذا العصر بحسب رأيه.
ومن قبيل ما صرّح به في بعض كلماته السابقة من أنّ مصاديق المفاهيم القرآنية (اجتهاديّة) وليست (توقيفيّة). بحسب تعبيره. وبإمكان الفقيه أن يغيّرها في كلّ عصر بحسب الظروف المناسبة لذلك العصر، مؤكّدا ذلك بقوله: (ولا استثني حتى العبادات) بحسب نصّ كلامه.
إلى غير ذلك من النظريّات التي تؤدّي إلى تغيير الإسلام. نعوذ
5
بالله عن ذلك. بتأسيس فقه جديد، وقد صرّح هو بأنّه لا مانع من تأسيس فقه جديد، وإن أدّى إلى ألا يبقى حجر على حجر بحسب تعبير البعض، إذ لا دليل على عدم جواز تأسيس فقه جديد، كما لا دليل على وجوب بقاء حجر على حجر بحسب تعبيره.
فيبدو أنّ كلامه الذي نتحدّث عنه الآن قد نتج وتبلور عنده من خلال تلك النظريات الفاسدة التي قد يضحك بعضها الثكلى.
ولعلّه يعتمد أيضاً على بعض النظريات القديمة التي ردّ عليها المتأخرون بوضوح وأصبحت مما أكل الدهر عليها وشرب.
من قبيل نظرية اختصاص الخطاب بالمشافهين، أو نظرية حجيّة الظهور بحسب زمان الوصول لا بحسب زمان الصدور، أو نظريّة حجيّة مطلق الظن على أساس انسداد باب العلم وعدم ثبوت حجيّة بعض الظنون الخاصّة، إلى غير ذلك من النظريّات التي ثبت فسادها في محلّها عند المحقّقين المتأخرين، وتصدوا للرد عليها بما لا مزيد عليه.
ونحن إذا أردنا التصدّي للردّ على كلّ تلك النظريّات لزم علينا القيام بتكرار ما ذكره الأصحاب. قدّس الله أسرار الماضين منهم وحفظ الباقين منهم. في الردّ عليها ضمن مؤلّفات جديدة بتغيير بعض الصياغات اللفظيّة والجانبيّة.
6
أعاذنا الله تعالى عن كلّ انحراف في الدين والمذهب ورزقنا الهداية والصلاح.
ويبدو أنّ هذه النظريّة الغريبة بدأت تسري إلى بعض الأوساط الحوزوية وصار بعض طلبة الحوزة العلميّة يدافع عنها ببيانات قد تكون خادعة للآخرين وإن كانت واهية.
ولاشكّ أنّ هذه النظريّة فاسدة جدّاً وخطيرة لأنّها تضفي غطاءاً شرعيّاً على نظريّة الحداثيّين المنحرفين من أمثال الدكتور سروش وغيره، وتؤدّي إلى تمسّك هؤلاء بكلام هذا الرجل بعنوان كونه صادراً من أحد علماء الدين.
ولهذا رأيت لزاما علي أن أقوم بالردّ العلمي المناسب على ما صدر من هذا الشخص وإن كان واضح البطلان، منعاً عن انخداع البعض به.
وسأجعل الرد عليه متدرّجاً ضمن خطوات عديدة يكمّل بعضها البعض الآخر – مستعينا بالله تعالى وبالنفحات القدسية لمحمد وآله الطيبين الأطهار – حتى يتم الرد النهائي عليه بمجموع تلك الخطوات، فلا ينبغي للقارئ العزيز أن يحكم على كل خطوة بشيء إلا بعد ملاحظة كل الخطوات، وهي ما يلي:
7
الخطوة الاُولى
خاتميّة الرسالة الإسلاميّة
لا شكّ في أنّ الرسالة الإسلاميّة التي جاءت على يد النبي الأكرم (محمّد) صلى الله عليه وآله وسلّم هي آخر الرسالات السماويّة التي أنزلها الله تعالى للبشريّة، وتشريعاتها لا تتبدّل ولا تتغيّر إلى قيام الساعة، سواء قلنا بصحّة الحديث المعروف «حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة» أو لم نقل بصحّته من حيث السند والصدور، وذلك لوضوح أنّ تشريعات هذه الرسالة إن كانت موقّتة بزمان معيّن أو بظروف اجتماعيّة موقّتة، كان على الله تبارك وتعالى أن لا ينهي حركة إرسال الرسل للبشرية، بل يبقى يرسل لهم أنبياء ورسلاً آخرين بعد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلّم لسدّ حاجة الناس إلى التشريعات المناسبة للظروف المستجدّة على طول الخط.
8
ولهذا فكون الرسالة الإسلاميّة هي آخر الرسالات السماوية وقد قدّر الله تعالى لها أن تبقى قائمة بدورها إلى قيام الساعة، دليل على أنّ تشريعات هذه الرسالة صالحة للتطبيق على شؤون البشرية وسدّ حاجاتها التشريعية لولا تمرّد البشر أنفسهم على تطبيقها والالتزام بتعاليمها.
وبهذا يثبت أنّ جميع الأحكام التي قد يتراءى لنا أنّها غير قابلة للتطبيق في زماننا هذا بسبب عدم تناسبها للظروف التي تعيشها البشريّة اليوم في ظلّ النظريّات الثقافية الحديثة والحضارات البعيدة عن الإسلام. ومنها جملة من الأحكام الراجعة إلى المرأة بحسب ما جاء في كلام السيد الحيدري. كلّ ذلك ليس بسبب عدم صلاحيّة تلك الأحكام للتطبيق في زماننا هذا، بل إنّما هو بسبب تمرّد الناس أنفسهم. بقصد أو بغير قصد. على تطبيق تلك الأحكام، وانجرارهم خلف الثقافات والحضارات الباطلة، وهذا لا يبرّر تبديل تلك الأحكام بأحكامٍ مناسبة لتلك الظروف الجديدة التي أصبحت حاكمة على الامة الإسلامية بفعلهم أو بفعل أعدائهم مع كلّ الأسى والأسف.
فكم فرق بين أن تكون الأحكام بطبعها قاصرة وغير قابلة للتطبيق إلّا لزمان معين أو لظروف اجتماعيّة معيّنة، وبين كونها بطبعها
9
صالحة للتطبيق على كل زمان ومكان ولكن الظروف والشروط الطارئة عند الناس سبّبت التمرّد على تطبيقها والالتزام بتعاليمها. ففي الحالة الاُولى قد يقول القائل بضرورة تبديل تلك الأحكام، وأمّا في الحالة الثانية فلا يحقّ لنا تبديل تلك الأحكام، بل لابدّ من السعي نحو تغيير تلك الظروف التي منعت عن تطبيق تلك الأحكام.
وبالرغم من أنّ السيّد الحيدري لا ينكر خاتميّة الرسالة الإسلامية. كما جاء في مقدّمة كتاب (مفاصل إصلاح الفكر الشيعي). لكنّه بدلاً عن أن يجعل ذلك دليلاً على بطلان الثقافات والظروف الشائعة التي لا يمكن تطبيق تعاليم الشريعة الإسلامية فيها، يظلّ يفتّش عن طريقةٍ للجمع بين حاجة المجتمعات البشرية إلى تجديد الشريعة كأصل ثابتٍ لا مناص منه بحسب تعبيره، وبين خاتميّة الشريعة الإسلاميّة، ولم يجد طريقةً للجمع بين هذين الأمرين سوى دعوى كون التجديد في الشريعة الإسلامية منبثقاً من رحمها فهي (ولّادةٌ في كلّ عصرٍ بما يقتضيه ذلك العصر) بحسب تعبيره، وبهذا لم يدع مجالاً للاعتقاد بأنّ الثقافات العصريّة كثيراً ما تكون باطلة وأنّ الظروف والملابسات التي تمنع عن تطبيق الشريعة الإسلامية بصيغتها الأصلية التي نزلت في عصر قديم تكون فاسدةً ولابدّ من السعي نحو إصلاحها.
10
وقد صرّح في هذا المجال. في مقدّمة الكتاب المذكور. بأنّ ملاك خاتميّة الشريعة الإسلاميّة لا يمكن حفظه إلّا مع بقاء الحركة الاجتهاديّة وديمومتها، بل لا يمكن ذلك. بحسب تعبيره. إلّا بتجديد الآليّات الاجتهادية الاستنباطية.
وإذا جمعنا كلامه هذا مع تصريحه السابق في نفس مقدمة الكتاب المذكور بأنّ الحاجة إلى تجديد الشرائع بحسب متطلّبات الظروف تكون أصلاً ثابتاً لا مناص منه، ولأجل هذه الحاجة كانت الشرائع تتجدّد من خلال النبوات المستمرّة، فستكون النتيجة أنّه يتوقّع من خلال بقاء الحركة الاجتهادية وديمومتها أن يقوم المجتهد بدور نبي جديد يقوم بتجديد الشريعة بحسب متطلبات الظروف، وهذا أقرب إلى الوهم والخيال منه إلى الواقع العلمي والعملي.
وأمّا فكرة مدخلية الزمان والمكان في الأحكام الشرعية فسيأتي توضيح حدودها ومدى صلاحيتها لتصحيح النظرية المذكورة ضمن الخطوات القادمة في هذا البحث إن شاء الله تعالى.
