مباني موجز أحكام الحجّ
مباني موجز أحكام الحجّ
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف
الحمد لله ربّ العالمين, وأفضل الصلوات والتحيّات على خير خلقه وأشرف بريّته محمّد وآله الطيبين الطاهرين.
انطلاقاً من الواجب العقليّ الرساليّ تجاه الأحكام الشرعيّة الإلهيّة التي شرّعها الله تبارك وتعالى لتنظيم حياة البشريّة فرديّاً واجتماعيّاً والارتفاع بها إلى حضيرة السعادة والرفاه في دار الدنيا قبل دار الآخرة, انبرى الفقهاء من أتباع أهل البيت عليهم الصلاة والسلام منذ بدايةعصر الغيبة الكبرى إلى زماننا هذا لاستنباط تفاصيل تلك الأحكام وتحديد أبعادها الخاصّة والعامّة من أدلّتها التفصيليّة الواردة في الكتاب والسنة, بحسب ما اُوتوا من التخصّص العلمي الرفيع في هذا المجال, فكان التراث العلميّ الضخم الواصل إلينا في علمي الفقه والاُصول ناتجاً من جهودهم المضنية المتواصلة على طول الخطّ لأداء هذا الواجب الرسالي العظيم.
ومن جملة مانجده في هذا التراث العظيم ما قدّمه علمائنا الأخيار رضوان الله تعالى عليهم من الكتب والمؤلّفات القيّمة في تفاصيل أحكام حجّ بيت الله الحرام, سواء ماكان منها على مستوى البحث العلميّ الاستدلاليّ, أو
5
على مستوى عرض الفتاوى والآراء التي توصّل إليها المؤلّفون القائمون بهذه المهمّة, ومنها ماقدّمه اُستاذنا الشهيد العظيم آية الله العظمى السيّد محمّد باقر الصدر قدّس سرّه تحت عنوان (موجز أحكام الحجّ).
وقد وفّقني الله تبارك وتعالى لمتابعة آراء هذا الرجل العظيم في كتابه هذا من خلال تدريسي المتواضع لبحث الحجّ لطلاب العلوم الدينيّة في النجف الأشرف وفقاً لمتن هذا الكتاب الجليل, بدءاً بتاريخ: 9/شوّال المكرم/1428 الهجريّة, وذلك بإرجاع النتائج الفقهيّة التي توصّل إليها في هذا الكتاب إلى أدلّتها التفصيليّة المطروحة في مصادرها الأوّليّة المعروفة, وتقييمها الموضوعيّ في ضوء تلك الأدلّة, والخروج منها بالنتائج التي كنت أنتهي إليها وفق جهودي وتصوّراتي القاصرة عن فهم تلك الأدلّة.
وقد كنت اُثبّت حصيلة أبحاثي غالباً ـ ولو بصورة موجزة أو قاصرة ـ في أيام التدريس التي يمضي عليها اليوم حوالي ثلاث سنوات, ولكنّي لم أكتف بما أثبتّه ذاك الحين, بل صرت اُجدّد كتابة تلك الأبحاث أخيراً بعد تجديد النظر فيها, وإضافة ماينبغي إضافته عليها, وتعميق ماينبغي تعميقه منها, إلى غير ذلك من التغييرات اللازمة فيها, فكان الذي بين يديك معبّراً عن قسم من تلك الأبحاث بعد تلك التغييرات مسمّياً إيّاه باسم (مباني موجز أحكام الحجّ).
6
ولـمّا كان هذا أوّل إنتاج علميّ تفصيليّ لي يخرج إلى النور في مجال علم الفقه, لهذا أقدّم يد الاستعانة والاستمداد إلى جميع أرباب العلم والفضيلة لتوضيح أخطائي وقصوري فيه, ولهم المنّة وعليّ الامتنان.
وأخيراً أسال الله تبارك وتعالى أن يبعث ثواب هذا الجهد المتواضع ـ إن كان قد قدّر لي فيه الثواب ـ إلى روح اُستاذنا الشهيد العظيم قدّس سرّه, ويوفّقني لإكماله وإتمامه, إنّه وليّ التوفيق.
22/شوال المكرّم/1431الهجريّة
علي الأكبرالحائري
7
8
حِجّةُ اللإسلام وُجوبُها وشُروطُها حجّة الإسلام من أهمّ الواجبات في الشريعة الإسلاميّة التي ثبت وجوبها بالضرورة (1), ونصّ عليه الكتاب العزيز: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾1
آل عمران: 97.
.

وجوب الحجّ من ضروريّات الدين
(1) لا شكّ في أنّ وجوب الحجّ من ضروريّات الدين, ولعلّه رحمه الله أراد بذلك الإشارة إلى ما اشتهرمن أنّ إنكار ضروريّ من ضروريّات الدين يوجب الكفر, ولا يخفى أنّه إنّما يوجب الكفر فيما إذا استلزم إنكارَ رسالة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم, فإذا كان إنكار إحدى ضروريّات الدين بسبب شبهةٍ معيّنة, أو بسبب ابتعاده عن الأجواء الدينيّة إلى درجةٍ لم تبلُغه هذه الضرورة, أو نحو ذلك ممّا لا يستلزم إنكار رسالة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم, فهو غير موجبٍ للكفر. هذا بحسب القواعد العامّة, وأمّا اعتبار ترك الحجّ أو إنكاره كفراً بالأدلّة الخاصّة فسيأتي الكلام عنه.

  • آل عمران: 97.
9
و قد عبّر في الآية الكريمة عن ترك الحجّ بالكفر تأكيداً لأهمّيته(1).
هل إنّ ترك الحجّ يساوق الكفر؟
(1) لا شكّ في أنّ ما جاء في ذيل الآية الكريمة تأكيد لأهميّة الحجّ, ولكنّه هل يدلّ على مساوقة ترك الحجّ للكفر أو لا يدلّ على ذلك؟
ذكر السيّد الخوئي رحمه الله حسب ما جاء في تقرير بحثه: «أنّ الظاهر من قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ أن من كفر بأسبابه وكان كفره منشأً لترك الحجّ فإنّ الله غنيّ عن العالمين, لا أنّ إنكار الحجّ يوجب الكفر, فإنّ الذي يكفر يترك الحجّ طبعاً لأنّه لا يعتقد به» .1
موسوعة الإمام الخوئي: الجزء 26/ الصفحة 4.
ولكنّ هذا التفسير للآية الكريمة لا يعدو أن يكون تأويلاً لظاهرها, فإنّ ظاهر هذه الآية بحسب سياقها أنّها عبّرت عن ترك الحجّ بالكفر, كما جاء في المتن, ولكنّ الظاهر أنّه من باب التنزيل لا من باب التسوية الحقيقيّة بين ترك الحجّ والكفر بالله تبارك وتعالى, وذلك من قبيل التعبير عن المهدوم عليه الدار بأنّه شهيد, والتعبير عن المرأة التي تموت في حال الطلق بأنّها شهيدة, فإنّ هذا التعبير لا يعني كونهما شهيدين حقيقةً بحيث يترتّب عليهما أحكام الشهيد,

  • موسوعة الإمام الخوئي: الجزء 26/ الصفحة 4.
10
وإنّما يعني تنزيلهما منزلة الشهيد, وكذلك في المقام, فتكون الآية دالّةً على تنزيل ترك الحجّ منزلة الكفر.
وهناك روايات عديدة بهذا الصدد1
الوسائل: الباب 7 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه.
نحملها أيضاً على محمل التنزيل لا على محمل التسوية الحقيقيّة بين ترك الحجّ وبين الكفر.
ولا يخفى أنّ مثل هذا التنزيل لا يؤدّي إلى حكومة دليله على أدلّة الأحكام المترتّبة على المنزّل عليه, بناءً على اشتراط ناظريّة الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم, كما عليه اُستاذنا الشهيد رحمه الله, فإنّ تنزيل ترك الحجّ منزلة الكفر ليس ظاهراً في النظر إلى الأحكام الفقهيّة المترتّبة على الكفر, كبينونة زوجته عنه, وعدم توارثه من أبيه المسلم, وغير ذلك, وإنّما هو ظاهر في النظر إلى الآثار الاُخرويّة, أو أثر الابتعاد عن رحمة الله, أو نحو ذلك. كما أنّ تنزيل المهدوم عليه الدار منزلة الشهيد ليس ظاهراً في النظر إلى الأحكام الفقهيّة المترتّبة على الشهيد, كعدم الحاجة إلى التغسيل والتكفين, وإنّما هو ظاهر في النظر إلى مثل الآثار المعنويّة والأُخرويّة.
وأمّا بناءً على عدم اشتراط ناظريّة الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم ـ كما عليه المشهور ـ فلابدّ من الالتزام بترتيب الأحكام الفقهيّة للكفر على ترك

  • الوسائل: الباب 7 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه.
11
الحجّ, أو رفع اليد عن ذلك بدعوى الضرورة الفقهيّة, أو الانصراف الحاصل بمناسبات الحكم والموضوع, أو نحو ذلك من الأعذار, كما هو كذلك أيضاً في مثل ما نُزّل منزلة الشهيد.
هذا كلّه بلحاظ الأدلّة التي عبّرت عن ترك الحجّ بالكفر.
وأمّا ما دلّ على عدّ إنكار الحجّ كفراً ـ كما قد يستفاد ذلك من صحيحة عليّ بن جعفر التي جاء فيها: «قلت: فمن لم يحجّ منّا فقد كفر؟ قال: لا، ولكن من قال: ليس هذا هكذا فقد كفر»1
الوسائل: الباب 2 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه / الحديث 1.
ـ فهو بالإضافة إلى كونه شاهداً ومؤيّداً لما ذكرناه من عدم كون مجرّد ترك الحجّ مساوياً للكفر بالمعنى الحقيقي، لا دلالة فيه على كون إنكار وجوب الحجّ بإطلاقه مساوياً للكفر، فإنّ مناسبات الحكم والموضوع توجب تفسيره بأنّ إنكار وجوب الحجّ إن كان مستلزماً لإنكار رسالة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بسبب كونه من ضروريات الدين فهو كاشف عن الكفر.

  • الوسائل: الباب 2 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه / الحديث 1.
12
و يعتبر الحجّ أحد الأركان التي بُني عليها الإسلام, فقد جاء في الحديث عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام أنّه قال: «بني الإسلام على خمسة: على الصلاة, والزكاة, والحجّ, والصوم, والولاية»1
وردت هذه الرواية في كتاب الوسائل, الباب الأوّل من أبواب مقدّمة العبادات. وورد ما يقارب هذا المضمون ـ مما يجعل الحجّ أحد أركان الإسلام ـ في روايات كثيرة عن طريق السنة والشيعة, ولعلّها تبلغ حدّ التواتر.
وترك هذا الواجب معصية كبيرة(1)
ترك الحجّ من المعاصي الكبيرة
(1) لا شكّ أن ترك الحجّ عالماً عامداً من المعاصي الكبيرة بناءً على أنّ الكبائر هي ما أوعد الله تعالى عليها العذاب في القرآن الكريم, فإنّ التعبير عنه بالكفر يتضمّن هذا الوعد بالأولويّة, كما أنّه إن كان نابعاً عن الاستخفاف بالحجّ فهو مشمول لما دلّ على عدّ هذا الاستخفاف من الكبائر2
الوسائل: الباب 46 من أبواب جهاد النفس / الحديث 33 و36.
كما أنّ ما دلّ على عدّ ترك كلّ شيءٍ ممّا فرض الله عز وجل بصورة عامّة من الكبائر3
نفس المصدر الحديث 2.
يكون شاملاً لترك الحجّ بالضرورة.
وقد ادّعى السيّد الخوئي رحمه الله ـ حسب ما جاء في تقرير بحثه ـ ورودَ

  • وردت هذه الرواية في كتاب الوسائل, الباب الأوّل من أبواب مقدّمة العبادات. وورد ما يقارب هذا المضمون ـ مما يجعل الحجّ أحد أركان الإسلام ـ في روايات كثيرة عن طريق السنة والشيعة, ولعلّها تبلغ حدّ التواتر.
  • الوسائل: الباب 46 من أبواب جهاد النفس / الحديث 33 و36.
  • نفس المصدر الحديث 2.
13
نصوص تدلّ على عدّ ترك الحجّ عمداً من الكبائر1
موسوعة الإمام الخوئي: الجزء 26/ الصفحة 6.
ولكنّي لم أرَ في النصوص ما يصرّح بذلك بوجهٍ خاص, نعم ورد فيها الإطلاقات التي أشرنا إليها, وما جاء في عنوان الاستخفاف بالحجّ لا مجرّد ترك الحجّ عمداً, وما ورد في تنزيل ترك الحجّ منزلة الكفر بالله تبارك وتعالى.

  • موسوعة الإمام الخوئي: الجزء 26/ الصفحة 6.
14
 وإنكار وجوبه يعني عادةً إنكار الشريعة الإسلاميّة(1) فيكون كفراً.
1ـ وما هي حجّة الإسلام؟
ـ هي الحجّة التي تجب في العمر مرّةً واحدةً(2) على كلّ إنسانٍ تتوفّر فيه شرائط معيّنة يأتي استعراضها.

(1) يعني إنكار رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والتعبير بكلمة (عادةً) إشارة إلى أنّ إنكاره قد لا يعني إنكاراً للشريعة الإسلاميّة, وذلك لشبهةٍ ونحوها, وهو حينئذٍ لا يكون كفرا, كما أشرنا إليه سابقاً.
وجوب الحجّ مرّة واحدة في العمر
(2) وردت روايات عديدة تدلّ على أنّ الواجب من الحجّ مرة واحدة فقط1
الوسائل: باب 3 من أبواب وجوب الحجّّ.
وفي مقابلها روايات عديدة أيضاً تدلّ على أنّ وجوب الحجّ يكون في كلّ عام.2
نفس المصدر: الباب2.
أمّا الطائفة الاُولى فهي مطلقة شاملة لكلّ من تتوفّر فيه الاستطاعة الشرعيّة سواء كان من أهل الجدة أو لم يكن, وأمّا الطائفة الثانية فبعضها مطلقة, وبعضها خاصّة بأهل الجدة.

  • الوسائل: باب 3 من أبواب وجوب الحجّّ.
  • نفس المصدر: الباب2.
15
وقد اختلفت مواقف الأصحاب تجاه هاتين الطائفتين من الروايات:
فمنهم من حمل الطائفة الاُولى على الوجوب العيني والطائفة الثانية على الوجوب الكفائي, كما فعله صاحب الوسائل رحمه الله1
نفس المصدر: الباب2.
مستشهداً بما ادعى دلالته على عدم جواز تعطيل الكعبة عن الحجّ ووجوب إجبار الناس عليه وإن لم يكن لهم مال وغير ذلك.
ومنهم من حمل الطائفة الثانية ـ أو بعضها على أقلّ تقدير ـ على إرادة الوجوب على طريق البدل بمعنى أنّ من وجب عليه الحجّ في السنة الاُولى فلم يفعل وجب في الثانية, فإن لم يفعل وجب في الثالثة, وهكذا. وقد اختاره الشيخ الطوسي رحمه الله في تفسير ما ورد بشأن أهل الجدة.2
التهذيب: الباب الأوّل من كتاب الحجّ, ذيل الحديث48.
ومنهم من أفتى على طبق الطائفة الثانية في خصوص أهل الجدة, وهو الشيخ الصدوق رحمه الله بحسب نقل صاحب الوسائل رحمه الله عن كتاب العلل.3
الوسائل: الباب 3 من أبواب وجوب الحجّ, ذيل الحديث3.
وقد اعتبر عدد من الأصحاب هذا الرأي مخالفاً للإجماع, بل عدّه بعضهم مخالفاً للضرورة وللسيرة القطعيّة المستمرّة كالسيّد الخوئي رحمه الله.4
موسوعة الإمام الخوئي: الجزء 26 / الصفحة 6.
وأضاف السيّد

  • نفس المصدر: الباب2.
  • التهذيب: الباب الأوّل من كتاب الحجّ, ذيل الحديث48.
  • الوسائل: الباب 3 من أبواب وجوب الحجّ, ذيل الحديث3.
  • موسوعة الإمام الخوئي: الجزء 26 / الصفحة 6.
16
الخوئي رحمه الله بعد دعوى الإجماع والسيرة والضرورة قوله «على أنّه لو كان واجباً بأكثر من مرّة واحدة في العمر لظهر وبان, وكيف يخفى وجوبه على المسلمين مع أنّه من أركان الدين ومما بني عليه الإسلام».1
نفس المصدر: الصفحة7.
أمّا حمل الطائفة الاُولى على الوجوب العيني والطائفة الثانية على الوجوب الكفائي فهو جمع تبرّعي لا دليل عليه, ومجرّد دلالة بعض الروايات على عدم جواز تعطيل الكعبة عن الحجّ أو وجوب إجبار الناس عليه لو تمّ لا يكفي لحمل ما دلّ على وجوب الحجّ في كلّ عام على الوجوب الكفائي وبالأخص ما كان منها خاصّاً بأهل الجدة, إذ لا تنافي بين الوجوب العيني لأهل الجدة في كلّ عام وبين عدم جواز تعطيل الكعبة عن الحجّ ووجوب إجبار الناس عليه لو قُدّر التعطيل بدون الإجبار.
وأمّا حمل الطائفة الثانية على إرادة الوجوب على طريق البدل بالمعنى المذكور فهو خلاف الظاهر جدّاً بل لعلّ بعض تلك الروايات آبية عن هذا الحمل نهائيّاً.
وأمّا دعوى قيام الإجماع والسيرة والضرورة على خلاف مفاد الطائفة الثانية وأنّه لو كان واجباً بأكثر من مرّة في العمر لظهر وبان, فهي لو تمّت لزم

  • نفس المصدر: الصفحة7.
17
رفع اليد عن الطائفة الثانية للقطع ببطلانها بغضّ النظر عن أمثال هذه المحامل التي ذكرها الأصحاب لتوجيه هذه الطائفة, نعم يبقى حملها على كلّ واحد من هذه المحامل محتملاً في حدّ ذاته لو لم تكن آبيةً عن ذلك.
و من جملة المحامل المحتملة ما رجّحه السيّد الخوئي رحمه الله من كون هذه الروايات «ناظرةً إلى ما كان يصنعه أهل الجاهليّة من عدم الإتيان بالحجّ في بعض السنين لتداخل بعض السنين في بعض بالحساب الشمسي, فإنّ العرب كانت لا تحجّ في بعض الأعوام وكانوا يعدّون الأشهر بالحساب الشمسي, ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾1
التوبة: 37.
وربّما لا تقع مناسك الحجّ في شهر ذي الحجّة, فأنزل الله تعالى هذه الآية ردّاً عليهم بأنّ الحجّ يجب في كلّ عام وأنّه لا تخلو كلّ سنة عن الحجّ»2
موسوعة الإمام الخوئي: الجزء 26/ الصفحة9.
وإن كان لا يخلو هذا الحمل عن بعض المبعّدات أيضاً, إذ أنّه تارة يفترض أنّ أهل الجاهليّة كانوا يتركون الحجّ نهائيّاً في السنوات التي يخرج فيها موسم حجّهم الشمسي عن شهر ذي الحجّة, واُخرى يفترض أنّهم إنّما كانوا يتركون الحجّ في تلك السنوات في شهر ذي الحجّة ولا يتركونه نهائيّاً بل يؤدّونه في موسمهم الشمسي.

  • التوبة: 37.
  • موسوعة الإمام الخوئي: الجزء 26/ الصفحة9.
18
أمّا على الفرض الأوّل فالمناسب أن لا يكتفي في هذه الروايات ـ على فرض كونها ناظرة إلى ما كان يصنعه أهل الجاهليّة ـ بالتأكيد على وجوب الحجّ في كلّ عام, بل لابدّ من إضافة الإشارة إلى ضرورة كونه في شهر ذي الحجّة, لأنّهم لو لم يتركوا الحجّ لربّما حجّوا في غير ذي الحجّة في تلك السنوات.
وأمّا على الفرض الثاني فليس المناسب أصلاً التأكيد على وجوب الحجّ في كلّ عام, لأنّهم يحجّون في كلّ عام حسب الفرض, بل المناسب التأكيد على ضرورة إيقاع الحجّ في شهر ذي الحجّة.
هذا بالإضافة إلى أنّه على كلا الفرضين لا مناسبةَ لاختصاص مفاد جملة من هذه الروايات بأهل الجدة بناءً على كونها ناظرة إلى ما كان يصنعه أهل الجاهليّة. كما أنّ صدور هذه الروايات عن الأئمة المتأخرين يورث أيضاً استبعاد كونها ناظرةً إلى ما كان يصنعه أهل الجاهليّة.
وعلى كلّ حال فتارة نبحث في وجه الجمع بين الطائفتين المذكورتين من الروايات بحسب القواعد العامّة وبقطع النظر عن دعوى الإجماع والسيرة والضرورة الفقهيّة وما أشبهها ممّا يُدّعى كونها مورثةً للقطع بعدم وجوب الحجّ لكلّ شخصٍ أكثر من مرّة واحدة في حياته حتى وإن كان من أهل الجدَة, وتارة نبحث في حكم المسئلة في ضوء الدعوى المذكورة من الإجماع والسيرة والضرورة ونحوها.
19
أمّا وجه الجمع بين الطائفتين بحسب القواعد العامّة فالظاهر أنّه منحصر بما نقل عن الشيخ الصدوق رحمه الله من وجوب الحجّ لأهل الجدة في كلّ عام. وذلك لأنّ ما دلّ على وجوب الحجّ في كلّ عام لخصوص أهل الجدة صالح لتقييد كلٍّ ممّا دلّ على عدم وجوب الحجّ أكثر من مرّة واحدة مطلقاً سواء كان من أهل الجدة أو من غيرهم, كما هو صالح أيضاً لتقييد ما دلّ على وجوب الحجّ في كلّ عام مطلقاً سواء كان من أهل الجدة أو من غيرهم, على فرض صحّة أسانيدها جميعاً.
أمّا تقييده لما دلّ على عدم وجوب الحجّ أكثر من مرّة واحدة مطلقاً فلأنّهما مختلفان في السلب والإيجاب, والنسبة بينهما نسبة الإطلاق والتقييد, فيتمّ حمل المطلق على المقيّد بحسب القواعد العامّة للجمع العرفي.
وأمّا تقييده لما دلّ على وجوب الحجّ في كلّ عام مطلقاً فلأنّهما وإن كانا موجبين معاً ولكنّنا نعلم بأنّهما ناظران إلى تشريع واحد لا إلى تشريعين متعدّدين, إذ لو كان قد صدر من الشارع تبارك وتعالى وجوب الحجّ في كلّ عام فهو تشريع واحد إمّا مقيدٌ بأهل الجدة أو مطلق شامل لغير أهل الجدة, وليس هناك تشريعان صادران من الله تبارك وتعالى لوجوب الحجّ في كلّ عام: أحدهما مقيّد بأهل الجدة والآخر مطلق شامل لغير أهل الجدة, بحيث يجتمع على أهل الجدة وجوبان للحج في كلّ عام, فإنّ هذا باطل قطعاً وغير محتمل
20
أصلاً. وعليه يقع التعارض بين ما قيّد بأهل الجدة وبين ما هو مطلق شامل لأهل الجدة وغيرهم, ولابدّ من حمل المطلق على المقيّد بحسب قواعد الجمع العرفي.
وليس شيء من وجوه الجمع الاُخرى التي ذكرت في ألسنة الأصحاب صحيحاً بحسب القواعد العامّة.
نعم لو كان ما دلّ على وجوب الحجّ في كلّ عام قد ورد بلسان صيغة فعل الأمر مثل كلمة (حجّوا) لا بلسان مادّة الوجوب مثل (يجب الحجّ) لكان بالإمكان دعوى أنّ الجمع العرفي بينه وبين ما دلّ على عدم وجوب الحجّ أكثر من مرّة واحدة يقتضي حمل الأوّل على الاستحباب, وذلك لأنّ الثاني أقوى ظهوراً في إرادة عدم الوجوب من ظهور فعل الأمر في إرادة الوجوب فيتقدّم عليه على أساس أقوائيّة الظهور. ولكن بما أنّ الأوّل لم يأت بلسان صيغة فعل الأمر القابلة للحمل على الاستحباب وإنمّا أتى بلسان «وَجَب» أو «فرض» أو ما شابه ممّا يصعب حمله على إرادة غير الوجوب, فلا يبعد نفي أقوائيّة ظهور الثاني في عدم الوجوب عن ظهور هذا في الوجوب, خصوصاً فيما إذا كان ظهور الدالّ على الوجوب مقيّداً بأهل الجدة ـ كما هو كذلك في أكثر هذه الروايات ـ وظهور ما دلّ على عدم الوجوب مطلقاً, إذ لا شكّ في أنّ الدلالة الإطلاقيّة في الثاني على عدم الوجوب ليست بأقوى من دلالة الأوّل على
21
الوجوب في مورد القيد المذكور فيه, بل العكس هو الصحيح, إذاً فلا مناص من حمل المطلق على المقيّد في المقام بحسب القواعد العامّة للجمع العرفي, وستكون النتيجة مطابقاً لما أفتى به الشيخ الصدوق رضوان الله تعالى عليه كما ذكرنا. هذا بناءً على غضّ النظر عن دعوى الإجماع والضرورة ونحوهما على عدم وجوب الحجّ في كلّ عام.
وأمّا في ضوء دعوى الإجماع والضرورة ونحوهما على ذلك فلو سلّمنا بمثل الإجماع والضرورة ونحوهما على عدم وجوب الحجّ في كلّ عام حتى لأهل الجدة فسيحصل القطع ببطلان ما دلّ على وجوب الحجّ في كلّ عام سواء لأهل الجدة أو لغيرهم ويلزم رفع اليد عن ذلك على أساس القطع ببطلانه من دون حاجة إلى شيء من وجوه الجمع الماضية.
ولكنّ التسليم بذلك حتى لأهل الجدة صعب مستصعب, وذلك لأنّ القدر المتيقّن من متعلّق الإجماع المذكور والضرورة المذكورة ونحوهما عدم وجوب الحجّ أكثر من مرّة واحدة لعموم الناس بحيث يشمل غير أهل الجدة ممّن تمّت له الاستطاعة الشرعيّة, أمّا في خصوص أهل الجدة فقيام الإجماع والضرورة ونحوهما على عدم وجوب الحجّ بشأنهم أكثر من مرّة غير واضح, حيث إنّ ما وصلنا من المتون الفتوائية لقدماء أصحابنا قدّس الله تعالى أسرارهم بعضها لم يتعرّض لوجوب الحجّ أكثر من مرّة نفياً ولا إثباتاً كالمقنعة
22
للشيخ المفيد قدس سره, وبعضها تعرّض لذلك نافياً وجوبه أكثر من مرّة من دون ذكر أهل الجدة وغيرهم مما يورث احتمال كونه ناظراً إلى الوجوب الثابت على عامّة الناس, كما في (جُمل العلم والعمل) للسيّد المرتضى رضوان الله تعالى عليه1
سلسلة: الينابيع الفقهيّة. العدد السابع. الصفحة 103.
. والظاهر أنه لا يوجد التصريح بعدم وجوب الحجّ أكثر من مرّة حتّى لأهل الجدة من أحد من الأصحاب قبل الشيخ الطوسي رضوان الله تعالى عليه, في حين أنّ فيهم من صرّح بوجوب الحجّ في كلّ عام لأهل الجدة وهو الشيخ الصدوق رحمه الله كما عرفت.
وأمّا المتون الروائيّة فقد عرفت التضارب الموجود فيها, والظاهر أنّ ما وصلنا من الروايات الدالّة على وجوب الحجّ في كلّ عام أكثر بكثير ممّا وصلنا من الروايات الدالّة على عدم وجوب الحجّ أكثر من مرّة, ففي كتاب الوسائل مثلاً تجد عدد الروايات من الطائفة الاُولى ـ بما فيها ممّا اختصّ بأهل الجدة وما لم يختصّ ـ يبلغ الست, بينما الروايات الواردة فيه من الطائفة الثانية لا تتجاوز الثلاث2
اُنظر كتاب الوسائل الباب الثاني والثالث من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه.
.
وعلى كلّ حال فإنّنا بعد النظر والتأمّل في المتون الفتوائيّة القديمة

