نظريّة حقّ الطاعة (1)
نظرية حق الطاعة (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه وأشرف بريّته محمّد وأهل بيته الطيّبين الطّاهرين. ‌
3
المـقدمة:
من جملة الأبحاث المهمّة والعريقة في علم الاُصول البحثُ في تحديد الأصل العمليّ عند الشكّ في التكليف، بمعنى أنّنا لو لم نجد دليلاً على الحكم الشرعيّ في موردٍ معيّن ـ لا بطريقة الجزم واليقين ولا بطريقٍ ظنّيٍّ ثبتت حجيّتهُ شرعاً كخبر الثّقة ونحوه ـ فما هو الأصل الذي لا بدّ من البناء عليه من الناحيّة العلميّة في ذلك المورد؟ فهل نبني على ثبوت التكليف المحتمل في ذلك ونلتزم بالعمل به؟ وهذا ما يسمّى بأصالة الاحتياط وأصالة الاشتغال، أو نبني على البراءة عن التكليف المحمتمل ولا نلتزم بالعمل به؟ وهذا ما يسمى بأصالة البراءة. وهذا البحث مطروح في علم الاُصول على صعيدين:
الأوّل: على الصعيد العقليّ، ويُبحث فيه عن الأصل العمليّ الذي يحكم به العقل عند الشّكِّ في التكليف بقطع النظر عن التدخل الشرعيّ لتعيين الوظيفة العمليّة في ذلك.
والثاني: على الصعيد الشرعيّ، ويُبحث فيه عن الأصل
4
العمليّ الذي يحكم به الشّرع لتعيين الوظيفة العمليّة عند الشّكِّ في التكليف.
والمعنيّ بالبحث ـ في هذا الحديث ـ عبارة عن تعيين الوظيفة العمليّة على الصعيد الأوّل، أعني على صعيد الأصل العمليّ الذي يحكم به العقل عند الشّكّ في التكليف بقطع النظر عن التدخّل الشرعيّ لتعيين الوظيفة العمليّة في ذلك. وقد وقع الخلاف في ذلك بين مشهور المتأخّرين من علمائنا الاُصوليّين (رضوان الله تعالى عليهم)، وبين اُستاذنا الشّهيد آية الله العظمى السيّد محمّد باقر الصَّدر قدس سرّه حيث ذهب المشهور إلى أصالة البراءة العقليّة عند الشّكّ في التكليف، وذهب اُستاذنا الشّهيد رحمه الله إلى أصالة الاحتياط العقليّة في ذلك.
والصّيغة الفنّية التي تمسّك بها القائلون بالبراءة العقلية بعد عصر الوحيد البهبهانيّ رحمه الله وإلى يومنا هذا دعوى حكم العقل بقبح مؤاخذة العبد وعقابه على تكليفٍ لم يصل بيانه إليه، وسمّي ذلك بقاعدة ((قبح العقاب بلا بيان)) وقد اشتهرت نسبة ذلك أيضاً إلى الوحيد البهبهانيّ رحمه الله وعبارته ما يلي:
((إعلم: أنّ المجتهدين ذهبوا إلى أنّ ما لا نصّ فيه والشُّبهة
5
في موضوع الحكم، الأصل فيهما البراءة1
وقد نُقلت هذه العبارة في مقالة فضيلة الشّيخ الآصفيّ حفظه الله المنشورة في مجلة الفكر الإسلاميّ، قم المقدّسة ـ العدد الثالث والرابع / الصفحة 120 ـ مذيّلةً بعبارة ((والمقصود بالأوّل الشّبهة الحكميّة وبالثاني الشّبهة الموضوعيّة)) وذلك في داخل الأقواس التي تحدّد نصّ عبارة الوحيد البهبهانيّ رحمه الله في حين أنّ هذا الذيل من عبارة الشَّيخ الآصفيّ وليس من الوحيد البهبهانيّ رحمه الله ـ كما يشهد به المصدر ـ وقد وقع نفس هذا الخطأ في مقدّمة كتاب (الفوائد الحائريّة) طبعة مجمع الفكر الإسلامي في قم، الصفحة 64.
…))، إلى أن يقول: ((دليل المجتهدين: حكم العقل بقبح التكليف والمؤاخذة ما لم يكن بيانٌ…2
الفوائد الحائريّة: 239 ـ 240، طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ.
)) ومن المحتمل أنّه رحمه الله يقصد بما لا نصّ فيه: مالم يصدر فيه النصّ، ويقصد بقوله: ((مالم يكن فيه البيان)): مالم يكن فيه البيان في الواقع لا في متناول يدّ المكلّف3
والقرينة التي تشهد لصدق هذا الاحتمال استشهاده رحمه الله في ذيل كلامه بديدن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في إبلاغ الأحكام، حيث ((كان يبلّغهم التكليف لا أنّه صلى الله عليه وآله وسلم يبلغهم الرخصة والإباحة)). (الفوائد الحائرية: 241، طبعة مجمع الفكر الإسلامي) فإنّ تبليغ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم يساوق صدور البيان، والمعنى: أنّ ديدن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يشهد على أنّ الرخصة والإباحة ليست بحاجة إلى صدور البيان عليها من قبل الشارع، وإنّما التكليف هو الذي يحتاج إلى صدور البيان من قبله، فكلّما لم يصدر عليه البيان يكون مباحاً.