11
الخطوة الثانية
تعلّق الأحكام بالعناوين الكليّة
من المسلّم أنّ الأحكام الشرعيّة – بحسب ما وصل إلينا من أدلّتها – لم تكن تصدر عادة على نحو القضايا الخارجية المرتبطة بموضوعات شخصيّة معيّنةٍ في الخارج، وإنّما كانت تصدر على نحو القضايا الحقيقيّة العامّة، وهذا يعني أنّها منصبّة على عناوين كليّة مأخوذة في متعلّق الحكم تارة وفي موضوعه تارة اُخرى، (وبيان الفرق بين المتعلّق والموضوع موكول طبعاً إلى محلّه) من قبيل عنوان (الفقير) أو (الغني) وعنوان (المرأة) أو (الرجل) وعنوان (طلوع الفجر) أو (غروب الشمس) وعنوان (الاستطاعة للحجّ) وعنوان (ستر تمام البدن عدى الوجه والكفّين) وعنوان (سهم النصف) أو (الثلث) أو (حظ الذكر مثل حظ الاُنثيين) في باب الإرث، وعنوان (دفع العدو) في
12
باب الجهاد الدفاعي، ونحو ذلك من العناوين الكليّة. وهذه العناوين الكليّة لم يخصّصها الشارع تبارك وتعالى. بحسب ما يستفاد من الأدلّة الشرعيّة. بزمان معيّن أو بظروف اجتماعيّة معيّنة إلّا بالقدر المذكور في تلك الأدلّة من القيود الدخيلة في تلك العناوين، من قبيل قيد (السفر) أو (الحضر) وقيد (حال المرض) أو (حال الصحّة) ونحو ذلك.
وبهذا ستكون الأحكام الشرعيّة ملازمةً سلباً وإيجاباً لصدق تلك العناوين الكلية، بمعنى أنّه متى ما صدقت العناوين الكلية الدخيلة في الحكم جرى الحكم عليها، ومتى ما لم تصدق تلك العناوين لم يجر الحكم، ولا يحقّ لنا أن نتصرّف في تلك العناوين الكليّة أو نغيّر شيئاً منها بحسب الظروف الاجتماعية، ما دامها قد وضعت من قبل الشارع تبارك وتعالى من دون اختصاص بزمان معين أو بظروف اجتماعية معيّنة.
فمثلاً ما دام أن الشارع تبارك وتعالى قد جعل نظام الصلاة والصوم منوطاً بالعناوين الكلية الراجعة إلى نظام الشمس، فلا يحقّ لنا أن نغيّر نظام الصلاة والصوم ونجعل لهما عناوين كليّة اُخرى وفقاً لنظام الساعات مثلاً لا وفقاً لنظام الشمس بحجّة كون هذا أنسب للظروف الاجتماعية الحديثة.
13
وهذا طبعاً بحسب حدود صلاحيّتنا نحن تجاه الأحكام الشرعية بوصفنا فقهاء غير معصومين ولابدّ لنا من الالتزام بموازين استنباط الاحكام الشرعية من الأدلّة الموجودة بين أيدينا، وليس من جملة موازين استنباط الأحكام الشرعية ما يقتضي التصرّف في العناوين الكليّة الواصلة إلينا في الأدلّة الشرعيّة بتغييرها أو بتخصيصها بزمان معيّن أو بظروف اجتماعيّة معيّنة، ما دامت الأدلّة الشرعيّة مطلقةً من هذه النواحي، والظهور الإطلاقي حجة حسب ما هو ثابت في علم الاُصول.
نعم، قد يقوم الإمام الحجّة (عجّل الله تعالى فرجه) بعد ظهوره بتغيير بعض العناوين الكليّة المأخوذة في الأحكام بناءاً على صلاحيّة مقام الإمامة للتدخّل في التشريعات الإسلامية، أو يقوم بالكشف عن أنّ العنوان المأخوذ في حكم من الأحكام يختلف بحسب الواقع عن العنوان الذي نحن استنبطناه ظاهراً من الأدلّة الموجودة بين أيدينا بحسب ما نملكها من موازين الاستنباط، وهذا لا يبرّر لنا القيام بشيء من هذا القبيل في زمن غيبة الإمام المعصوم عليه السلام.
14
الخطوة الثالثة
وسائل تحقيق العناوين الكليّة
لابدّ من التمييز بين العناوين الكليّة المأخوذة في الأحكام، وبين الوسائل والمقدمات الدخيلة في تحقيق تلك العناوين الكلية، فإنّ العناوين الكليّة لابدّ من اتباعها سلباً وإيجاباً كما نبّهنا عليه في الخطوة السابقة، وأمّا المقدّمات الوجوديّة التي لم يأخذها الشارع تبارك وتعالى ضمن تلك العناوين الكليّة رغم كونها ضروريّةً لأجل تحقيق تلك العناوين، فمن حقّنا أن نختار منها ما يناسب الظروف الاجتماعية التي نعيشها.
فمثلاً: قد أمر الشارع تبارك وتعالى بدفع العدو عند مداهمته لبلاد المسلمين، فالعنوان الكلي الدخيل في الحكم عبارة عن (دفع العدو) ولكنّ المقدمات والوسائل التي كانت معروفة في زمان نزول
15
هذا التشريع كانت عبارة عن ركوب البغال والحمير واستخدام السيوف والرماح، ولايجب علينا في زماننا هذا عند مداهمة العدو لبلاد المسلمين أن نتخذ نفس المقدمات والوسائل القديمة لدفع العدو، بل لابدّ لنا من اتخاذ ما يناسب الظروف والملابسات الحديثة لتحقيق عنوان (دفع العدو) وليس ذلك إلّا لأنّ تلك المقدّمات والوسائل ليست داخلةً في العناوين المأخوذة في متعلّق الحكم، فلابد من تحقيق العنوان المأخوذ في متعلّق الحكم بالوسيلة التي تحقق ذلك في كل زمانٍ بحسبه.
وكذلك يقال أيضاً في الوسائل التي يتّخذها الحاج للتوصّل إلى الميقات لأداء فريضة الحج، حيث إنّ أوّل عنوانٍ كلّي مأخوذ في متعلّق فريضة الحج عبارة عن (الكون في الميقات) أو (القيام بالإحرام من الميقات) وليست وسيلة انتقال المكلّف من بلده إلى الميقات داخلة في العنوان الكلي المطلوب، فلا يضرّه اتّخاذ الوسائل الحديثة للانتقال إلى الميقات.
16
الخطوة الرابعة
مصاديق العناوين الكليّة
لابدّ من التمييز أيضاً بين العناوين الكليّة المأخوذة في متعلّقات الأحكام أو في موضوعاتها، وبين مصاديقها التي لا يتغير العنوان الكلي بتغيّرها، حيث إنّ العناوين الكلية المأخوذة في الأحكام لابدّ من اتّباعها سلباً وإيجاباً كما نبّهنا عليه في الخطوات السابقة، وأمّا مصاديق تلك العناوين التي لا يتغيّر العنوان الكلي بتغيّرها فمن حقّ المكلّف أن يختار منها ما يناسب مقتضى الظروف والملابسات المستجدّة في العصر الحديث، كما كان كذلك في المقدمات والسائل.
ومثال ذلك أن العنوان الكلي المأخوذ في وجوب حجاب المرأة أمام الرجل الأجنبي عبارة عن (لبس ما يستر تمام بدنها عدى الوجه والكفّين) حسب المستفاد من الأدلّة الشرعيّة، وكان المصداق الشائع
17
لهذا العنوان في العصور القديمة عبارة عن لباس مصنوع من الصوف مثلاً بقطعةٍ واحدة تستر بها تمام بدنها من الرأس إلى القدم عدى ما قد يظهر من الوجه والكفّين، وفي العصور الجديدة تواجدت مصاديق اُخرى قد تكون أنسب إلى مقتضيات الظروف الحديثة ولو في بعض البلدان، كالألبسة المصنوعة من الحرير وغيره من الأجناس الاُخرى الشائعة اليوم، وكالألبسة المركبة من قطعتين أو اكثر لستر تمام البدن عدى الوجه والكفين، وهي مصاديق جديدة لنفس العنوان الكلي المذكور، ولا يتغيّر بها العنوان الكلي المأخوذ في الحكم، مادام يحصل بها ستر تمام البدن عدى الوجه والكفين، فمن حق المرأة أن تتبع مقتضى الظروف الحديثة في مثل ذلك، إلّا إذا كان منافيا لعنوان آخر من العناوين الكليّة المأخوذة في حكم حجاب المرأة أو منافياً لقيدٍ دخيل في ذلك الموضوع الكلي، كما إذا كان لا يمنع عن ظهور حجم مفاتن بدن المرأة، فلا يجوز لها حينئذ الأخذ بهذا المصداق الجديد، بسبب منافاته للعنوان الكلي الآخر أو للقيد المأخوذ في ذلك العنوان الكلي.
وقد نجد في بعض الحالات أنّ المصداق الذي كان شايعاً في العصور القديمة للعنوان الكلي المأخوذ في الحكم قد خرج عن
18
مصداقيّته لذلك العنوان الكلي وتحوّل مصادقه بحسب الظروف الحديثة إلى شيء آخر يختلف عن ذاك المصداق القديم.
مثال ذلك: عنوان (الإحسان) المأخوذ في جملة من الأحكام. من قبيل: (وبالوالدين إحساناً) و (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) وغير ذلك. كان مصداقه في العصور القديمة عبارة عن تقديم ثوبٍ أو ثوبين مثلاً، والإسكان في دارٍ مشتملة على غرفة أو غرفتين مثلاً، ولكنه في العصر الحديث لو اكتفى بذلك لم يعد محسناً، بل لابدّ لصدق عنوان (الإحسان) أن يقدّم ثياباً عديدة ويحقّق الإسكان في دار واسعةٍ إلى غير ذلك من الاُمور الدخيلة في صدق (الإحسان).
مثال آخر: عنوان (الاستطاعة للحج) قد اُخذ عنواناً كليّاً في موضوع وجوب الحج، وكان يكفي في العصور القديمة لتحقّق هذا العنوان أن يمتلك دابة صالحة للذهاب والإياب مع المصارف الاُخرى اللازمة بحسب مقتضيات تلك الأزمنة، ولكن هذا في عصرنا الحديث لا يعد استطاعةً، بل لابدّ لأجل صدق (الاستطاعة) للحج أن يملك ما يكفيه للسفر بالوسائل الحديثة، وهذا طبعاً غير ما ذكرناه سابقاً من الوسيلة التي تحقق عنوان (الكون في الميقات) فإنّ
19
كلامنا الآن في مصداق العنوان الكلي لا في المقدمات والوسائل التي يتّخذها المكلّف لتحقيق العنوان الكلّي.