  • سلسلة: الينابيع الفقهيّة. العدد السابع. الصفحة 103.
  • اُنظر كتاب الوسائل الباب الثاني والثالث من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه.
23
لأصحابنا قدّس الله أسرارهم والمتون الروائيّة الواصلة إلينا لا يحصل لنا القطع واليقين بوجود إجماعٍ أو ضرورة فقهيةٍ أو ما شابه في العهد القريب من عصر النصّ على عدم وجوب الحجّ أكثر من مرّة حتّى لأهل الجدة, نعم لا شكّ في وجود مثل هذا الإجماع والضرورة في الوجوب الثابت لعامّة الناس الشامل لغير أهل الجدة كما ذكرنا مع احتمال صدور حكمٍ آخر لخصوص أهل الجدة بوجوب الحجّ لهم في كلّ عام كما هو ظاهر هذه الطائفة من الروايات. إذاً فلا يمكن رفع اليد عن ظاهر هذه الروايات بدعوى القطع واليقين ببطلانه.
أمّا ما قاله السيّد الخوئي رحمه الله ـ فيما أشرنا إليه سابقاً ـ من «أنّه لو كان واجباً بأكثر من مرّة واحدة في العمر لظهر وبان, وكيف يخفى وجوبه على المسلمين مع أنّه من أركان الدين وممّا بني عليه الإسلام» فيرد عليه:
أوّلاً: أنّ وجوب الحج أكثر من مرّة إن كان ثابتاً فليس على عامّة المسلمين حتى يُستبعد خفاؤه عليهم, وإنّما هو على أهل الجدة فحسب الذين هم قليلون عادةً وبالأخص في صدر الإسلام, ويبتلي جملة منهم بحال الترف والانجراف في شؤون الدنيا ممّا يبعّدهم عن شؤون الدين, وما هو من أركان الدين عبارة عن أصل وجوب الحجّ على عامّة المسلمين ممّن استطاع إليه سبيلاً, أمّا ما زاد على ذلك لمجموعة خاصّة من الناس فليس من الثابت دخوله في أركان الدين.
24
وثانياً: أنه يوجد في مقابل الاستبعاد المذكور استبعاد خفاء ضرورةٍ فقهيةٍ من هذا القبيل على مثل الشيخ الصدوق رحمه الله الذي هو أقرب إلى عصر النص من الشيخ الطوسي رحمه الله.
إذاً فلابدّ من الرجوع مرة اُخرى إلى ما يقتضيه الجمع العرفي بين روايات الباب بحسب القواعد العامّة, وقد قلنا: إنّه يقتضي تقييد المطلقات بما دلّ على وجوب الحجّ لأهل الجدة في كلّ عام, كما أفتى به الشيخ الصدوق رحمه الله.
والظاهر عدم إمكان رفع اليد عن هذه النتيجة إلّا بأحد وجهين:
الوجه الأوّل: أن يتمسّك بقاعدة كسر السند بإعراض الأصحاب وذلك بدعوى أنّ الروايات الدالة على وجوب الحج في كلّ عام حتى وإن صحّت أسانيدها في حدّ ذاتها ولكنّها تنكسر أسانيدها بلحاظ إعراض الأصحاب عنها بناءً على كفاية إعراض أكثريّة الأصحاب.
ولكنّ الكلام أولاً في صحة هذه القاعدة من الناحية الكبروية, وثانياً في صحة تحقّق صغراها فيما نحن فيه. وذلك لأنّ المراد بإعراض أكثريّة الأصحاب إنما هو أكثريّة القدماء المتقاربين لعصر النصّ الذين يكون إعراضهم أمارةً عقلائيّة على عدم صحة الرواية, وهذا وإن كان محتملا في المقام ولكنّه غير ثابتٍ كما ذكرنا لعدم وضوح آراء العلماء في هذه المسئلة ممّن هم قبل الشيخ الطوسي رحمه الله.
25
والوجه الثاني: عبارة عن التمسّك بنظريةٍ طرحها اُستاذنا الشهيد رحمه الله في بحث حجية الظهور من عدم جريان أصالة عدم القرينة المتصلة عند الشك فيها فيما إذا كان هذا الشك ناشئاً من احتمال وجود قرينةٍ لبيّةٍ كالمتصل عند صدور الدليل بحيث لا يمكن ردّه لا بأصالة عدم الخيانة في النقل ولا بأصالة عدم الغفلة فيه, وإذا لم تجرِ أصالة عدم القرينة المتصلة يصبح احتمال وجود القرينة المتصلة مساوياً لعدم إحراز موضوع حجيّة الظهور, وبالتالي لا يمكن التمسّك بالظهور الذي نحتمل وجود قرينة متصلة على خلافها عند صدور النصّ.
وفي ما نحن فيه يمكن التمسّك بهذه النظريّة وذلك لاحتمال وجود ارتكازٍ متشرعي عند صدور النصّ يقتضي صرف ظهور الروايات الدالة على وجوب الحجّ في كلّ سنة ـ سواء ما كان منها مطلقاً أو خاصّاً بأهل الجدة ـ إلى معنى آخر كالاستحباب المؤكّد مثلاً أو وجوب ذلك فيما اذا توقّف عليه عدم خلوّ الكعبة عن الحجّاج أو نحو ذلك. فإن هذا الاحتمال وإن لم يمكننا إثباته كما ذكرنا ولكنّه جارٍ كاحتمال في هذه المسألة, وهو يعني احتمال وجود قرينة لبيّة كالمتصل على عدم إرادة وجوب الحجّ في كلّ سنة سواء مطلقاً أو في خصوص أهل الجدة, وهذا الاحتمال ليس مرجعه إلى احتمال الخيانة في النقل ولا إلى احتمال الغفلة فيه, فلا تجري فيه أصالة عدم القرينة حسب نظريّة
26
اُستاذنا الشهيد رحمه الله, وبالتالي لا نحرز ظهور الروايات المذكورة عند صدورها في إرادة معنى وجوب الحجّ في كلّ سنة, وإذا لم نحرز الظهور لم تجر حجية الظهور. والنتيجة: سقوط هذه الروايات عن الاعتبار, فتبقى روايات الطائفة الاُخرى الدالة على عدم وجوب الحج أكثر من مرّة سليمةً عن المعارض والمقيِّد.
وهذه النظريّة لابدّ وأن تكون مشروطةً بأن لا يكون احتمال اقتران الحديث عند صدوره بقرينةٍ لبيّةٍ عامّةٍ صارفةٍ لظهوره إلى ظهورٍ آخر احتمالاً بدويّاً مجرّداً عن كلّ شاهدٍ ودليل خاصّ, إذ لو كان كذلك لسقط جميع الظهورات عن الحجية إلّا ما حصل لنا القطع واليقين بعدم اقترانه عند الصدور بقرينةٍ من هذا القبيل, وأنّا لنا بمثل هذا القطع؟ إذاً فلكي تصحّ النظريّة المذكورة لابدّ من افتراض وجود شاهد خاصّ على الاحتمال المذكور وإن كان ناقصاً وضعيفاً, وهو موجود في المقام وهو نفس الارتكاز المتشرعي الموجود في زماننا هذا على عدم وجوب الحجّ أكثر من مرّة, فإنّنا وإن كنّا لا نقطع باتصال هذا الارتكاز المتشرعي بزمان صدور النصّ, ولكنّه يكفي كشاهدٍ خاصٍّ مورثٍ للاحتمال.
27
ومازاد على المرّة فهو مستحب(1)

استحباب الحجّ فيما زاد على المرّة (1) لا شكّ في قيام الإجماع والسيرة والضرورة الفقهيّة على أنّ ما زاد على المرّة من الحجّ إن لم يكن واجبا فهو مستحبّ، بالإضافة إلى أنّ جملة من الروايات الواردة في فضيلة الحجّ التي لا تكاد تحصى تدلّ على ذلك1
اُنظر: الوسائل / الباب 38 و41 و42 و43 و44 و45 و46 من أبواب وجوب الحج وشرائطه.
.
و من باب التبرّك والتيمّن نذكر الرواية التالية:
«محمد بن الحسن بإسناده عن موسى بن القاسم، عن صفوان وابن أبي عمير، عن معاوية بن عمّار، عن ابي عبدالله علیه السلام، عن أبيه علیه السلام، عن آبائه علیهم السلام، أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقاه أعرابيّ فقال له: يا رسول الله إني خرجت اُريد الحجّ ففاتني وأنا رجل مميل، فمرني أن أصنع في مالي ما أبلغ به مثل أجر الحاجّ، فالتفت إليه رسول الله فقال: اُنظر إلى أبي قبيس، فلو أنّ أبا قبيس لك ذهبةً حمراء أنفقته في سبيل الله ما بلغت «به» ما يبلغ الحاجّ. ثمّ قال: إنّ الحاجّ إذا أخذ في جهازه لم يرفع شيئاً ولم يضعه إلّا كتب الله له عشر حسنات، ومحى عنه عشر سيّئات، ورفع له عشر درجات…» إلى آخر الحديث2
الوسائل / ب 42 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه / الحديث 1.
.

  • اُنظر: الوسائل / الباب 38 و41 و42 و43 و44 و45 و46 من أبواب وجوب الحج وشرائطه.
  • الوسائل / ب 42 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه / الحديث 1.
28
ولا يصبح واجباً إلّا بسبب طارئ(1)، كالنذر أو اليمين(2)

(1) مضى الكلام في وجوب الحجّ أكثر من مرّة أو عدم وجوبه لعامّة من يستطيع إليه سبيلاً أو لخصوص أهل الجدة، وانتهينا إلى عدم وجوب ذلك بدون سبب طارئ حتى لأهل الجدة.
(2) لا شكّ في أنّ النذر واليمين من الأسباب الطارئة التي تورث الوجوب بحسب ضوابط وجوب الوفاء بهما المبحوثة في محلّها، كما أنّ العهد أيضاً من تلك الأسباب ويجب الوفاء به بحسب ضوابطه المبحوثة في محلّها. وتوجد هنا فروع بحثها بعض الأصحاب، مثل أنّ الحجّ الواجب بهذه الأسباب الطارئة هل يُسقط عنه حجّة الإسلام أو لا يُسقط، وأنّه لو اجتمع السبب الطارئ مع الاستطاعة، فهل يعتبر حجّه حجّة الإسلام أو لا يعتبر، ولا نجد الضرورة في إطالة البحث هنا بدرس هذه الفروع مادامت غير مطروحة في المتن.
29
أو إفساد الإنسان لحجٍ سابق، بأن جامع إمرأته عالماً عامداً قبل الوقوف بالمزدلفة، فإنّه يجب عليه مضافاً إلى إكمال حجّه والتكفير عن جماعه، إعادة الحجّ من عامٍ قابل، ويُسمّى بالحجّ الواجب بالإفساد(1).

الحج الواجب بالإفساد
(1) سيأتي الكلام بالتفصيل حول ما يسمّى بالحجّ الواجب بالإفساد في ذيل المسألة 58 من المتن. وقد ورد في النصّ الصحيح أنّ الحجّة الاُولى لهما والثانية عقوبة عليهما1
الوسائل ب 3 من أبواب كفارات الاستمتاع / الحديث 9.
وقد وقع الكلام في أنّ وجوب إعادة الحجّ سواء كان لأجل فساد حجّه الأوّل حقيقةً أو لأجل العقوبة عليه كما في هذه الرواية فهل يختصّ ذلك بحالة وقوع الجماع في إحرام الحجّ سواء كان هو حجّ الإفراد أو الحجّ الذي هو الجزء الثاني من جزأي حجّ التمتّع، أو أنّه يشمل حالة وقوعه في إحرام عمرة التمتّع التي هي الجزء الأوّل من جزأي حجّ التمتّع؟ وسيأتي البحث عن ذلك إن شاء الله تعالى عند التعرّض لتفصيل هذه المسألة.

  • الوسائل ب 3 من أبواب كفارات الاستمتاع / الحديث 9.
30
وكلّ هذه أسباب طارئة، وفي الأصل لا تجب ـ كما ذكرنا ـ سوى حجّة الإسلام مرّة واحدة إذا توفّرت شروطها.
وإذا توفّرت هذه الشروط وجبت على الإنسان المبادرة إلى الحجّ، فلايجوز له التسويف والمماطلة فيه تكاسلاً أو حرصاً على ربح تجارةٍ أو نحو ذلك من شؤون الدنيا(1)

وجوب المبادرة إلى الحجّ
(1) وقع الكلام في وجوب المبادرة إلى الحجّ بمعنيين:
المعنى الأوّل: المبادرة إلى الحجّ في السنة الاُولى من الاستطاعة وعدم تأجيله إلى السنة الثانية.
والمعنى الثاني: المبادرة إليه في أوّل فرصةٍ حصل عليها من السنة الاُولى وعدم تأجيله إلى الفرصة الثانية من نفس تلك السنة.
والكلام الآن حول المبادرة بالمعنى الأوّل ويقع البحث فيه من زوايا ثلاث:
1ـ عرض أدلة وجوب المبادرة بالمعنى المذكور.
2ـ هل أنّ مقتضى تلك الأدلّة كون التأجيل تجريّاً فحسب أو كونه
31
معصيةً حقيقيّة؟.
3ـ بيان الثمرة العمليّة المترتّبة على كون التأجيل تجريّاً أو معصية.
وسنعقد ثلاثة مقامات لبحث هذه الزوايا الثلاث:
أدلّة وجوب المبادرة:
المقام الأوّل: في عرض الأدلّة التي يمكن طرحها لوجوب المبادرة إلى الحجّ بالمعنى المذكور ويمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأوّل: عبارة عن الإجماع ونحوه من الأدلّة اللبيّة كالسيرة المتشرّعيّة والارتكاز المتشرّعيّ والظرورة الفقهيّة.
وهذا الدليل وإن كان مسلّماً على وجه الإجمال، ولكنّه غير واضح الحدود من حيث شموله لحالة وجود بعض الأعذار العقلائيّة لتأخير الحجّ أو عدم شموله لها, كما أنّه لاينبغي عدّه دليلاً مستقلاً على وجوب المبادرة للحجّ في مقابل الدليل العقلي والدليل النقلي التاليين، لوضوح كونه ناتجاً من الأدلة العقليّة والنقليّة الموجودة بين أيدينا، أو احتمال ذلك على أقلّ تقدير، فلا يمكن الاعتماد عليه على وجهٍ مستقلّ عن هذه الأدلّة.
القسم الثاني: عبارة عن الدليل العقليّ، وتقريبه: أنّ كلّ حكم شرعيّ إذا صار فعلياً لزم علينا عقلاً أن نتحرّك ونقدم نحو امتثاله بالطريقة التي نضمن به حصول الامتثال، وذلك لأنّ الاشتغال اليقيني بالتكليف يستدعي الفراغ
32
اليقيني عنه. ولاشكّ أنّ من لا يبادر إلى الحجّ في السنة الاُولى التي صار وجوب الحجّ فعليّاعليه فيها بالاستطاعة فهو لايضمن التمكّن من امتثال هذا الوجوب في السنة القادمة، وذلك لاحتمال عروض موانع وآفات تمنعه عن ذلك خلال تلك السنة، ولا أقلّ من احتمال بلوغ أجله. إذن سيجب عليه عقلاً أن يبادر إلى امتثال وجوب الحجّ في السنة الاُولى لكي يضمن حصول الامتثال.
وهذا الدليل إنّما يتمسّك به من تمسّك لوجوب المبادرة إلى الحجّ في السنة الاُولى، ولايتمسّك بمثله لوجوب المبادرة إلى الصلاة في أوّل وقتها، كما قد لا يتمسّك بمثله أيضاً لوجوب المبادرة إلى الحجّ في أوّل فرصةٍ اُتيحت له ضمن السنة الاولى.
ولهذا صار جملة من الأصحاب بصدد بيان الفرق بين المبادرة إلى الحجّ في السنة الاُولى وعدم تأجيله إلى السنوات القادمة، وبين المبادرة الى الصلاة في أوّل وقتها وعدم تأجيلها إلى آخر وقتها، والفرق أيضاً بينها وبين المبادرة إلى الحجّ في أوّل فرصة اُتيحت له في السنة الاُولى وعدم تأجيله إلى الفرصة الثانية من نفس تلك السنة.
فلماذا يجري الدليل العقلي المذكور في الاُولى، ولا يجري مثله في الثانية والثالثة؟.
وقد وجّهوا الفرق في ذلك بأنّ تأجيل الحجّ من السنة الاُولى إلى السنة
33
الثانية يستدعي زماناً طويلاً موجباً لاحتمال الفوت، في حين أن تأجيل الصلاة من أوّل وقتها إلى أخر وقتها لا يستدعي زماناً طويلاً كذلك، فيحصل الاطمئنان عادةً بعدم حصول الفوت بهذا التأجيل، كما أنّ تأخير الحجّ من الفرصة الاُولى إلى الفرصة الثانية ـ كما إذا ترك اللحوق بالقافلة الاُولى والتحق بالقافلة الثانية ـ لا يستدعي أيضاً زماناً طويلاً موجباً لاحتمال الفوت، إذ يمكنه عادةً أن يشخّص احتمال الفوت عن عدمه بالتأجيل إلى القافلة الثانية، بخلاف التأجيل إلى العام القادم.
ولكنّ الفرق المذكور لا يمكن المساعدة عليه، وإن كان يبدو هو الشائع في ألسنة الأصحاب. وذلك لأنّ احتمال الفوت كما يجري في تأجيل الامتثال إلى زمانٍ طويل ـ كسنة أو أكثر ـ يجري أيضاً في تأجيل الامتثال إلى زمان قصير، كيومٍ أو يومين، بل كساعة أو ساعتين، بل حتى إلى زمانٍ أقصر من ذلك، إذ لا أقلّ من احتمال بلوغ الأجل، وقد قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾1
سورة الأعراف، الآية 34.
. كما قال أيضاً: ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَهُ﴾2
سورة الكهف، الآيتان: 22 و23.
.

  • سورة الأعراف، الآية 34.
  • سورة الكهف، الآيتان: 22 و23.
34
إذاً فمقتضى الثقافة الدينيّة الناشئة من هاتين الآيتين الشريفتين وغيرهما من الآيات والروايات أنّ الآفات المانعة عن التوفيق لأيّ عمل من الأعمال كثيرة جدّاً، وأنّ التوفيق بيد الله تبارك وتعالى، كما أنّ الأجل بيده أيضاً، فلا يمكن حصول اليقين ولا الاطمئنان بالتمكّن من أيّ عمل من الأعمال بعد زمان الحال إلّا لمن كان بعيداً عن هذه الثقافة الدينيّة ومتأثّراً بالثقافات الاُخرى التي تخيّل للإنسان أنّ الأحداث كلّها ـ ومنها الموت ـ إنّما تخضع للأسباب الظاهريّة القابلة للدرك لنا مسبقاً بمستوىً عالٍ من الإدراك، ولا يلتفت إلى الأسباب الغيبيّة والمعنويّة المؤثّرة في الأحداث من دون إمكان التنبّؤ بها مسبقاً من الإنسان.
وعليه فلابدّ من القول بأنّ تأجيل العمل الواجب قبيح عقلاً ما دام يوجد احتمال الفوت، سواءً كان هذا التأجيل قصيراً أو طويلاً، إلّا إذا ثبت ترخيص من الشارع تبارك وتعالى في هذا التأجيل.
نعم كلّما كان زمان التأجيل أطول كان احتمال الفوت أكبر، ولكنّ هذا لا يعني جواز التأجيل في الزمان القصير مادام احتمال الفوت موجوداً أيضاً، فلو بقينا نحن مع القاعدة العقليّة التي تقول: «إن الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني» لم يجز علينا التأخير حتّى لمدّة قصيرة، وإن كان كلّما يطول التأجيل أكثر فهو أقبح.
35
إذاً لابدّ من البحث عن فرق آخر بين محلّ بحثنا الذي يستدعي التأجيل لمدّة سنة فصاعداً، وبين مثل تأجيل الصلاة من أوّل وقتها إلى أخر وقتها، أو تأجيل الحجّ من القافلة الاُولى إلى القافلة الثانية في سنةٍ واحدةٍ.
أمّا الفرق الذي يمكن تصويره بين محلّ بحثنا ـ أعني تأجيل الحجّ من السنة الاُولى إلى السنة الثانية أو أكثر من ذلك ـ وبين مثل تأجيل الصلاة من أوّل وقتها إلى أخر وقتها، فهو عبارة عن نفس صدور تعيين الأجل الموسّع لأداء الصلاة من قبل الشارع تبارك وتعالى وعدم صدور مثل ذلك لأداء الحجّ، فإنّ نفس تعيين الأجل الموسّع من قبل الشارع تبارك وتعالى دليل على ترخيصه في التأجيل في تلك المدّة الموسّعة رغم احتمال بلوغ أجله في الحياة أو طروّ مانع غير محتسب يُعجزه عن الامتثال في تلك المدّة، وهذا ترخيص شرعي في التأجيل رغم احتمال الفوت، وهذا الترخيص الشرعي يمنع عن جريان قاعدة (أنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني) في تلك المدّة المحدّدة، فإنّ هذه القاعدة إنّما يحكم بها العقل فيما إذا لم يكن قد صدر من الشارع تبارك وتعالى ترخيصٌ في ترك تحصيل القطع بالامتثال، والترخيص الشرعي المذكور إنّما يعني الترخيص في ترك تحصيل القطع بالامتثال بهذا المقدار، فلا تجري القاعدة العقلية المذكورة في حدود هذا الترخيص الشرعي.
ولا يخفى أنّ الترخيص الشرعي عند الشكّ ـ سواء كان ترخيصاً
36
ظاهرياً أو واقعيّاً ـ لا ضرورة في اختصاصه بحالات الشكّ في التكليف بل يمكن جريانه حتى في حالة الشكّ في الامتثال، كما هو كذلك في قاعدتي التجاوز والفراغ، فإنّ الشكّ فيهما شكّ في الامتثال وليس شكّاً في التكليف ورغم ذلك حكم الشارع فيهما بالبناء على صحّة العمل وهو يعني الترخيص في ترك تحصيل اليقين بالامتثال.
وهذا بخلاف مثل تأجيل الحجّ من السنة الاُولى إلى السنة الثانية أو أكثر من ذلك، فإنّه لم يصدر من الشارع تبارك وتعالى أجل موسّع من هذا القبيل لامتثال الحجّ حتى يستفاد منه الترخيص في ترك تحصيل القطع بالامتثال، فتبقى القاعدة العقليّة المذكورة جاريةً للمنع عن تأجيل الحجّ إلى السنة القادمة مادام هذا التأجيل موجباً لاحتمال الفوت.
هذا هو الفرق الذي يمكن تصويره بين تأجيل الحجّ من السنة الاُولى إلى السنة الثانية وبين تأجيل الصلاة من أوّل وقتها إلى آخر وقتها رغم اشتراكهما معاً في احتمال الفوت بسبب التأجيل.
ولكن يمكن القول بأنّ ترخيص الشارع تبارك وتعالى في ترك تحصيل القطع بالامتثال لا يختصّ بالأحكام المشتملة على أجلٍ موسّع كالصلاة، بل إنّه يجري في كلّ حكمٍ لم يعيّن فيه الشارع أجلاً محدّداً لامتثاله كما لم يأمر فيه أيضاً بالفور في الامتثال، من قبيل وجوب قضاء الصلاة على من فاتته الصلاة في
37
وقتها، ووجوب قضاء صلوات الأب بعد وفاته على ابنه الأكبر، ووجوب أداء الكفارة التي لم يعيّن لها أجل خاصّ في بعض المعاصي، إلى غير ذلك. فإنّ عدم تصدّي الشارع تبارك وتعالى للأمر بالفور ولا لتعيين أجل محدّد ظاهرٌ عرفاً في ترخيصه في تأجيل امتثال ذلك الحكم إلى حدّ لا يصدق عليه التهاون بامتثال حكم الله تبارك وتعالى، وهذا ظهور حاليّ ناشئ من سكوت الشارع وعدم تصدّيه للأمر بالفور ولا لتعيين أجل محدّد كما ذكرنا، وهو مشمول لأدلّة حجّية الظهور، وهذا ما يستفاد منه الترخيص في عدم تحصيل اليقين بالامتثال بمعنى عدم الاعتناء باحتمال الفوت الناشئ من التأجيل ما لم يبلغ حدّ التهاون بامتثال أوامر الله تبارك وتعالى، وهذا يكفي للمنع عن جريان قاعدة (أنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني) وبالتالي لا يجب عليه عقلاً المبادرة إلى الامتثال رغم احتمال الفوت بسبب التأجيل ما لم يبلغ حدّ صدق التهاون بأمر الله تبارك وتعالى.
وبهذا ينبغي أن نفسّر عدم وجوب المبادرة عقلاً نحو الامتثال في مثل الأمر بقضاء الصلاة ونحوه، لا بدعوى حصول الاطمئنان بعدم الفوت، إذ لا أقلّ من احتمال بلوغ أجله في الحياة كما ذكرنا سابقاً، فلا مناص من تفسير جواز التأجيل بوجود ترخيص شرعي ناف لموضوع الحكم العقلي المذكور بالبيان الذي ذكرناه، وإن كان هذا الترخيص الشرعي في مورد الشكّ في حصول
38
الامتثال لا في مورد الشكّ في التكليف كما ذكرنا.
ويجري مثل هذا البيان أيضاً في تأجيل الحجّ من السنة الاُولى إلى السنة الثانية ما لم يصدق عليه التهاون بامتثال أمر الله تبارك وتعالى, إذ لو بقينا نحن مع الدليل العقلي وقطعنا النظر عن الأدلّة الشرعيّة الأتية التي يدّعى دلالتها على وجوب الفور لصحّ القول بأنّ حال الحجّ كحال قضاء الصلاة ونحوه ممّا لم يحكم الشارع فيه لا بالفور ولا بأجلٍ معيّن، فيبقى تأجيله جائزاً عقلاً ما لم يصدق عليه عنوان التهاون والتساهل في امتثال أمر الله تبارك وتعالى.
غاية الأمر أنّ صدق عنوان التهاون والتساهل كما يتأثّر سلباً وإيجاباً بمدى طول الزمان الذي يؤجّل فيه الامتثال، يتأثّر أيضاً بنوع السبب الذي لأجله يؤجّل الامتثال، فكلّما كان السبب مشتملاً على غرض عقلائي أكبر كان صدق عنوان التهاون أبعد، وكذلك العكس.
وأمّا الفرق بين تأجيل الحجّ من السنة الاُولى إلى السنوات القادمة وبين تأجيله من الفرصة الاُولى إلى الفرص القادمة ضمن السنة الاُولى نفسها لتصوير جريان الدليل العقلي المذكور للمنع عن التأجيل في الأوّل دون الثاني، فهو عبارة عن أنّ تأجيل الحجّ من السنة الاُولى إلى السنوات القادمة يستبطن تأخير أداء نفس أعمال الحجّ بأجمعها لمدّة سنة أو أكثر ممّا يورث احتمال الفوت بسبب التأجيل، وأمّا تأجيله من الفرصة الاُولى إلى الفرص الاُخرى في نفس
39
إطار السنة الاُولى ـ كما إذا أجّل الابتداء بالسفر من فرصة حركة القافلة الاُولى إلى فرصة حركة القافلة الثانية ـ فهو لا يستبطن تأخير أداء نفس أعمال الحجّ بأجمعها إلى مدّة معيّنة توجب احتمال الفوت، وإنّما يستبطن تأخير مقدّمات الحجّ أو بعض الأجزاء الاُولى من المركّب الارتباطي الذي يتحقّق به الحجّ إلى مدّة معيّنة، ويبقى تكميل المركّب الارتباطي منوطاً بنفس زمانه المعيّن، من دون فرقٍ فيه بين لحوقه بالقافلة الاُولى في بداية سفره أو بالقافلة الثانية. وهذا يعني أنّه إن كان من المقدّر في علم الله أن يموت خلال هذه الفترة الزمانية أو تطرأ عليه موانع تمنعه عن تكميل أعمال هذا المركب الارتباطي فلا فرق في ذلك بين لحوقه بالقافلة الاولى ولحوقه بالقافلة الثانية، واحتمال موته أو ابتلائه ببعض الموانع قبل أداء تمام أعمال هذا المركب في فرض التحاقه بالقافلة الثانية على حدّ احتمال ذلك في فرض التحاقه بالقافلة الاُولى، إذاً فليس تأجيل ابتدائه بالسفر من مثل فرصة حركة القافلة الاُولى إلى فرصة حركة القافلة الثانية موجباً لاحتمال زائد لفوت هذا المركب عادةً، اللهمّ إلّا إذا كانت الآفات المترقّبة تجاه القافلة الثانية أكثر أو كان احتمالها أقوى من الآفات المترقّبة تجاه القافلة الاولى, أو كان أصل حصول القافلة الثانية التي تحقّق له الفرصة الثانية مشكوكة عنده منذ البداية، وهذه فرُوض نادرة عادةً.
إذاً ففي الحالات الاعتياديّة ليس تأجيل سفره إلى الحجّ من مثل القافلة
40
الاُولى أو الرحلة الجوّية الاُولى ـ في زماننا هذا ـ إلى القافلة الثانية أو الرحلة الجويّة الثانية موجباً لاحتمال زائد لفوت أعمال الحجّ منه بوصفها مركّبا ارتباطياً واحداً حتّى يجري الدليل العقلي المذكور للمنع عن التأجيل.
والنتيجة النهائيّة في تقييم الدليل العقلي المذكور ـ رغم الفرق الذي ذكرناه بين تأجيل الحجّ من السنة الاُولى إلى السنوات القادمة وبين تأجيل الصلاة من أوّل وقتها إلى نهاية وقتها، وكذلك الفرق الذي ذكرناه بين التأجيل المذكور للحجّ وبين تأجيله من الفرصة الاُولى إلى الفرصة الثانية من نفس السنة الاُولى ـ أنّ الدليل العقلي المذكور لا يكفي وحده للمنع عن تأجيل الحجّ من السنة الاُولى إلى السنة الثانية أو الثالثة أو أكثر ما لم يصدق عليه عنوان التهاون والتساهل وعدم المبالاة بالدين، وذلك لما ذكرنا من أنّ الشارع تبارك وتعالى لو لم يتصدَّ للأمر بالفور ولا لبيان أجل محدّد للامتثال انقعد له ظهور حالي للترخيص في التأجيل ما لم يصدق العنوان المذكور، ومع هذا الترخيص لا يجري الدليل العقلي المذكور، فسيكون حال هذا الدليل العقلي تجاه وجوب الحجّ كحاله تجاه وجوب قضاء الصلاة ووجوب بعض الكفارات ونحوهما.
القسم الثالث من أدلّة وجوب المبادرة للحجّ بالمعني الذي ذكرناه: عبارة عن الأدلّة اللفظيّة المتمثّلة في الروايات التي يُدّعى دلالتها على وجوب الفور، ويمكن تقسيمها إلى طائفتين:
41
الطائفة الاُولى: ما دلّ على عدم السماح في تسويف الحجّ بمعنى تأخيره من سنة الاستطاعة إلى بعض السنين الاُخرى مطلقاً من ناحية انتهائه إلى فوت الحجّ عنه إلى حين وفاته أو عدم انتهائه إلى ذلك.
وهذه الطائفة بعضها يختصّ بما إذا بلغ التسويف حدّ الإهمال والمماطلة، مثل ما ورد عن أبي الصباح الكناني وورد عن الحلبي أيضاً بسندٍ تام «عن أبي عبدالله عليه السلام، قال: قلت له: أرأيت الرجل التاجر ذا مال حين يسوّف الحجّ كلّ عام وليس يشغله عنه إلّا التجارة أو الدين، فقال لا عذر له يسوّف الحجّ، إن مات وقد ترك الحجّ فقد ترك شريعةً من شرايع الإسلام»1
الوسائل/ ب6 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه/ الحديث 4.
.
فإنّ قول السائل: «حين يسوّف الحجّ كلّ عام» دالّ على فرض بلوغ التسويف حدّ الإهمال والمماطلة، وقد أجابه الإمام علیه السلام لفرض سؤاله هذا بأنّه لا عذر له يسوّف الحجّ، وأمّا قوله علیه السلام: «إن مات وقد ترك الحجّ فقد ترك شريعةً من شرايع الإسلام» فهو تعبير عن فرض جديد ينتهي فيه التسويف إلى ترك الحجّ إلى أخر عمره، وليس ذلك تقييداً للفرض الأوّل، فيبقى الفرض الأوّل مطلقاً من ناحية كونه مؤدّياً إلى ترك الحجّ إلى أخر عمره أو لا، وإن كان مقيّداً بالإهمال والمماطلة.

  • الوسائل/ ب6 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه/ الحديث 4.
42
وبعضها غير مختصّ بحال بلوغ التسويف حدّ الإهمال والمماطلة كما هو غير مختصّ بانتهائه إلى ترك الحجّ إلى أخر عمره، وذلك مثل صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبدالله علیه السلام، قال: «قال الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ قال: هذه لمن كان عنده مال وصحّة وإن كان سوّفه للتجارة فلا يسعه، وإن مات على ذلك فقد ترك شريعةً من شرايع الإسلام، إذا هو يجد ما يحجّ به…»1
الوسائل/ ب6 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه/ الحديث 1.
. فإن قوله عليه السلام: «وإن كان سوّفه للتجارة فلا يسعه» مطلقٌ من ناحية كون التسويف بالغاً حدّ الإهمال والمماطلة أو غير بالغ إلى هذا الحدّ، كما هو مطلق من ناحية كونه مؤدّياً إلى ترك الحجّ إلى آخر عمره أو غير مؤدٍّ إلى ذلك.
والظاهر أنّ الصحيح في نصّ هذه الرواية ما أثبتناه من كلمة «سوّفه» بالفاء المفردة وإن كان الوارد في بعض نسخ الوسائل «سوقه» بالقاف المثنّاة، وذلك لأنّ معنى الحديث لا يستقيم إلّا بما أثبتناه، كما أنّ ما ورد في نفس المصدر عن معاوية بن عمار نفسه في الحديث المرقّم 11 الظاهر اتحاده مع الحديث الوارد في الرواية المذكورة, وجاء فيه التعبير بكلمة «سوّفه» بالفاء لا بالقاف، كما أثبتناه في هذه الرواية، فيحصل الاطمئنان بأنّ الصحيح في هذه

  • الوسائل/ ب6 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه/ الحديث 1.
43
الرواية (سَوّفَهُ) بالفاء لا بالقاف.
وما جاء في ذيل هذه الرواية من قوله عليه السلام: «وإن مات على ذلك فقد ترك شريعةً من شرايع الإسلام» إنّما يعبّر عن فرض جديد وليس هو تقييداً لما جاء قبله في نصّ هذه الرواية، كما نبّهنا على مثل ذلك أيضاً في الرواية السابقة.
وبما وضحّناه يظهر أنّه ليست روايات هذا الباب كلّها مختصّةً بفرض كون التسويف مؤدّياً إلى ترك الحجّ منه إلى آخر عمره أو بفرض كون التسويف نابعاً من الإهمال والمماطلة، كما ادعاه بعض الأعلام حفظه الله تعالى1
تعاليق مبسوطة على العروة الوثقى /الجزء 8 / الصفحة 36.
ـ فإنّ ما جاء في صدر صحيحة معاوية بن عمّار المذكورة مطلق من ناحية كلا القيدين، فهو دالّ على عدم السماح بالتسويف حتّى وإن لم يكن مؤدّياً إلى الترك ولا نابعاً من الإهمال والمماطلة، نعم هو ظاهر في فرض ما إذا كان التسويف لأجل التجارة ونحوها من الأغراض العقلائيّة، وليس ذلك مساوياً دئماً للإهمال والمماطلة.
الطائفة الثانية: ما جاء في خصوص التسويف المؤدّي إلى ترك الحجّ إلى آخر عمره، واعتبر ذلك إثماً موجباً للعقاب. مثل ما ورد في ذيل الروايتين السابقتين من قوله عليه السلام: «وإن مات على ذالك فقد ترك شريعة من شرائع

  • تعاليق مبسوطة على العروة الوثقى /الجزء 8 / الصفحة 36.
44
الإسلام» أو ما يقارب هذا المضمون. وما ورد في رواية أبي بصير ـ التي عبّر عنها السيّد الخوئي رحمه الله بالمعتبرة ـ من قوله: «سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: من مات وهو صحيح موسر لم يحجّ فهو ممّن قال الله عز وجل: ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ قال: قلت: سبحان الله، أعمى؟ قال: نعم إنّ الله عز وجل أعماه عن طريق الحقّ»1
الوسائل/ ب6 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه/ الحديث 7.
.
وهذه الطائفة وإن كانت واردةً بحسب دلالتها المطابقيّة في التسويف المؤدّي إلى الترك، ولكنّها تدُلّ بالدلالة الالتزاميّة على عدم السماح شرعاً بالتسويف في فرض الشكّ في أداء ذلك إلى الترك، وذلك لأنّ ما جاء في المدلول المطابقي من استحقاقه للعقاب على الترك لم يختصّ بفرض ما إذا كان بانياً على الترك مسبقاً أو كان على يقين مسبقاً بأنّ تسويفه هذا سيؤدّي إلى الترك، بل إنّه شمل حالة شكّه في ذلك، ومن الواضح أنّ استحقاقه للعقاب في فرض الأداء إلى الترك مع شكّه المسبق بأنّ تسويفه هذا هل يؤدّي إلى الترك أو لا يؤدّي إليه لا ينسجم مع سماح الشارع في هذا التسويف الذي كان يشكّ فيه أنّه هل يؤدّي إلى الترك أو لا يؤدّي إليه، إذ لو كان هذا التسويف مسموحاً به شرعاً ثمّ فاجأه الموت فأدّى إلى حصول ترك الحجّ من دون اختيارٍ منه في حصول هذا الترك إلّا

  • الوسائل/ ب6 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه/ الحديث 7.
45
بالتسويف الذي ارتكبه بسماحٍ من الشارع تبارك وتعالى حسب الفرض، فلا وجه في استحقاقه للعقاب حينئذٍ. إذاً فاستحقاقه للعقاب في فرض أداء التسويف إلى الترك إما يجب أن يكون ناشئاً من بنائه المسبق على الترك أو علمه المسبق بذلك ـ على أقلّ تقديرـ أو ناشئاً من عدم سماح الشارع في التسويف وإن كان شاكاً في أدائه إليه، وأمّا إذا كان غير بانٍ ولا عالمٍ بذلك مسبقاً وكان تسويفه مع الشكّ مسموحاً به شرعاً فلا معنى لمؤاخذة الشارع له بمفاجئة الموت له بعد ذلك.
إذن فما دلّت عليه هذه الروايات من استحقاقه للعقاب بترك الحجّ حتّى مع شكّه مسبقاً بأنّ التسويف هل يؤدّي إلى الترك أو لا يؤدّي إليه سيكون دليلاً على أنّ هذا التسويف لم يكن مسموحاً به شرعاً.
والنتيجة أنّ كلتا الطائفتين من الروايات تدلّان على أنّ التسويف غير مسموح به شرعاً حتّى وإن لم يكن بانياً فيه على الترك ولا عالماً به بل كان شاكّاً في أنّه هل يؤدّي إلى الترك أو لا يؤدّي إليه.
وهل أنّ عدم السماح بهذا التسويف تعبير عن صدور حكم إلزاميّ من الشارع تبارك وتعالى بهذا الشأن، كوجوب المبادرة، أو حرمة التأجيل، أو أنّه إرشاد إلى حكم العقل بعدم جواز التسويف عند احتمال أدائه إلى فوت الواجب؟ فسيأتي البحث عنه في المقام الثاني إن شاء الله تعالى.
46
وكما أنّ الطائفة الاُولى كان فيها ما يشمل بإطلاقه حالة صدور التسويف لا لمجرّد الإهمال والمماطلة بل لغرضٍ عقلائي كالتجارة ونحوها، كذلك الطائفة الثانية يوجد فيها ما يشمل بإطلاقه الحالة المذكورة، كما جاء في ذيل صحيحة معاوية بن عمار السابقة حيث كان صدرها من الطائفة الاُولى وذيلها من الطائفة الثانية، ولم يكن فيها ما يقيّد دلالتها على عدم جواز التسويف ـ سواءً في صدرها أو ذيلها ـ بحالة الإهمال والمماطلة.
نعم غاية ما تدلّ عليه هذه الروايات عدم جواز التسويف لأجل التجارة أو لأجل بعض الأغراض الماديّة التافهة الاُخرى التي نعلم بعدم الفرق بينها وبين التجارة في هذا الحكم، ناهيك عمّا إذا كان نابعاً من مجرّد الإهمال والمماطلة، أو ما إذا كان نابعاً من التماهل في الطاعة وعدم المبالاة بالدين لا سمح الله.
وأمّا إذا كان التسويف لأجل غرضٍ دينيّ أو غرض عقلائي لا يمكن قياسه بالتجارة، كما إذا أجّل الذهاب إلى الحجّ لأجل مداراة مريضٍ له في داره ـ وبالأخص ما إذا كان هو أباه أو اُمّه ـ أو لأجل تكميل دراسته الجامعيّة في يومنا هذا فيما إذا لم تسمح له الظروف بتأجيل ذلك إلى ما بعد الحجّ، أو نحو ذلك من الأغراض المهمّة التي لا نقطع بتساوي حكمها في نظر الشارع لحكم التجارة المنصوص عليها في هذه الروايات، فلا يمكن استفادة عدم جواز
47
تأجيل الحجّ في ذلك من هذه الروايات، لأنّ أفضلها حالاً من حيث السعة والشمول تختصّ دلالتها بالتسويف الناشئ من غرض التجارة، ولا يمكن التعدّي منها إلّا إلى ما نقطع بعدم الفرق بينه وبين غرض التجارة في هذا الحكم.
إذاً فيبقى حكم تأجيل الحجّ لأجل الأغراض التي هي أعلى وأجلّ شأناً من التجارة ـ كالذين أشرنا إليهما ـ منوطاً بالدليل العقلي الذي أشرنا إليه سابقاً وغير مشمولٍ للأدلّة اللفظيّة المذكورة.
تأجيل الحجّ معصيةٌ أو تجرٍّ؟
المقام الثاني: في أنّ عدم جواز تأجيل الحجّ من السنة الاُولى إلى السنوات القادمة بالقدر المستفاد من الأدلّة السابقة هل هو من باب التجرّي أو من باب المعصية؟
والمراد بكونه من باب التجرّي أنّ المعصية الحقيقيّة إنّما هي ترك الحجّ إلى آخر عمره, وأمّا التأجيل بما هو تأجيل فليس معصية وإنّما يوجب استحقاق العقاب لاحتمال كونه مؤدّياً إلى الترك، فإن أجّل الحجّ ولم يؤدّ ذلك إلى الترك النهائي فهو ليس عاصياً بهذا التأجيل وإنّما هو متجرٍّ على مولاه لارتكابه ما يحتمل أدؤه إلى المعصية، فحاله حال الإنسان الذي يرتكب المعصية الاحتماليّة ـ من دون مبرّر شرعيّ يجوّز له ذلك ـ ثمّ يتبيّن أنّه لم يكن معصيةً. مثاله: ما إذا
48
قتل إنساناً مع احتمال كونه مؤمناً ثم تبيّن أنّه كافر، أو ما إذا سعى في قتل إنسانٍ مؤمن وهو مؤمن حقّاً ولكن لم يؤدِّ سعيه هذا إلى قتله، فإنّ سعيه هذا إن لم يكن حراماً بذاته فهو من التجرّي بلا شكّ, لأنّه قد أقدم على معصيةٍ احتماليّةٍ من دون مبرّر شرعيّ يبرّر له هذا الإقدام.
والمراد بكونه من باب المعصية أنّ التأجيل بوصفه تأجيلاً للحجّ ينافي حكماً شرعيّاً بذاته فهو معصية حقيقيّة سواء أدّى ذلك إلى ترك الحجّ أو لم يؤدِّ إليه.
والحقيقة إنّ تأجيل الحجّ قد يختلف حاله من حيث كونه معصيةً أو تجريّاً باختلاف الأدلّة السابقة الدالّة على ثبوت العقاب عليه.
أمّا الدليل العقليّ الذي مضى شرحه سابقاً فهو ـ على فرض صحّته ـ لا دلالة فيه على كون التأجيل معصيةً ذاتيّةً للمولى تبارك وتعالى، فما لم يثبت كونه معصيةً ذاتيّة بأحد الدليلين الآخرين يبقى الدليل العقلي قاصراً عن إثباته، فغاية ما يدلّ عليه العقل أنّ التأجيل بوصفه إقداماً على المعصية الاحتماليّة ـ لأنّه قد يؤدّي إلى فوت الحجّ نهائيّاً ـ فما لم يثبت ترخيص شرعيّ فيه فهو موجب لاستحقاق العقاب على أساس التجرّي وإن لم يؤدّ إلى الفوت.
وأمّا الأدلّة الشرعيّة اللفظيّة التي مضى شرحها فهل هي دالّة على المنع من تأجيل الحجّ من باب المعصية أو من باب التجرّي؟
49
وقد قسّمنا سابقاً الأدلّة اللفظيّة الواردة بهذا الصدد إلى طائفتين:
الاُولى: ما دلّ على عدم جواز تأجيل الحجّ من السنة الاُولى إلى غيرها ـ في الحدود التي ذكرناها ـ سواء أدّى ذلك إلى فوت الحجّ وتركه إلى حين موته، أو لم يؤدّ إلى ذلك بل قام بأداء الحجّ في السنوات القادمة.
والثانية: ما دلّ على عدم جواز التأجيل ـ في الحدود التي ذكرناها ـ فيما إذا أدّى إلى ترك الحجّ وفوته عنه إلى حين موته.
أمّا هذه الطائفة الثانية فقد يقال بعدم دلالتها على الحرمة الذاتيّة لتأجيل الحجّ بما هوتأجيل، لعدم استفادة ذلك منها لا بالدلالة المطابقيّة ولا بالدلالة الالتزاميّة.
أمّا الدلالة المطابقيّة فلأنّ غاية ما تدلّ عليه هذه الطائفة بالدلالة المطابقيّة أنّ من أجّل الحجّ إلى حين موته ففاته الحجّ فقد ابتلى بالمعصية، أمّا هل أنّ هذه المعصية من أجل تركه للحجّ فحسب أو من أجل تأجيله للحجّ بحيث يكون التأجيل في حدّ ذاته محرّماً شرعاً، فهذا ما لا دلالة لها عليه في حدود هذه الدلالة.
وأمّا الدلالة الالتزاميّة فلأنّنا وإن سلمنا سابقاً بأنّ هذه الطائفة من الروايات تدلّ بالالتزام على عدم جواز تأجيل الحجّ ـ في الحدود التي ذكرناها ـ حتى وإن لم ينته إلى ترك الحجّ مادام شاكاً في أدائه إليه، وذلك بالبيان الذي
50
مضى شرحه, ولكنّ هذه الدلالة الالتزاميّة غاية ما تدلّنا عليه أنّ الشارع تبارك وتعالى لم يصدّر جوازاً شرعيّاً للتأجيل في فرض الشكّ في أدائه إلى الترك وإن لم يؤدِّ إليه، وقد تمّ بذلك موضوع حكم العقل بضرورة المبادرة إلى الحجّ، أمّا هل أنّ الشارع تبارك وتعالى صدّر حكماً بحرمة التأجيل أو بوجوب الفور بحيث أصبح التأجيل بذاته معصيةً شرعيّة فلا دلالة فيها على ذلك أيضاً.
إذاً فقد يقال: إنّ غاية ماتدلّ عليه هذه الطائفة من الروايات أنّ تأجيل الحجّ من السنة الاُولى إلى غيرها ـ في الحدود التي ذكرناها ـ يوجب استحقاق العقاب، سواء أدّى إلى الفوت النهائي أو لم يؤدِّ إليه، أمّا هل أنّ هذا العقاب لأجل الحرمة الذاتيّة لهذا التأجيل أو لأجل التجرّي فلا دلالة فيها على ذلك.
وأمّا الطائفة الاُولى فقد يقال بأنّ ما كان منها خاصّاً بحال الإهمال والمماطلة ينصرف إلى الإرشاد إلى حكم العقل بقبح التجرّي الحاصل بالإهمال والمماطلة في امتثال أصل وجوب الحجّ, ولا يستفاد منه تأسيس حكم جديد بوجوب المبادرة إلى الحجّ أو بحرمة تأجيله، وخصوصاً ما كان منها بلسان (لا عذر له يسوّف الحجّ) فإنّه يكفي لنفي العذر عنه أن لا يكون الشارع قد صدّر الترخيص الشرعيّ في التأجيل وبذلك يتمّ موضوع حكم العقل بقبح التأجيل على أساس التجرّي، وليس من الضروري ـ لصدق نفي العذر عنه ـ أن يكون الشارع قد صدّر الحكم الشرعيّ بحرمة التأجيل أو بوجوب المبادرة.
51
وأمّا ما كان منها مطلقاً من ناحية الإهمال والمماطلة وإن كان خاصّاً بحال التأجيل الحاصل لغرض التجارة ونحوها ـ مثل صحيحة معاوية بن عمّار السابقة التي جاء فيها «وإن كان سوّفه للتجارة فلا يسعه» إذ أنّ غرض التجارة ونحوها لا يستلزم الإهمال والمماطلة دائماً كما ذكرنا سابقاً ـ فقد يقال بأنّه لا وجه لحمله على الإرشاد إلى حكم العقل، بل لابدّ من حمله على إرادة حكمٍ شرعي كحرمة التأجيل أو وجوب المبادرة في الحدود التي ذكرناها سابقاً، وبذلك يصبح التأجيل معصيةً بذاته لا موجباً لاستحقاق العقاب على أساس التجري فحسب.
ولكن قد يناقش في مثل هذه الصحيحة أيضاً بأنّ تعبير (لا يسعه) لا ينحصر تفسيره بوضع حرمةٍ شرعيّةٍ من قبل المولى على التأجيل أو وجوب شرعيّ للمبادرة، بل يكفي في تفسيره مجرّد عدم صدور ترخيص شرعيّ منه تبارك وتعالى في التأجيل، فإنّه سوف لا يسعه ـ حينئذ ـ عقلاً أن يؤجّل الحجّ ولو على أساس قبح التجرّي، كما ذكرنا ذلك في مثل لسان (لا عذر له يسوّف الحجّ).
وعليه فقد يقال بأنّ معظم روايات الباب ـ إن لم نقل كلّها ـ سواء ما كان منها داخلاً في الطائفة الاُولى أو ما كان داخلاً في الطائفة الثانية إمّا هي ظاهرة في إرادة الإرشاد إلى حكم العقل بقبح التجرّي أو أنّها قابلة لهذا التفسير
52
على أقلّ تقدير بحيث لا ينعقد لها ظهور في إرادة الحرمة الذاتيّة للتأجيل أو الوجوب الذاتي للمبادرة.
ولكنّ التحقيق أنّ هناك قرينةً شبهَ قطعيّة في جملة من روايات الباب تدلّ على أنّ التأجيل ليس قبيحاً من باب التجرّي فحسب، بل إنّه معصية بذاته. وهذه القرينة موجودة في الروايات التي تشمل بإطلاقها حالة حصول القطع أو الإطمئنان للمكلّف بعدم أداء تأجيله هذا للحجّ إلى ترك الحجّ وفوته عنه نهائيّاً ـ كما قد يحصل ذلك لبعض الناس ـ فإنّ استحقاقه للعقاب حينئذٍ ينحصر تفسيره بالحرمة الذاتيّة للتأجيل، ولا يمكن تفسيره بمجرّد التجرّي، وذلك لأنّ قبح التجرّي إنّما يجري في حالة قطع المكلّف بالمعصية أو احتماله لها على أقلّ تقدير، أمّا في حالة قطعه بعدمها أو اطمئنانه بذلك فلا يشمله قبح التجرّي، لأنّه غير متجرٍّ على مولاه في هذه الحالة، وهذا يعني أنّه في حالة قطعه أو اطمئنانه بعدم أداء تأجيله للحجّ إلى ترك الحجّ سوف لا يشمله قبح التجرّي تجاه أصل وجوب الحجّ، فينحصر تفسير استحقاقه للعقاب حينئذٍ بكون التأجيل محرّماً في حدّ ذاته وموجباً لاستحقاق العقاب على أساس المعصية لا على أساس التجرّي فحسب.
وعلى هذا الأساس نقول: إنّ روايات الباب ـ سواء ما كان منها داخلاً في الطائفة الاُولى أو في الطائفة الثانية ـ إن كانت تدلّ بإطلاقها على أنّ
53
استحقاق العقاب عند تأجيل الحجّ يشمل ما إذا كان المكلّف على قطع أو اطمئنان بعدم أداء هذا التأجيل إلى الترك، فهي دالّة على كون التأجيل محرّماً بذاته لا موجباً لاستحقاق العقاب على أساس التجرّي فحسب.
ونحن وإن ذكرنا سابقاً أنّ الإنسان المتثقّف بالثقافة الدينيّة ـ في مجالات (التوفيق) و (سلب التوفيق) و (بلوغ أجل الموت) ونحو ذلك ـ لايحصل له القطع أو الاطمئنان بأنّ تأجيله للحجّ سوف لا يؤدّي إلى ترك الحجّ، وأنّه سيستطيع أداء الحجّ حتماً في عامٍ قابل، بل لا يحصل له القطع أو الاطمئنان بالتمكّن من أيّ فعل من الأفعال حتّى في المستقبل القريب جدّاً، ولكنّا لا ننكر وجود بعض الناس ـ ممّن تأثّروا بالثقافات غير الدينيّة في المجالات المذكورة ـ يحصل لهم القطع أو الاطمئنان بذلك، ومثل هؤلاء يشملهم إطلاق جملةٍ من روايات الباب الدالة على المؤاخذة واستحقاق العقاب عند تأجيل الحجّ.
وذلك مثل صحيحة معاوية بن عمّار السابقة التي كان صدرها من الطائفة الاُولى وذيلها من الطائفة الثانية1
الوسائل ب 6 من وجوب الحجّ وشرائطها ح 1.
فإنّ موضوعها عبارة عن كلّ من سوّف الحجّ للتجارة، وهو يشمل ما إذا كان على قطع أو اطمئنان بتمكّنه من أداء الحجّ في عامٍ قابل، وما إذا كان على شكّ في ذلك، ولا فرق في ذلك بين

  • الوسائل ب 6 من وجوب الحجّ وشرائطها ح 1.
54
صدر الرواية الذي لا يفترض فيه أداء تسويفه هذا إلى ترك الحجّ، وبين ذيلها الذي يفترض فيه ذلك، فإنّها رغم افتراض أداء التسويف إلى ترك الحجّ بحسب ما ورد في ذيلها تكون مطلقةً من ناحية أنّه هل كان على يقين منذ البداية على أنّه سيستطيع فعل الحجّ في عامٍ قادم أو كان على شكّ في ذلك.
وكذلك معتبرة أبي بصير السابقة التي كانت من الطائفة الثانية1
نفس المصدر ح 7.
فإنّها وإن كان موردها خاصّاً بما إذا ترك الحجّ نهائيّاً، ولكنّها مطلقة من ناحية أنّه هل كان على يقين مسبق بأنّه سيستطيع أداء الحجّ في عام قادم أو كان على شكّ في ذلك، وهذا الإطلاق لا ينسجم إلا مع حرمة التأجيل في حدّ ذاته، وإلّا لو لم يكن التأجيل حراماً في حدّ ذاته فاختار التأجيل على أساس اعتقاده ويقينه بأنّه سيستطيع فعل الحجّ في عامٍ قادم، ولكنّه فاجأه الموت، فلا وجه لاستحقاقه العقاب في هذه الحالة، إذاً فدلالة هذه الرواية على أنّ استحقاقه العقاب في فرض ترك الحجّ يشمل ما إذا كان على يقين مسبق بالتمكّن من فعل الحجّ في عام قابل تستلزم كون التأجيل في حدّ ذاته محرّماً بحرمة شرعيّة لذات التأجيل، إذ لو كانت الحرمة الشرعيّة منحصرة بترك الحجّ وقد حصل الترك بدون اختيار منه ولم يصدر منه حتّى التجرّي الاحتمالي لهذا الحكم لأنّه كان على يقين بعدم