ففي حالات من هذا القبيل لا يتبدّل العنوان الكلّي المأخوذ في متعلق الحكم أو في موضوعه وإنّما يتبدّل المصداق مع الحفاظ على ذلك العنوان الكلي، ولا يحقّ للمكلف أن يتصرّف بنحوٍ يتبدّل به العنوان الكلي بعنوان جديد.
20
الخطوة الخامسة
صيرورة الشيء مصداقاً لعنوان جديد
قد نجد في بعض الحالات أنّ الشيء الذي أصبح مصداقاً اليوم للعنوان الكلي المأخوذ في حكم من الأحكام بسبب الظروف والملابسات الجديدة في العصر الحديث مثلاً لم يكن في القديم مصداقاً لذلك العنوان الكلي المأخوذ في ذلك الحكم، فليست المسألة في هذا النوع من المصاديق مسألة شيوع مصداق جديد للعنوان في الظروف الحديثة لم يكن شائعاً في الظروف القديمة كما كان كذلك في الأمثلة السابقة، بل المسألة هي أنّ هذا الشيء الذي نجده اليوم مصداقاً للعوان الكلّي المأخوذ في هذا الحكم، لم يكن مصداقاً أصلاً لهذا العنوان في الظروف القديمة الماضية، وإنّما أصبح مصداقاً له بفضل اتصافه ببعض الصفات التي لم تكن فيه سابقاً، ففي مثل ذلك
21
يترتّب عليه في الحال الحاضر الحكم الذي اُخذ فيه العنوان الكلي الجديد، سواء كان هذا الحكم متناسبا للمقتضيات العصرية المحبذة عند الناس في ذلك الظرف الاجتماعي الجديد او لم يكن متناسبا لذلك.
مثال ذلك: أنّ اللباس القبيح المذموم في يومنا هذا قد يعتبر بحسب ظروف اليوم مصداقاً للباس الذلّ أو لباس الشهرة المنهي عنهما في الأدلّة الشرعيّة، ولكن نفس هذا اللباس لم يكن مذموماً ولم يكن مصداقاً للباس الذل ولا للباس الشهرة في الأيّام التي كان لبس هذا اللباس شائعاً بين الناس، لفقرهم وعدم تمكنهم من تحصيل اللباس الفاخر، أو لأيّ سبب آخر، ففي مثل ذلك تترتب الحرمة الشرعيّة التي اُخذ فيها عنوان (لباس الذل) أو عنوان (لباس الشهرة) على هذا اللباس في العصر الحديث الذي صار فيه هذا اللباس مصداقاً لأحد هذين العنوانين، بالرغم من أنّه لم تكن تترتّب هذه الحرمة عليه في الزمان القديم.
مثال آخر: أنّ لبس السواد في ذكرى مصائب أهل البيت عليهم السلام أصبح في أواسط الشيعة مصداقاً لتعظيم شعائر الله تبارك وتعالى فصار يشمله استحباب تعظيم الشعائر المستفاد من الآية الشريفة (ومن يعظم شعائر الله فإنّها من تقوى القلوب) في حين أنّ
22
هذا اللباس لم يكن في بعض العصور القديمة مصداقاً لتعظيم الشعائر وإنّما أصبح كذلك باتخاذ هذه العادة عند الشيعة بالتدريج في طول التاريخ حتى أصبح مشمولاً لهذا الاستحباب. وهناك أمثلة كثيرة اُخرى لهذا الأمر.
23
الخطوة السادسة
ابتداع الحكم خارج نطاق العنوان الكلي
عرفنا في الخطوات السابقة أنّ الحكم الشرعي يدور دائماً مدار صدق العنوان الكلي الذي عيّنه الشارع تبارك وتعالى في متعلّقه أو موضوعه، ولا مانع من تغيّر وسائل تحقيق العنوان الكلي، كما لا مانع من تغيّر مصداق العنوان الكلي مع صدق ذات العنوان، كما لا مانع أيضاً من صيرورة الشيء مصداقاً لعنوان كلي آخر مما عيّنه الشارع تبارك وتعالى، فيترتب عليه حكم ذلك العنوان الجديد.
وفي هذه الخطوة (السادسة) نريد أن نؤكّد على أنّ الظروف والملابسات الجديدة في العصر الحديث إن كانت تستدعي ابتداع حكم جديد خارج إطار العنوان الكلي الذي عيّنه الشارع تبارك وتعالى فلا يجوز اتباعها، بل لابد من اتّباع تلك العناوين الكلية التي عيّنها
24
الشارع سلباً وإيجاباً كما نبهنا عليه سابقاً، مع السعي نحو إصلاح تلك الظروف والملابسات لكونها فاسدة ومنافية للإسلام.
والظاهر أنّ تسعين بالمائة من أحكام المرأة التي قال عنها السيّد الحيدري: إنّها لا تناسب العصر الحديث، هي في الحقيقة من هذا القبيل، بمعنى أنّ ما تستدعيه الظروف والملابسات الجارية في العصر الحديث يستلزم ابتداع حكم جديد خارج إطار العنوان الكلي الذي عينه الشارع تبارك وتعالى، لا مجرّد التغيير في المقدمات والوسائل، ولا مجرّد التغيير في مصاديق العنوان الكلي، ولا مجرّد اتّصاف الشيء بصفة تجعله مصداقاً لعنوان كلّي آخر عينه الشارع تبارك وتعالى.
فمثلاً كيف يمكن تبرير الحجاب الذي لا يستر تمام بدن المرأة عدى الوجه والكفين إلّا بابتداع حكم جديد خارج إطار العنوان الكلي الذي عينه الشارع تبارك وتعالى، أعني عنوان (ستر تمام البدن عدى الوجه والكفين).
وكيف يمكن تبرير تساوي الذكر والاُنثى في الإرث إلّا بابتداع حكم جديد خارج إطار العنوان الكلي الذي عينه الشارع تبارك وتعالى أعني عنوان (للذكر مثل حظ الاُنثيين).
وكيف يمكن تبرير تساوي المرأة والرجل في الشهادة إلّا بابتداع
25
حكم جديد خارج إطار العنوان الكلي الذي عيّنه الشارع تبارك وتعالى، أعني ما يستفاد من قوله تعالى: (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء).
إلى غير ذلك من أحكام المرأة التي أشار إليها السيّد الحيدري.
ولأجل توضيح أكثر لما ذكرناه أقول: إنّ السير نحو مقتضى الظروف والملابسات الجارية في العصر الحديث في هذه الأحكام ينحصر أمره بثلاثة وجوه:
الوجه الأوّل: عبارة عن رفع اليد عن العناوين الكلية المأخوذة في تلك الأحكام مع الاعتراف بأنّها العناوين التي عيّنها الشارع تبارك وتعالى وهذا ابتداع لأحكام جديدة خارج إطار العناوين الكلية التي عيّنها الشارع تبارك وتعالى.
والوجه الثاني عبارة عن عدم الاعتراف بأنّها العناوين الكلية التي عينها الشارع تبارك وتعالى، ودعوى أن العنوان المأخوذ في كل حكم من تلك الأحكام عنوان آخر يناسب الحكم الذي يتطلّبه العصر الحديث. وهذا ينافي مقتضى ما يستفاد من الأدلّة الشرعية الواصلة إلينا بصورة واضحة.
والوجه الثالث: عبارة عن دعوى كون هذا العنوان الكلي خاصّاً
26
بالزمان القديم والظروف القديمة وليس جارياً إلّا للظروف المشابهة لذاك الزمان كما هو ظاهر كلام السيد الحيدري. في مقطع الفيديو الذي انتشر عنه باللغة الفارسيّة. وهذا ينافي إطلاق الأدلّة الشرعية وموازين استنباط الأحكام من أدلّتها، وليس في موازين استنباط الأحكام الشرعية ما يبرّر ذلك، كما نبّهنا عليه في الخطوات السابقة.
وبعد فشل هذه الوجوه الثلاثة في إمكان الأخذ بمقتضى الثقافة العصريّة والظروف والملابسات الجديدة، سينكشف لنا بوضوح أنّ هذه الثقافة العصريّة فاسدة، وما تقتضيه الظروف والملابسات الجديدة منافٍ للإسلام، وبالتالي ينبغي السعي نحو تبديل هذه الثقافة وإصلاح هذه الظروف، بدلاً عن السعي نحو تبديل تلك الأحكام.
27
الخطوة السابعة
طريقة تشخيص العنوان الكلي المأخوذ في الحكم الشرعي
كيف نعرف أنّ ما تقتضيه الظروف والملابسات الحديثة في كل مسألة من المسائل هل هو ابتداع لحكم جديد خارج إطار العناوين الكلية التي عينها الشارع تبارك وتعالى حتى لا يحق لنا اتباع ما تمليه علينا تلك الظروف والملابسات، أو هو عبارة عن مجرّد (تبديل المقدّمات والوسائل اللازمة لتحقيق ذلك العنوان الكلي) أو مجرّد (تغيير في مصاديق ذلك العنوان الكلي مع بقاء صدق العنوان الكلي على المصاديق الجديدة) أو مجرّد (كون الشيء الذي تستدعيه الظروف الجديدة قد تحول ببركة تلك الظروف إلى المصداقية لعنوان كلّي من العناوين التي عينها الشارع تبارك وتعالى لأحكامه) حتى يحق لنا العمل بمقتضى تلك الظروف والملابسات الحديثة؟.
28
والجواب: أنّ معرفة ذلك تتمّ من خلال مراجعة الأدلّة الشرعيّة لذلك الحكم، فنرجع مثلاً إلى دليل حكم الإرث في الذكر والاُنثى لنجد أنّ العنوان الكلي المأخوذ في ذلك الحكم عبارة عن قول الله تبارك وتعالى (للذكر مثل حظ الاُنثيين) وليس عبارة عن عنوان (ما يتقوّم به اقتصاد الاُسرة بحسب الظروف) مثلاً وهكذا في الموضوعات الكليّة المأخوذة في المسائل الاُخرى، وهي واضحة غالباً بحسب موازين وضوابط استنباط الحكم الشرعي، كما في أكثر الأحكام الشرعية الراجعة إلى المرأة.