  • نفس المصدر ح 7.
55
حصول الترك، فلا وجه لاستحقاقه العقاب نهائيّاً كما ذكرنا.
إذاً فالإطلاق المذكور لهذه الرواية له دلالة التزاميّة على وجود حكم شرعيّ آخر سبّب استحقاقه للعقاب في هذا الفرض، وليس ذلك إلّا حرمة التأجيل أو وجوب المبادرة.
نعم ليس لبعض روايات الباب إطلاق من هذا القبيل حتى تتمّ القرينة المذكورة، وذلك مثل صحيحة الحلبي التي ذكرناها سابقاً فإنّ موضوعها كان عبارة عن (الرجل التاجر ذا مال حين يسوّف الحجّ كلّ عام) ومن الواضح أنّ تسويف الحجّ كلّ عام لايناسب القطع أو الاطمئنان بالتمكّن من أداء الحجّ، لأنّه كناية عن الإهمال والمماطلة بالمعنى الذي يساوي عدم الاعتناء بما إذا حصل الترك أو لم يحصل.
وعلى كلّ حال فيكفينا لإثبات المعصية الشرعيّة بالتأجيل ـ في الحدود التي ذكرناها سابقاً ـ الروايات السابقة المشتملة على الإطلاق المذكور.
وممّا قد يؤيّد كون تأجيل الحجّ بنفسه معصيةً لا تجرّياً فحسب شدّة النكير والتنديد الواردة في روايات الباب على التأجيل المؤدّي إلى الترك، مثل عبارة «فقد ترك شريعةً من شرائع الإسلام» وعبارة «فهو ممّن قال الله عز وجل:
56
﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾» وعبارة «إنّ الله عز وجل أعماه عن طريق الحقّ» وذلك لأنّ استحقاق العقاب على الإنسان التارك للحجّ إنّما يزداد ويتأكّد فيما إذا كان الشارع تبارك وتعالى قد أوجب عليه المبادرة أو حرّم عليه التأجيل تحريماً شرعيّاً ولو لاحتمال أدائه إلى ترك أصل الحجّ, وقد خالف ذلك عالماً عامداً، بخلاف ما إذا لم يكن قد أوجب عليه المبادرة ولا حرّم عليه التأجيل تحريماً شرعيّاً, وإنّما أوجب عليه أصل فعل الحجّ أو حرّم عليه تركه, وهو عند ارتكابه للتأجيل غير عالمٍ بتحقّق هذا الترك في المستقبل, فليس عالماً عامداً للمعصية وإن كان إقدامُه على ما يحتمل إداءَه إلى الترك قبيحاً عقلاً، فلا يستحقّ العقاب حينئذٍ بتلك المثابة والشدّة.
فبالقرينة السابقة مضافاً إلى هذا المؤيّد يثبت أنّ تأجيل الحجّ من السنة الاُولى إلى سنةٍ اُخرى ـ بالمقدار الذي أثبتنا عدم جوازه إجمالاً في المقام الأوّل ـ يكون معصيةً في حدّ ذاته لا قبيحاً على أساس التجرّي فحسب.
يبقى هناك شيء لابدّ لنا من بحثه هنا لكونه مؤثّراً على بحثنا القادم في المقام الثالث، وهو أنّ الأدلة الشرعيّة التي فهمنا منها حرمة التأجيل بمعنى كونه معصية في حدّ ذاته هل هي مقيّدة لإطلاقات وجوب الحجّ على المستطيع، بحيث يثبت بذلك أنّ الوجوب لم يتعلّق بذات طبيعة الحجّ بشأن الإنسان المستطيع، وإنّما تعلّق بحصّة خاصّة من الحجّ وهو الحجّ في خصوص السنة
57
الاُولى من الاستطاعة، وبعبارة اُخرى إنّ قيد الفوريّة أو المبادرة إلى الحجّ في السنة الاُولى يكون دخيلاً في متعلّق أصل وجوب الحجّ على الإنسان المستطيع، بحيث لو خالف ذلك وأجّل الحجّ تمّت بذلك معصية أصل وجوب الحجّ عليه، ولا يجب عليه الحجّ حينئذٍ في العام القادم إلا بأمر جديد كالأمر بقضاء الصلاة بعد فوتها في وقتها؟
أو أنّ حرمة التأجيل وكونه معصيةً في حدّ ذاته لا تعني ذلك وإنّما تعني حكماً جديداً بوجوب الفور أو حرمة التأجيل بحيث يبقى أصل وجوب الحجّ متعلّقاً بذات طبيعة الحجّ ولا يقيّد بقيد الفور ونحوه وإنّما يضاف إليه حكم جديد مستقلّ وهو وجوب المبادرة إلى امتثال الأمر الأوّل أو حرمة تأجيله، فلو خالف هذا الحكم الجديد بتأجيله للحجّ تمّ بذلك عصيان هذا الحكم الجديد فحسب وبقي الأمر الأوّل نافذ المفعول إلى آخر عمره، فلو أدّى الحجّ في أيّ سنة من السنين قبل وفاته كان أداءً وامتثالاً لنفس الأمر الأوّل لا قضاءً وامتثالاً لأمر جديد، وإن كان قد ارتكب المعصية بمخالفة الأمر الثاني المتعلّق بالفور؟
ولا يخفى أنّ الخيار الثاني الوارد في هذا السؤال لا يعني تعلّق أمرين ووجوبين بفعل الحجّ، أحدهما قد تعلّق بفعل الحجّ مطلقاً من ناحية الزمان، والآخر قد تعلّق بفعل الحجّ مقيّداً بزمان السنة الاُولى، بحيث لو امتثلهما بفعل واحد في السنة الاُولى اجتمع وجوبان على هذا الفعل الواحد, وذلك لأنّ الأمر
58
الثاني بناءً على هذا الفرض لم يتعلّق بالفعل المقيّد بقيد الزمان حتّى يجتمع على هذا الفعل أمران, وإنّما تعلّق بتقيّد هذا الفعل بقيد الزمان بحيث يكون ذات الفعل خارجاً عن تحت هذا الأمر, وهذا يعني أنّ متعلّق الأمر الأوّل يختلف عن متعلّق الأمر الثاني, فالأمر الأوّل متعلّقه عبارة عن ذات الفعل, والأمر الثاني متعلّقه عبارة عن تقيّد ذاك الفعل بقيد الزمان.
والظاهرأنّ هذا الخيارالثاني هو الصحيح، والدليل على ذلك ـ بالإضافة إلى إمكان دعوى وجود ارتكاز متشرّعيّ يقتضي كون وجوب الحجّ في السنوات القادمة لمن أجّل فعله في السنة الاُولى استمراراً لنفس الوجوب الأوّل وحاصلاً بنفس الأمر الأوّل، وليس وجوباً جديداً حاصلاً بأمر جديد على نحو القضاء ـ أنّ ما ورد من التنديد والتشنيع على من مات ولم يحجّ، كقوله عليه السلام: «فقد ترك شريعة من شرايع الإسلام» وقوله عليه السلام: «فهوممّن قال الله عز وجل: ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾» ونحو ذلك، إنّما ورد بشأن من مات ولم يحجّ، ولم يأت بشأن من سوّف الحجّ ثمّ أدّاه في بعض السنين القادمة قبل موته، في حين أنّه بناءً على كون أصل وجوب الحجّ مقيّداً منذ البداية بالسنة الاُولى ستكون المعصية والتقصير الصادران منه في ما إذا سوّف الحجّ ثمّ أدّاه في بعض السنين القادمة قبل موته يساويان المعصية والتقصير الصادرين منه فيما إذا سوّف الحجّ في السنة الاُولى ثمّ مات قبل دركه لموسم الحجّ القادم، لأنّ الوجوب
59
المتعلّق بذمّته منذ البداية بناءً على هذا الرأي وجوب واحد متعلّق بفعل الحجّ في السنة الاُولى، وقد عصى هذا الوجوب الواحد بترك امتثاله في السنة الاُولى سواءً مات قبل دركه لموسم الحجّ القادم أو عاش حتى تعلّق بذمّته أمر جديد وامتثله في العام القادم، فهما معاً لم يعصيا ولم يتجرّءا على المولى إلّا بقدر الوجوب الواحد الّذي تركا امتثاله في السنة الاُولى, غاية الأمر أنّ أحدهما مات قبل أن يتوجّه إليه أمر جديد، والآخر عاش حتى توجه إليه أمر جديد وقد امتثله، وهذا لا يوجب اختلافهما في مستوى المعصية والتقصير الصادرين منهما تجاه المولى، فلماذا يكون الذي قد مات محكوماً بذلك المستوى من التنديد والتشنيع الواردين بشأن من مات ولم يحجّ، والذي لم يمت حتى توجّه إليه أمر جديد وامتثله لا يكون محكوماً بذلك؟
وبعبارة اُخرى يمكن طرح السؤال بأنّه ما هي المعصية أو التقصير الذي يجعل المكلّف مستحقّاً لأن يكون ممّن يحشر يوم القيامة أعمى، ويكون تاركاً لشريعة من شرائع الإسلام، وغير ذلك من التنديد والتشنيع بناءً على كون الأمر المتوجه إليه في السنة الاُولى أمراً أدائيّاً خاصّاً بتلك السنة، والأمر المتوجّه إليه في السنوات القادمة أمراً قضائيّاً خاصّاً بمن ترك امتثال الأمر الأوّل؟
والجواب على هذا السؤال أنّ الذي يجعل المكلّف مستحقاً لما ذكر ينحصر عقلاً في أحد اُمور:
60
1ـ مخالفة الأمر الأدائي.
2ـ مخالفة الأمر القضائي.
3ـ مخالفتهما معاً.
فإن كانت مخالفة الأمر الأدائي وحدها كافية لاستحقاق ما ذكر كان المفروض بروايات الباب أن تعمّم الحكم باستحقاق ما ذكر لكلّ من أجلّ الحجّ في السنة الاُولى سواء وفّق للحجّ في سنة اُخرى أو لم يوفّق لذلك فمات ولم يحجّ.
وإن كانت مخالفة الأمر القضائي هي السبب لاستحقاق ما ذكر أو كانت مخالفتهما معاً هي السبب في ذلك، كان المفروض بروايات الباب أن لا تعمّم الحكم باستحقاق ما ذكر لكلّ من مات ولم يحجّ، إذ أنّ من مات ولم يحجّ تارةً يكون قد توجّه إليه الأمر القضائي ولم يمتثله أيضاً حتّى مات، وتارة يكون قد مات قبل أن يتوجّه إليه الأمر القضائي، فالأوّل يستحق ما ذكر من التنديد والتشنيع سواء كانت مخالفة الأمر القضائي هي السبب في ذلك أو مخالفة كلا الأمرين، وأمّا الثاني فسوف لا يستحق ما ذكر من التنديد والتشنيع، لأنّه لم يخالف أمراً قضائيّاً لعدم توجّهه إليه أصلاً حتّى يخالفه.
إذاً فما نراه في هذه الروايات من أنّها خصّصت التنديد والتشنيع المذكورين بمن مات ولم يحجّ, ولم تعمّمهما لكلّ من سوّف الحجّ وإن لم يمت,
61
دليل على أنّ مخالفة الأمر الأدائي وحدها لاتكفي لتوجه ذلك التنديد والتشنيع إليه.
ومانراه في هذه الرويات من أنّها عمّمت التنديد والتشنيع المذكورين لمن لم يحجّ في السنة الاُولى ومات قبل أن يتوجّه إليه الأمربالقضاء في السنوات القادمة, دليل على أنّ مخالفة الأمر القضائي ليست دخيلة في استحقاق ذلك التنديد والتشنيع, لاوحدها,ولابضمّها إلى مخالفة الأمر الأدائي, لأنّه لم تصدر منه مخالفة الأمر القضائي أصلاً ولو من باب أنّه لم يتوجّه إليه هذا الأمر حتّى يخالفه.
إذاً فما الذي جعل الشارع تبارك وتعالى ـ بحسب هذه الروايات ـ يفصّل في التنديد والتشنيع المذكورين بين شخصين:
أحدهما: من سوّف الحجّ في السنة الاُولى ثمّ مات قبل أن يدرك موسم الحجّ القادم.
والآخر: من سوّف الحجّ في السنة الاُولى ولم يمت حتّى أدّى الحجّ في سنة اُخرى.
فجعل الأوّل مشمولاً للتنديد والتشنيع المذكورين دون الثاني.
في حين أنّ كون الشخص الأوّل مشمولاً للتنديد والتشنيع المذكورين دليل على كفاية مخالفة الأمر الأدائي لاستحقاق هذا الشمول, وعدم كون
62
الشخص الثاني مشمولاً لذلك دليل على عدم كفاية مخالفة الأمر الأدائي لاستحقاق ذلك, وذلك لأنّ الشخصين المذكورين متساويان في مخالفة الأمر الأدائي وعدم مخالفة أمر آخر أصلا, بناء على الرأي القائل بأنّ أصل الأمر المتعلّق بفعل الحجّ خاصّ بالسنة الأولى, وأمّا وجوب الحجّ في السنوات القادمة لمن تركه في السنة الاُولى فهو بأمر جديد على نحو القضاء وليس بالأمر الأوّل.
وهذا يعني أنّنا لانملك تفسيراً معقولاً للتفصيل الذي ذكرناه بين الشخصين المذكورين بناءً على هذا الرأي.
وأمّا بناءً على الرأي الآخر القائل بأنّ الأمرالمتعلّق بأصل فعل الحجّ لايختصّ بالسنة الاُولى وإنّما هو متعلّق بذات طبيعة الحجّ بقطع النظر عن قيد الزمان, وهناك حكم شرعي آخر يقتضي التعجيل في امتثال الأمر الأوّل وهو عبارة عن وجوب المبادرة أوحرمة التأجيل, وهذا الحكم الآخرموجود إلى جنب الحكم الأوّل منذ البداية, وليس أحدهما أدائيّاً والآخر قضائيّاً كما هو مقتضى الرأي الأوّل.. فيمكن تفسير التفصيل الذي ذكرناه بين الشخصين المذكورين بوجه معقول, وهوأنّ الشخص الأوّل قد خالف الأمر المتعلّق بذات طبيعة الحجّ ولم يمتثله حتّى مات, في حين أنّ الثاني لم يمت حتّى امتثل الأمر المتعلّق بذات طبيعة الحجّ, وهذا يعني أنّ الأوّل مات وفي ذمّته الحجّ المأموربه
63
في حياته ـ أعني ذات طبيعة الحجّ ـ في حين أنّ الثاني مات وليس في ذمته ذلك, لأنّه قد أدّى ذات طبيعة الحجّ ولو في عام آخر, نعم هما مشتركان في مخالفة الحكم الثاني الذي كان يقتضي المبادرة والتعجيل إلى الحجّ في السنة الاُولى, ولكنّ الفارق الأوّل يكفي لتفسير التفصيل الذي ذكرناه بين الشخصين.
إذاً فيتيّعن القول بأنّ الأدلّة الشرعيّة التي فهمنا منها ضرورة المبادرة إلى الحجّ ـ في الحدود التي ذكرناها في المقام الأوّل ـ لاتعني تقييد إطلاقات وجوب الحجّ على الإنسان المستطيع بحصّة خاصّة من الحجّ وهو الحجّ المقارن للسنة الاُولى من الاستطاعة, حتّى يكون وجوب الحجّ في السنين الاُخرى بأمر جديد على نحو القضاء, وإنّما هي تعني ضرورة المبادرة إلى الحجّ على أساس حكم آخر لم يتعلّق بفعل الحجّ بل إنّما تعلّق بتقييد هذا الفعل بقيد المقارنة للسنة الاُولى, وذلك بصيغة وجوب المبادرة أو بصيغة حرمة التسويف, بحيث يبقى الأمر الأوّل متعلّقا بذات طبيعة الحجّ بقطع النظر عن قيد الزمان إطلاقاً.
وممّا يويّد ذلك ورود كلة (التسويف) وتكرارها كثيراً في روايات الباب تعبيراً عن عدم القيام بفعل الحجّ في السنة الاُولى، فإنّ هذه الكلمة مشعرة بأنّه لو قام بفعله في سنة اُخرى لم يكن تاركاً للفعل المأموربه وعاصياً للأمر المتوجّه إليه وإنّما هو قائم بتأخير امتثاله فحسب، وهذا إنّما يناسب كون الفعل المأمور به منذ البداية عبارة عن ذات طبيعة الحجّ لا خصوص الحجّ المقارن للسنة
64
الاُولى، وإلّا لو كان هو عبارة عن خصوص الحجّ المقارن للسنة الاُولى لم يكن تأخيره لذات الحجّ تسويفاً للفعل المأمور به بالأمر الأوّل بل كان تركاً له نهائيّاً وامتثالاً لأمرٍ آخر غير الأمر الأوّل، وكان المناسب حينئذ أن يعبّر عن تأخيره بترك الحجّ لا بتسويفه، كما يعبّر عن عدم أداء الصلاة في وقتها بأنّه تركها لا بأنّه سوّفها، وليس ذلك إلّا لأنّ الصلاة التي يؤدّيها بعد الوقت بعنوان القضاء ليس هو الفعل المأمور به منذ البداية حتى يكون قد سوّفه, بل إنّما هو فعل مأمور به بأمر جديد توجّه إليه بعد تركه للفعل السابق، ولو كان الحجّ أيضاً كذلك لما كان المناسب أن يعبّر عن تركه في السنة الاُولى بالتسويف كما في باب الصلاة. فالتعبير عن ترك الحجّ في السنة الاُولى بالتسويف مشعرٌ بل قد يكون ظاهراً في أنّ ما يؤدّيه في السنة القادمة هو الفعل المأمور به منذ البداية, وليس فعلاً مأموراً به بأمر جديد على نحو القضاء.
وبمجموع ما ذكرناه من: الارتكاز المتشرّعي أوّلاً، والتفصيل المستفاد من الأدلّة بين حال الشخصين المشار إليهما ثانياً، وما يستفاد من كلمة (التسويف) ثالثاً، يحصل لنا اليقين ـ أو الاطمئنان على أقل تقدير ـ بأنّ أصل وجوب الحجّ ليس مقيّداً بالسنة الاُولى, بل هو مطلق شامل لفعل الحجّ في أيّ سنةٍ حجّ فيها, وإن كانت المبادرة لازمةً عليه بحكم آخر في الحدود التي استفدناها من الأدلّة في المقام الأوّل.
65
ثمرات هذا البحث:
المقام الثالث: في بيان الثمرات التي قد يدعى ترتّبها على كون تأجيل الحج معصيةً شرعيّةً أو تجرّياً عقلياً فحسب.
وأهمّ ما قد يدّعى من الثمرات في ذلك أربع:
الثمرة الاُولى: إذا كان المكلّف على يقين أو على اطمئنان بأنّه لو ترك الحجّ في السنة الاُولى فسيوفّق لفعله في السنة القادمة ولا يفوته ذلك حتماً، فهل يجوز له تأجيل الحجّ إلى سنة قادمة، أو يجب عليه المبادرة إلى الحجّ في السنة الاُولى رغم حصول هذا اليقين أو الاطمئنان له؟
وقد قلنا سابقاً أنّ مثل هذا اليقين أو الاطمئنان لا يحصل عادةً للإنسان المتثقّف بالثقافة الدينيّة، ولكن لو حصل له ذلك ولو على أساس التأثّر بالثقافات غير الدينية فلابدّ من القول بأنه إن كان لزوم المبادرة مبنياً على أساس الرأي القائل بكون التأجيل تجرياً عقلياً فحسب وليست الأدلة الشرعية الواردة في ذلك إلّا إرشاداً إلى هذا الحكم العقلي فلا شك في سقوط لزوم المبادرة عنه وجواز تأجيل الحج عليه، وذلك لأنّ التأجيل ليس معصية شرعيّة حسب الفرض، والتجري يزول بافتراض حصول اليقين أو الاطمئنان له بعدم انجرار هذا التأجيل إلى فوت الحجّ عنه، فلا وجه لإلزامه بالمبادرة إلى الحجّ بناءً على هذا الرأي.
66
نعم قد يقال بأنّ قطعه هذا بكونه سيؤدّي أعمال الحجّ في سنة قادمة ولايمنعه عن ذلك مانع أو اطمئنانه بذلك ليس قطعاً أو اطمئناناً مبتنياً على اُسس موضوعيّة فهو كقطع القطّاع، فعلى رأي من يقول بعدم معذّرية قطع القطّاع سوف لا يكون قطعه هذا معذّراً له، فلا ينجو من قبح التجرّي، خصوصاً فيما إذا كان مقصّراً في مقدّمات حصول هذا القطع.
وأمّا على الرأي القائل بأنّ لزوم المبادرة مبني على أساس حكمٍ شرعي يقتضي كون التأجيل معصيةً لا تجريّاً فحسب، فلا يسقط عنه لزوم المبادرة إلى الحجّ في السنة الاُولى رغم حصول اليقين أو الاطمئنان المذكور له، سواء فسّرنا الأدلّة الشرعيّة الدالّة على ذلك بأنّ أصل وجوب الحجّ مقيّدٌ منذ البداية بقيد المقارنة للسنة الاُولى بحيث يكون وجوبه عليه في السنوات الاُخرى من باب القضاء، أو فسّرناها بأنّ أصل وجوب الحجّ ليس مقيّداً بذلك ولكنّ هناك حكماً شرعيّاً آخر يقتضي لزوم المبادرة في السنة الاُولى، فإنّه على كلا التقديرين يكون تأجيله للحجّ حينئذٍ معصيةً، غاية الأمر أنّه على التقدير الأوّل تكون المعصية لأجل مخالفته لأصل الأمر بالحجّ لكونه مقيّداً بالسنة الاُولى، وعلى التقدير الثاني لأجل مخالفته للحكم الآخر الذي كان يقتضي لزوم المبادرة عليه، وليس في الأدلّة الشرعيّة الدالّة على هذا الحكم ـ على كلا التقديرين ـ ما يقيّد لزوم المبادرة بفرض عدم حصول القطع أو الاطمئنان للمكلف بعدم انجرار
67
التأجيل إلى الفوت.
الثمرة الثانية: ما قد يقال من اختلاف حال نيّة الحجّ في السنوات القادمة باختلاف المباني المذكورة في هذه المسئلة.
فعلـى مبنى التجـرّي العقلي فحسب سيـكون الحـجّ الذي يؤدّيـه في السنوات القادمة بعد تأجيله له في السنة الاُولى مصداقاً حقيقيّاً لحجّة الإسلام الواجبة عليه منذ البداية, فلابدّ وأن ينوي فيه نيّة حجّة الإسلام، لأنّه لم يجب عليه ذلك بوجوب آخر غير وجوب حجّة الإسلام الذي توجّه إليه منذ البداية وإن كان قد استحق عقاب التجرّي بتأخير امتثاله.
وأمّا على مبنى كون التأجيل معصية شرعيّة فبناءً على تفسير ذلك بما اخترناه من أنّ أصل وجوب الحجّ لم يقيّد بالسنة الاُولى وإنّما هناك حكم آخر يقتضي لزوم المبادرة عليه، فستكون نيّته أيضاً في السنوات القادمة عبارة عن نيّة حجّة الإسلام، لأنّ ما يؤدّيه في السنوات القادمة ليس بأمر جديد أيضاً على هذا الرأي بل هو بالأمر الأوّل الذي تعلّق بحجّة الإسلام وإن كان قد خالف الحكم الآخر الذي كان يقتضي لزوم المبادرة إلى الحجّ في السنة الاُولى.
وأمّا بناءً على تفسير المعصية الشرعيّة بما يقتضيه حمل روايات الباب على تقييد أصل وجوب الحجّ بقيد المقارنة للسنة الاُولى بحيث يصبح وجوب الحجّ في السنوات القادمة بعد تركه في السنة الاُولى منوطاً بأمر جديد على نحو
68
القضاء, فقد يقال باختلاف نيّة الحجّ حينئذ عن حجّة الإسلام لأنّ ما يؤدّيه في السنوات القادمة سيكون بأمر جديد بناءً على هذا الرأي، فلا يمكنه أن ينوي حجّة الإسلام بعد سقوطها بمخالفة الأمر الأوّل، وذلك بقطع النظر عن أنّ سقوط كلّ تكليفٍ بعصيانه هل هو بمعنى سقوط فعليّته أو بمعنى سقوط فاعليّته، فإنّ الأمر الأوّل المتعلّق بحجّة الإسلام قد انتهى دوره بعصيانه على كلا التقديرين بناءً على هذا الرأي، وما وجب عليه فعله في السنوات القادمة إنّما هو بأمر جديد، فليس هو حجّة الإسلام حتّى يمكنه أن ينوي هذه النيّة، بل لابدّ عليه حينئذٍ أن ينوي حجّ القضاء مثلاً أو الحجّ الواجب بالتأجيل مثلاً أو نحو ذلك.
ولكنّ الظاهر أنّ هذا الرأي ـ بالإضافة إلى كونه باطلاً من أساسه كما ذكرنا ـ لا يقتضي اختلاف النيّة. وذلك لأنّ المراد بحجّة الإسلام التي تدخل في النيّة بحسب الارتكاز المتشرّعي هو الحجّ الواجب مرّة واحدة في العمر من حيث الامتثال وبقطع النظر عن كون الأمر المتعلّق به أمراً أدائيّاً أو قضائيّاً. فمجرّد أنّ الأمر المتعلّق بهذا الحجّ قد تغيّر بحسب هذا الرأي وتبدّل بأمر جديد بعد ترك امتثاله في السنة الاُولى، لا يخرج حجّه هذا في السنة القادمة عن صفة حجّة الإسلام، لأنّه من حيث الامتثال لا يجب عليه في العمر إلّا امتثال حجّ واحد وهو تارة امتثال لأمر أدائي وتارة امتثال لأمر قضائي، وهو متّصف
69
بصفة حجّة الإسلام على كلا التقديرين.
نعم يمكن القول بأنّ اشتراكهما في الاتّصاف بصفة حجّة الإسلام يناسب اشتراكهما في أمر واحد أيضاً ولكنّ هذه المناسبة لا تعدو أن تكون مناسبةً عرفيّةً وليست قيداً حقيقيّاً في الاتّصاف بصفة حجّة الإسلام، ولا يمكن الحفاظ على هذه المناسبة العرفيّة بناءً على تبدّل الأمر والوجوب الشرعي من كونه أدائيّاً إلى كونه قضائيّاً كما يقتضيه هذا الرأي.
وهذا بخلاف الرأي السابق الذي اخترناه، فإنّه لا يبتلي بمخالفة هذه المناسبة العرفيّة، لأنّ الأمر المتعلّق بأصل وجوب الحجّ لا يتبدّل بناءً على ذلك الرأي. وهذا ممّا يؤيّد صحة ذلك الرأي.
الثمرة الثالثة: ما قد يظهر في موارد النذر وشبهه، كما إذا أوجب على نفسه بنذر أو شبهه أن يحجّ عن طريق معيّن، أو في زيّ معيّن، أو بالمشي على الأقدام، أو غير ذلك في أوّل وجوب للحجّ عليه، فبناءً على الرأي الأوّل القائل بأنّ تأجيل الحجّ قبيح من باب التجرّي فحسب، والرأي الآخر القائل بأنّه معصية شرعيّة لا بسبب كون أصل وجوب الحجّ مقيّداً بالسنة الاُولى، بل بسبب وجود حكمٍ شرعيٍ آخر يوجب إلزامه بالمبادرة إلى الحج ـ وهو الرأي الذي اخترناه ـ سوف يجب عليه الوفاء بمثل هذا النذر، حتّى إذا أجّل الحجّ تجريّاً أو عصياناً وقام به في سنة قادمة، لأنّ ما يقوم به في السنة القادمة ليس
70
بأمر جديد بناءً على هذين الرأيين، بل هو بنفس الأمر الأوّل الذي كان متعلّقاً بذات طبيعة الحجّ، وهو أوّل وجوب للحجّ توجّه إليه سواءً امتثله في السنة الاُولى أو في سنة قادمة. وأمّا بناءً على الرأي الثالث القائل بأنّ أصل وجوب الحجّ مقيّد بالسنة الاُولى، وإن لم يمتثل ذلك وجب عليه الحجّ في سنة اُخرى بوجب جديد على نحو القضاء، فسوف لا يجب عليه العمل بمتعلّق هذا النذر فيما إذا أجّل الحجّ إلى عام آخر، وذلك لأنّ ما يقوم به في العام الآخر ليس بأوّل وجوب توجّه إليه بحسب هذا الرأي وإنّما هو بوجوب جديدٍ حصل بالأمر القضائي، وقد كان نذره مقيّداً ـ حسب الفرض ـ بأوّل وجوبٍ للحجّ يتوجّه إليه، وهو الوجوب الذي لم يمتثله بحسب هذا الرأي حتّى سقط بالعصيان (سقوطاً فعليّاً أو فاعليّاً على الخلاف بين اُستاذنا الشهيد رحمه الله وبين المشهور في تفسير سقوط التكليف بالعصيان) وعلى كلّ حالٍ ليس الحجّ الذي يقوم به بعد السنة الاُولى امتثالاً لأوّل وجوب يتوجّه إليه وإنّما هو امتثال للوجوب الثاني المتوجّه إليه بحسب الرأي المذكور، وهو خارج عن متعلّق نذره.
هذا كلّه فيما إذا كان قد قيّد نذره بأوّل وجوب للحجّ يتوجّه إليه، وأمّا إذا كان قد قيّده بحجّة الإسلام على الإجمال فهذا سيكون شأنه كشأن الثمرة السابقة، حيث قلنا بأنّ المعنى المرتكز لحجّة الإسلام يشمل مثل هذا الحجّ وإن كان بأمر جديد، فيجب عليه الوفاء بنذره حينئذٍ لكونه داخلاً في متعلّق نذره.
71
الثمرة الرابعة: ما يرتبط باستقرار وجوب الحجّ على المكلّف بتأجيله له من السنة الاُولى إلى سنة اُخرى, بمعنى وجوب قيامه به بعد ذلك حتّى وإن كان قد فقد الاستطاعة الشرعيّة, فإنّ استقرار وجوب الحجّ بهذا المعنى يمكن إثباته من خلال الأمر المتعلّق بذات طبيعة أعمال الحجّ من حين تحقّق الاستطاعة الشرعيّة له بناءً على كون التسويف قبيحاً عقلاً من باب التجري فحسب وليس معصية شرعيّة, كما يمكن إثباته أيضاً من خلال ذلك بناءً على ما اخترناه من أنّ التسويف معصية شرعيّة ولكنّه لا لكون أصل وجب الحجّ متعلّقاً بخصوص الحجّ المقارن للسنة الاُولى بل لوجود حكم شرعيّ آخر يقتضي المنع عن التسويف والإلزام بالمبادرة إلى امتثال الأمر الأوّل في السنة الاُولى رغم كون الأمر الأوّل متعلّقاًبذات طبيعة أعمال الحجّ, فإنّه بناءً على هذين الرأيين سيكون أصل وجوب الحجّ ناشئاً من أمر متعلّق بذاة طبيعة أعمال الحجّ بقطع النظر عن زمان السنة الاُولى, وهو مقيّد بالاستطاعة الشرعيّة ولو في سنة واحدة فحسب, كما سيأتي توضيحه في بحث استقرار الحجّ إن شاء الله تعالى, فإذا ارتكب تسويف الحجّ ـ تجرّياً حسب الرأي الأوّل, وعصياناً لأمر آخر حسب الرأي الثاني ـ بقي عليه أن يمتثل الأمر الأوّل المتعلّق بذات طبيعة أعمال الحجّ ولو في عام آخر حتّى وإن زالت عنه الاستطاعة الشرعيّة.
وأمّا إذا بنينا على الرأي الثالث الذي يقتضي كون التسويف معصية
72
شرعيّة من باب أنّ أصل وجوب الحجّ يكون متعلّقاً بخصوص الحجّ المقارن للسنة الاُولى لابذات طبيعة أعمال الحجّ, فإنّه بناءً على هذا الرأي سوف لايتمّ الدليل المذكور على استقرار وجوب الحجّ على المكلّف, وسنحتاج إلى التماس دليل آخر على استقرار وجوب الحجّ على المكلّف بتسويفه له من السنة الاُولى إلى سنة اُخرى.
وسنستعرض الأدلة التي قد يتمسّك بها لإثبات استقرار وجوب الحجّ في بحث قريب إن شاء الله تعالى, وسيظهر من خلال بحثنا هناك أنّ الأدلّة الاُخرى التي قد يتمسّك بها لإثبات ذلك قابلة جميعاً للخدش والنقاش, اللّهم إلّا أن يتمسّك بالأدلّة اللبيّة كدعوى الإجماع والضرورة الفقهيّة ونحوهما.
الحصيلة النهائيّة لهذا البحث:
وأخيراً يمكننا أن نختصر الحصيلة النهائيّة التي حصلنا عليها في بحث وجوب المبادرة إلى الحجّ بالمعنى الأوّل من المعنيين الذين ذكرناهما في بادئ البحث، بأنّه يجب على المكلّف المستطيع للحجّ أن يبادر إلى أداء حجّه في السنة الاُولى من استطاعته، بمعنى أنّه لا يجوز له تأجيل ذلك إلى سنة اُخرى تكاسلاً أو حرصاً على ربح تجارة أو نحو ذلك من شؤون الدنيا، كما جاء في المتن، والظاهر جواز تأجيله لأغراض دينيّةٍ أو عقلائيّةٍ مهمّةٍ لا تُقاس بمثل غرض التجارة، كغرض مداراة مريضٍ يهمّه أمره، أو غرض تكميل الدراسة الجامعيّة،
73
ونحوهما، فيما إذا لم يمكن تأجيل تلك الأغراض.
وحرمة التأجيل هذه ـ في الحدود التي ذكرناها ـ ليست ناشئةً من مجرّد قبح التجرّي عقلاً، وإنّما هي ناشئةٌ من حكمٍ شرعيٍّ يقتضي المبادرة إلى الحجّ في السنة الاُولى، وهذا الحكم الشرعي ليس عبارةً عن أصل وجوب الحجّ على المستطيع، لأنّه غير متعلّقٍ بخصوص الحجّ المقارن للسنة الاُولى، بل هو متعلّق بذات طبيعة الحجّ، وإنّما هو حكم شرعيّ آخر إلى جنب أصل وجوب الحجّ اقتضى المبادرةَ إلى امتثال وجوب الحجّ ـ الثابت بالأمر الأوّل ـ في السنة الاُولى، رغم عدم اختصاص أصل وجوب الحجّ ـ الثابت بالأمر الأوّل ـ بتلك السنة، وهذا ما قد يترتّب عليه بعض الثمرات كما ذكرنا.
74
وإذا لم يحجّ في السنة الاُولى وجب عليه أن يبادر إلى ذلك في السنة التالية وهكذا(1).

استقرار وجوب الحجّ بتركه في السنة الاُولى
(1) لابدّ من البحث في هذه المسألة ضمن ثلاثة مقامات:
المقام الأوّل: في وجوب المبادرة إلى الحجّ في السنوات الاُخرى، بمعنى عدم جواز تأخيره من كلّ سنة إلى سنة اُخرى بعد السنة الاُولى، بعد فرض التسليم بأصل استقرار وجوب الحجّ عليه بتركه في السنة الاُولى.
المقام الثاني: في أصل استقرار وجوب الحجّ عليه وعدمه بتركه في السنة الاُولى، بمعنى وجوب أدائه عليه إجمالاً بعد تلك السنة وإن زالت عنه الاستطاعة الشرعيّة.
المقام الثالث: في أنّ مقتضى استقرار وجوب الحجّ عليه بعد السنة الاُولى، هل هو لزوم أدائه عليه ولو تسكّعاً ومتحمّلاً للعسر والحرج، أو أنّ مقتضى ذلك وجوب أدائه عليه وإن زالت عنه الاستطاعة الشرعيّة مالم يبلغ حدّ العسر والحرج, كما إذا أمكنه أداء الحجّ بالتكسّب ونحوه.
أمّا المقام الأوّل: ففي وجوب المبادرة وعدمها في السنوات الاُخرى
75
بمعنى عدم جواز تأخيره من كلّ سنة إلى اُخرى، بعدفرض التسليم بأصل استقرار وجوب الحجّ عليه بعد السنة الاُولى إذا تركه فيها، وبعد السنة الثانية لو تركه فيهما، وهكذا.
والظاهر وجوب المبادرة بحسب الفرض المذكور في الحدود التي آمنّا فيها بوجوب المبادرة في السنة الاُولى, وذلك لأنّ الأدلّة الشرعيّة التي استندنا عليها لوجوب المبادرة في السنة الاُولى سواء ماكان فيها من الطائفة الاُولى أو الطائفة الثانية كانت تدلّ على النهي عن التسويف لامن السنة الاُولى إلى السنة الثانية فحسب, بل من كلّ سنة إلى سنة اُخرى على فرض ثبوت أصل الوجوب عليه كما يظهر بالتأمّل, نعم ماكان منها خاصّاً بفرض بلوغ التسويف حدّ الإهمال والمماطلة ـ كالتي جاء فيها التعبير بمثل «يسوّف الحجّ كلّ عام»ـ فقد لا يستفاد منه النهي عن التسويف في حدود سنة واحدة فحسب, بل قد لا يستفاد منه ذلك في أكثر من سنة واحدة أيضا مالم يبلغ حدّ الإهمال والمماطلة, كما ذكرنا ذلك في محلّه, ولكن تكفينا الأدلّة الاُخرى الدالّة بإطلاقها على حرمة التسويف في كلّ سنة إلى سنة اُخرى وإن لم يصدق عنوان الإهمال والمماطلة, ولكنّها مختصّة بخصوص التسويف الناشئ من غرض التجارة ونحوها, وهذا لا يساوي الإهمال والمماطلة دائماً كما ذكرنا.
ولافرق في ذلك بين ما إذا كان الوجوب الذي افترضنا ثبوته على
76
المكلّف بعد السنة الاُولى عبارة عن نفس الوجوب الذي كان ثابتاً عليه منذ السنة الاُولى, لكونه متعلّقاً بذات طبيعة الحجّ, أو كان عبارة عن وجوب آخرتوجّه إليه على نحو القضاء بعد فرض سقوط الأمر الأوّل بالمعصية, فإنّه ـ على كلا التقديرين ـ كما تدلّ الروايات المذكورة على النهي عن تسويف الحجّ الواجب في السنة الاُولى تدلّ أيضا على النهي عن ذلك في السنوات الاُخرى على فرض ثبوت الوجوب فيها.
وأمّا المقام الثاني: ففي أصل استقرار وجوب الحجّ عليه أو سقوطه عنه بعد السنة الاُولى إذا تركه فيها, وبعد السنة الثانية إذا تركه فيهما, وهكذا.
ولاشكّ في استقرار الوجوب عليه بالنحو المذكور في فرض استمرار الاستطاعة الشرعيّة أو تجدّدها بعد زوالها, وذلك لأن الاستطاعة الشرعيّة للحجّ تقتضي وجوب الحجّ عليه حتّى وإن قلنا بسقوط الوجوب الأوّل عنه بالمعصية, وهذا ما لا غبار عليه.
وأمّا إذا زالت الاستطاعة الشرعيّة عنه بزوال بعض شرائطها المقرّرة الآتية, فتارة نفترض زوال الاستطاعة العقليّة عنه أيضاً بحيث لا يستطيع فعل الحجّ بأيّ صورة من الصور، واُخرى نفترض عدم زوال الاستطاعة العقليّة عنه بحيث يستطيع فعل الحجّ ببعض الصور رغم زوال الاستطاعة الشرعيّة عنه.
77
أمّا على فرض زوال الاستطاعة العقليّة عنه أيضاً فيسقط عنه التكليف بالعجز حتّى وإن قلنا بوجوب الحجّ عليه على فرض قدرته على ذلك , وهل يحصل حينئذ على عقاب واحد أو على عقابين؟ فهو منوط أوّلاً بكونه مقصّرا في سلب القدرة عن نفسه أو غير مقصّرفي ذلك, وثانياً بأنّه على فرض كونه مقصّرا في ذلك فهل كان عليه ـ لولا العجز الحاصل بالتقصير ـ تكليفان شرعيان ارتكب المعصية في أحدهما والتجرّي في الآخر, أو كان عليه تكليف واحد, إلى غير ذلك ممّا يوثّر في موازين العقاب, ولا داعي للدخول في تفاصيل ذلك ما دام التكليف ساقطاً عنه بالفعل على أساس العجز.
نعم لابدّ من البحث في استقرار الحجّ عليه وعدمه من زاوية الآثار الاُخرى المترتّبة على استقرار الحجّ, كوجوب الاستنابة عليه, وكخروج مصارف الحجّ من أصل تركته إذا مات, ولكنّ البحث في هذه الآثار منوط بمواضعها المقرّرة لها وخارج عمّا نحن فيه الآن.
وأمّا على فرض عدم زوال الاستطاعة العقليّة عنه بحيث يستطيع فعل الحجّ ولو بمثل التكسّب على رغم زوال الاستطاعة الشرعيّة عنه, فهل يجب عليه ذلك ـ بقطع النظر عن استلزامه للعسر والحرج ـ أو لا يحب؟
وفي هذا الفرض تارة نتكلّم حول من سوّف الحجّ بغير مبرّر شرعيّ, كالذي سوّفه تكاسلاً أو لغرض التجارة ونحوها, ثمّ سقطت عنه الاستطاعة
78
الشرعيّة بزوال بعض شروطها ولم تسقط عنه الاستطاعة العقليّة, واُخرى نتكلّم حول من سوّف الحجّ بمبرّر شرعيّ, كالذي سوّفه لغرض دينيّ أو عقلائيّ مهمّ غير قابل للقياس بغرض التجارة, بناءً على عدم وجوب المبادرة في مثل ذلك, ثمّ ابتلى بسقوط الاستطاعة الشرعيّة عنه بزوال بعض شروطها, ولم تسقط عنه الاستطاعة العقليّة.
أمّا بالنسبة إلى من سوّف الحجّ بغير مبرّر شرعيّ فيبدو أنّ المتسالم عليه بين الأصحاب في ذلك استقرار وجوب الحجّ عليه إجمالاً رغم سقوط الاستطاعة الشرعيّة عنه بزوال بعض شروطها, كما يبدو تسالمهم أيضاً على ثبوت الآ ثار الاُخرى لاستقرار الحجّ عليه, كوجوب الاستنابة عليه ما دام على قيد الحياة, وخروج مصارف الحجّ من أصل تركته إن مات, وذانك بحسب موازين وجوب الاستنابة عنه حيّاً أو ميّتاً المبحوثة في محلّها.
ونحن الآن بصدد البحث عن استقرار وجوب الحجّ عليه من حيث فعله له, وأمّا البحث عن باقي آثار استقرار الحجّ فلا بدّ وأن يأتي في محلّها إن شاء الله تعالى.
ويمكن التمسّك لإثبات استقرار وجوب الحجّ عليه من حيث فعله له ـ بالإضافة إلى التسالم الفقهيّ المذكور ـ ببعض الوجوه التالية:
الوجه الأوّل: عبارة عن التمسّك بأصل الأدلّة الدالّة على وجوب الحجّ
79
على من توفّرت فيه شرائط الاستطاعة الشرعيّة, كقوله تعالى: «لله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً» وكقوله : «من كان صحيحاً في بدنه, مخلّى سربه, له زاد وراحلة, فهو ممّن يستطيع الحجّ»1
الوسائل: الباب 8 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه /الحديث 4.
بناءً على حمل تلك الأدلّة على إرادة وجوب ذات طبيعة الحجّ, لاخصوص الحجّ المقارن للسنة الاُولى, وإن وجبت المبادرة إليه في السنة الاُولى بتكليف آخر, كما اخترنا ذلك في البحث الماضي, فإنّه بناءً على هذا الرأي لو ترك الحجّ في السنة الاُولى فقد عصى التكليف الثاني الذي يقتضي المبادرة, ولم يعص التكليف الأوّل الذي يقتضي وجوب ذات طبيعة الحجّ, وهذا يعني أنّ ذات طبيعة الحجّ يبقى واجباً على عاتقه بالوجوب الأوّل الذي صار فعليّاً بحصول الاستطاعة الشرعيّة في السنة الاُولى, ولابدّ من امتثاله ولو في سنة اُخرى, ولا موجب لسقوطه عنه بزوال تلك الاستطاعة إلّا على أساس أحد توهّمين:
1ـ توهّم كون الاستطاعة الشرعيّة الدخيلة في فعليّة أصل وجوب الحجّ عبارة عن الاستطاعة المستمرّة إلى حين العمل أو التي تستجدّ حين العمل ولو في السنوات القادمة, بحيث لايكفي لفعليّة أصل وجوب الحجّ عليه مجرّد توفّر شرائط الاستطاعة في السنة الاُولى التي ترك الحجّ فيها, وهذا يعني عدم وجوب