وقد لا تكون الأدلّة الشرعية لحكم مسألة من المسائل واضحةً بالدرجة التي يتّفق عليها الفقهاء، كما في مسألة (الشطرنج) إذ قد لا يكن من الواضح جدّاً أنّ العنوان الكلي المأخوذ في حكم الحرمة هل هو عبارة عن (الشطرنج المعدّ للمراهنة والقمار) أو هو عبارة عن مطلق (الشطرنج) وإن كان معدّاً لمجرّد الرياضة الفكريّة، وقد يختلف الفقهاء في نتائج استنباطهم للحكم الشرعي في تلك المسألة.
ففي مثل ذلك سيكون حال تلك المسألة كحال كلّ المسائل الخلافية بين الفقهاء. مثل (وجوب ثلاث سبحانيات في الركعة الثالثة والرابعة من الصلاة، أو وجوب سبحانية واحدة) ومثل (وجوب الخمس
29
في الهبة أو عدم وجوب الخمس فيها) إلى غير ذلك. التي وقع فيها الخلاف بين الفقهاء لأسباب علميّة معروفة، فلا يجوز للناس اتّخاذ رأي معيّن في ذلك جزافاً واعتباطاً، بل لابد لهم الرجوع إلى من يرجعون إليه في التقليد لتعيين العنوان الكلي المأخوذ في حكم تلك المسألة بحسب الموازين المعهودة لاستنباط الأحكام في علمي الفقه والاُصول.
وهذا هو السرّ في اختلاف رأي الفقهاء في حكم الشطرنج في الظروف الحديثة التي لا يكون فيها معدّاً للقمار بل للرياضة الفكريّة فحسب.
30
الخطوة الثامنة
مدى تأثير الزمان والمكان على الأحكام الشرعيّة
في ضوء الخطوات السابقة يظهر المعنى الذي قصده جملة من علمائنا الأخيار بقولهم أنّ مقتضيات الزمان والمكان قد تؤثّر على الأحكام الشرعيّة.
توضيح ذلك: أنّ تأثير مقتضيات الزمان والمكان على الأحكام الشرعيّة ليس بمعنى أنّ جملة من الأحكام الشرعيّة التي كانت منصبّةً على عناوين كليّة مأخوذة في متعلّقاتها أو موضوعاتها تكون خاصّة بالعناوين الكليّة المناسبة للظروف والملابسات الاجتماعيّة القديمة وماشابهها من ظروف وملابسات، وهي تزول بزوال تلك الظروف والملابسات الاجتماعيّة، وتقوم مقامها أحكام اُخرى منصبّة على عناوين كليّة اُخرى مناسبة للظروف والملابسات الاجتماعيّة الجديدة،
31
كما يستفاد من السيّد الحيدري في المقطع الفيديو الذي انتشر عنه باللغة الفارسيّة، ولعلّه في تصريحات اُخرى صادرة عنه أيضاً.
بل إنّ تأثير مقتضيات الزمان والمكان على الأحكام الشرعيّة إنّما هو بالمعنى المستحصل ممّا عرضناه في الخطوات السابقة في هذا البحث، وحاصله أنّ تأثير الزمان والمكان على الأحكام الشرعية ينحصر على الحالات الثلاث المشار إليها سابقاً وهي:
الحالة الاُولى: ما إذا كان الشيء المتغيّر بحسب ظروف الزمان والمكان عبارة عن المقدمات والوسائل التي تُتّخذ لتحقيق العناوين الكليّة الدخيلة في الأحكام، بحيث لا تتغير الأحكام حقيقة بتغيّر تلك الأشياء، وإنّما تتغير المقدمات والوسائل فحسب، مثل تغيّر وسائل دفع الأعداء عند مداهمتهم لبلاد المسلمين، أو تغيّر وسيلة الوصول إلى الميقات لأداء أوّل جزءٍ من أعمال الحجّ، إلى غير ذلك من الأمثلة التي تكون من هذا القبيل.
والواقع إنّ مقتضيات ظروف الزمان والمكان في موارد هذه الحالة لا توجب تغيّر الحكم حقيقةً بها وإنّما توجب تغير وسائل امتثال نفس الحكم الصادر من الله تعالى في العصور القديمة، ولكن قد يعبّر عن ذلك بتأثير الزمان والمكان على الأحكام الشرعيّة بشيء من المجاز والتسامح في التعبير.
32
وأنت ترى أنّ تأثير الزمان والمكان على الأحكام الشرعيّة بالمقدار المطروح في هذه الحالة لا يبرّر ما يريده السيّد الحيدري من تغيير الأحكام وفق الظروف والملابسات الحديثة في أمثال حكم حجاب المرأة وحكم إرثها وشهادتها ونحو ذلك.
الحالة الثانية: ما إذا كان الشيء المتغير بحسب ظروف الزمان والمكان عبارة عن مصاديق العناوين الكليّة المأخوذة في الأحكام مع بقاء العناوين الكليّة على حالها ومن دون أيّ تصرّفٍ فيها، من قبيل تغيّر مصاديق عنوان (ما يستر به تمام بدن المرأة عدى الوجه والكفّين) الذي هو العنوان الكلّي المأخوذ في حكم الحجاب للمرأة، ومن قبيل تغيّر مصاديق عنوان (الإحسان) الذي هو العنوان الكلّي المأخوذ في جملة من الأحكام، إلى غير ذلك من الأمثلة التي تكون من هذا القبيل.
ففي موارد هذه الحالة نجد أيضاً أنّ مقتضيات الزمان والمكان لا توجب تغيّر الحكم حقيقةً بها وإنّما تجب تغيّر مصاديق العنوان الكلّي المأخوذ في الحكم مع الحفاظ على أصل العنوان الكلي الذي أخذه الشارع في الحكم في عصر التشريع، ولكن قد يعبّر عن ذلك أيضاً بتأثير الزمان والمكان على الأحكام الشرعية بشيء من المجاز والتسامح في التعبير كما في الحالة السابقة.
33
وأنت ترى أيضاً أنّ تأثير الزمان والمكان على الأحكام الشرعيّة بالمقدار المطروح في هذه الحالة لا يبرّر أيضاً ما يريده السيد الحيدري من تغيير أمثال أحكام المرأة.
الحالة الثالثة: التي هي أهمّ الحالات الثلاث عبارة عمّا أشرنا إليه أيضاً في الخطوات السابقة، وهو ما إذا كان الشيء الذي تستدعيه الظروف والملابسات الجديدة قد تحوّل ببركة تلك الظروف إلى المصداقية لعنوانٍ كلّي من العناوين التي عينها الشارع تبارك وتعالى لأحكامه، وذلك من خلال اتصافه ببعض الصفات التي لم يكن متصفاً بها سابقاً، وكانت تلك الصفات دخيلةً في ذلك الحكم الكلّي.
وهذا يعني أنّ هذا الشيء قبل اتّصافه بهذه الصفة الحديثة الدخيلة في حكمه اليوم كان محكوماً بحكم آخر بمقتضى قاعدة (أنّه ما من حادثة إلّا ولله فيها حكم) فما دام هو لم يكن محكوماً بالحكم الذي جرى عليه بعد اتّصافه بتلك الصفة فلابدّ وأن يكون في ذاك العهد محكوماً بحكم آخر غير الحكم الذي جرى عليه بعد اتّصافه بتلك الصفة، فالشيء الواحد كان محكوماً بحكم سابقاً وأصبح محكوماً بحكم آخر بسبب اتصافه بصفةٍ لم يكن متّصفاً بها من قبل، وبما أنّ اتّصافه بتلك الصفة كان منوطاً بظروف زمانية أو مكانيّة
34
معيّنة أمكن القول بأنّ هذا من تأثير الزمان والمكان على الحكم الشرعي.
وقد مثّلنا لهذه الحالة بمثالين فيما سبق، والآن اُريد التنبيه على أنّ الأمثلة النظريّة لهذه الحالة قد تكون كثيرة بقطع النظر عن تشخيص مواردها والتأكّد من تحقّقها أو عدم تحقّقها بالفعل في العصر الحديث.
فمثلاً حرمة لباس التشبّه بالكفار، قد تتغيّر بتغيّر الأزمنة والأمكنة التي يختلف فيها اتّصاف لباسٍ واحد بالتشبّه بالكفار تارةً، وعدم اتصافه بذلك تارة اُخرى.
وحرمة استعمال آلات اللهو واللعب، قد تتغيّر بتغير الأزمنة والأمكنة التي يختلف فيها اتّصاف آلة واحدة بكونها من آلات اللهو واللعب تارة، وعدم كونها منها تارة اُخرى.
وحرمة آلة القمار، قد تتغيّر بتغيّر الأزمنة والأمكنة التي يختلف فيها اتصاف آلة واحدة بكونها من آلات القمار تارةً، وعدم كونها منها تارة اُخرى.
إلى غير ذلك من الأمثلة التي يمكن تصويرها نظرياً وقد يتحقّق بعضها حقيقةً في الواقع المعاش.
وهذه الحالة الثالثة يمكن أن نعتبرها من أهم الحالات التي يتمّ
35
فيها تأثير مقتضيات الزمان والمكان على الأحكام الشرعيّة، ولكن لابدّ فيها من التنبيه على اُمور:
أوّلاً: أنّ نتيجة تأثير الزمان والمكان على الحكم الشرعي في الحالة المذكورة ليست دائماً بصالح تصحيح مقتضيات الظروف والملابسات الحاصلة في العصر الحديث، بل قد تكون منافية ومضادّة لذلك، فمثلاً عندما تتوجّه الظروف والملابسات في العصر الحديث نحو شياع المقامرة بآلةٍ معيّنة، تصبح تلك الآلة محرّمةً شرعاً لاتصافها بصفة كونها من آلات القمار بعد أن لم تكن متّصفة بهذه الصفة في العصور القديمة فكان حكمها الجواز سابقاً، فإن نتيجة تبدّل حكم هذه الأدلّة باختلاف حالها في هذه الصفة ليست بصالح تصحيح مقتضى الظروف والملابسات الحاصلة في العصر الحديث.