  • الوسائل: الباب 8 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه /الحديث 4.
80
الحجّ عليه بغير الاستطاعة الشرعية في السنوات الاُخرى, إذ لو استمرّت الاستطاعة أو استجدّت في سنة الامتثال كان حجّه مع الاستطاعة الشرعيّة, وإن لم تستمرّ ولا استجدّت أصلاً فالوجوب ليس فعليّا بحقّه حتّى يستدعي الامتثال.
وهذا طبعاً توهّم باطل, وذلك لأنّ الاستطاعة الشرعيّة الدخيلة في فعليّة الوجوب إن كانت عبارة عن الاستطاعة لا في السنة التي تبدأ بها فحسب بل الاستطاعة بشرط استمرارها أو تجدّدها إلى سنة الامتثال وإن تأخّرت عن السنة التي بدأت بها, فهذا يعني أنّ الاستطاعة لو حصلت في سنة واحدة ولم يحجّ فيها ثمّ زالت ولم تستجدّ في سنة اُخرى انكشف بذلك عدم حصول فعليّة وجوب الحجّ منذ البداية, وأنّ تأجيله للحجّ لم يكن حراما ولا معصية أصلاً لعدم توفّرشرط فعليّة الوجوب في حقّه, وإذا لم يكن قد توجّه إليه وجوب فعليّ للحجّ في الواقع لم يشمله وجوب المبادرة إلى امتثاله أيضاً, لأنّ أدلّة وجوب المبادرة إنّما تدلّ على وجوب المبادرة إلى امتثال الحجّ الواجب, لا إلى امتثال حجّ لا وجوب فيه, بل يمكن القول بأنّه بناءاً على هذا سوف لايحصل له اليقين بفعليّة الوجوب في كلّ سنة كان مستطيعاً فيها إلّا بتحقيق الامتثال في تلك السنة, ومالم يمتثل يبقى شاكّاً في فعليّة الوجوب, لاحتمال زوال الاستطاعة إلى حين الامتثال, ومالم يحصل له اليقين بفعليّة الوجوب لايحصل له حافز نحو
81
الامتثال, والنتيجة أنّ مثل هذا الوجوب لادافعيّة له نحو الامتثال.
إذاً فالصحيح أنّ الاستطاعة التي تجعل وجوب الحجّ فعليّاً إنّما هي الاستطاعة ولو في سنة واحدة ولا يشترط فيها الاستمرار أو التجدّد حين الامتثال ولوفي سنة اُخرى.
2ـ توهّم أنّ توفّر شروط الاستطاعة الشرعيّة حين الامتثال شرط دخيل في الواجب حتّى وإن لم يكن دخيلاً في الوجوب, وهذا يعني أنّه لو لم يحجّ في السنة الاُولى التي كان مستطيعاً فيها وجب عليه حفظ الاستطاعة أو تحصيلها من جديد لأجل تحقيق الامتثال في سنة اُخرى, وذلك لأنّ متعلّق الوجوب حسب هذا الفرض عبارة عن أفعال الحجّ المقترنة بالاستطاعة الشرعيّة, فلا يكفيه تحصيل ذات أفعال الحجّ ولو بغير الاستطاعة الشرعيّة, بل لابدّ له من تحصيل أفعال الحجّ مع قيد اقترانه بالاستطاعة الشرعيّة حين العمل, فإن لم يمكنه ذلك سقط التكليف عنه بالعجز, فلا تصل النوبة أبداً إلى فعل الحجّ بغير الاستطاعة الشرعيّة، إذ أنّه لو أمكنه حفظ الاستطاعة الشرعيّة أو تحصيلها من جديد للسنة التي يحقّق فيها الامتثال وجب عليه ذلك, وإن لم يمكنه سقط التكليف عنه بالعجز, ولا يتحقّق الامتثال بفعل الحجّ بغير الاستطاعة الشرعيّة أصلاً, لأنّه خارج عن متعلّق التكليف لخلوّه عن الشرط الدخيل في الواجب.
وهذا التوهّم باطل أيضاً، وذلك لأنّنا لو افترضنا دخالة الشرط المذكور
82
في الواجب والوجوب معاً لا في الواجب فحسب ـ كما صوّر اُستاذنا الشهيد رحمه الله مثل ذلك في مثال دخالة طلوع هلال شهر رمضان في وجوب الصوم في هذا الشهر بمعنى أنّه من ناحيةٍ لا يكون وجوب الصوم فعليّاً إلّا بدخول شهر رمضان، ومن ناحيةٍ اُخرى إنّ الصوم الواجب بهذا الوجوب ليس هو ذات طبيعة الصوم بل هو الصوم المقيّد بكونه في شهر رمضان ـ رجعت بذلك جميع الاشكالات الواردة على التوهّم السابق، لأنّ وجوب الحجّ سوف لا يكون فعليّاً بناءً على هذا الفرض الّا بتوفّر الاستطاعة الشرعيّة لا في السنة الاُولى فحسب وإن لم يحجّ فيها، بل بتوفّرها في سنة الامتثال وإن تأخّرت عن سنة الاستطاعة، إذ أنّ هذا هو مقتضى دخالة هذا الشرط في الوجوب أيضاً لا في الواجب فحسب، وبالتالي لو سقطت الاستطاعة الشرعيّة عنه بعد السنة الاُولى التي لم يحجّ فيها ولم ترجع إليه سينكشف بذلك عدم فعليّة الوجوب عليه من أوّل الأمر لعدم توفّر شرطه المستقبلي بحسب علم الله تبارك وتعالى، وتترتّب على ذلك المحاذير التي شرحناها في الإيراد على التوهّم السابق.
وأمّا لو افترضنا دخالة الشرط المذكور في الواجب فحسب لا في الوجوب ـ بمعنى أنّ الوجوب يصبح فعليّاً بمجرّد حصول الاستطاعة
83
الشرعيّة في سنة واحدة، ولا يشترط في فعليّته بقاؤها أو تجدّدها في سنة الامتثال، ولكنّ الذي تعلّق به هذا الوجوب أعني الواجب, ليس هو ذات طبيعة أعمال الحجّ، بل إنّما هو الحجّ المقرون بالاستطاعة الشرعيّة عند الامتثال ـ كفى للرّد على ذلك عدم وجود دليل إثباتيّ على دخالة هذا الشرط في الواجب رغم عدم دخله في الوجوب، لأنّ الأدلّة الشرعيّة كلّها إنّما تجعل الاستطاعة الشرعيّة بأيّ معنىً كانت شرطاً في الوجوب، ولا يوجد فيها ما يشير إلى كونها شرطاً في الواجب، بل قد يحصل الاطمئنان بعدم دخالة ذلك في الواجب دون الوجوب، بسبب أنّ أيّ شرط من الشروط لو كان دخيلاً في الوجوب والواجب معاً فمن المعقول أن يُذكر دخله في الوجوب ويُتسامح في ذكر دخله في الواجب, لأنّه لو لم يحصل فلا وجوبَ, وإن حصل فقد حصل, ولا يجب تحصيله على المكلّف, وهذا بخلاف دخالة شرط من الشروط في الواجب فحسب دون الوجوب, فلا يمكن التسامح في عدم ذكر دخالته في الواجب، وذلك لأنّ مقتضى دخالته في الواجب دون الوجوب لزوم الاندفاع نحوَ تحصيله، فكيف يمكن للشارع أن يسكت عن بيان دخله في الواجب؟ ونحن نرى في ما نحن فيه أنّ الأدلّة الشرعيّة كلّها ساكتة عن دخل أيّ نوع من أنواع الاستطاعة في الواجب مستقلّاً عن دخالته في الوجوب، وهذا يعني أنّه لا توجد هناك استطاعة دخيلة في الواجب وغير دخيلة في الوجوب.
84
ولعلّه لهذا السبب حصل التسالم بين الأصحاب على أنّ الاستطاعة الشريعيّة لو حصلت في سنة واحدة كفى ذلك لوجوب الامتثال حتّى بعد سقوط تلك الاستطاعة، إذ لا توجد هناك استطاعة شرعيّة اُخرى دخيلة في الواجب دون الوجوب حتّى يلزم عليه تحصيل تلك الاستطاعة ولا يصحّ منه الحجّ بدونها.
وعلى كلّ حال فلا مجال لتوهّم سقوط وجوب الحجّ بزوال الاستطاعة الشرعيّة عنه بعد السنة الاُولى لو ترك الحجّ فيها من دون عذر شرعيّ، إذاً فيجب عليه أداء الحجّ في سنة اُخرى ولو بغير الاستطاعة الشرعيّة.
الوجه الثاني: من الوجوه التي قد يُتمسّك بها لإثبات وجوب الحجّ إجمالاً بعد السنة الاُولى من استطاعته لو لم يحجّ فيها حتّى وإن زالت عنه الاستطاعة الشرعيّة، عبارة عن الروايات الدالّة على وجوب الحجّ في كلّ عام1
الوسائل: ب 2 من أبواب وجوب الحجّ.
بناءً على حملها على أنّ من وجب عليه الحجّ في السنة الاُولى فلم يفعل وجب عليه في الثانية، فإن لم يفعل وجب عليه في الثالثة، وهكذا. إذ قد يقال بأنّ هذه الروايات بعد حملها على هذا المعنى ـ ولو لأجل الجمع بينها وبين الروايات الدالّة على أنّ الواجب من الحجّ على كلّ إنسان إنّما هي مرّة واحدة فحسب ـ

  • الوسائل: ب 2 من أبواب وجوب الحجّ.
85
تدلّ بإطلاقها على وجوب الحجّ عليه في السنة الثانية ثم الثالثة وهكذا، سواءً كان باقياً على استطاعته الشرعيّة أو غير باقٍ عليها.
ويرد على ذلك: أنّنا سبق وأن تعرّضنا لذكر هذه الروايات ولم نوافق على حملها على هذا المعنى بالتعيين، فإنّنا لو لم نوافق على صحّة ظهورها الأوّلي أصبح المعنى المراد بها مجملاً ومردّداً بين عدّة من المعاني التي قد يكون هذا المعنى المذكور واحداً منها، ولا يمكن تعيينه فيه لا على أساس الجمع العرفي ولا على أيّ أساس آخر، كما مضى شرحه.
هذا بالإضافة إلى أنّ الظاهر ممّن حمل هذه الروايات أو بعضها على المعنى المذكور كالشيخ الطوسي رحمه الله1
التهذيب: ب1 من كتاب الحجّ، ذيل الحديث 48.
أنّه إنّما حملها على ذلك في إطار (أهل الجدة) لا في إطار كلّ من استطاع للحجّ ولو في سنة واحدة، كما أنّ تلك الروايات أكثرها واردة أيضاً في خصوص أهل الجدة، وهذا لا يساعد على استفادة الإطلاق منها لحالة زوال الاستطاعة الشرعيّة عنه بعد السنة الاُولى، لأنّ أهل الجدة ـ عادةً ـ هم الأثرياء الذين يمكنهم فعل الحجّ في كلّ عام بكلّ رفاه.
الوجه الثالث: عبارة عن التمسّك بروايات النهي عن تسويف الحجّ

  • التهذيب: ب1 من كتاب الحجّ، ذيل الحديث 48.
86
التي أشرنا إليها سابقاً 1
الوسائل: ب 6 من أبواب وجوب الحجّ.
إذ قد يستدلّ بها على إثبات عدم سقوط وجوب الحجّ بزوال الاستطاعة الشرعيّة بعد العام الأوّل لو لم يحجّ فيه ووجوب أداء الحجّ عليه بعد ذلك ولو بغير الاستطاعة الشرعيّة.
وظاهر بعض الكلمات المنقولة عن السيّد الخوئي رحمه الله صحّة الاستدلال بهذه الروايات فيما إذا كان تأخيره للحجّ عمديّاً وبالإهمال والتسويف لا عن عذر، وهو رحمه الله وإن لم يكن في مقام البحث عن‌ما نحن فيه من ‹استقرار وجوب الحجّ على من سوّف الحجّ من العام الأوّل لاستطاعته إلى عامٍ آخر، ثم زالت عنه الاستطاعة› ، بل كان في مقام البحث عن استقراره على من سوّف التحرّك نحو الحجّ من القافلة الاُولى إلى القافلة الثانية ضمن السنة الاُولى ولم يتمّ له إدراك الحجّ مع االقافلة الثانية، ولكنّ الفكرة المنقولة عنه في الاستدلال بهذه الروايات لو تمّت لسرت إلى ما نحن فيه بطريقٍ أولى، لأنّ روايات التسويف واردة في تأخير الحجّ من العام الأوّل إلى عام آخر, لا في تأخيره من القافلة الاُولى إلى القافلة الثانية؛ قال رحمه الله: «وقد يُستدلّ على استقرار الحجّ بروايات التسويف، وهي بإطلاقها تدلّ على استقرار الحجّ حتّى لو زالت الاستطاعة، وهذه الروايات أيضاً قاصرة الشمول عن المقام، لأنّ موردها التأخير العمدي

  • الوسائل: ب 6 من أبواب وجوب الحجّ.
87
والإهمال والتسويف لا عن عذر، فلا تشمل من سلك طريق العقلاء ولكن من باب الصدفة لم يدرك الحجّ»1
موسوعة الإمام الخوئي: الجزء26/ الصفحة14.
. وهو رحمه الله لم يوضّح تقريب دلالة هذه الروايات على استقرار وجوب الحجّ حتّى لو زالت الاستطاعة، فإنّ حرمة التسويف والتأخير التي دلّت عليها هذه الروايات شيءٌ، ووجوب فعل الحجّ في عام آخر على فرض تركه في العام الأوّل شيءٌ آخر، والاستدلال بما دلّ على الأمر الأوّل لإثبات الأمر الثاني بحاجة إلى تقريب، وما يمكن عرضه لتوضيح الاستدلال المذكور تقريبان:
التقريب الأوّل: مركّب من اُمور، وهي:
1ـ أنّ هذه الروايات دلّت على حرمة التسويف سواءً علم المكلّف ببقاء استطاعته الشرعيّة أو تجدّدها إلى السنة القادمة، أو شكّ في بقائها أو تجدّدها كذلك، أو علم بعدم بقائها ولا تجدّدها إلى السنة القادمة، وبهذا الإطلاق نعرف أنّ حرمة التسويف لا تختصّ بما إذا كانت استطاعته الشرعيّة من نوع الاستطاعة التي ستبقى إلى عام قادم، بل إنّها تشمل ما إذا كانت استطاعته الشرعيّة من النوع الذي سوف لا يبقى إلى عامٍ قادم.
2ـ أنّ التعبير بالتسويف فيه إشارة واضحة إلى أنّه لو ارتكب التسويف

  • موسوعة الإمام الخوئي: الجزء26/ الصفحة14.
88
المحرّم ثمّ أدّى ما سوّفه في العام القادم كان عمله مقبولاً وصحيحاً شرعاً لا باطلاً، وإلّا لو كان حجّه في العام القادم باطلاً لما صحّ التعبير عن ترك الحجّ في العام الأوّل بالتسويف، لأنّ التسويف تعبير عن مخاطبة الإنسان لنفسه بقوله: «سوف أفعل» فإذا كان فعله في المستقبل باطلاً من أساسه فلا معنى للتسويف، بل يجب التعبير عنه حينئذٍ بالترك لا بالتسويف. وهذا أيضاً يشمل الحالات الثلاثة، أعني: ما إذا كان عالماً ببقاء استطاعته الشرعيّة أو تجدّدها إلى السنة القادمة، وما إذا كان شاكّاً في ذلك، وما إذا كان عالماً بعدمه، وبهذا نستنتج صحةَ عمله في العام القادم حتّى في فرض زوال الاستطاعة وعدم تجدّدها له.
3ـ أنّ صحّة حجّه في العام القادم حتّى في حال زوال استطاعته الشرعيّة وعدم تجدّدها له تساوي كونه مصداقاً للحجّ الواجب، سواءً كان بالوجوب الأوّل أو بوجوب جديد، ولا نحتمل مشروعيّته بغير الوجوب مادام قد توفّرت له الاستطاعة في بادئ الأمر، ولهذا عدّه الأصحاب من حجّة الإسلام، ولو كان من الحجّ المستحب لما عُدّ من حجّة الإسلام.
وبمجموع هذه الاُمور الثلاثة نعرف أنّ وجوب الحجّ يشمله في العام القادم ولو بغير الاستطاعة الشرعيّة.
ويمكن الإيراد على هذا التقريب بمناقشة الأمر الثالث من هذه الاُمور, وذلك لأنّه يكفي لصدق التسويف عليه كون حجّه في العام القادم مشروعاً
89
ولو على نحو الاستحباب، كاستحباب الحجّ على غير المستطيع من أوّل الأمر إن كان قادراً عليه بالقدرة العقليّة، ولا يمكن نفي هذا الاحتمال إلّا بأحد وجهين:
أحدهما: الرجوع إلى الوجه الأوّل للاستدلال على استقرار وجوب الحجّ بعد السنة الاُولى حتّى في فرض زوال الاستطاعة الشرعيّة عنه، وذلك بالبناء على كون الوجوب الأوّل على ذمّته لكونه متعلّقاً بذات طبيعة الحجّ.
والثاني: الرجوع إلى التسالم الفقهي وبناء الأصحاب على كون حجّه هذا بعد العام الأوّل من حجّة الإسلام حتى وإن كان بغير الاستطاعة الشرعيّة.
أمّا إذا قطعنا النظر عن هذين الوجهين وأردنا أن نستدلّ على وجوب الحجّ عليه بغير الاستطاعة الشرعيّة في العام القادم مستقلاً عن هذين الوجهين، لم يمكن ذلك بالتقريب المذكور، لأنّه سيبقى احتمال كون هذا الحجّ مستحبّاً لا واجباً عليه ما دمنا قد قطعنا النظر عن بقاء الوجوب الأوّل على ذمّته، وقطعنا النظر عن التسالم الفقهي وبناء الأصحاب على كونه من حجّة الإسلام، والوجوب الجديد بحاجة إلى دليل جديد، ولا يمكن إثباته بصدق كلمة التسويف عليه، لما قلنا من كفاية الاستحباب لصدق التسويف عليه.
إذاً فالتقريب المذكور لا يستغني عن الرجوع إلى وجه آخر لإثبات المطلوب.
90
التقريب الثاني مركّب أيضاً من اُمور، وهي:
1ـ أنّ هذه الروايات لا تدلّ على النهي عن تسويف الحجّ من السنة الاُولى إلى السنة الثانية فحسب، بل إنّها تدلّ على حرمة تسويفه من كلّ سنة إلى سنة اُخرى إلى أن يتمّ الامتثال.
2ـ أنّ حرمة التسويف من كلّ سنة إلى سنة اُخرى تدلّ بالدلالة الالتزاميّة على وجوب الحجّ في تلك السنة، لأنّ الحجّ الاستحبابي لا يحرم فيه التسويف قطعاً، ففي كلّ موردٍ ثبتت فيه حرمة التسويف سنستكشف وجوب الحجّ في ذلك المورد بالدلالة الالتزاميّة.
3ـ أنّ مقتضى إطلاق الروايات المذكورة شمول حرمة التسويف لحالة زوال الاستطاعة الشرعيّة بعد السنة الاُولى وعدم تجدّدها إلى حين الامتثال.
إذاً فمقتضى حرمة التسويف عليه من السنة الثانية إلى السنة الثالثة وجوب الحجّ عليه في السنة الثانية حتّى مع عدم الاستطاعة الشرعيّة فيها، كما أنّ مقتضى حرمة التسويف من السنة الثالثة إلى السنة الرابعة، وجوب الحجّ عليه في السنة الثالثة حتّى مع عدم الاستطاعة الشرعيّة فيها، وهكذا.
وهذا يعني: أنّه لو لم يحجّ في سنة الاستطاعة وجب عليه الحجّ ولو بغير الاستطاعة الشرعية في السنة الثانية، وإلّا ففي الثالثة، وإلّا ففي الرابعة، وهكذا.
91
ولكن هذا التقريب لايمكن المساعدة عليه أيضاً، وذلك لأنّنا حينما نراجع روايات حرمة التسويف لا نجد فيها ما تصدق فيه كلّ الاُمور الثلاثة المذكورة في هذا التقريب:
فبعضها لا دلالة فيها على حرمة التسويف إلّا بلحاظ السنة التي هو مستطيع فيها بالاستطاعة الشرعيّة، لا بلحاظ جميع سنوات عمره إلى حين موته.
وبعضها وإن كان ظاهراً في حرمة التسويف عليه في جميع سنوات عمره إلى حين موته، ولكنّه ناظر إلى من استمرّت استطاعته الشرعيّة إلى حين موته، فهو ساكت عن حكم من لم تستمر استطاعته إلى حين موته.
وبعضها قد يستظهرمنها إطلاق حرمة التسويف وشمولها لجميع سنوات عمره بقطع النظر عن كونه مستطيعاً فيها أو فقيراً معدماً, ولكنّه اُخذ في موضوع حرمة التسويف كون الحجّ الذي سوّفه واجباً لا مستحبّاً، وأخذ هذا القيد في موضوع حرمة التسويف ـ سواء كان على مستوى الظهور في دلالة الدليل أو على مستوى الاحتمال المساوي المورث للإجمال في الدليل ـ يؤدّي إلى عدم إمكان إثبات الوجوب بدعوى إطلاق حرمة التسويف، بل إنّ إطلاق حرمة التسويف ينكسر ويزول عند الشك في وجوب الحجّ الذي سوّفه المكلّف، فإذا شككنا في أنّ الحجّ بغير الاستطاعة الشرعيّة بعد العام الأوّل
92
واجبٌ أو مستحبّ، لا يمكن التمسّك بإطلاق هذا القسم من الروايات لإثبات كونه واجباً عن طريق الدلالة الالتزاميّة لإطلاق حرمة التسويف فيه ـ بالنحو الذي مضى في الأمر الثاني من الاُمور الثلاثة المذكورة في هذا التقريب ـ بل إنّ إطلاق حرمة التسويف سوف لا يشمل مورد الشكّ في وجوب ذلك الحجّ، لأنّ وجوبه مأخوذٌ ـ ولو على مستوى الاحتمال المساوي المورث للإجمال ـ في موضوع حرمة التسويف، فيسري الشكّ من الموضوع إلى الحكم، أي من موضوع حرمة التسويف إلى حرمة التسويف نفسها، فلا تثبت حرمة التسويف حينئذٍ.
وإنّما قلنا: إنّ الاحتمال المورث للإجمال لأخذ هذا القيد في موضوع حرمة التسويف يكفي في سقوط الدلالة الإطلاقيّة لحرمة التسويف، لأنّ الإجمال في القرينة المتّصلة يسري إلى ذي القرينة كما حقّق في علم الاُصول.
وبالتأمّل في روايات الباب يظهر أنّها جميعاً مبتلاة بأحد هذه الوجوه الثالثة أو بأكثر من واحد منها لاختلال دلالتها على استقرار وجوب الحجّ، بعد زوال الاستطاعة بالتقريب المذكور.
وإليك تفصيل النظر في روايات الباب1
الوسائل: الباب 6 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه.
وسنستعرضها هنا حسب

  • الوسائل: الباب 6 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه.
93
التسلسل الوارد في المصدر بقطع النظر عن صحّة أسانيدها وسقمها:
1ـ رواية معاوية بن عمّار التي جاء فيها: «قالَ: هَذِهِ لِمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مَالٌ وَصِحَّةٌ، وَإِنْ كَانَ سَوَّفَهُ لِلتِّجَارَةِ فَلَا يَسَعُهُ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ تَرَكَ شَرِيعَةً مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ إِذَا هُوَ يَجِدُ مَا يَحجُّ بِهِ».
وهذه الرواية تشتمل على مقطعين:
أمّا المقطع الأوّل، وهو قوله عليه السلام: «هَذِهِ لِمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مَالٌ وَصِحَّةٌ، وَإِنْ كَانَ سَوَّفَهُ لِلتِّجَارَةِ فَلَا يَسَعُهُ» فلا دلالة فيه على حرمة التسويف إلّا بلحاظ السنة التي هو مستطيع فيها بالاستطاعة الشرعيّة، لا بلحاظ جميع سنوات عمره إلى حين موته.
وأمّا المقطع الثاني، وهو قوله عليه السلام: «وَإِنْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ تَرَكَ شَرِيعَةً مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ إِذَا هُوَ يَجِدُ مَا يَحجُّ بِهِ» فالملحوظ فيه أنّ ضمير الفاعل في مات يرجع إلى من كان عنده مال وصحّة، كما أنّ اسم الإشارة (ذلك) في قوله: «وَإِنْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ» يرجع إلى تسويفه للحجّ، فيكون المعنى: أنّ من مات على تسويفه للحجّ بصفته ممّن عنده مال وصحّة فقد ترك شريعةً من شرائع الإسلام، فهو إذاً ناظرٌ إلى من استمرّت استطاعته الشرعيّة إلى حين موته، أو إلى من استجدّت له الاستطاعة في السنة الأخيرة قبل موته على أقل تقدير، ويؤيّد ذلك قوله: «إِذَا هُوَ يَجِدُ مَا يَحجُّ بِهِ». إذاً فهو لا يشمل من زالت استطاعته ولم
94
تستجد إلى حين موته.
2ـ رواية معاوية بن عمّار أيضاً، قال: «سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِاللَهِ عليه السلام عَنْ رَجُلٍ لَهُ مَالٌ وَلَمْ يَحجَّ قَطُّ؟ قَالَ: هُوَ مِمَّنْ قَالَ اللَهُ تَعَالَى ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ أَعْمىٰ﴾ قَالَ: قُلْتُ: سُبْحَانَ اللَهِ، أَعْمَى؟! قَالَ: أَعْمَاهُ اللَهُ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ».
وهذه الرواية ناظرة أيضاً إلى من استمرت استطاعته الشرعيّة إلى حين موته، لأنّ قول الراوي: «عَنْ رَجُلٍ لَهُ مَالٌ وَلَمْ يَحجَّ قَطُّ؟» ظاهر في إرادة أنّ له مال في كلّ السنوات التي لم يحجّ فيها، لا في خصوص السنة الاُولى فحسب, وهذا الظهور يكون أقوى في نسخة الصدوق التي جاء فيها: «عن رجل لم يحجّ قطّ وله مال» بدلاً عن قوله: «عَنْ رَجُلٍ لَهُ مَالٌ وَلَمْ يَحجَّ قَطُّ».
3ـ رواية الحلبي التي جاء فيها: «إِذَا قَدَرَ الرَّجلُ عَلَى مَا يَحجُّ بِهِ ثُمَّ دَفَعَ ذَلِكَ وَلَيْسَ لَهُ شُغلٌ يعْذِرُهُ بِهِ، فَقَدْ تَركَ شَرِيعَةً مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ».
وهذه الرواية لا دلالة فيها على حرمة ترك الحجّ أو تسويفه إلّا بلحاظ السنة التي هو مستطيع فيها بالاستطاعة الشرعيّة, إذ أنّ قوله: «إذا قدر الرجل على ما يحجّ به» يقصد به الاستطاعة الشرعيّة بلا شكّ لا الاستطاعة العقليّة، فغاية ما تدلّ عليه هذه الرواية أنّ كلّ سنة كان مستطيعاً فيها بالاستطاعة الشرعيّة لو ترك الحجّ فيها فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام في تلك السنة بالذات، أمّا ما هو حاله لو ترك الحجّ في السنوات الاُخرى التي هو غير
95
مستطيع فيها؟ فالرواية ساكتة عن ذلك.
4ـ ما رواه أبوالصباح الكناني في سند، والحلبي في سند آخر، وفيه: «قُلْتُ لَهُ: أَ رَأَيْتَ الرَّجُلَ التَّاجِرَ ذَا الْمَالِ حِينَ يُسَوِّفُ الْحَجَّ كُلَّ عَامٍ وَلَيْسَ يَشْغَلُهُ عَنْهُ إِلَّا التِّجَارَةُ أَوِ الدَّيْنُ؟ فَقَالَ: لَا عُذْرَ لَهُ يُسَوِّفُ الْحَجَّ، إِنْ مَاتَ وَقَدْ تَرَكَ الْحَجَّ، فَقَدْ تَرَكَ شَرِيعَةً مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ».
والملحوظ في هذه الرواية أنّ الموضوع الذي يتحدّث عنه الإمام عليه السلام فيها هو الرجل الذي وصفه الراوي بقوله: «أَ رَأَيْتَ الرَّجُلَ التَّاجِرَ ذَا الْمَالِ حِينَ يُسَوِّفُ الْحَجَّ كُلَّ عَامٍ» وهذا التوصيف ظاهر في افتراض كون الرجل مشتملاً على الاستطاعة الشرعيّة في كلّ الأعوام التي يسوّف الحجّ فيها، لا في بعضها، إذاً فحكمه عليه السلام بأنّه «لَا عُذْرَ لَهُ يُسَوِّفُ الْحَجَّ» وبأنّه «إِنْ مَاتَ وَقَدْ تَرَكَ الْحَجَّ، فَقَدْ تَرَكَ شَرِيعَةً مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ» لا يشمل الأعوام التي ليس هو مستطيعاً فيها بالاستطاعة الشرعيّة فيما إذا زالت عنه الاستطاعة في بعض السنين.
5ـ رواية أبي بصير التي جاء فيها: «سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِاللَهِ عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللَهِ عز وجل ﴿وَمَنْ كٰانَ فِي هٰذِهِ أَعْمىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾ قَالَ: ذَلِكَ الَّذِي يُسَوِّفُ نَفْسَهُ الْحَجَّ ـ يَعْنِي حجَّةَ الْإِسْلَامِ ـ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمـَوْتُ».
والملحوظ في هذه الرواية أنّها لم تأخذ ـ بحسب ما جاء في متنها ـ الاستطاعة الشرعيّة في موضوع حرمة التسويف بلحاظ كلّ سنة يحرم فيها
96
التسويف، كما أنّها غير ناظرة ـ بحسب ما جاء في متنها أيضاً ـ إلى فرضيّة استمرار الاستطاعة الشرعيّة إلى حين الموت، فقد يتوهّم أنّها تدلّ على حرمة تسويف الحجّ في كلّ سنة من سنوات عمره بعد بداية استطاعته الشرعيّة إلى حين وفاته، سواء ما كان منها مستطيعاً فيها بالاستطاعة الشرعيّة وما لم يكن منها كذلك، وبالتالي ستدلّ بالدلالة الالتزاميّة على وجوب الحجّ عليه في كلّ تلك السنوات، لما قلنا من أنّ حرمة التسويف لا تكون قطعاً إلّا في الحجّ الواجب، فيثبت وجوب الحجّ عليه حتّى في السنوات التي هو غير مستطيع فيها قبل وفاته.
ولكنّ الصحيح أنّ هذه الرواية وأمثالها لا تتمّ فيها الدلالة الالتزاميّة المذكورة، وذلك لأنّ أصل وجوب الحجّ مأخوذ في موضوع حرمة التسويف قطعاً، ولا شكّ في تحقّق ذلك في كلّ سنة كان مستطيعاً فيها بالاستطاعة الشرعيّة، وأمّا السنوات التي هو غير مستطيع فيها لزوال استطاعته الاُولى وعدم روجعها إليه في بعض السنوات القادمة، فإن كان يجب عليه الحجّ فيها بغير الاستطاعة الشرعيّة شملته حرمة التسويف، وإن لم يكن يجب عليه ذلك فلا تشمله حرمة التسويف، وأمّا إذا شككنا في أنّه هل يجب عليه الحجّ بعد زوال الاستطاعة الشرعيّة أو لا يجب عليه ذلك، فهل يدلّ بالدلالة الالتزاميّة على وجوب الحجّ فيها، أو أنّ الشكّ في وجوب الحجّ في تلك السنوات يوجب
97
سقوط الظهور الإطلاقي لشمول حرمة التسويف لتلك السنوات؟
والجواب: أنّ هذا منوط بمعرفة أنّ اختصاص حرمة التسويف بالحجّ الواجب وعدم شمولها لغير الواجب هل هو مستفاد من قرينة متّصلة أو ما بحكم القرينة المتّصلة ـ من حيث كونها مانعة عن الظهور الإطلاقي للفظ ـ أو أنّه مستفاد من القرائن المنفصلة التي لا تزيل الظهور الإطلاقي وإنّما تدلّ بصورة مستقلّة على وجود التلازم بين حرمة التسويف وبين كون الحجّ واجباً، فإن كان مستفادا من القرائن المنفصلة الدالّة على التلازم المذكور بصورة مستقلّة، أمكن دعوى حصول الدلالة الالتزاميّة لما دلّ على حرمة التسويف على كون الحجّ واجباً في تمام المساحة التي يشملها إطلاق حرمة التسويف بما فيها السنوات التي لم يكن مستطيعاً فيها بالاستطاعة الشرعيّة، وذلك لأنّ أصل الظهور الإطلاقي لحرمة التسويف لم ينكسر بالقرينة المنفصلة، وإنّما دلّت القرينة المنفصلة على وجود تلازم شرعي بين حرمة التسويف وكون الحجّ واجباً، فالدليل الذي يدلّ بإطلاقه على حرمة التسويف حتّى في السنوات التي هو غير مستطيع فيها، سيدلّ بالدلالة الالتزاميّة على كون الحجّ واجباً في تلك السنوات.
وأمّا إن كان اختصاص حرمة التسويف بالحجّ الواجب مستفاداً من قرينة متّصلة أو ما بحكمها، فهذا يعني أنّ الظهور الإطلاقي للدليل قد انكسر
98
من البداية، بمعنى أنّ حرمة التسويف المستفادة من هذا الدليل لا تشمل بإطلاقها تمام السنوات التي تمضي عليه إلى حين وفاته، وإنّما تشمل ما كان الحجّ واجباً فيها من تلك السنوات، فإذا شككنا في بعضها أنّ الحجّ واجب فيه أو لا، لم يمكن التسّمك فيه بإطلاق حرمة التسويف, لعدم إحراز موضوعها فيه، فبدلاً عن أن يكون إطلاق حرمة التسويف رافعاً للشكّ في وجوب الحجّ، سيكون الشكّ في وجوب الحجّ رافعاً لإطلاق حرمة التسويف، وبالتالي لا تنعقد دلالة التزاميّة لهذا الدليل على وجوب الحجّ في مورد الشكّ.
والظاهر أنّ الصحيح هو الثاني، بمعنى أنّ اختصاص حرمة التسويف بالحجّ الواجب مدعوم بما يشبه القرينة المتّصلة وإن لم تكن لفظيّةً، وذلك لأنّ وضوح ذلك بالغ إلى حدّ يؤثّر في ظهور اللفظ ويجعله خاصّاً بالحجّ الواجب، بحيث ينكسر ظهوره الإطلاقي لحرمة التسويف في كلّ تلك السنوات سواءً كان الحجّ واجباً فيها أو غير واجب، وهذا معنى ما بحكم القرينة المتّصلة، وعليه فلا تنعقد للدليل المذكور وأمثالها دلالة التزاميّة على وجوب الحجّ في مورد الشكّ وهو مورد زوال الاستطاعة الشرعيّة.
ولو أنّ أحداً شكّ في هذه القرينة المتّصلة أو ما بحكمها بالنحو الذي شرحناه، كفى هذا الشكّ أيضاً لعدم إمكان التمسّك بإطلاق الدليل، وبالتالي لاتتمّ الدلالة الالتزاميّة المذكورة أيضاً، وذلك لأنّ الشكّ في القرينة المتّصلة
99
يورث الإجمال، ولا يمكن التمسّك هنا بأصالة عدم القرينة، لأنّ هذه القرينة على فرض وجودها تكون من القرائن اللبّية التي لا تستدعي البيان والذكر من قبل الراوي، فليس حذفه ناشئاً من الخيانة في النقل ولا من الخطأ والاشتباه، وفي مثل ذلك لا تجري أصالة عدم القرينة كما هو مبحوث في علم الاُصول.
6ـ رواية زيد الشحام «قالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِاللهِ عليه السلام: التّاجِرُ يُسَوِّفُ الْحَجَّ؟ قالَ: لَيْسَ لَهُ عُذْرٌ، فَإِنْ ماتَ فَقَدْ تَرَكَ شَرِيعَةً مِنْ شَرائِعِ الْإِسْلامِ». وهذه الرواية قريبة جدّاً من رواية معاوية بن عمار التي مضى عرضها في الرقم الأوّل من هذا التسلسل، والمناقشة فيها قريبة أيضاً من المناقشة السابقة في تلك الرواية، فراجع.
7ـ رواية أبي بصير «قالَ سَمِعْتُ أَبا عَبْدِاللَهِ عليه السلام يَقُولُ: مَنْ ماتَ وَهُوَ صَحِيحٌ مُوسِرٌ لَمْ يَحجَّ، فَهُوَ مِمَّنْ قالَ اللَهُ عز وجل: ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ أَعْمىٰ﴾ قالَ قُلْتُ: سُبْحانَ اللهِ، أَعْمَى؟! قالَ: نَعَمْ، إِنَّ اللَهَ عز وجل أَعْماهُ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ».
وهذه الرواية قريبة من رواية معاوية بن عمار الثانية التي مضى عرضها في الرقم اثنين من هذا التسلسل، والمناقشة فيها أقوى وأوضح من تلك, وذلك لوضوح دلالة قوله: «مَنْ ماتَ وَهُوَ صَحِيحٌ مُوسِرٌ لَمْ يَحجَّ» في النظر إلى حال من كان عند موته صحيحاً موسراً، فلا تشمل حال من زالت عنه الاستطاعة ولم ترجع إليه.
100
8ـ رواية محمّد بن الفضيل «قالَ: سَأَلْتُ أَبا الْحَسَنِ عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: ﴿وَمَنْ كٰانَ فِي هٰذِهِ أَعْمىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمىٰ وَ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾﴾ فَقالَ: نَزَلَتْ فِي مَنْ سَوَّفَ الْحَجَّ حجَّةَ الْإِسْلامِ وَعِنْدَهُ ما يَحجُّ بِهِ، فَقالَ: الْعامَ أَحجُّ، الْعامَ أَحجُّ، حَتَّى يَمُوتَ قَبْلَ أَنْ يَحجَّ».
والملحوظ في هذه الرواية أنّ ظاهر قوله: «مَنْ سَوَّفَ الْحَجَّ حجَّةَ الْإِسْلامِ وَعِنْدَهُ ما يَحجُّ بِهِ، فَقالَ: الْعامَ أَحجُّ، الْعامَ أَحجُّ»، أنّه كان مستطيعاً بالاستطاعة الشرعيّة لا في السنة الاُولى فحسب، بل في تمام مدّة التسويف، فلا يشمل من زالت استطاعته ولم ترجع إليه، هذا بالإضافة إلى وضوح أخذ الحجّ الواجب في موضوع حرمة التسويف في هذه الرواية، فلا يمكن التمسّك بإطلاق حرمة التسويف عند الشكّ في وجوب الحجّ في حال زوال الاستطاعة الشرعيّة، وبالتالي لا تتمّ الدلالة الالتزاميّة لهذا الدليل على وجوب الحجّ في حال زوال الاستطاعة، كما مضى توضيح ذلك في مناقشتنا على رواية أبي بصير التي مضى ذكرها في الرقم خمسة من هذا التسلسل.
9ـ رواية علي بن إبي حمزة عن أبي عبدالله عليه السلام.
10ـ مرسلة المحقّق في المعتبر عن أبي عبدالله عليه السلام.
11ـ رواية معاوية بن عمّار عن أبي عبدالله عليه السلام.
وهذه الروايات الثلاثة مقاربة في المضمون لمضمون رواية معاوية بن
101
عمّار الاُولى التي مضى ذكرها في الرقم الأوّل من هذا التسلسل، ورواية زيد الشحام التي مضى ذكرها في الرقم ستة من هذا التسلسل، وتظهر المناقشة فيها من مناقشتنا لتينك الروايتين، فراجع.
وأمّا ما جاء في ذيل الرواية الأخيرة من قوله عليه السلام: «… فَإِنَّهُ لا يَسَعُهُ إِلّا أَنْ يَخْرُجَ وَلَوْ عَلَى حِمارٍ أَجْدَع أَبْتَر» فسيأتي الكلام عنه في الوجه الرابع من وجوه الاستدلال على استقرار وجوب الحجّ على من تمّت له الاستطاعة الشرعيّة ولم يحجّ حتى زالت عنه الاستطاعة.
12ـ رواية كليب عن أبي عبد الله عليه السلام «قال: سأله أبو بصير وأنا أسمع, فقال له: رَجُلٌ لَهُ مِائَةُ أَلْفٍ, فَقالَ: الْعامَ أَحجُّ، الْعامَ أَحجُّ، فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ وَلَمْ يَحجَّ حَجَّ الْإِسْلامِ؟ فَقالَ يا أَبا بَصِيرٍ أَ ما سَمِعْتَ قَوْلَ اللهِ ﴿وَمَنْ كٰانَ فِي هٰذِهِ أَعْمىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾ أَعْمَى عَنْ فَرِيضَةٍ مِنْ فَرائِضِ الله».
وهذه الرواية تشبه رواية محمّد بن فضيل المرقّمة برقم ثمانية بحسب هذا التسلسل، والمناقشة فيها كالمناقشة في تلك الرواية.
هذه هي روايات النهي عن التسويف الواردة في الباب السادس من أبواب وجوب الحجّ وشرائطها من كتاب الوسائل، وإن كانت هناك روايات اُخرى مشابهة لها في باقي الأبواب أمكن المناقشة فيها أيضاً بما يشبه المناقشات التي عرفتها في روايات هذا الباب.
102
إذا فالصحيح عدم إمكان التمسّك بروايات النهي عن تسويف الحجّ لإثبات استقرار وجوب الحجّ على من حصلت له الاستطاعة الشرعيّة ولم يحجّ حتى زالت عنه الاستطاعة.
الوجه الرابع للاستدلال على استقرار وجوب الحجّ لمن حصلت له الاستطاعة الشرعيّة ولم يحجّ حتّى زالت عنه الاستطاعة: عبارة عن التمسّك بالروايات التي تأمر بأداء الحجّ ولو على حمار أجدع أبتر1
الوسائل: الباب 10 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه، الحديث 1 و 3 و 5 و 7 و 8 و 9. والباب 6 الحديث 11.
بناءاً على التفسير الذي اختاره السيّد الخوئي  لهذه الروايات أو لبعضها على أقلّ تقدير، وهو أنّ المراد بها وجوب الحجّ ولو تسكّعاً لمن بذل له الحجّ ورفض القبول فاستقرّ عليه الحجّ2
موسوعة الإمام الخوئي: الجزء26/الصفحة62 و127.
.
ولكن هذا التفسير للروايات المشار إليها لا يمكن المساعدة عليه، وذلك لأنّ بعض هذه الروايات آبية عن هذا التفسير إباءً كاملاً كصحيحة أبي بصير «قالَ سَمِعْتُ أَبا عَبْدِاللهِ عليه السلام يَقُولُ: مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَلَوْ عَلَى حِمارٍ

  • الوسائل: الباب 10 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه، الحديث 1 و 3 و 5 و 7 و 8 و 9. والباب 6 الحديث 11.
  • موسوعة الإمام الخوئي: الجزء26/الصفحة62 و127.
103
أَجْدَع مَقْطُوعِ الذَّنَبِ فَأَبَى، فَهُوَ مُسْتَطِيعٌ لِلْحَجِّ»1
الوسائل: ب 10 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه، الحديث 7
والظاهر اتّحاد هذه الرواية مع الرواية التي نقلها صاحب الوسائل من محاسن البرقي2
نفس المصدر الحديث 8.
فإنّ هذه الرواية صريحة في أنّ التمكّن من حمار أجدع مقطوع الذنب كافٍ لحصول الاستطاعة الشرعيّة، من دون افتراض حصول استطاعةٍ شرعيّة سابقة له حتّى يكون الحجّ مستقرّاً عليه من قبل بسبب رفضه لها ووصول النوبة بعد ذلك إلى الحجّ التسكّعي بقبول هذا الحمار، كما جاء في تفسير السيد الخوئي لبعض هذه الروايات.
وبعضها ـ وهو العدد الأكثر منها ـ وإن لم تكن صريحةً في المعنى الذي ذكرناه للرواية السابقة، ولكنّها ظاهرة ظهوراً واضحاً في ذلك، كصحيحة محمّد بن مسلم «قالَ: قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام: فَإِنْ عُرِضَ عَلَيْهِ الْحَجُّ فَاسْتَحْيى؟ قالَ هُوَ مِمَّنْ يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ وَ لِمَ يَسْتَحْيِي وَلَوْ عَلَى حِمارٍ أَجْدَعَ أَبْتَرَ»3
نفس المصدر: الحديث 1.
فإنّ الظاهر من هذه العبارة أنّ الإمام عليه السلام يعترض على استحيائه من قبول ما عرض عليه وإن كان على حمار

  • الوسائل: ب 10 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه، الحديث 7
  • نفس المصدر الحديث 8.
  • نفس المصدر: الحديث 1.
104
أجدع أبتر، وهذا يعني أنّه لو عرض عليه الحجّ ولو على حمار أجدع أبتر كفى ذلك لحصول الاستطاعة الشرعيّة؛ وهذا ظهور واضح جدّاً، وإن كان قابلاً للتأويل بما ذكره السيّد الخوئي رحمه الله من أنّ المراد بما عرض عليه من الحجّ ليس هو على حمار أجدع أبتر وإنّما هو بزاد وراحلة اعتياديين، فيجب عليه القبول، وإن لم يقبل استقرّ عليه الحجّ، ووجب عليه حينئذٍ أن يحجّ ولو على حمار أجدع أبتر؛ ولكنّ هذا لا يعدو أن يكون تأويلاً لظاهر الرواية.
ومثل هذه الرواية أيضاً صحيحة الحلبي1
نفس المصدر، الحديث 5.
ورواية أبي بصير في تفسير العيّاشي2
نفس المصدر، الحديث9.
ورواية معاوية بن عمّار في تفسير العيّاشي أيضاً3
نفس المصدر، الحديث 11 من الباب 6.
.
نعم هناك رواية واحدة قد تكون ظاهرةً في التفسير الذي ذكره السيّد الخوئي رحمه الله وهي صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبدالله عليه السلام في حديثٍ «قالَ: فَإِنْ كانَ دَعاهُ قَوْمٌ أَنْ يُحِجُّوهُ فَاسْتَحْيا فَلَمْ يَفْعَلْ فَإِنَّهُ لا يَسَعُهُ إِلّا أَنْ يَخْرُجَ وَ لَوْ عَلَى حِمارٍ أَجْدَع أَبْتَر»4
نفس المصدر، الحديث 3 من الباب 10.
. وقد جعل السيّد الخوئي رحمه الله هذه الرواية قرينة لحمل بعض الروايات السابقة على المعنى الذي فسّرها به، بعد رفضه لإمكان حملها

  • نفس المصدر، الحديث 5.
  • نفس المصدر، الحديث9.
  • نفس المصدر، الحديث 11 من الباب 6.
  • نفس المصدر، الحديث 3 من الباب 10.
105
على معناها الظاهر لأنّه يستلزم وجوب الحجّ على المكلّف وإن أدّى إلى العسر والحرج وكان مخالفاً لشأنه وشرفه بالركوب على حمار أجدع أبتر1
موسوعة الإمامالخوئي: الجزء 26/ الصفحة 127.
.
أمّا جعله رحمه الله لهذه الرواية قرينةً على حمل تلك الروايات على المعنى الذي حملها عليه فهو يتوقّف على قبول ظهور هذه الرواية في ذلك المعنى في حين أنّه يتحمّل كلا المعنيين، أعني إرادة معنى استقرار الحجّ عليه بردّه لما عُرض عليه أولاً، ثمّ وجوب الحجّ عليه ولو تسكّعاً بركوب حمار أجدع أبتر، كما ادّعاه السيّد الخوئي رحمه الله، وإرادة معنى أنّ الاستطاعة الشرعيّة تتحقّق بالعرض عليه ويجب قبوله حتّى إذا كان ما عرض عليه عبارة عن الحمار الأجدع الأبتر، كما هو ظاهر باقي الروايات.
ولو سلّمنا ظهور هذه الرواية ـ بحسب النقل المذكور ـ في المعنى الأوّل الذي ادّعاه السيّد الخوئي رحمه الله أمكن المناقشة فيها من زاوية اُخرى، وهي أنّ المظنون قويّاً ـ إن لم يكن مطمأنّاً به ـ أنّ هذه الرواية جزء من رواية معاوية بن عمّار التي نقلها صاحب الوسائل من تفسير العيّاشي، وذلك لوحدة الراوي وتقارب النصّين جدّاً، ولكن جاء التعبير في نقل العيّاشي بقوله: «وَإِنْ دَعاهُ أَحَدٌ إِلَى أَنْ يَحْمِلَهُ فَاسْتَحْيا فَلا يَفْعَل، فَإِنَّهُ لا يَسَعُهُ إِلّا أَنْ‌ ‌يَخْرُجَ وَلَوْ عَلَى حِمارٍ

  • موسوعة الإمامالخوئي: الجزء 26/ الصفحة 127.
106
أَجْدَع أَبْتَر»1
الوسائل: الباب 6 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه/ الحديث 11.
وهذا ظاهر جدّاً في المعنى الثاني الذي نحن ذكرناه لا في المعنى الذي ذكره السيّد الخوئي رحمه الله لأنّه ـ بحسب هذا النقل ـ ينهى عن رفض ما عرض عليه بسبب الاستحياء بتعبير (فَلا يَفْعَل) ولايخبر برفضه له كما كان في النقل الأوّل بتعبير (فَلَمْ يَفْعَلْ). إذاً فهذه الرواية مبتلاة بالاضطراب في المتن في هذه النقطة بما هو دخيل في فهم المعنى.
وإن قطعنا النظر عن هذه المناقشة على أساس صحّة سند الشيخ الطوسي رحمه الله إلى معاوية بن عمّار في نقله لهذه الرواية وعدم وضوح صحّة سند العيّاشي إليه في نقله لها، أمكن المناقشة فيها من زاوية اُخرى، وهي أنّه لماذا نجعل هذه الرواية قرينةً نرفع بها اليد عن الظهور الأوّلي لباقي الروايات؟ فلنجعل باقي الروايات قرينةً نرفع بها اليد عن الظهور الأوّلي لهذه الرواية؛ على فرض قبول أنّ مقتضى الظهور الأوّلي في هذه الرواية هو المعنى الذي ادّعاه السيّد الخوئي رحمه الله، فإنّ في باقي الروايات ما هو صريح في المعنى الذي ذكرناه وغير قابل للحمل على المعنى الذي ذكره السيّد الخوئي رحمه الله كصحيحة أبي بصير، التي نبّهنا فيها على ذلك، فبالإمكان أن نجعل صحيحة أبي بصير قرينةً لتفسير صحيحة معاوية بن عمّار التي اعتمد عليها السيّد الخوئي رحمه الله.

  • الوسائل: الباب 6 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه/ الحديث 11.
107
وأمّا ما ذكره رحمه الله من عدم إمكان العمل بظاهر هذه الروايات لأنّه يستلزم القول بوجوب الحجّ على المكلّف وإن أدّى إلى العسر والحرج وكان مخالفاً لشأنه وشرفه بالركوب على حمار أجدع أبتر، فيرد عليه أنّ ركوب الحمار الأجدع الأبتر ليس مستلزماً للعسر والحرج دائماً وليس مخالفاً للشأن والشرف دائماً، فغاية ما يجب الالتزام به أنّ أدلّة نفي العسر والحرج تقيّد إطلاق هذه الروايات وتجعلها مختصّة بما إذا لم يؤدّ ذلك إلى العسر والحرج وإن كان فيه شيء من الاستحياء، فالإمام رحمه الله إنّما يقصد في هذه الروايات النهي عن رفض ما يعرض على الإنسان من الحجّ على أساس الاستحياء ما لم يبلغ حدّ العسر والحرج وإن كان على حمار أجدع أبتر.
وهذا ما التزم به السيّد الخوئي رحمه الله1
موسوعة الإمام الخوئي رحمه الله: الجزء 26/ الصفحة 70.
في صحيحة أبي بصير التي قلنا بأنّها صريحة في خلاف المعنى الذي ذهب إليه في باقي الروايات؛ ولا أعرف لماذا ذهب في تلك الروايات إلى ما ذهب إليه ممّا يؤدّي إلى تأويل ظواهرها، في حين كان بإمكانه الاكتفاء بتقييد إطلاقاتها بأدلّة العسر والحرج كما التزم به في صحيحة أبي بصير.
وعلى كلّ حال فإنّ هذه الروايات لا دلالة فيها أصلاً على أنّ من رفض

  • موسوعة الإمام الخوئي رحمه الله: الجزء 26/ الصفحة 70.
108
الحجّ المبذول له استقرّ عليه الحجّ ووجب عليه أداؤه ولو بعد زوال الاستطاعة الشرعيّة.
الوجه الخامس: من الوجوه التي قد يُتمسّك بها لإثبات استقرار وجوب الحجّ على من كان مستطيعاً ولم يحجّ حتّى زالت عنه الاستطاعة، عبارة عن أدلّة وجوب الاستنابة على من استطاع للحجّ وأهمل حتّى مرض أو هرم أو حبس فلم يتمكّن من الحجّ1
الوسائل: ب4 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه.
بناءاً على دلالتها على وجوب الاستنابة عليه ما دام قادراً عليها بالقدرة العقليّة ـ بالمعنى الذي يشمل التكسّب ونحوه ـ حتّى وإن فقد أمواله التي أهّلته للاستطاعة الشرعيّة في بادئ الأمر، فإنّ هذا يعني استقرار وجوب الحجّ عليه بمجرّد حصول الاستطاعة الشرعيّة له في سنة واحدة بحيث لو أهمل ولم يؤدّ الحجّ في تلك السنة وجب عليه أداؤه بعد ذلك إمّا مباشرةً فيما إذا إمكنته المباشرة، وإمّا بالاستنابة فيما إذا لم تمكنه المباشرة.
ويرد على ذلك:
أوّلاً: أنّ الاستنابة في الحجّ وإن كانت بدلاً عن المباشرة إليه في فرض عدم التمكن من الثانية، ولكنّ هذا لا يعني أنّ البدل والمبدل سيّان في الشرائط والضوابط الشرعيّة، بحيث لو كان البدل واجباً في فرض عدم التمكّن من

  • الوسائل: ب4 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه.
109
المبدل حتّى مع توقّفه على التكسّب ونحوه، لكان المبدل واجباً أيضاً في فرض التمكّن منه حتى مع توقفه على ذلك، حتّى يستفاد منه استقرار وجوب الحجّ عليه حتّى مع زوال الاستطاعة الشرعيّة وإمكان أدائه للحجّ بغير الاستطاعة الشرعيّة.
وثانياً: أنّه ليس من الواضح شمول أدلّة وجوب الاستنابة لمن فقد الاستطاعة الماليّة بالقدر المطلوب شرعاً لوجوب الحجّ عليه، وإن بقيت له الاستطاعة العقليّة ولو بالقدرة على التكسب ونحوه، إذ لعلّ أكثر تلك الأدلّة واردة بشأن من يملك الاستطاعة الماليّة بالفعل بالقدر المطلوب شرعاً لتحقيق الاستطاعة لا بمثل القدرة على الكسب ونحوه، وهذا ما يجب تحقيقه في بحث الاستنابة إن شاء الله تعالى.
إذاً فهذه الأدلّة لا تكفي أيضاً لإثبات استقرار وجوب الحجّ على من حصلت له الاستطاعة الشرعيّة وأهمل حتّى زالت عنه.
الوجه السادس: عبارة عن التمسّك بالروايات الدالّة على أنّ الحجّ يخرج من أصل المال1
الوسائل: ب25 و 28 من أبواب وجوب الحج وشرائطه.
. والمنقول عن صاحب الجواهر رحمه الله أنّه استدلّ على استقرار

  • الوسائل: ب25 و 28 من أبواب وجوب الحج وشرائطه.
110
الحجّ بهذه الروايات1
موسوعة الإمام الخوئي: الجزء 26/ الصفحة 14.
.
والظاهر أنّ تقريب الاستدلال بهذه الروايات عبارة عن أنّ خروج مصارف الحجّ من أصل التركة لا من الثلث، دليل على أنّ الحجّ كان ديناً في عنقه منذ حين حياته، ولهذا أصبح حاله كحال باقي الديون التي تخرج من أصل التركة لا من الثلث، وهذا يعني أنّه كان يجب عليه الحجّ بنفسه قبل وفاته، وهذا الوجوب يشمل بإطلاقه ما إذا كانت استطاعته الشرعيّة قد زالت عنه قبل وفاته، وهذا معنى استقرار وجوب الحجّ عليه بعد زوال الاستطاعه.
ويرد على ذلك:
أوّلاً: أنّ غاية ما تدلّ عليه هذه الروايات على فرض شمول إطلاقها لحالة زوال الاستطاعة الشرعيّة عنه في حياته، أنّ الحجّ بمنزلة الدين من ناحية وجوب أدائه من أصل التركة، وهل هو كالدين أيضاً من حيث وجوب أدائه عليه من حين حياته بمجرّد القدرة العقليّة وإن كانت بطريقة القدرة على التكسب مثلاً، أو أنّه ليس كذلك، بل كان يجب عليه أداؤه في حياته على فرض استمرار الاستطاعة الشرعيّة له؟ فهذا ما لا يمكن معرفته بدلالة هذه الروايات.