فالميزان في تأثير الزمان والمكان على الحكم الشرعي في الحالة المذكورة يدور مدار تحقّق الصفة الدخيلة في الموضوع الكلي المأخوذ في الحكم سلباً وإيجاباً، سواء كان الحكم الجديد الحاصل بتبدّل حال تلك الصفة في صالح مقتضيات الظروف والملابسات الحديثة في العصر الجديد، أو كان منافياً ومضادّاً لها.
وهذا يعني أنّنا يجب ألا نتوقّع دائماً إمكان تصحيح مقتضيات
36
الظروف والملابسات الحاصلة في العصر الحديث بما ذكر في هذه الحالة.
ثانياً: إنّ الحالة المذكورة لتأثير الزمان والمكان على الحكم الشرعي لا تختصّ بموارد تغيّر الظروف والملابسات العامّة في المجتمع في زمانٍ حديث أو في مكان معيّن، بل إنّ هذه الحالة تحصل عند تبدّل الشيء الخارجي من كونه موضوعاً لحكمٍ إلى كونه موضوعاً لحكم آخر بسبب تبدّل صفةٍ فيه دخيلةٍ سلباً وإيجاباً في العنوان الكلي المأخوذ في ذينك الحكمين، حتى وإن كان ذلك من باب الصدفة في شيء معيّن من دون وقوع تغيّرٍ في الظروف والملابسات العامّة في المجتمع، ولهذا يمثّلون للحالة المذكورة بمثال تبدّل الخمر إلى الخلّ أو تبدّل الميتة إلى التراب أو نحو ذلك، رغم عدم وجود علاقة لهذه الأمثلة بالظروف والملابسات العامّة في المجتمع.
وهذا ممّا يؤيّد أيضاً ما قلناه من أنّ فكرة تدخّل الزمان والمكان في الحكم الشرعي ليست ذات علاقة دائماً بمقتضيات الظروف والملابسات العامّة.
ثالثاً: إنّ كون صفةٍ معيّنة دخيلةً في العنوان الكلّي المأخوذ في حكمٍ من الأحكام سلباً وإيجاباً بحاجة إلى دليل إثباتي، ولا يمكن البناء على تبدّل الحكم بتبدّل صفةٍ من الصفات إلّا بعد إثبات كون تلك
37
الصفة دخيلةً في العنوان الكلّي المأخوذ في ذلك الحكم سلباً وإيجاباً، ولا يجوز البناء على دخالتها في ذلك جزافاً واعتباطاً، أو لمجرّد كون تلك الصفة مناسبة للظروف والملابسات العصرية، بل لابدّ من إثبات ذلك بحسب الموازين الشرعيّة الصحيحة لاستنباط الحكم الشرعي في عصر الغيبة، كما ثبتت دخالة صفة (الإعداد للقمار) مثلاً في العنوان الكلي المأخوذ في حرمة آلات القمار، وكما ثبتت دخالة صفة (التشبّه بالكفّار) مثلاً في العنوان الكلي المأخوذ في حرمة اللباس، وإلى غير ذلك. وأمّا صفة (التناسب أو عدم التناسب لمقتضيات الظروف والملابسات الشائعة في العصر الحديث) فهي ممّا لا يمكن إثبات دخالتها في العناوين الكليّة المأخوذة في الأحكام. كما في حكم حجاب المرأة، أو حكم كون سهم الاُنثى بقدر نصف سهم الذكر في الإرث، أو حكم كون شهادة امرأتين معادلةً لشهادة رجل واحد، او نحو ذلك من الأحكام. فإنّ الموازين الشرعيّة الصحيحة لاستنباط الحكم الشرعي في عصر الغيبة لا تساعد على إثبات دخالة الصفة المذكورة في العناوين الكليّة المأخوذة في الأحكام.
وبمجموع الاُمور الثلاثة التي نبّهنا عليها يظهر أنّ فكرة تدخّل الزمان والمكان في الأحكام لا يمكن التمسّك بها في أكثر الأحكام
38
الشرعيّة لإثبات اختصاص الحكم بالظروف المشابهة لظروف تشريعها وعدم جريانها في الظروف والملابسات الجديدة في العصر الحديث.
39
الخطوة التاسعة
دين الله لا يصاب بالعقول
لو سلّمنا جدلاً بما يقوله السيّد الحيدري من اختصاص الأحكام الشرعيّة أو اختصاص جملة منها بالظروف والملابسات التي كانت في عصر تشريعها، والظروف والملابسات المشابهة لها، وعدم جريانها في الظروف والملابسات الجديدة التي لا تشبه تلك الظروف والملابسات القديمة، فسوف نواجه السؤال عن الأحكام والتشريعات البديلة التي لابدّ للفقيه أن يفتي بها في الظروف والملابسات الجديدة، فما هي طريقة استنباطه لتلك الأحكام الجديدة المناسبة للعصر الجديد؟
توجد أمام الفقيه طريقتان لاستنباط الأحكام البديلة التي لابدّ وأن يفتي بها للظروف والملابسات الجديدة:
الطريقة الاُولى: نستطيع أن نسيمها بالاستنباط العقلي المباشر، وهو
40
أن يضع الأحكام وفقاً لما يدركه عقله بمثل القياس والاستحسان والحدس من دون دعوى استخراج ذلك من أدلّة الأحكام الشرعيّة القديمة.
والطريقة الثانية: نستطيع أن نسميها بالاستنباط العقلي غير المباشر، وهو عبارة عن استخدام العقل لاستخراج أحكام جديدة من أدلّة الأحكام الشرعيّة القديمة، وهذا ما نفهمه من كلمات السيّد الحيدري في مقدّمة كتاب (مفاصل إصلاح الفكر الشيعي) حيث يتمسّك بقرينيّة الزمان في تحديد فهم النصّ الديني بحسب تعبيره، ولا شكّ أنّ الزمان لا يمكن أن يكون قرينة في تحديد فهم النصّ الديني إلّا بضمّ العقل الذي يدرك التناسب بين مقتضيات ظروف الزمان الجديد وبين فهمٍ خاصٍّ للنصّ الديني، وإلّا فمن أين يأتي هذا الفهم الخاص للنص الديني المناسب لمقتضيات ظروف الزمان الجديد؟
وهذا ما نفهمه أيضاً من قوله في نفس المصدر: «… فلابدّ وأن تكون حاملةً في طياتها بذوراً لا تنمو ولا تثمر إلّا في عصرها المناسب، فيكون التجديد فيها داخليّاً منبثقاً من رحمها» فلو لا استخدام الإدراك العقلي الحدسي كيف يمكن تشخيص تلك البذور التي لا تنمو ولا تثمر إلّا في عصرها المناسب؟ وكيف يمكن تشخيص العصر المناسب لتلك البذور؟
41
إذاً فسواء استخدم الفقيه الطريقة الاُولى أو الطريقة الثانية لاستنباط الأحكام البديلة المناسبة لمقتضيات العصر الجديد فسوف يبتلي باستخدام الإدراك العقلي الحدسي في استنباط الأحكام.
وإنّما أعبّر بتعبير (الحدسي) لأنّ مثل هذا الإدراك العقلي لا يبلغ عادةً المستوى الذي يحصل به القطع واليقين بالنتائج المطلوبة، مع كون ملاكات الأحكام الشرعية مجهولة لدينا وتعبديّة محضة كما هو ثابت في محلّه، خصوصاً مع النظر إلى مفاد الروايات الكثيرة التي تؤكّد على أنّ دين الله لا يصاب بالعقول.
وقد قام أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام بحملةٍ شعواء ضدّ استخدام الإدراك العقلي لتشخيص الأحكام الشرعيّة ضمن الروايات التي وصلت إلينا بما يفوق مستوى التواتر.
وأرى من الضروري هنا استعراض عدد من تلك الروايات التي تنبّه بوضوح على قصور العقل البشري عن إدراك الأحكام الشرعيّة ومعرفة ملاكاتها وخلفياتها الملحوظة عند الشارع الأقدس سبحانه وتعالى.
فمنها: ما روي عن الإمام علي بن الحسين السجاد عليه الصلاة والسلام: أنّه قال: «إنّ دين الله لا يصاب بالعقول الناقصة، والآراء الباطلة، والمقاييس الفاسدة، ولا يصاب إلّا بالتسليم، فمن سلَّم لنا
42
سَلِم، ومن اهتدى بنا هُدي، ومن دان بالقياس والرأي هلك…» (بحار الأنوار / طبعة بيروت / ج٢ ص٣٠٣ / وتجده أيضاً في مستدرك الوسائل وغيره من مصادر عديدة).
ومنها: ما روي عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه الصلاة والسلام: «… يا أبان، إنّ السنّة إذا قيست محق الدين» (الكافي / طبعة دار الحديث / ج١ / باب البدع والرأي والمقاييس / ص١٣٤ / وفي مصادر اُخرى عديدة).
ومنها: ما ورد في دية أصابع المرأة عن أبان بن تغلب عن أبي عبد الله الصادق عليه الصلاة والسلام. بسند تام. قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام: «ما تقول في رجلٍ قطع إصبعاً من أصابع المرأة، كم فيها؟ قال: عشرة من الإبل، قلت: قطع اثنتين؟ قال: عشرون، قلت: قطع ثلاثاً؟ قال: ثلاثون، قلت: قطع أربعاً؟ قال: عشرون، قلت: سبحان الله، يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون، ويقطع أربعاً فيكون عليه عشرون، إنّ هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممّن قاله، ونقول: الذي جاء به شيطان، فقال: مهلاً يا أبان، هذا حكم رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنّ المرأة تُعاقل الرجل إلى ثلث الدية، فإذا بلغت الثلث رجعت إلى النصف، يا أبان إنّك أخذتني بالقياس،
43
والسنّة إذا قيست محق الدين» (وسائل الشيعة / الجزء ٢٩ / الصفحة ٣٥٢ / ومصادر عديدة اُخرى).