  • موسوعة الإمام الخوئي: الجزء 26/ الصفحة 14.
111
وثانياً: أنّ شمول إطلاق هذه الروايات لحالة زوال الاستطاعة الشرعيّة عنه في حياته وعدم تجدّدها له قبل وفاته أوّل الكلام، ولابدّ من تحقيق ذلك في بحث الاستنابة.
وقد ظهر بمجموع ما ذكرنا أنّ أفضل ما يمكن التمسّك به لإثبات استقرار وجوب الحجّ على المكلّف بالاستطاعة الشرعيّة ولو في سنة واحدة فحسب عبارة عن إطلاقات أصل وجوب الحجّ على من حصلت له الاستطاعة الشرعيّة, بعد حملها على تعلّق الوجوب بذات طبيعة أعمال الحجّ لا بالحجّ في خصوص السنة الاُولى بالنحو الذي مضى شرحه في الوجه الأوّل من الوجوه المذكورة.
هذا كلّه بالنسبة إلى من سوّف الحجّ الواجب بغير مبرّر شرعيّ لهذا التسويف حتّى زالت عنه الاستطاعة الشرعيّة بزوال بعض شروطها.
وأمّا من سوّف الحجّ على أساس مبرّر شرعيّ كالذي سوّفه لغرض دينيّ أو عقلائيّ مهمّ غير قابل للقياس بغرض التجارة، بناءاً على عدم وجوب المبادرة إلى الحجّ في مثل ذلك، فهل يستقرّ عليه الحجّ أيضاً وإن زالت عنه الاستطاعة الشرعيّة أو لا؟
لعلّ ظاهر كلمات بعض الأصحاب ـ ومنهم السيّد الخوئي رحمه الله ـ عدم
112
استقرار وجوب الحجّ عليه في مثل ذلك1
نفس المصدر/ نفس الصفحة.
.
ولكنّ الوجه الأوّل من الوجوه التي ذكرناها لإثبات ‹استقرار وجوب الحجّ على المكلّف بالاستطاعة الشرعيّة في سنة واحدة وإن زالت عنه بعدها ولم تستجد›، يشمل ما إذا كان تسويفه للحجّ بمبرّر شرعي، وذلك لأنّ أصل وجوب الحجّ عليه ـ بناءً على هذا الوجه ـ متعلّق بذات طبيعة أعمال الحجّ، لا بالحجّ المقارن للسنة الاُولى، ومثل هذا الوجوب لا تسقط فعليّته ولا فاعليّته بترك امتثاله في السنة الاُولى، سواء حرمت عليه التسويف بحكم آخر أو لم تحرم عليه، وهذا يعني أنّه حتّى إذا كان تسويفه للحجّ بمبرّر شرعيّ فسيبقى عليه أصل وجوب الحجّ؛ وقد وضّحنا في الوجه المذكور أنّ الاستطاعة الدخيلة في هذا الوجوب عبارة عن الاستطاعة الشرعيّة ولو في سنة واحدة فحسب، فلا يسقط بزوالها في السنوات الاُخرى. إذاً فالصحيح استقرار وجوب الحجّ على المكلّف بالاستطاعة الشرعيّة الحاصلة له في سنة واحدة وإن زالت عنه بعد ذلك، سواء كان تسويفه له بمبرّر شرعيّ أو بغير مبرّر شرعيّ.
وأمّا المقام الثالث: ففي بيان أنّ مقتضى استقرار وجوب الحجّ عليه بعد السنة الاُولى هل هو لزوم أدائه عليه بالقدرة العقليّة وإن أدّى إلى العسر

  • نفس المصدر/ نفس الصفحة.
113
والحرج كما في الحجّ التسكعيّ, أو هو لزوم أدائه عليه بالقدرة العقليّة مالم يؤدّ إلى العسر والحرج؟.
ولعلّ ظاهر كلمات جملة من الأصحاب ـ ومنهم السيّد الخوئي رحمه الله ـ أنّ مقتضى استقرار وجوب الحجّ عليه لزوم أدائه عليه بالقدرة العقليّة وإن أدّى إلى العسر والحرج كما في الحجّ التسكّعي, فقد فسّرالسيّد الخوئي رحمه الله ـ كما نقلنا عنه ذلك سابقا ـ بعض الروايات الواردة في لزوم أداء الحجّ ولو على حمار أجدع أبتر بأنّ المراد بها من استقرّ عليه الحجّ بعرض الزاد والراحلة عليه بالنحو المتعارف الذي يقتضي وجوب القبول, ولكنّه رفض قبوله حياءً, فيجب عليه حينئذ أن يؤدّي الحجّ ولو تسكّعا بركوب حمار أجدع أبتر1
نفس المصدر/ الصفحة 62 و127.
. وقد سبق أن رفضنا هذا التفسير لهذه الروايات , كما ناقشنا جميع الوجوه التي قد يتمسّك بها لإثبات استقرار وجوب الحجّ على المكلّف بالاستطاعة الحاصلة له في سنة واحدة وإن زالت عنه بعد ذلك, عدا الوجه الأوّل من تلك الوجوه, بالإضافة إلى الأدلّة اللبيّة كالإجماع والتسالم الفقهي ونحوهما.
أمّا الأدلّة اللبيّة فلو أمكن الاعتماد عليها لإثبات أصل الحكم باستقرار وجوب الحجّ عليه على وجه الإجمال, فلا يمكن الاعتماد عليها في تفاصيل هذا

  • نفس المصدر/ الصفحة 62 و127.
114
الحكم من شموله لحال العسر والحرج أوعدم شموله له ونحو ذلك.
فنبقى نحن مع الوجه الأوّل من تلك الوجوه.
ومقتضى ذلك الوجه بقطع النظر عن أدلّة نفي العسر والحرج أنّ وجوب الحجّ يصبح فعليّا بتحقق الاستطاعة الشرعيّة في سنة واحدة وإن زالت بعدها, وهذا الوجوب الفعلي يستدعي الامتثال مادامت القدرة العقليّة موجودة للمكلّف حتّى مع العسر والحرج, ككلّ وجوب فعليّ لأيّ حكم من الأحكام لولا أدلّة نفي العسر والحرج, وإنّما الكلام في أنّ أدلّة نفي العسر والحرج هل إنّها تتقدّم على دليل وجوب الحجّ بعد تسويفه له من سنة الاستطاعة إلى السنة التي ابتلى فيها بالعسر والحرج, كتقدّمها على باقي أدلّة الأحكام الأوّليّة, أو إنّ تسويفه له من سنة الاستطاعة إلى السنة التي ابتلى فيها بالعسر والحرج يمنع عن تقدّم أدلّة العسر والحرج على ذلك الدليل؟
لاشكّ في أنّ تسويفه هذا للحجّ إن كان بمبرّر شرعيّ كما في الحالات التي أجزنا فيها التسويف حسب الأبحاث الماضية, وكان أيضاً غير مقصّر في اختيار الفرد الحرجيّ من الحجّ, وإنّما قد ابتلى بالحرج بأسباب غير اختياريّه, فستتقدّم أدلّة نفي العسر والحرج على دليل وجوب الحجّ في حال ابتلائه بالعسر والحرج, وذلك من قبيل من اشتغلت ذمّته بوجوب قضاء الصوم أو أيّ واجب آخر لم يعيّن الشارع له أجلا محددا فأجّل امتثال ذلك لابقدر الإهمال
115
والمماطلة غير الجائزين عليه شرعا بل بالقدر اللذي لا مانع عليه شرعا من تأجيله إليه, فابتلى صدفةً بمرض أصبح امتثال ذلك الحكم معه حرجيّاً عليه, فسيسقط عنه ذلك الحكم بالعسر والحرج, إذ لاوجه حينئذ للمنع عن شمول أدلّة نفي العسر والحرج له.
وأمّا إذا كان تأجيله للحجّ بغير مبرّر شرعيّ, كما إذا كان لمثل غرض التجارة أو لمجرّد الإهمال والمماطلة, أو كان لمبرّر شرعيّ جوّز له التأجيل ولكنّه كان مقصّرا في اختيار الفرد الحرجيّ من الحجّ, كما إذا تعمّد سلب القدرة التكوينيّه عن نفسه إلى درجة أصبح أداء الحجّ معهاحرجيّا عليه, فهل يبقى في هاتين الحالتين مشمولا لأدلّة نفي العسر والحرج ويسقط عنه الوجوب رغم تقصيره في ارتكاب التأجيل المحرّم للحجّ, أو في اختيار الفرد الحرجيّ من الحجّ, أو إنّ تقصيره بأحد هذين الوجهين يمنع عن شمول أدلّة نفي العسر والحرج له, فيبقى فعل الحجّ واجبا عليه حتى وإن أدّى إلى العسر والحرج كما في الحجّ التسكعي؟
قد يقال بأنّ تقصيره بأحد هذين الوجهين يمنع عن شمول أدلّة نفي العسر والحرج له, وذلك لأنّ أدلّة نفي العسر والحرج إنّما تدل على أنّ الشارع تبارك وتعالى لايورّط المكلّفين في العسر والحرج بما يشرّعه من أحكام, وأمّا من قصّر بأحد الوجهين المذكورين فهو الذي ورّط نفسه في العسر والحرج دون
116
الشارع تبارك وتعالى, فيكون حاله كحال من استطاع للحجّ استطاعة شرعيّة ومازالت عنه تلك الاستطاعة ولكنّه هو اختار حجّا تسكعيّا وتحمّل العسر والحرج, حيث لم يقل أحد ببطلان حجّه حينئذ أو بخروجه عن إطار الحجّ الواجب, لأنّه هو الذي ورّط نفسه في العسر والحرج دون الشارع تبارك وتعالى.
ولأجل التحقيق في هذه المسألة نقول :
أمّا من كان تقصيره بالوجه الأوّل, أعني بارتكاب تأجيل أداء الحجّ بغير مبرّر شرعيّ حتى ابتلى بالعسر والحرج, فلاشكّ في أنّ الحكم الصادر من الله تبارك وتعالى له بحرمة هذا التأجيل ليس حكما شرعيّا موجبا للحرج وإنّما هو حكم مبعّد له عن التورّط في الحرج كما هو واضح, وأمّا حكمه تبارك وتعالى لأصل وجوب الحجّ عليه فقد يقال بأنّه ليس حكما موجبا للحرج أيضا حتّى وإن شمل المصداق الحرجي بالإطلاق البدلي, وذلك لأنّ الأمر متعلّق حينئذبالجامع بين الفرد الحرجي والفرد غير الحرجي, ومن الواضح أنّ الجامع بين الفرد الحرجي والفرد غير الحرجي ليس حرجيّا, إذاً فالشارع تبارك وتعالى لم يحكم على المكلّف بحكم حرجيّ وإن وقع اختيار المكلّف صدفة على الفرد الحرجي في مقام الامتثال, إذاً فلا تشمله أدلّة نفي العسر والحرج.
ولكن يمكن الإيراد على ذلك بالنقض والحلّ:
117
أمّا النقض فبما إذا كان تأجيل الامتثال بمبرّر شرعيّ حتّى ابتلى بالعسر والحرج سواء في باب الحجّ أو في غيره من التكاليف, فمثلاً لو أنّ المكلّف أجّل صلاته من أوّل وقتها وهوصحيح سالم, ثم ابتلى قبل نهاية الوقت بالعسر والحرج في قيامه مثلاً أو في تحصيل الطهارة المائيّة أو نحو ذلك, فهل يمكن القول حينئذ بأنّ أدلّة نفي العسر والحرج لا تشمله لأنّ الأمر قد تعلّق بالجامع بين الفرد الحرجيّ والفرد غير الحرجيّ على نحو الإطلاق البدلي, والجامع بين الفرد الحرجي والفرد غير الحرجي ليس حرجيّاً, وإن وقع اختيار المكلّف صدفةً على الفرد الحرجيّ؟.
وأمّا الحلّ فبأنّ هناك فرقاً بين ما إذا كان وقوع اختيار المكلّف على الفرد الحرجي بعلم وتعمّد منه, فلا يسند حينئذ تورّطه في الحرج إلى الشارع تبارك وتعالى, بل إنّما يقال حينئذ بأنّه هو الذي ورّط نفسه في العسر والحرج, وبين ما إذا كان وقوع اختيار المكلّف على الفرد الحرجي بغير علم وتعمّد منه, بمعنى أنّه اختار هذا الفرد وهو لا يعلم بأنّه سيكون حرجيّا, فسيسند حينئذ تورّطه في الحرج إلى الحكم الشرعي فيما إذا شمل هذا الفرد ولو على نحو الإطلاق البدلي, وهذا الإسناد خاضع للفهم العرفي من أدلّة نفي العسر والحرج لا للفهم الفلسفي الدقيق الذي يقول بأنّ الجامع بين الفرد الحرجيّ والفرد غير الحرجيّ ليس حرجيّاً, ولهذا ترى أنّ الإمام عليه السلام في مثل رواية عبد
118
الأعلى مولى آل سام1
الوسائل ج 1, باب 39من أبواب الوضوء, الحديث 5.
قد أمر بالمسح على المرارة وطبّق عليه الآية الشريفة ﴿ماجعل عليكم في الدين من حرج﴾ من دون أن يفرّق بين ما إذا كان ابتلاؤه بهذا العسر والحرج من أوّل وقت الصلاة حتّى تكون جميع الأفراد البدليّة حرجيّة, وبين ما إذا كان ابتلاؤه به في وسط الوقت وقد وقع اختياره صدفة على تأخير الصلاة إلى ذلك الحين . فهذا شاهد على أنّ الإمام عليه السلام اعتبر هذا الحرج ناشئاً من الحكم الشرعي لو شمله وجوب الوضوء بالمسح على البشرة, فنفى عنه هذا الحكم الحرجي بتطبيق الآية الشريفة عليه حتّى فيما إذا كان الحرج في بعض الأفراد البدليّة لافي تمامها.
وأمّا مخالفته لحرمة تأجيل الحجّ في ما نحن فيه فهي وإن كانت موجبة لاستحقاق العقاب عليه ولكنّه لايعني وقوع اختياره على الفرد الحرجيّ بعلم وتعمّد منه حتّى يسند تورّطه في هذا الحرج إليه, وإنّما هو يعني وقوع اختياره على الفرد المقارن لمعصية التسويف بعلم وتعمّد منه بأنّه مقارن لهذه المعصية, وهذا لايكفي لإسناد تورّطه في العسر والحرج إليه حتّى لا تشمله أدلّة العسر والحرج.
إذاً فالظاهر أنّ تقصيره في ارتكاب معصية التسويف وحده لايكفي

  • الوسائل ج 1, باب 39من أبواب الوضوء, الحديث 5.
119
للمنع عن شمول أدلّة نفي العسر والحرج له .
وأمّا من كان تقصيره بالوجه الثاني, أعني باختيار الفرد الحرجيّ من الحجّ, كما إذا تعمّد سلب القدرة عن نفسه تكويناً إلى درجة أصبح أداء الحجّ معها حرجياً عليه, أو ما إذا سوّف الحجّ مع علمه بأنّه سيبتلي بالعسر والحرج لأداء الحجّ في العام القادم, فالظاهر أنّ أدلّة نفي العسر والحرج لا تشمله, ويجب عليه حينئذ أن يؤدّي الحجّ ولو تسكّعاً وبالعسر والحرج, وذلك لما قلنا من أنّ اختيار الفرد الحرجي من الأفراد المأمور بها بمثل الإطلاق البدلي إن كان بعلم وتعمّد من قبل المكلّف فسوف يسند تورّطه في العسر والحرج إليه لا إلى الشارع تبارك وتعالى, وأدلّة نفي العسر والحرج إنّما تنفي توريط الشارع تبارك وتعالى للمكلّف في العسر والحرج, فيصبح حاله حينئذ كحال من لم تزل عنه الاستطاعة الشرعيّة ولكنّه اختار الحجّ التسكعي بتعمّد منه , كما ذكرنا.
إذاً فالصحيح هو التفصيل بين الحالتين المذكورتين بالنحو الذي شرحناه.
وهنا ينبغي التنبيه على اُمور:
الأمر الأوّل: أنّ مستوى العسر والحرج الذي يوجب سقوط التكليف في باب الحجّ قد يختلف عنه في بعض الأبواب الفقهيّة الاُخرى , فمثلاً : لو أنّ تحصيل الثوب الساتر الطاهر للصلاة توقّف على تحمّل عناء السفر من بلده إلى
120
بلد آخر لاعتبرنا ذلك أمراً حرجيّا موجباً لسقوط التكليف عنه, وجوّزنا له الصلاة في الثوب المتنجّس أوالصلاة عارياً, بحسب التفصيل المطروح في محلّه. ولكنّه لو توقّف أداء الحجّ على تحمّل عناء السفر ولوكراراً من مدينته إلى عاصمة بلده لتحصيل الجواز الرسميّ المطلوب للسفر أو نحو ذلك, لم نعتبر ذلك من الحرج الموجب لسقوط التكليف, وذلك لعلمنا بأنّ فريضة الحجّ في الإسلام مبنيّة أساساً على تحملّ المشاقّ والمتاعب, فإنّ الذي يؤمر بتحمّل أعباء السفر من بلده إلى بيت الله الحرام لأداء فريضة الحجّ وإن كانت المسافة بقدر آلاف الكيلومترات, ليست إضافة السفر بالنسبة إليه من مدينته إلى عاصمة بلده لتحصيل جواز السفر أمراً حرجيّاً موجباً لسقوط وجوب الحجّ عنه, وإن كان السفر المشابه له لتحصيل الساتر الطاهر في الصلاة أمراً حرجيّاً موجباً لسقوط التكليف بلبس الساتر الطاهر في الصلاة, وليس هذا الفرق بين باب الصلاة وباب الحجّ مجرد أمر استحسانيّ حتّى يقال بعدم حجيّة مثل القياس والاستحسان في مذهبنا, وإنّما هذا الفرق بينهما ناشئ من فهم الأدلّة الشرعيّة في ضوء مناسبات الحكم والموضوع والارتكازات الشرعيّة والمتشرعيّة المحيطة بها, فإنّها تؤثّر في تحديد ظهورات الأدلّة الشرعيّة وتفسير بعضها ببعض .
وهذا الأمر يؤثّر أيضاً على تفسير الاستطاعة الشرعيّة المطلوبة من الزاد والراحلة والصحّة البدنيّة وخلوّ السرب, كما قد يأتي توضيحه أو الإشارة إليه
121
في محله إن شاء الله تعالى.
الأمر الثاني: أنّ شمول الأدلّة الشرعيّة لبعض الأفعال الحرجيّة قد يؤدّي بنفسه إلى زوال ذلك الحرج فلا تشمله أدلّة نفي العسر والحرج لانتفاء موضوعها, لا لأجل العلم بأنّ الفعل المأمور به يكون حرجيّاً بطبعه ومطلوباً للشارع رغم الحرج الذي فيه كما في مثل الجهاد, بل لأجل انتفاء موضوع العسر والحرج كما ذكرنا. ويحصل مثل ذلك في الأفعال الحرجيّة التي ينشأ الحرج فيها من الاُمور الاعتباريّة, وتزول تلك الاعتبارات بمجئ الحكم الشرعيّ.
مثال ذلك: أنّ الهرولة بطبعها قد تكون حرجيّة لبعض الناس على أساس كونها منافية للوقار المناسب لهم بحسب شأنهم الاجتماعي, ولكنّها بعد أن أصبحت مستحبّـة في السعي بين الصفـــا والمـــروة ستزول عنهم هذه الاعتبارات وتخرج عن كونها حرجيّة.
ومن المحتمل أن يكون الأمر بالحجّ ولو على حمار أجدع أبتر من هذا القبيل, بأن يكون الشارع تبارك وتعالى قد أراد بهذا الأمر أن يزيل الاعتبارات الموجبة للحرج لبعض الناس بركوب المركب المتواضع في كلّ زمان بحسبه.
ولايخفى أنّ الفكرة التي ذكرناها ـ أعني إمكان زوال موضوع العسر والحرج بمجئ الحكم الشرعيّ كما في مثال الهرولة ـ إنّما تصحّ في ما إذا كان
122
وصول جعل ذلك الحكم كافياً لزوال العسر والحرج, وأمّا إذا كان زوال العسر والحرج متوقّفاً على فعليّة مجعول ذلك الحكم لأدّى ذلك إلى الدور, لأنّ زوال العسر والحرج سيكون متوقّفاً على فعليّة ذلك الحكم, وفعليّة ذلك الحكم تكون متوقّفة على زوال العسر والحرج, ولا يعالج هذا الدور إلّا بما ذكرناه من افتراض كفاية وصول جعل ذلك الحكم لزوال العسر والحرج, أو كفاية وصول الحكم الذي لولا العسر والحرج لكان فعليّاً.
الأمر الثالث:أنّه في فرض سقوط وجوب الحجّ عنه بالعسر والحرج رغم استقرار الحجّ عليه بالاستطاعة الشرعيّة في عام سابق, فهل هذا يعني أنّه لو تحمّل العسر والحرج وأدّى أعمال الحجّ ولو تسكّعاً لم يتحقّق منه الحجّ الواجب ووجبت عليه إعادته عند زوال العسر والحرج, أو أنّ حجّه هذا يجزيه عن الحجّ الواجب وإن كان وجوبه ساقطاً عنه بالعسر والحرج؟.
وهذا السؤال إنّما يمكن طرحه بناءً على ما بنينا عليه من أنّ استقرار وجوب الحجّ على المكلّف لا يعني بالضرورة وجوب أدائه عليه ولو مع العسر والحرج, وإنّما القدر المتيقّن الذي يعنيه استقرار وجوب الحجّ عليه هو وجوب أدائه ولو بعد زوال الاستطاعة الشرعيّة مالم يبلغ حدّ العسر والحرج, أمّا إذا بلغ حدّ العسر والحرج فقد يسقط عنه الوجوب وقد لايسقط حسب التفصيل الماضي, فيقع الكلام في فرض سقوط الوجوب عنه بالعسر والحرج.
123
وأمّا على رأي من يقول بأن العسر والحرج لا يسقطان عنه وجوب الحجّ أبداً مادام قد استقرّ عليه الحجّ من قبل ـ كما استظهرنا ذلك من بعض الكلمات المنقولة عن السيّد الخوئي رحمه الله ـ فلا مجال لطرح السؤال المذكور.
ولكنّ السيّد الخوئي رحمه الله تحدّث عمّا يشبه هذا السؤال فيما إذا كانت الراحلة التي حصل عليها من الأساس حرجيّة بشأنه, فلم تنعقد له الاستطاعة الشرعيّة الموجبة للحجّ من أوّل الأمر, ولكنّه تحمّل العسر والحرج وأدّى فعل الحجّ مستكّعاً, فهل يجزيه ذلك عن حجّة الإسلام أولا؟ فقال في مثل ذلك بأنّ إجزاء غير الواجب عن الواجب على خلاف الأصل وهو بحاجة إلى دليل, وحيث لادليل لابدّ وأن نبني على عدم الإجزاء1
موسوعة الإمام الخوئي رحمه الله: الجزء 26 , الصفحة 69.
.
وهذا ما يشعر بأنّه رحمه الله لو كان يبني فيما نحن فيه على مابنينا عليه من إمكان سقوط وجوب الحجّ عنه بالعسر والحرجّ رغم استقراره عليه من عام سابق, لكان يقول أيضاً بأنّه لو تحمّل العسر والحرج وأدّى أعمال الحجّ ولو على نحو التسكّع لم يجزئه ذلك عن حجّة الإسلام, وذلك لما ذكره من أنّ إجزاء غير الواجب عن الواجب على خلاف الأصل.
ولكنّ التحقيق في هذه المسالة يقتضي التفصيل بين ما إذا كان العسر

  • موسوعة الإمام الخوئي رحمه الله: الجزء 26 , الصفحة 69.
124
والحرج الذين تحمّلهما في نفس أعمال الحجّ, كما إذا كان الطواف أو السعي حرجيّاً عليه, بقطع النظر+ عن إمكان دفع هذا الحرج بالركوب ونحوه في أثناء الطواف والسعي, وبين ما إذا كانا في المقدّمات التي يتوقّف عليها أداء الحجّ كالزاد والراحلة اللذين هو بحاجة إليهما في مدّة قطع المسافة من بلده إلى الميقات.
فإذا كان العسر والحرج في نفس أعمال الحجّ كالطواف والسعي فقد يصحّ ماقاله السيّد الخوئي رحمه الله من أنّ هذا الفعل إن كان قد سقط وجوبه بالعسر والحرج فهو لا يجزي عن الفعل الواجب, لأنّ إجزاء غير الواجب عن الواجب على خلاف الأصل كما هو المشهور.
نعم لو بنينا على أنّ العناوين الثانويّة ـ كالاضطرار, والعسر, والحرج ـ وإن كانت تؤدّي إلى تغيير أحكام العناوين الأوّليّة على مستوى الخطاب, ولكنّها لا تؤدّي إلى تغييرها على مستوى المبادئ والملاكات, لم يبعد القول باللإجزاء, وهذا ما ينبغي بحثه في محلّه.
وأمّا إذا كان العسر والحرج في المقدّمات التي يتوقّف عليهما أداء الحجّ, فهو وإن سقط عنه وجوب الحجّ قبل قيامه بتلك المقدّمات الحرجيّة , ولكنّه لو قام بفعل تلك المقدّمات متحمّلا للعسر والحرج رجع إليه الوجوب بالنسبة إلى نفس أعمال الحجّ, وأصبح حجّه مصداقاً حقيقيّاً للحجّ الواجب, وتحقّقت به
125
حجّة الإسلام, وسيكون حاله حينئذ كحال من سقط عنه وجوب الصلاة مع الستر الطاهر لكون تحصيله حرجيّاً عليه, ولكنّه لو تحمّل الحرج وقام بتحصيل الستر الطاهر رجع إليه الوجوب وأصبح صلاته فيه مصداقاً حقيقيّاً للصلاة الواجبة مع الستر الطاهر .
وتوضيح هذه الفكرة وتفصيلها زائداً على ما ذكرناه قد يأتي في باب الاستطاعة.
126
2ـ وهل يجب عليه أن يبادر ـ في السنة التي يجب عليه فيه الحجّ ـ بالالتحاق مع أوّل طائرة أو قافلةٍ متّجهةٍ نحوَ تلك الديار، أو يجوز له التأخير إلى نهاية مواعيد السفر المقرّرة؟
ـ يجوز التأخير ما لم يخشَ فوتَ الحجّ(1)

هل يجب الالتحاق بالقافلة الاُولى؟
(1) قلنا: إنّ المعنى الثاني لوجوب المبادرة إلى الحجّ عبارة عن وجوب الالتحاق بأوّل قافلةٍ أو طائرةٍ أو نحو ذلك من الفرص المؤاتية له للسفر إلى الحجّ في إطار السنة التّي يريد أن يحجّ فيها، وعدم جواز تأخير السفر إلى فرصةٍ اُخرى من نفس تلك السنة. وأهمّ الآراء في ذلك ثلاثة:
1ـ وجوب المبادرة في الفرصة الاُولى مطلقاً.
2ـ جواز التأخير إلى فرصةٍ اُخرى مطلقاً.
3ـ عدم جواز التأخير إلى فرصة اُخرى إلّا مع الوثوق بإدراك الحجّ من خلال تلك الفرصة.
ولعلّ معظم المتأخّرين على الرأي الثالث، ومنهم السيّد الخوئي رحمه الله1
موسوعة الإمام الخوئي رحمه الله: الصفحة 13.
.