والشيء المهم في خصوص هذه الرواية أنّ الراوي كان قد حصل له القطع بمقتضى القياس والإدراك العقلي، ومع ذلك يلومه الإمام عليه السلام على قطعه هذا، وينبّهه على أنّه لا ينبغي حصول القطع بمثل القياس والإدراك العقلي، إذ قد يكون حكم الله تعالى على خلاف ذلك.
والمشايخ الثلاثة (الكليني، والصدوق، والطوسي) كلّهم نقلوا هذا الحديث، كما جاء في مصادر كثيرة اُخرى، فلا يبعد دعوى التواتر في نقل هذا الحديث لوحده، وحصول اليقين بصدقه.
ومنها: ما ورد من الحوار بين الإمام الصادق عليه الصلاة والسلام وبين أبي حنيفة ضمن روايات عديدة، وعبارات متفاوتة، واختلافات يسيرة في المضمون، وقد اشتمل هذا الحوار على عدّة نقوض أوردها الإمام عليه السلام على نظريّة القياس التي يقول بها أبو حنيفة في الأحكام الشرعيّة، ومن جملة تلك النقوض: أنّ الصلاة أعظم أو الصوم؟ فيقول أبو حنيفة: الصلاة، فيقول له الإمام إذاً ما بال المرأة الحائض تقضي صومها ولا تقضي صلاتها؟ وما هو الأعظم عند الله تعالى، الزنا أو قتل النفس؟ فيقول أبو حنيفة: قتل النفس، فيقول له
44
الإمام: إذاً فلماذا جعل الله تعالى في الزنا أربعة شهود وفي القتل اكتفى بشاهدين؟ (انظر: وسائل الشيعة / كتاب القضاء / أبواب صفات القاضي / الباب رقم ٦ / الأحاديث رقم ٢٥ و٢٧ و٢٨).
وتجد الكثير من أمثال هذه الروايات في الباب الذي عقده المرحوم الشيخ الكليني رضوان الله تعالى عليه في الكافي بعنوان (باب البدع والرأي والمقاييس). والباب الذي عقده الحرّ العاملي رحمه الله في وسائله بعنوان (باب عدم جواز القضاء بالحكم والرأي والاجتهاد والمقاييس ونحوها من الاستنباطات الظنيّة في نفس الأحكام الشرعيّة). والباب المنعقد في كتاب المحاسن بعنوان (باب المقاييس والرأي).
إلى غير ذلك من المصادر الكثيرة جدّاً، وهي بمجموعها تتجاوز حد التواتر قطعاً.
وسيكون موقف السيد الحيدري أمام هذه الروايات دائراً بين أمرين لا ثالث لهما:
الأوّل: أن ينكر الحاجة إلى الإدراك العقلي ويدّعي إمكان تحصيل الأحكام المناسبة للظروف والملابسات الحديثة من خلال أدلة الأحكام التي انتهى دورها بحسب رأيه بسبب اختلاف الظروف، من دون الابتلاء بالإدراكات العقلية.
45
والثاني: أن يسلّم بالحاجة إلى الإدراكات العقلية لاستنباط الأحكام البديلة عن الأحكام القديمة، ولكنه يقول بأنّ الروايات الراجعة إلى منع الأئمّة الأطهار عن استخدام الإدراك العقلي في التوصّل إلى الأحكام الشرعيّة هي بنفسها خاصّة بالظروف والملابسات القديمة والظروف المشابهة لها، وأما في الظروف والملابسات غير المشابهة لها كما هو كذلك في العصر الحديث فيجوز استخدام الإدراك العقلي في فهم الأحكام.
أمّا الأمر الأوّل فهو مرفوض بسبب ما نبّهنا عليه سابقاً من أنّه بعد التسليم الجدلي باختصاص الأحكام الصادرة في عصر التشريع أو اختصاص جملة منها بالظروف التي كانت حاكمة في ذلك العصر والظروف المشابهة لها، فستكون أمام الفقيه طريقتان لاستنباط الأحكام البديلة عن تلك الأحكام القديمة لأجل حفظ مقتضيات الظروف والملابسات الحديثة، وكلتا الطريقتين تمرّان بالإدراك العقلي شئنا أو أبينا، كما شرحنا ذلك بوضوح.
وأما الأمر الثاني فهو مرفوض أيضاً بسببين:
السبب الأوّل: أنّ ما ذكرناه في الخطوات السابقة (من أنّ أدلّة الأحكام الشرعية تشمل بإطلاقها جميع العصور وجميع الظروف
46
والملابسات ولا يجوز لنا تخصيصها بخصوص ظروف معيّنة إلّا بالموازين الشرعيّة في استنباط الأحكام في عصر الغيبة، ولا يوجد في تلك الموازين ما يوجب اختصاص أدلّة الأحكام بظروف معيّنة) يجري بعينه بشأن هذه الأدلّة الواردة بشأن القياس والإدراك العقلي.
والسبب الثاني: أنّ هذه الروايات هي بنفسها آبية عن الاختصاص بظروف عصرها والظروف المشابهة لها، لأنّها تدلّ بكلّ وضوح على أنّ العقل البشري بحسب الفطرة البشرية الموجودة عند كلّ البشر قاصر عن إدراك الأحكام الشرعية وتفاصيلها وملاكاتها وحدودها، لأنّ الأحكام الشرعية هي بذاتها تعبّديّة وملاكاتها مجهولة للناس، فلا يمكن إخضاع نفس هذه الروايات للنظرية التي يقول بها السيّد الحيدري من اختصاص أدلّة الأحكام أو الكثير منها بالظروف الاجتماعيّة التي كانت قائمة عند صدورها وبالظروف المشابهة لها دون الظروف الاجتماعيّة الاُخرى.
إذاً فلا يمكن للسيّد الحيدري أن يتخلّص من مشكلة القياس والاستحسان العقلي المنهي عنهما في مقام استنباط الأحكام البديلة التي لابدّ من الإفتاء بها في الظروف والملابسات الاجتماعية الجديدة.
47
الخطوة العاشرة
دور الحكم الولائي في هذه النظريّة
إنّ ما ذكرناه إلى حدّ الآن في الخطوات السابقة كانت مبنيّة على حمل كلمات السيّد الحيدري في نظريّته هذه على إرادة مقتضى الحكم الفتوائي، كما هو ظاهر ما اطلعنا عليه من كلماته في هذا المجال.
وقد يخطر ببال أحدٍ إمكان تصحيح نظريّته هذه التي نحن بصددها في هذا البحث بالتمسك بإعمال الحكم الولائي من قبل الفقه للتوصّل إلى الأحكام المناسبة لمقتضى الظروف والملابسات الجديدة في مثل العصر الحديث، وذلك بدعوى أنّ من حقّ الفقيه. بناءاً على نظريّة ولاية الفقيه في عصر الغيبة. أن يغيّر الأحكام بطريقة الحكم الولائي على طبق ما تستدعيه الظروف والملابسات الاجتماعية بحسب كلّ زمان ومكان.
48
ولكن هذا أيضاً خيال باطل، وذلك لأنّ أدلّة ولاية الفقيه في عصر الغيبة مختصّة بطبعها بالحالات التي لا تكون طاعة الفقيه فيها مستلزمة لطاعة المخلوق في معصية الخالق، لأنّ الارتكاز الذهني الموجود عند المتشرّعة بل عند عامّة الناس بشأن بطلان طاعة المخلوق في معصية الخالق يكون بدرجة من الوضوح والقوّة توجب المنع عن انعقاد الظهور الإطلاقي في أدلّة وجوب طاعة الفقيه لشمول الأوامر المنافية للأوامر الإلزاميّة الصادرة من الله تبارك وتعالى، فسيكون المستفاد من الأمر بطاعة الفقيه وجوب طاعته فيما لم يصدر فيه مسبقاً وجوب أو حرمة من الله تبارك وتعالى.
وفي ضوء هذا يظهر أنّ الفقيه ليس له حقّ الولاية إلّا في ثلاث مجالات فوّض الله تعالى فيها حقّ التشريع والتقنين إليه، من دون الابتلاء بمشكلة طاعة المخلوق في معصية الخالق، وهي عبارة عمّا يلي: المجال الأوّل: عبارة عن مجال تشخيص الموضوعات الخارجية خالياً عن التصرّف في مقتضى الحكم الإلهي.
توضيح ذلك: أنّ كثيراً من الأحكام التي شرّعها الله تبارك وتعالى قد أناطها بموضوعات كلية دخيلة في تلك الأحكام سلباً وإيجاباً، كإناطة حرمة آلات القمار مثلاً بكون الآلة معدّة لخصوص القمار،
49
وفي الواقع الخارجي تكون الآلات على قسمين فبعضها معدّة لخصوص القمار، وبعضها ليست كذلك، فمقتضى الحكم الإلهي في الأوّل عبارة عن حرمة تلك الآلة، وفي الثاني عبارة عن عدم حرمتها.
فبحسب المجال الأوّل من المجالات الثلاث للحكم الولائي لا يقوم الفقيه بالتصرف في مقتضى الحكم الإلهي، فلا يقوم بتحليل الآلة المعدّة لخصوص القمار، ولا بتحريم ما ليس معدّاً لخصوص القمار، وإنّما يقوم بإصدار الحكم الولائي في تشخيص القسمين فيما إذا وقع الإبهام في تشخيصهما، وهذا يستدعي طبعاً أن يقوم هو أوّلاً بتشخيص ذلك – ولو بمراجعة أهل الخبرة في ذلك – ثمّ يقوم بتحميل تشخيصه هذا وإلزامه على الناس بالحكم الولائي.
ومثل هذا أيضاً ما ثبت من إناطة حرمة بعض الألبسة بكونها موجبةً للتشبّه بالكفّار، فلا يقوم الفقيه. بحسب المجال الأوّل من مجالات الحكم الولائي. بالتصرّف في مقتضى الحكم الإلهي من تحريم ما أحلّه الله أو تحليل ما حرّمه، وإنّما يقوم بإصدار الحكم الولائي لتشخيص القسمين فيما إذا وقع الإبهام في تشخيصهما. إلى غير ذلك من الأمثلة المشابهة.
فالهدف من إصدار الحكم الولائي في هذا المجال الأوّل إخراج
50
الناس من الحيرة في تشخيص الموضوعات التي اُنيط بها الحكم الشرعي الإلهي.
وسيكون الحكم الولائي الصادر من الفقيه في هذا المجال على طبق ما ثبت عنده من الحكم الشرعي الإلهي، وليست طاعته من قبل الناس طاعةً للمخلوق في معصية الخالق، حتى وإن كان التشريع الإلهي السابق على الحكم الولائي عبارة عن حكم إلزامي.
وأنت ترى أنّ الحكم الولائي بقدر ما يجري في هذا المجال الأوّل لا يخدم النظريّة التي يطرحها السيّد الحيدري في تبدّل الأحكام الشرعيّة بأحكام اُخرى تناسب الظروف والملابسات العصريّة، لأنّ الأحكام الجديدة التي لابدّ لها أن تحتل محل الأحكام الشرعيّة بحسب رأيه لا تتمّ من خلال تشخيص الموضوعات الخارجيّة لتلك الأحكام الشرعيّة، ما لم يعيّن حدود تلك الأحكام الشرعيّة مسبقاً.
ففي مثل الأحكام الشرعيّة الراجعة إلى المرأة. التي يعتقد فيها الحيدري بأنّ تسعين بالمائة منها لابدّ وأن تخضع لهذه النظريّة. ليست المشكلة من حيث الأساس مشكلة الإبهام في التشخيص الخارجي للموضوعات الكلية الدخيلة في الأحكام الشرعيّة، حتى يُعمل الفقيه ولايته في تشخيصها، فمثلاً في حكم المرأة في الإرث، وحكمها
51
في الشهادة، وحكمها في الدية، وغير ذلك من أحكامها يحتاج الحيدري إلى إثبات كون هذه الأحكام الشرعيّة منوطة بموضوعات تتبدّل بتبدّل الظروف والملابسات الاجتماعيّة حتّى وإن لم تبتل تلك الموضوعات بالإبهام في تشخيصها سلباً وإيجاباً في الواقع الخارجي، فالمشكلة عنده إذاً تنبع من أصل فهمه للأحكام الشرعيّة بالنحو الذي يجعها تتبدّل بحسب الظروف والملابسات، ومجرد الحكم الولائي. بالقدر المطروح في هذا المجال الأوّل. لا يحل هذه المشكلة، بل لابدّ من حلّ هذه المشكلة عنده بما بحثناه بالتفصيل في الخطوات الماضية وأثبتنا عدم إمكان حلّها بما يريد.
والمجال الثاني: عبارة عن مجال تشخيص ما هو الأهمّ من الأحكام الشرعيّة المتزاحمة في مقام الامتثال، كما إذا وقع التزاحم بين امتثال وجوب دفع العدو وبين امتثال حرمة بعض المحرمات الشرعيّة الإلهيّة، كالمرور بالأرض المغصوبة، أو إتلاف الزرع التابع لمن لا يرضى بإتلافه، أو حتى قتل بعض الأبرياء فيما إذا كان دفع العدو مستلزماً لقتلهم، أو غير ذلك. إذ قد يقع الإبهام في تشخيص ما هو الأهمّ من هذين الحكمين المتزاحمين في الامتثال، فمن حقّ الفقيه في مثل ذلك إعمال ولايته على الاُمّة فيما يعتقد به من التشخيص في الأهميّة.
52
وهذا يستدعي طبعاً أن يعيّن رأيه مسبقاً في تشخيص الأهمّ من الحكمين المتزاحمين ولو بمراجعة أهل الخبرة في ذلك، ثمّ يقوم بإصدار الحكم الولائي على طبق ذلك.
وهذا في الحقيقة ليس مجالاً مستقلّاً عن المجال الأوّل في الحكم الولائي – وإن سمّيناه بالمجال الثاني – وذلك لأنّ الأحكام الشرعيّة الإلهية في حالات التزاحم تصبح منوطةً بصفة الأهميّة، وتصبح هذه الصفة من الموضوعات الدخيلة في الحكم سلباً وإيجاباً، وسيكون إعمال الولاية من قبل الفقيه في تحميل رأيه على الاُمّة في مثل ذلك تابعاً للمجال الأوّل الذي مضى شرحه.
وبهذا سيكون حال هذا المجال كحال المجال الأوّل في عدم قدرته على دعم النظريّة التي تؤمن بتغيير الأحكام الشرعيّة على طبق ما تتطلّبه الظروف والملابسات الاجتماعيّة الجديدة وذلك لما قلنا من أنّ هذه النظريّة تستدعي وضع أحكام جديدة على طبق الظروف والملابسات الجديدة، وليست المشكلة عندها مشكلة تشخيص الموضوعات الدخيلة في الأحكام الشرعيّة الإلهيّة كما وضّحناه.
والمجال الثالث: عبارة عن مجال المصالح الطارئة التي يراها الولي الفقيه ضروريّة للناس في زمان معيّن أو في مكان معيّن، من قبيل ضرورة تعيين أسعار السلع والأمتعة في السوق في بعض الظروف، ومن قبيل
53
ضرورة تعيين ضوابط معيّنة لنظام المرور في بعض الظروف أيضاً أو في ظروفٍ كثيرة، ومن قبيل ضرورة وضع ضرائب ماليّة معيّنة أحياناً زائداً على الضرائب الماليّة الثابتة في الشريعة الإسلاميّة من الأخماس والزكوات وغيرها.
ولكنّ حق الولاية للفقيه في هذا المجال يختص بدائرة المباحات الشرعيّة الإلهيّة، ولا يجري في دائرة الأحكام الإلزامية الإلهية، بمعنى أنّ ما كان حكمه الشرعي الإلهي إباحةً يمكن للفقيه أن يحوّل حكمه بالولاية إلى الإلزام من وجوبٍ أو حرمة، وأمّا ما كان حكمه الشرعي الإلهي إلزاماً من وجوبٍ أو حرمة، فلا حقّ للفقيه أن يحوّل حكمه بالولاية إلى الإباحة، وذلك لأنّ تحويل المباح إلى الإلزام لا يستلزم طاعة المخلوق في معصية الخالق، ولكن تحويل الإلزام إلى الإباحة يستلزم ذلك، وقد قلنا: إنّ شدّة ارتكاز بطلان طاعة المخلوق في معصية الخالق في أذهان المتشرّعة بل في أذهان عامّة الناس تمنع عن انعقاد الظهور الإطلاقي لأدلّة ولاية الفقيه لشمول حقّ الولاية لموارد الأحكام الإلزاميّة الصادرة من الله تبارك وتعالى، وهذا بخلاف موارد الإباحة الإلهيّة فإنّ تحويل حكمها من الإباحة إلى الإلزام بالحكم
54
الولائي لا يستلزم طاعة المخلوق في معصية الخالق، لأنّ الالتزام بالفعل المباح لا معصية فيه.
وبهذا يعرف إنّ إعمال حقّ الولاية من قبل الفقيه في حدود هذا المجال الثالث لا يحقّق أيضاً هدف القائلين بتبدّل الأحكام وفقاً للظروف والملابسات الاجتماعية الجديدة، وذلك لأنّ القائلين بهذه النظريّة لا يكتفون بتبديل الإباحات الإلهيّة بإلزاماتٍ ولائيّة عند تبدّل الظروف والملابسات الاجتماعيّة، ففي الأحكام الراجعة إلى المرأة مثلاً التي قال عنها السيّد الحيدري: إنّ تسعين بالمائة منها من هذا القبيل، نجد أنّ أكثرها تستدعي تبديل الأحكام الإلزامية الإلهيّة إلى إباحات، ومنها حكم الحجاب الذي صرّح فيه الحيدري بأنّ الحجاب الذي اُمرت به المرأة قبل أربعة عشر قرناً لا يناسب الظروف والملابسات التي نجدها اليوم في المجتمعات البشريّة، فلابدّ فيها من تبديل حكم الحجاب بالنحو المناسب لمستجدّات هذا العصر، وهذا يعني لزوم تغيير الحكم بوجوب ستر المرأة تمام بدنها عدى الوجه والكفين بحكمٍ آخر لا يشتمل على هذه الشدّة في الحجاب مراعاة للثقافة العصريّة في هذا الزمان، وهذا ما لا يمكن تصحيحه بالحكم الولائي قطعاً، لأنّه يستلزم تبديل الحكم الإلزامي الإلهي بالإباحة الولائية، وهو خارج عن حدود حقّ الولاية للفقيه كما ذكرنا.
55
وأكثر أحكام المرأة يكون من هذا القبيل.
وبالتالي قد ظهر أنّ هذه النظرية لا يمكن تصحيحها بالاستعانة بولاية الفقيه في عصر الغيبة بحسب كلّ المجالات التي فوّض الله تعالى فيها حقّ التشريع للفقيه.
وبهذا قد انتهينا من الخطوات التي أردنا عرضها للرد على النظرية المذكورة.
وبمجموع هذه الخطوات قد ظهر بطلان هذه النظريّة من جذورها، لأنّ الأحكام الشرعية لم تؤخذ فيها صفة معيّنة تجعلها خاصّة بالظروف والملابسات التي كانت قائمةً في أيّام تشريعها والظروف المشابهة لها فحسب، ولو سلمنا بذلك جدلاً احتجنا إلى طريقةٍ شرعيّة تبرّر الالتزام بأحكام اُخرى تطابق مقتضى الظروف والملابسات الاجتماعيّة الحديثة، وهذا بحسب الفتوى يصطدم بالإدراك العقلي الناقص المنهي عنه، وعليه فلا توجد طريقة شرعية لتبرير ذلك لا بموازين الحكم الفتوائي ولا بموازين الحكم الولائي.
بقيت لنا خاتمة لهذا البحث سنعرض فيها موجزا عن الخطوات العشر الماضية، مع نصيحة عامة ننصح بها قراءنا الأعزاء.