  • موسوعة الإمام الخوئي رحمه الله: الصفحة 13.
127
والرأي الذي اختاره اُستاذنا الشهيد رحمه الله في المتن وإن كان قريباً جدّاً من هذا الرأي الثالث الذي اختاره السيّد الخوئي رحمه الله، ولكنّ حدوده غير واضحة التطابق مع حدود ذلك الرأي من ناحيتين. الناحية الاُولى: أنّ ظاهر الرأي الذي اختاره السيّد الخوئي رحمه الله أنّه لو لم يكن واثقاً بإدراك الحجّ مع القافلة الثانية لزم عليه المبادرة إلى جهة الحجّ مع القافلة الاُولى حتّى وإن كانت القافلة الاُولى غير موثوقة أيضاً من حيث إدراك الحجّ كالقافلة الثانية، ويستفاد ذلك من الحصر الوارد في عباراتهم, مثل عبارة «عدم جواز التأخير إلّا مع الوثوق بإدراك الحجّ مع القافلة الثانية» فإنّه يعني أنّ جواز التأخير ينحصر بحالة الوثوق بإدراك الحجّ مع القافلة الثانية, فإذا لم يثق بذلك لم يجز عليه التأخير حتى وإن لم يكن واثقاً بإدراك الحجّ مع القافلة الاُولى أيضاً، وإلّا لو كان يجوز له التأخير في هذه الحالة أيضاً لكان هذا يعني عدم انحصار جواز التأخير بالحالة الاُولى المذكورة.
وهذا بخلاف الرأي الذي اختاره اُستاذنا الشهيد رحمه الله بحسب العبارة الواردة في المتن، فإنّها ليست فيها دلالةٌ واضحة على حصر جواز التأخير بحالة الوثوق بإدراك الحجّ مع القافلة الثانية أو الفرصة الثانية، وإن كان قيدُ «ما لم يخشَ فوت الحجّ» الوارد في عبارته رحمه الله ظاهراً في الاحترازيّة، ولكنّ المحترز منه غيرُ واضحٍ، فقوله رحمه الله: «يجوز التأخير ما لم يخشَ فوتَ الحجّ» إنّما يدلّ على أنّه
128
لو خشيَ فوت الحجّ لم يجز له التأخير على وجه الإطلاق، أمّا متى يجوز له التأخير حينئذٍ ومتى لا يجوز؟ فهو ما لا يُعرف من خلال هذه العبارة، وهذا يعني أنّ الحالة التي حكم فيها اُستاذنا الشهيد رحمه الله بجواز تأخير الحجّ بالتأكيد هي حالةُ عدم خشية فوت الحجّ بهذا التأخير، وأمّا في حالة خشية الفوت به فلا يحكم بجواز التأخير على وجه الإطلاق، ففي بعض موارد هذه الحالة على أقلّ تقدير لا يجوّز تأخير الحجّ، ولكنّه قد يجوّز تأخيره في بعض مواردها الاُخرى، كما إذا كان يخشى الفوت مع القافلة الاُولى أيضاً كما يخشاه مع القافلة الثانية.
إذاً فالعبارة التي عبّر بها اُستاذنا الشهيد رحمه الله عن رأيه في هذه المسألة ليست لها دلالة واضحة على عدم جواز تأخير الحجّ من القافلة أو الفرصة الاُولى إلى القافلة أو الفرصة الثانية فيما إذا كانت القافلتان أو الفرصتان مشتركتين معاً في خشية الفوت بمعنى عدم الوثوق بإدراك الحجّ على مستوىً واحد.
الناحية الثانية: أنّ الظاهر بناءً على الرأي الثالث الذي اختاره السيّد الخوئي رحمه الله ـ وهو عدم جواز التأخير إلّا مع الوثوق بإدراك الحجّ ـ عدمُ وجود مجالٍ للقول بوجوب تأخير الحجّ إلى الفرصة القادمة في بعض الفروض، وذلك لأنّ هذا الرأي وإن لم يرد فيه التصريح بكون المراد بجواز التأخير عند الوثوق بإدراك الحجّ عبارةً عن الجواز بالمعنى الأخصّ الذي يعني نفيَ الحرمة
129
والوجوب معاً لا نفيَ الحرمة فحسب، ولكنّ الظاهر ـ بقرينة مقابلته مع الرأي الأوّل والرأي الثاني ووحدة السياق بينه وبينهما ـ أنّ المراد به ذلك، فإنّ الرأي الأوّل يبني على حرمة التأخير سواءً كان واثقاً بإدراك الحجّ على فرض التأخير أو غيرَ واثقٍ به، والرأي الثاني يبني على جواز التأخير سواءً كان واثقاً بذلك أيضاً أو غير واثق به، ولا شكّ أنّ هذا الرأي الثاني يَقصُد بجواز التأخير نفيَ حرمة التأخير ووجوبه معاً لا نفي حرمته فحسب، وذلك لعدم احتمال وجوب التأخير عنده في بعض الفروض مادام ينفي وجوب المباردة في جميع الفروض، فإنّ من ينفي وجوب المبادرة في جميع الفروض سينفي وجوب التأخير أيضاً في جميع الفروض بالأولويّة, وهذا يعني أنّه يقصد بجواز التأخير مطلقاً عدمُ حرمة التأخير وعدم وجوبه معاً مطلقاً، لا عدم حرمته فحسب، بحيث يبقى احتمال وجوب التأخير في بعض الفروض.
وظاهر الرأي الثالث أنّه يؤيّد الرأي الأوّل في حالةٍ، ويؤيّد الرأي الثاني في حالة اُخرى، ففي حالة عدم الوثوق بإدراك الحجّ يؤيّد الرأي الأوّل القائل بحرمة التأخير، وفي حالة الوثوق به يؤيّد الرأي الثاني القائل بجواز التأخير.
ومقتضى ظهور المقابلة ووحدة السياق بين الرأي الثالث والرأيين الأوّلين أنّ الرأي الثالث إنّما يؤيّد كلاً من الرأيين في إحدى الحالتين بنفس المعنى الذي كان يقصده صاحب كلٍ من الرأيين، وهذا يعني أنّه إنّما يؤيّد جواز
130
التأخير في حالة الوثوق بإدراك الحجّ بمعنى نفي الحرمة ونفي الوجوب معاً عن التأخير, كما كان يقصده صاحب الرأي الثاني, لا بمعنى نفي الحرمة فحسب حتى يبقى احتمال وجوب التأخير في بعض الفروض.
هذا بلحاظ الرأي الثالث الذي اختاره جملةٌ من المتأخرين ومنهم السيّد الخوئي رحمه الله.
وأمّا الرأي الذي اختاره اُستاذنا الشهيد رحمه الله فهو وإن كان متقارباً في اللفظ مع ذلك الرأي ولكنّه بما أنّه لم يجعله في مقابل الرأييين الآخرين بل إنّما أبرز هذا الرأي على وجهٍ مستقلّ، فهناك مجالٌ للقول بأنّه إنّما يحكم بجواز التأخير في فرض الوثوق بمعنى نفي الحرمة فحسب لا بمعنى نفي الحرمة والوجوب معاً، وهذا لا ينافي احتمال وجوب التأخير في بعض الفروض كما في فرض ما إذا كان واثقاً بإدراك الحجّ من خلال الفرصة الثانية وغير واثق به من خلال الفرصة الاُولى.
إذاً فرأي اُستاذنا الشهيد رحمه الله الوارد في المتن وإن كان متقارباً جدّاً للرأي الذي اختاره السيّد الخوئي رحمه الله ولكنّه غير واضح التطابق معه في الحدود من الناحيتين المذكورتين.
والظاهر أنّ الصحيح ـ بحسب الأدلّة ـ هو الرأي الذي اختاره اُستاذنا الشهيد رحمه الله بعد تحديد حدوده بما يختلف عن الحدود التي استظهرناها من رأي
131
السيّد الخوئي من الناحيتين المذكورتين. بمعنى أنّه إنّما يجب المبادرة إلى الحجّ مع القافلة الاُولى أو الفرصة الاُولى في حالة عدم الوثوق بإدراك الحجّ مع القافلة أو الفرصة الثانية فيما إذا كانت القافلة أو الفرصة الاُولى أفضل حالاً من الثانية من حيث الوثوق بالإدراك وأمّا إذا كانت الاُولى غيرُ موثوق بها أيضاً كالثانية ـ كما إذا كان يحتمل الابتلاء بمرض معيّن, أو بضياع أمواله صدفةً في الطريق, أو نحو ذلك، سواءً التحق بالقافلة الاُولى أو الثانية، لا بالمستوى الذي يُسقط شرائط الاستطاعة عنه رأساً من البداية، بل بالمستوى الذي يجب معه الإقدام نحو الحجّ رغم عدم الوثوق بدوام التوفيق الإلهي لأداء الحجّ ـ فلا يجب عليه المبادرة حينئذٍ مع القافلة الاُولى مادام حالُها كحال القافلة الثانية من هذه الناحية، وهذا يعني أنّه كما يجوز له التأخير في حال الوثوق بإدراك الحجّ مع القافلة الثانية يجوز له التأخير أيضاً في حال عدم الوثوق بذلك إذا كان حالُ القافلة الاُولى كحال القافلة الثانية في عدم الوثوق، هذا من ناحية.
ومن ناحية ثانية: إنّه في الحالات التي جوّزنا فيها التأخير لابدّ وأن نقصد بذلك عدم حرمة التأخير، وقد يجب التأخير فيها بالإضافة إلى عدم الحرمة، كما إذا كانت القافلة الثانية موثوقاً بها بخلاف القافلة الاُولى، أو كانت القافلتان غير موثوق بهما معاً تمامَ الوثوق ولكنّ القافلة الثانية أفضل حالاً من القافلة الاُولى من حيث احتمال الإدراك للحجّ، فإنّ الظاهر في هاتين الحالتين
132
لزوم القول بوجوب التأخير لا عدم الحرمة فحسب.
والدليل على صحّة هذا الرأي بعد تحديد حدوده بما ذكرناه من الناحيتين المذكورتين: أنّ الأدلّة الشرعيّة الدالّة على وجوب المبادرة إلى الحجّ كلّها تشير إلى المبادرة بالمعنى الأوّل من المعنيين الذين ذكرناهما، أي بمعنى المبادرة إليه في كلّ سنةٍ قبل السنة القادمة، وليس فيها ما يشير إلى المبادرة بالمعنى الثاني، أي بمعنى المبادرة إلىه ضمن السنة الواحدة بالالتحاق بالقافلة الاُولى أو بالفرصة الاُولى بأي نحوٍ من أنحاء الفرص، فنبقى نحن مع الأدلّة العقليّة الراجعة إلى قاعدة أنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.
وقد قلنا سابقاً: إنّ ما قد يظهر من كلمات جملةٍ من الأصحاب ـ من أنّ السبب في قبح تأجيل الحجّ عقلاً من السنة الاُولى إلى السنة الثانية وعدم قبح تأجيله من القافلة الاُولى إلى القافلة الثانية ضمن سنة واحدة، أنّ طول الزمان بين السنتين يؤدّي إلى عدم الوثوق بإدراك الحجّ على فرض التأخير، بخلاف الزمان القصير الفاصل بين القافلتين ضمن سنة واحدة فإنّه لا يوجب عدم الوثوق بإدراك الحجّ عادةً ـ لا يمكن المساعدة عليه، وذلك لأنّ مقتضى الثقافة الدينيّة الراجعه إلى معنى (التوفيق) و(الأجل) وما شابه، عدمُ إمكان حصول الاطمئنان للإنسان بالتمكن من أيّ عمل من الأعمال في الزمان القادم وإن كان قصيراً، إذاً فليس الفرق بين التأجيلين المذكورين ناشئاً من طول زمان أحدهما
133
وقصر زمان الآخَر، وإنّما الفرق بينهما ناشئٌ من أنّ الآفات المحتملة التي قد تحول دون إدراك الحجّ في السنة الواحدة ـ ومنها بلوغ أجل الإنسان المحتمل حصوله قبل إكمال الواجب المركّب ـ نسبتها إلى فرض التحاقه بالقافلة الاُولى أو بالقافلة الثانية نسبة واحدة عادةً، وذلك لأنّه إن كان المقدّر عليه أن يموت قبل إكمال الحجّ فسيموت سواءً التحق بالقافلة الاُولى أو الثانية، وإن كان يُحتمل ضياع أمواله في الطريق أو ابتلائه بمرض أو نحو ذلك فهو يحتمل ذلك عادةً أيضاً على كلا التقديرين، وذلك لأن الحجّ في السنة الواحدة لا يتقدم ولا يتأخّر من حيث كونه واجباً مركباً واحداً سواءً التحق بالقافلة الاُولى أو الثانية، وهذا بخلاف تأجيل كلّ أعمال الحجّ من سنة إلى سنة اُخرى فإنّه يؤدّي إلى احتمال الفوت عادةً.
هذا ما ذكرناه سابقاً، ولكنّه كان مبنياً على العادة والأعمّ الأغلب، فلو افترضنا انخراق هذه العادة الجارية في الأعمّ الأغلب بحيث أصبحت الآفات المحتمل دون أداء الحجّ على فرض عدم التحاقه بالقافلة الاُولى بأمل الالتحاق بالقافلة الثانية أكثر كمّاً أو أقوى احتمالاً من الآفات المحتملة على فرض التحاقه بالقافلة الاُولى، فحينئذٍ ستجري الأدلّة العقلية الراجعة إلى قاعدة أنّ الاشغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني أو إلى بعض فروع هذه القاعدة.
ومن جملة فروع هذه القاعدة: أنّ الشكّ في التمكّن من الامتثال لا يمنع
134
عن ضرورة الإقدام على الامتثال عقلاً ما لم يثبت ترخيص الشارع تبارك وتعالى في ترك الإقدام عليه عند الشكّ في التمكّن منه.
ومن جملة فروعها أيضاً: أنّه بعد لزوم الإقدام على الامتثال عقلاً لو كان أمامه طريقان أو فرصتان للإقدام على ذلك وكان أحد الطريقين أو الفرصتين موثوقاً به في نظر المكلّف والطريق الآخر أو الفرصة الاُخرى غير موثوقٍ به في نظره، لزم عليه عقلاً اختيار الطريق الموثوق به أو الفرصة الموثوق بها.
ومن جملة فروعها أيضاً: أنّ الطريقين الموجودين أمامه لو كانا غير موثوق بهما معاً في نظر المكلّف، ولكنّ أحدهما كان أقلّ تعرّضاً للآفات كمّاً أو كيفاً في نظر المكلّف، لزم عليه عقلاً إختيار ذلك الطريق.
وفي ضوء القاعدة العقليّة المذكورة مع فروعها هذه، سننتهي إلى أنّ المكلّف بعد أن وجب عليه الإقدام على الحجّ لو وجد أمامه خيارين في الإقدام عليه: أحدهما هو الالتحاق بالقافلة الاُولى أو الفرصة الاُولى من أيّ نوعٍ من أنواع الفُرص، والثاني هو ترك القافلة الاُولى أو الفرصة الاُولى والالتحاق بالثانية أو غيرها من الفُرَص القادمة، فحينئذٍ لا يخلو أمره من حالات:
1ـ فتارةً يحصل له الوثوق بإدراك الحجّ من خلال كلّ من هذين الخيارين، فيجوز له حينئذٍ عقلاً اختيار ما شاء من الخيارين، سواءً كان وثوقه بهما على حدّ سواء، أو كان أحدهما أوثق عنده من الآخر وذلك لأنّ المراد
135
بالفراغ اليقيني الذي تتطلّبه قاعدةُ (أنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني) إنّما هو تحصيل الوثوق ـ بمعنى الاطمئنان ـ بالامتثال، وليس من الضروري عقلاً اختيار ما يكون أشدّ وثوقاً بالامتثال.
2ـ وتارةً اُخرى يحصل له الوثوق بأحد الخيارين ولا يحصل له الوثوق بالآخر، فسيجب عليه عقلاً اختيار الموثوق منهما سواءً كان هو الالتحاق بالقافلة الاُولى أو الالتحاق بالقافلة الثانية. وهذا ما أشرنا إليه سابقاً من أنّ جواز تأجيل السفر إلى الحجّ من زمان القافلة الاُولى إلى زمان القافلة الثانية قد لا يكون بمعنى عدم حرمة هذا التأجيل فحسب بل يكون بمعنى وجوب ذلك بالإضافة إلى عدم الحرمة.
3ـ وتارةً ثالثة لا يحصل له الوثوق بإدراك الحجّ من خلال شيءٍ من الخيارين رغم توفّر جميع شروط الاستطاعة بحسب ظاهر الاُمور، وحينئذٍ لو كانت الآفات المحتملة
136
دون أداء الحجّ من خلال كلّ من الخيارين متساويين في نظر المكلّف كمّاً وكيفاً ـ كما هو مقتضى العادة في الأعمّ الأغلب كما ذكرنا ـ جاز له اختيارُ ما شاء من الخيارين، وهذا ما أشرنا إليه سابقاً من عدم انحصار جواز التأخير بحالة الوثوق بإدراك الحجّ مع الفرصة الثانية بل يجوز التأخير أيضاً في فرض ما إذا كان لا يثق بإدراك الحجّ مع الفرصة الاُولى كما لا يثق به مع الفرصة الثانية رغمَ توفّر شروط الاستطاعة. وأمّا لو كانت الآفات المحتملة دون أداء الحجّ من خلال أحد الخيارين أكثر كمّاً أو أقوى كيفاً في نظره، لزم عليه اختيار الآخر الذي يكون احتمال إدراك الحجّ من خلاله أقوى في نظره، سواءً كان هو الخيار الأوّل أو الخيار الثاني، فقد يجب عليه التأجيل إلى الخيار الثاني هنا أيضاً على هذا الأساس.
إذاً فالصحيح في هذه المسألة بعد سكوت الأدلّة الشرعيّة عن لزوم المبادرة بالمعنى المذكور أو عدم لزومها, أنّ الدليل العقلي لايرجّح الفرصة الاُولى للسفر إلى الحجّ على الفرصة الثانية بوصفها أقدم زماناً مالم تكن هي أفضل حالاً من الاُخرى من حيث الوثوق بإدراك الحجّ بالمعنى الماضي, وقد يتمّ ترجيح اختيار الفرصة الثانية على اختيار الفرصة الاُولى إذا كانت هي أفضل حالاً منهامن حيث الوثوق بالمعنى المذكور أيضا.
وقد يقال: إنّ سكوت الشارع تبارك وتعالى عن لزوم المبادرة إلى السفرمع القافلة الاُولى عند عدم الوثوق بإدراك الحجّ مع القافلة الثانية أو غيرها من القوافل والفرص القادمة, يشكّل ظهور حال للمولى تبارك وتعالى في أنّه قد رخصّ المكلّف في تأجيل سفره إلى الحجّ إلى حين مجئ فرصة قادمة حتّى وإن كانت الفرصة القادمة غير موثوق بها, وهذا يعني انتفاء موضوع حكم العقل بلزوم اختيار الفرصة الموثوق بها لامتثال الواجب بحسب قاعدة أنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني, وذلك لأنّ هذا الحكم العقلي
137
مقيّد بحسب إدراك العقل بما إذا لم يرخّص الشارع تبارك وتعالى في ترك الامتثال اليقيني والاكتفاء بالامتثال الاحتمالي, والترخيص المستفاد من سكوت الشارع هنا بحسب الظهور الحالي المذكور يكون ـ في الحقيقة ـ ترخيصاً في ترك الامتثال القطعي والاكتفاء بالامتثال الاحتمالي, فينتفي بذلك موضوع حكم العقل بلزوم تحصيل الفراغ اليقيني عند الاشتغال اليقيني.
وبهذا البيان نفسه قد وجّهنا سابقا عدم لزوم المبادرة عقلاً إلى امتثال التكاليف التي لم يحدّد المولى لها أمداً محدداً للامتثال ولم يأمر فيها بضرورة أدائها بالفور, كقضاء الصلوات الفائتة , والكفارات التي لم يحدّد المولى أمداً خاصاً لأدائها, وغير ذلك, حيث قلنا: إنّ سكوت الشارع تبارك وتعالى عن الأمر بالفور وعن تحديد أمد معيّن للامتثال يشكّل ظهوراً حالياً له تبارك وتعالى في قبوله ورضاه بتأجيل امتثال ذلك الحكم إلى حدّ لا يعدّ من الإهمال والمماطلة, خلافاً لما تعارف بين الأصحاب من توجيه عدم وجوب المبادرة في مثل التكاليف المذكورة بحصول الاطمئنان عرفاً والوثوق بعدم فوت الواجب بالتأجيل, وقد ناقشنا ذلك بعدم حصول مثل هذا الاطمئنان عادتاً للإنسان المتثقّف بالثقافة الدينيّة, وأبدلنا هذا التوجيه بالتوجيه الذي ذكرناه من ظهور حال المولى في كونه موافقاً وراضياً بالتأجيل مالم يؤدّ إلى الإهمال والمماطلة, وإلّا كان عليه أن يأمر بالفورأو يعيّن أمداً محدّداً للامتثال, وهذا في الحقيقة نوع من
138
الإطلاق المقامي المعتمد على سكوت المولى في المقام الذي لاينبغي فيه السكوت لولا رضاه بالنتيجة المطلوبة.
ومثل هذا التوجيه قد يتمسّك به في بحثنا هذا أيضاً, فيقال بأنّ الشارع تبارك وتعالى لولم يكن يرضى بتأجيل سفر الحجّ إلى بعض الفرص القادمة من نفس تلك السنة حتّى في فرض عدم الوثوق بإدراك الحجّ, لكان عليه أن يبيّن ويمنع عن هذا التأجيل, فبعدم بيانه ومنعه عن التأجيل نعرف قبوله له ورضاه به.
ولكنّ الإنصاف أنّ هذا الوجه لا يجري في هذه المسألة, وذلك لأنّ من شأن المولى أن يعيّن وظيفة العبد من حيث الفور أو التراخي إلى أمد محدّد بلحاظ امتثال الواجب نفسه, أي متعلّق التكليف الشرعي الصادر منه تبارك وتعالى, لا بلحاظ المقدّمات والفرص التي لابدّ للمكلّف عقلاً أن يطويها للتوصّل إلى العمل بذلك الواجب. فإن لم يبيّن المولى وظيفة العبد تجاه الواجب الشرعي الذي أمر به من حيث لزوم الفورأو جواز التراخي إلى أمد معيّن انعقد له ـ بهذا السكوت ـ ظهور حاليّ في جواز تأجيل الامتثال مالم يصل حدّ الإهمال والمماطلة, وهذا من تطبيقات فكرة الإطلاق المقامي كما ذكرنا, لأنّ من شأن المولى في مقام تشريع كلّ حكم من الأحكام أن يعيّن وظيفة العبد من حيث الكيفيّة المطلوبة في الامتثال إمّا ببيان لزوم الفور أو ببيان أمد معيّن في ما إذا كان
139
أحد الأمرين مطلوباً عنده, فإن لم يبيّن شيئاً منهما عرفنا ـ بهذه القرينة المقاميّة ـ أنّه يرضى بالتأجيل مالم يبلغ حدّ الإهمال والمماطلة, كما ذكرنا.
هذا بلحاظ نفس الواجب الشرعي الذي أمر به الشارع تبارك وتعالى, وأمّا بلحاظ المقدّمات والفرص التي لابدّ للمكلّف أن يطويها لأجل العمل بذلك الواجب, فليس من شأن المولى أن يبيّن وجوب الفور أو جواز التراخي إلى أمد معيّن فيها حتّى يودّي إلى ظهور حال المولى في جواز التأجيل فيما إذا لم يبيّن شيئاً من الأمرين, وذلك لأنّ من الطبيعي جدّاً أن يكتفي المولى بمقتضيات الإدراك العقلي الحاصل للمكلّف تجاه تلك المقدّمات والفرص, كما يكتفي في أصل لزوم الإتيان بالمقدمات بالإدراك العقلي له. وهذا يعني أنّ الإطلاق المقامي لايتمّ بلحاظ زمان الإقدام على المقدّمات واختيار الفرص المطلوبة لأجل التوصّل إلى العمل بالواجب.
إذاً ففيما نحن فيه لو أنّ الشارع تبارك وتعالى كان قد سكت عن زمان امتثال أصل أعمال الحجّ ـ بماهي مركب ارتباطي ـ فلم يكن قد أمر فيها لا بالفور ولابتعيين أمد محدّد, لكنّا نقول بانعقاد الظهور الحالي المذكور بحسب الإطلاق المقامي في جواز تأجيل كلّ أعمال الحجّ بوصفها مركباً ارتباطيّاً إلى السنوات القادمة مالم يؤدّ إلى الإهمال والمماطلة, كما هو حال قضاء الصلوات الفائتة ونحوها, ولكنّنا قد عرفنا سابقاً أنّ الشارع تبارك وتعالى لم يسكت عن
140
ذلك بل أمربالمبادرة إلى الحجّ في السنة الاُولى وإلّا ففي الثانية وهكذا, سواء فسّرنا ذلك بتقييد أصل وجوب الحجّ, أو بتشريع حكم شرعيّ جديد, أوبالإرشاد إلى حكم العقل, فإنّه يكفي ذلك ـ على كلّ التقادير الثلاثة ـ لعدم انعقاد الظهور الحالي للمولى في جواز التأجيل بلحاظ كلّ أعمال الحجّ.
وأمّا بلحاظ الالتحاق بإحدى القوافل أو اختيار فرصة معيّنة من أيّ نوع من أنواع الفرص فليس سكوت الشارع عن وجوب الفور فيها أو جواز التراخي إلى أمد معيّن موجباً لظهور حال المولى في جواز تأجيلها مالم يؤدّ إلى الإهمال والمماطلة, لأنّ هذه ليست هي الواجب الشرعي الذي أمر به المولى حتّى يكون من شأنه تعيين كيفيّة الامتثال فيها, وإنّما هي لازمة باللزوم العقلي, بقطع النظر عن مدى صحة قاعدة (ماحكم به العقل حكم به الشرع) أو أيّ قاعدة اُخرى توجب صدور حكم شرعيّ من المولى على طبق هذا الحكم العقلي, حيث إنّنا حتى لو قبلنا ببعض هذه القواعد فليس الحكم الشرعي في هذه الاُمور حكماً نفسيّاً مطلوباً بذاته حتّى ينعقد له الظهور الحالي المذكور عند السكوت عن نحو الامتثال, وإنّما هو حكم غيريّ ناشئ من الحكم العقلي بلزوم طيّ المقدّمات, وهذا لايكفي لحصول الظهور الحالي المذكور.
إذاً فلا يتمّ الإطلاق المقاميّ الذي ذكرناه بلحاظ اختيار القافلة أو الرحلة أو نحو ذلك من المقدّمات اللازمة لأداء الحجّ.
141
إذاً فنبقى نحن مع مقتضيات الحكم العقلي بحسب قاعدة (إنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني) وفروعها التي ذكرناها, وقدقلنا: إنّها تقتضي عدم جواز تأجيل السفر من الفرصة الاُولى إلى الفرصة الثانية فيما إذا كانت الفرصة الاُولى موثوقاً بها من حيث الآفات والفرصة الثانية غير موثوق بها كذلك, وفيما إذا كانتا غير موثق بهما معاً ولكنّ احتمال وجود الآفات في الثانية كماً أوكيفاً أقوى من الاُولى, كما شرحنا ذلك بالتفصيل.
142
  وإذا أخّر ففاته الحجّ كان الحجّ ثابتاً عليه ولابدّ من أدائه في سنة اُخرى(1) .

استقرار الحجّ بتأجيله من القافلة الاُولى إلى الثانية
(1) ظاهر عبارة اُستاذنا الشهيد رحمه الله في هذا المقطع من المتن أنّ وجوب الحجّ يستقرّ على المكلّف فيما إذا أخّر الالتحاق بأوّل طائرة أو قافلة متّجهة إلى تلك الديار, ففاته الحجّ بهذا التأخير لعدم تمكّنه من أداء الحجّ من خلال الالتحاق بالطائرات أو القوافل الاُخرى, سواء كان تأخيره للالتحاق بأوّل طائرة أو قافلة متّجهة إلى الحجّ تأخيراً جائزاً له شرعاً, كما إذا كان واثقاً بإدراك الحجّ من خلال طائرة أوقافلة اُخرى, أوكان غير جائز له, كما إذا كان غير واثق بذلك, بناءً على أنّ المعيار في جواز هذا التأخير وعدم جوازه هو الوثوق بإدراك الحجّ وعدم الوثوق به, فعلى كلا التقديرين يجب عليه أداء الحجّ في عام قابل بناءً على هذا الرأي حتّى وإن زالت عنه بعض شرائط الاستطاعة الشرعيّة وأمكنه أن يحجّ بدونها.
وهذا ما ذهب إليه صاحب العروة رحمه الله أيضا معلّلاً ذلك بقوله: «لأنّه كان متمكّنا من الخروج مع الاُولى,إلّا إذا تبيّن عدم إدراكه لوسار معهم أيضاً»1
موسوعة الإمام الخوئي: الجزء 26/ الصفحة 12/ ضمن عبارة المتن.
.

  • موسوعة الإمام الخوئي: الجزء 26/ الصفحة 12/ ضمن عبارة المتن.
143
وأورد عليه السيّد الخوئي رحمه الله حسب نقل المقرّر بقوله: «إذا كان موضوع الاستقرار هوالتمكّن من الحجّ, فلازم ذلك أنّه لو سافر مع القافلة الاُولى وجوباً أو جوازاً واتفق عدم الإدراك لأسباب طارئة في الطريق استقرّ الحجّ عليه, ولايلتزم بذلك أحد حتّى المصنّف قدّس سرّه ـ يعني صاحب العروة رحمه الله ـ لأنّه قد عمل بوظيفته الشرعيّة ولم يهمل, وإنّما فاته الحجّ لسبب آخر حادث, فلا يستقرّ عليه الحجّ»1
نفس المصدر: الصفحة 13.
.
وهذا طبعاً كلام غريب لأنّ كون موضوع الاستقرار هو التمكّن من الحجّ لايستلزم استقرار الحجّ عليه في ما إذا سافر مع القافلة الاُولى واتفق عدم إدراكه للحجّ لأسباب طارئة في الطريق, لأنّ تلك الأسباب الطارئة ستكشف حينئذ عن عدم التمكّن من الحجّ, إذاً فما ذكره لايصلح للنقض على دعوى كون موضوع الاستقرار هو مجرّد التمكّن من الحجّ.
وقد اختار هو رحمه الله أنّ موضوع الاستقرار عبارة عن الإهمال والتفويت العمدي بعد تنجّز وجوب الحجّ عليه باكتمال شرائط الاستطاعة الشرعيّة له2
نفس المصدر: الصفحة14.
.
ولتحقيق هذه المسألة لابدّ من الرجوع إلى أدلّة استقرار الحجّ لنعرف

  • نفس المصدر: الصفحة 13.
  • نفس المصدر: الصفحة14.
144
تفصيل حدود الاستقرار من خلال تلك الأدلّة.
وقد سبق أن بحثنا الأدلة التي قد يتمسّك بها في مسألة استقرار وجوب الحجّ على من سوّف الحجّ من سنة الاستطاعة إلى سنة اُخرى فزالت عنه الاستطاعة, ومن خلال مناقشاتنا لتلك الأدلة ظهر عدم صحّة شئ منها لإثبات استقرار وجوب الحجّ في تلك المسألة عدا الدليل الأوّل منها.
ولابدّ لنا هنا أن نتأمّل مرّة اُخرى في تلك الأدلّة لنعرف مدى صحّة جريانها في مسألتنا الحاضرة, أعني مسألة استقرار وجوب الحجّ على من سوّف الحجّ من القافلة أو الرحلة الاُولى إلى القافلة أو الرحلة الاُخرى وأدّى ذلك إلى عدم إدراكه للحجّ في تلك السنة.
وبالتأمّل فيها نعرف أنّ الأدلة التي أكّدنا عدم إمكان التمسّك بها لإثبات استقرار وجوب الحجّ في المسألة السابقة, لايمكن التمسّك بها لإثبات ذلك في هذه المسألة أيضا, لجريان مناقشاتنا السابقة فيها بلحاظ هذه المسالة بطريق أولى, لأنّ المفروض في مسألتنا الحاضرة أنّ المكلّف قد ابتلى بتأجيل الحجّ من السنة الاُولى إلى سنة اُخرى وهو لم يكن قاصداً لهذا التأجيل, وإنّما كان قاصداً لتأجيله من الرحلة أو القافلة الاُولى إلى الرحلة أو القافلة الثانية, وقد أثبتنا في المسألة السابقة عدم صحّة التمسّك بتلك الأدلة لإثبات استقرار الحجّ على المكلّف حتّى في صورة تعمّده التأجيل من السنة الاُولى إلى السنوات
145
القادمة, فكيف بما إذا لم يكن متعمّداً لذلك كما في مسألتنا الحاضرة.
وأمّا الدليل الأوّل الذي صحّ التمسّك به عندنا لإثبات استقرار وجوب الحجّ على المكلّف في المسألة السابقة, فقد كان معتمداً على كون وجوب الحجّ عند تحقّق الاستطاعة الشرعيّة متعلّقا بذات طبيعة أعمال الحجّ, لا بأعمال الحجّ المقترنة بزمان السنة الاُولى, وإن وجب عليه أدائها في السنة الاُولى بوجوب آخر غير أصل وجوب الحجّ على من استطاع إليه سبيلا, وهذا يعني أنّه لو حصل التأجيل في أداء أعمال حجّه ـ ولو على أساس معصية الأمر الثاني المتعلّق بتقيّد أعمال حجّه بزمان السنة الاُولى ـ بقي عليه امتثال الأمر الأوّل الذي وجبت به ذات طبيعة أعمال الحجّ, ولـمّا كان الوجوب المستفاد من الأمر الأوّل مشروطاً بالاستطاعة الشرعيّة ولو في سنة واحدة وإن زالت بعد ذلك ولم تستجد ـ كما وضحّنا ذلك بالتفصيل في تلك المسألة ـ وجب عليه أداء الحجّ في سنة اُخرى ولو بالاستطاعة العقليّة بعد زوال الاستطاعة الشرعيّة, وهذا معنى استقرار وجوب الحجّ عليه.
وأنت ترى أنّ هذا الدليل بعينه يجري في مسالتنا الحاضرة أيضا وإن كان تأجيل الحجّ فيها إلى سنة قادمة بغير علم وعمد, لأنّه إنّما قصد التأجيل من القافلة الاُولى إلى قافلة اُخرى لا من السنة الاُولى إلى سنة اُخرى, ثمّ لم يتمكّن من الالتحاق بقافلة اُخرى, أو التحق بها ولم يدرك الحجّ, فحصل التأجيل على
146
كلّ حال إلى سنة اُخرى ولو بغير علم وعمد, فهنا أيضاً يمكن القول بأنّ أصل وجوب الحجّ بقي ثابتاً عليه, وهو يستدعي الامتثال ولو في سنة اُخرى حتى وإن زالت عنه الاستطاعة الشرعيّة بنفس البيان الذي ذكرناه.
نعم لو أنّ عدم إدراكه للحجّ من خلال قافلة اُخرى كان لسبب مشترك بين القافلة الاُولى والقوافل الاُخرى بحيث كشف ذلك عن عدم تماميّة شرائط الاستطاعة الشرعيّة له في تلك السنة, وإن كان يتخيّل تماميّتها في بادئ الأمر, فهذا لايؤدّي إلى استقرار الحجّ عليه, لعدم توفّر الاستطاعة الشرعيّة له من الأساس.
ومن هنا نعرف أنّ موضوع استقرار وجوب الحجّ عليه بحسب الدليل المذكور هو توفّر جميع شرائط الاستطاعة الشرعيّة له في تلك السنة ولو من خلال قافلة واحدة أو رحلة واحدة, وليس الإهمال والتفويت العمدي دخيلين في موضوع استقرار وجوب الحجّ عليه كما ادعاه السيّد الخوئي إلّا إذا كان عدم إدراكه للحجّ بدون إهمال وتفويت عمدي مساوياً للكشف عن عدم توفّر جميع شرائط الاستطاعة الشرعيّة له في تلك السنة, ولكنّه ليس كذلك دائما, إذ قديكون عدم إدراكه للحجّ ناشئا من أسباب خاصّة بالقافلة الاُخرى بحيث لوكان يلتحق بالقافلة الاُولى لكان يدرك الحجّ, فإنّ هذا يكفي لاستقرار وجوب الحجّ عليه بحسب الدليل الذي ذكرناه, حتّى وإن كان تأجيله للسفر
147
من القافلة الاُولى إلى الثانية بمبرّر أو عذر شرعي, كما إذا كان واثقاً بإدراك الحجّ من خلال القافلة الثانية, ثمّ تبيّن عدم إدراكه له من خلالها.
ولهذا لم نفرّق أيضاً في مسألة استقرار وجوب الحجّ على المكلّف بتسويفه له من السنة الاُولى إلى سنة اُخرى, بين ما إذا كان تسويفه هذا بمبرّر شرعيّ أو بغير مبرّر شرعيّ, مادامت شرائط الاستطاعة الشرعيّة قد تمّت له في السنة الاُولى.
وأمّا أنّ استقرار وجوب الحجّ عليه هل يقتضي لزوم أدائه للحجّ في سنة اُخرى وإن استلزم العسر والحرج كما في الحجّ التسكّعي, أو أنّه إنّما يقتضي لزومه عليه بقدر الاستطاعة العقليّة ولو عن طريق التكسّب مالم يبلغ حدّ العسر والحرج؟ فهذا ما مضى بحثه سابقاً في تلك المسألة, ولافرق فيه بين تلك المسألة ومسألتنا هذه.
148