56
الخاتمة
وفي ختام هذا البحث اُقدّم لكم موجزاً عن الخطوات العشر الماضية ضمن النقاط التالية:
1. خصّصنا الخطوة الاُولى بتوضيح خاتميّة الرسالة الإسلامية، ودلالة ذلك على أن تشريعات هذه الرسالة لا تختصّ بمدّة زمانيّة معيّنة، وإلّا لم تكن الرسالة الإسلاميّة رسالةً خاتمة وكان لابدّ من إرسال رسل وأنبياء جُدد لبيان التشريعات الجديدة المناسبة لما بعد الزمان المعيّن لتشريعات هذه الرسالة.
2. وفي الخطوة الثانية نبّهنا على أنّ الأحكام الشرعيّة منصبّة عادةً على عناوين كليّة مأخوذة فيها، وهذا يعني ملازمة تلك الأحكام سلباً وإيجاباً لصدق تلك العناوين الكليّة، وبما أنّ تلك العناوين الكليّة لم تقيّد بزمان معيّن أو بظروف اجتماعيّة معيّنة، فسنعرف أنّ تلك الأحكام جارية لجميع الأزمنة مهما تغيّرت الظروف والملابسات الاجتماعية.
57
3. وفي الخطوة الثالثة وضّحنا أنّ التلازم الموجود سلباً وإيجاباً بين الأحكام الشرعيّة والعناوين الكليّة المأخوذة فيها لا ينافي إمكان تبدّل الوسائل والمقدّمات الوجودية لتحقيق تلك العناوين الكليّة، وليس على المكلّف أن يلتزم بالمقدمات والوسائل القديمة للتوصّل إلى العناوين الكليّة المطلوبة في الحكم.
4. وفي الخطوة الرابعة قمنا بتوضيح أنّ التلازم الموجود سلباً وإيجاباً بين الأحكام الشرعيّة والعناوين الكليّة المأخوذة فيها لا ينافي أيضاً إمكان تبدّل مصاديق تلك العناوين الكليّة، فالعنوان الكلّي بأيّ مصداقٍ من مصاديقه تحقّق يترتّب عليه حكمه، ولو لم يتحقّق بشيء من مصاديقه لم يتمّ ذلك الحكم، فالحكم الشرعي يدور مدار صدق العنوان الكلّي المأخوذ فيه وإن تغيّرت مصاديقه بحسب الظروف الخارجيّة.
5. وفي الخطوة الخامسة نبّهنا على أنّ الشيء المعيّن الذي لم يكن مصداقاً للعنوان الكلي المأخوذ في حكم من الأحكام في الزمان القديم قد يصبح مصداقاً لذلك العنوان الكلي في ظروف اجتماعيّة جديدة، فيترتّب عليه ذلك الحكم، سواء كان الحكم الذي ترتّب عليه في الظرف الاجتماعي الجديد متناسباً للمقتضيات العصريّة المحبّذة عند الناس في ذلك الظرف الاجتماعي الجديد أو لم يكن متناسباً لذلك.
58
6. وأمّا في الخطوة السادسة فقد أكّدنا على أنّ الظروف والملابسات الجديدة إن كانت تستدعي الخروج عن إطار العنوان الكلّي الذي عيّنه الشارع لحكمه. ولا تكتفي بمجرّد تغيير المقدّمات والوسائل التي تحقّق نفس العنوان الكلي المطلوب للشارع، ولا بمجرّد تغيير المصداق الخارجي لذلك العنوان الكلي، ولا بمجرّد اتباع حكم شرعي آخر تحقّق موضوعه في الظرف الجديد. فسيكون اتباع مقتضى تلك الظروف والملابسات الجديدة مستدعياً لابتداع حكم جديد ما أنزل الله به من سلطان، وهذا يدلّ على فساد تلك الظروف والملابسات الجديدة، ولابدّ من السعي نحو إصلاحها بدلاً عن اتّخاذ حكم جديد مستلزم للابتداع في الدين.
7. وأكّدنا في الخطوة السابعة على ضرورة تشخيص العنوان الكلّي الذي اختاره الشارع تبارك وتعالى لحكمه الشرعي بحسب موازين وضوابط استنباط الحكم الشرعي في عصر الغيبة، ولا يجوز دعوى كون العنوان الكلي عنواناً مناسباً لمقتضيات الظروف والملابسات الاجتماعية الجديدة من دون الخضوع لموازين استنباط الحكم الشرعي وضوابطه عند المتخصّصين في فن استنباط الأحكام.
8. وبما وضّحناه في الخطوات السابقة تهيّأ لنا الجو المناسب
59
للدخول في بحث (مدى تأثير الزمان والمكان على الأحكام الشرعيّة) وقد خصّصنا الخطوة الثامنة لهذا البحث، ووضّحنا فيها أنّ تأثير الزمان والمكان على الأحكام الشرعية ينحصر بثلاث مجالات وهي:
1) مجال تغيير المقدّمات والوسائل اللازمة لتحقيق العناوين الكليّة التي اختارها الله تعالى لأحكامه، وفي هذا المجال لا يتغيّر أصل الحكم الشرعي بتغيّر الزمان والمكان ولا بتغيّر الظروف والملابسات الاجتماعيّة.
2) مجال تغيّر المصاديق الخارجية للعناوين الكليّة التي اختارها لله تعالى لأحكامه، وفي هذا المجال أيضاً لا يتغيّر أصل الحكم الشرعي بتغيّر الزمان والمكان.
3) مجال تحوّل الشيء الخارجي من كونه مصداقاً لعنوان كلّي مأخوذٍ في حكمٍ شرعيٍ معيّن، إلى كونه مصداقاً لعنوان كلي مأخوذٍ في حكم شرعي آخر، وهذا هو أهمّ ما يراد بفكرة تأثير الزمان والمكان في الأحكام الشرعيّة. وبلحاظ هذا المجال نبّهنا على اُمور ثلاثة:
(1) أنّ الحكم الشرعي الجديد الذي يحصل في هذا المجال لا يكون دائماً في صالح مقتضى الظروف والملابسات الاجتماعيّة الحديثة، بل قد يكون منافياً ومضادّاً له.
60
(2) أنّ مثل هذا التأثير للزمان والمكان على الحكم الشرعي لا يختص بحالات تغيّر الظروف والملابسات الاجتماعيّة، بل قد يحصل بتغيّر شيء بسيط في حالةٍ خاصّة.
(3) أنّ مثل هذا التأثير للزمان والمكان على الحكم الشرعي يحتاج إلى دليل شرعيّ لإثبات دخالة صفة معيّنة للشيء الخارجي سلباً وإيجاباً في الحكم المترتّب على ذلك الشيء حتى يتبدّل حكمه بتبدّل تلك الصفة، وهذا ما لا يمكن إثباته جزافاً واعتباطاً، بل لابدّ فيه الرجوع إلى الأدلّة الشرعية بحسب الموازين والضوابط الصحيحة لاستنباط الأحكام عند المتخصصين بهذا الفن.
وبهذه الاُمور الثلاثة يظهر أنّه لا يمكن التمسّك بفكرة تأثير الزمان والمكان على الأحكام الشرعية لإثبات النظريّة القائلة باختصاص الأحكام الشرعيّة بزمان صدورها وتبديلها بتبدّل الظروف والملابسات الاجتماعيّة في زمان آخر.
9. والأمر المهم الذي وضّحناه في الخطوة التاسعة عبارة عن أنّ تعيين الأحكام الجديدة التي لابدّ منها بمقتضى الظروف والملابسات الاجتماعية الجديدة بحسب النظريّة المذكورة، سيمر حتما بالإدراك العقلي الناقص الذي ورد النهي عن التمسك به في الروايات المتواترة
61
من الأئمة الأطهار عليهم الصلاة والسلام، ولا يمكن إخضاع نفس هذه الروايات لمفاد النظرية المذكورة التي تجعل الأحكام الصادرة في الظروف القديمة خاصّةً بتلك الظروف القديمة، كما وضّحنا ذلك في هذه الخطوة.
10. وبما ذكرناه في الخطوات السابقة لم يبق مما ينبغي عرضه لاكتمال الردّ على النظريّة المذكورة سوى ما عرضناه في الخطوة العاشرة من عدم إمكان تصحيح النتائج المطلوبة في هذه النظريّة بالتمسّك بالأحكام الولائيّة من قبل الفقيه، لأنّ المجالات التي فوّض فيها الشارع تبارك وتعالى حقّ التشريع والتقنين إلى الفقيه في زمان غيبة الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف منحصرة بثلاثة مجالات، ولا يوجد فيها ما يمكن أن نصحّح به النتائج التي يريدها صاحب النظريّة المذكورة.
وأخيراً:
اُوجّه خطابي إلى جميع أعزاءنا وإخواننا المؤمنين من قراء هذا البحث، وخصوصا من كان منهم في سلك طلبة الحوزة العلميّة، لأقول لهم جميعا: إيّاكم والاغترار باسم شخصٍ معيّن ورسمه في الأوساط العلميّة، واحذروا أشدّ الحذر من الانخداع بالنظريّة الشاذّة
62
التي تؤدّي إلى تغيير أكثر المباني الفقهيّة المسلّمة عند عامّة الفقهاء رأساً على عقب، وضعوا في بالكم الاحتمال. على أقلّ تقدير. لكون إصرار صاحب النظريّة على نظريّته المنافية للمباني الفقهيّة المسلّمة نابعاً من عجبه وغروره وأنانيّته لا سمح الله تعالى، وعلينا جميعاً أن نستعيذ بالله العلي العظيم من الابتلاء بهذه الصفات الذميمة التي قد توجب سقوط الإنسان إلى الحضيض، كما حصل لكثير ممّن ابتلى بهذه الصفات في التاريخ القديم ولبعض من ابتلى بها في تاريخنا المعاصر أيضاً، وهذا ما اخشاه على صاحب النظريّة التي بحثناها في دراستنا النقديّة هذه.
وأسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل أعمالنا ونيّاتنا خالصةً لوجهه الكريم، ويمنّ علينا بالتوفيق والقبول، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
١٢/ جمادى الثانية/ ١٤٤٢هـ
علي الأكبر الحائري
63