، وبناءً على هذا

  • وقد نُقلت هذه العبارة في مقالة فضيلة الشّيخ الآصفيّ حفظه الله المنشورة في مجلة الفكر الإسلاميّ، قم المقدّسة ـ العدد الثالث والرابع / الصفحة 120 ـ مذيّلةً بعبارة ((والمقصود بالأوّل الشّبهة الحكميّة وبالثاني الشّبهة الموضوعيّة)) وذلك في داخل الأقواس التي تحدّد نصّ عبارة الوحيد البهبهانيّ رحمه الله في حين أنّ هذا الذيل من عبارة الشَّيخ الآصفيّ وليس من الوحيد البهبهانيّ رحمه الله ـ كما يشهد به المصدر ـ وقد وقع نفس هذا الخطأ في مقدّمة كتاب (الفوائد الحائريّة) طبعة مجمع الفكر الإسلامي في قم، الصفحة 64.
  • الفوائد الحائريّة: 239 ـ 240، طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ.
  • والقرينة التي تشهد لصدق هذا الاحتمال استشهاده رحمه الله في ذيل كلامه بديدن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في إبلاغ الأحكام، حيث ((كان يبلّغهم التكليف لا أنّه صلى الله عليه وآله وسلم يبلغهم الرخصة والإباحة)). (الفوائد الحائرية: 241، طبعة مجمع الفكر الإسلامي) فإنّ تبليغ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم يساوق صدور البيان، والمعنى: أنّ ديدن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يشهد على أنّ الرخصة والإباحة ليست بحاجة إلى صدور البيان عليها من قبل الشارع، وإنّما التكليف هو الذي يحتاج إلى صدور البيان من قبله، فكلّما لم يصدر عليه البيان يكون مباحاً.
6
الاحتمال سوف يكون ذلك بعيداً عن الخلاف الواقع بين اُستاذنا الشّهيد رحمه الله وبين مشهور المتأخّرين، فإنّ هذا الخلاف ناظرٌ إلى ما لم يصل بيانه إلى المكلّف لا ما لم يصدر فيه البيان من الأساس، كما سنوضّح ذلك في تحرير محلّ النزاع.
وأمّا قبل عصر الوحيد البهبهانيّ رحمه الله فلا نجد عيناً ولا أثراً لهذه الصّيغة الفنيّة للبراءة العقليّة، أعني صيغة (قبح العقاب بلا بيان) وإن وجدت صياغات اُخرى رفضها المتأخّرون، كدعوى البراءة على أساس قبح التكليف بما لا يطاق، أو على أساس استصحاب حال العقل، أو غير ذلك1
تجد تفصيل ذلك في كتاب ((مباحث الاُصول))، الجزء الثالث من القسم الثاني: 64 ـ 71.
.
والمهمّ عندنا أن نبحث مدى صحّة البراءة العقليّة من خلال قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) التي شاعت بين المتأخّرين وخالف فيها اُستاذنا الشّهيد الصَّدر رحمه الله ضمن نظريّة جديدة عبّر عنها بنظريّة (حقّ الطاعة) تؤدّي إلى رفض البراءة العقليّة والإيمان بأصالة الاحتياط عند الشّكّ في التكليف.
ولأجل توضيح هذه النظريّة واختيار الصحيح منها ومن قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) لا بدّ قبل كلّ شيء من تحديد محلّ

  • تجد تفصيل ذلك في كتاب ((مباحث الاُصول))، الجزء الثالث من القسم الثاني: 64 ـ 71.
7
النزاع والخلاف بدقّة بين اُستاذنا الشّهيد رحمه الله وبين المشهور القائلين بقبح العقاب بلا بيان حرصاً على سلامة البحث عن كلّ خلطٍ وتشويش:
تحرير محلّ النزاع: ولأجل تحديد المحور الأصليّ لهذا الخلاف وتوضيح المقصود بكلٍّ من هاتين النظريّتين لا بدّ من الالتفات إلى عدّة اُمور:
الأمر الأوّل: ما أشرنا إليه من أنّ المقصود بالبيان عند القائلين بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ بعد الوحيد البهبهانيّ رحمه الله ـ إنّما هو وصول البيان لا صدوره، فهم يدّعون أنّ كلّ تكليف يصدر من المولى لا يحقّ للمولى أن يؤاخذ العبد عليه إلّا في حالة وصول بيان ذلك التكليف إليه، والمقصود بالوصول وقوعه في متناول يد العبد بحيث لو فحص عنه لوجده وجداناً قطعيّاً، أمّا لو لم يجده كذلك حتّى بعد الفحص فهو غير ملزم بالطاعة عقلاً وإن كان بيان التكليف صادراً في الواقع.
وهذا ما خالف فيه اُستاذنا الشّهيد رحمه الله، حيث ذهب إلى أنّ الوصول الاحتماليّ للتكليف يكفي عقلاً لضرورة الامتثال والطاعة ما دام المولى هو الله تبارك وتعالى، وذلك بدعوى أنّ حقَّ طاعة
8
الله تبارك وتعالى لا يختصّ عقلاً بالتكليف الواصل بالمعنى المذكور من الوصول، بل يشمل التكاليف الظنيّة والاحتماليّة التي لا يحصل القطع بها حتى بعد الفحص، فيجب الاحتياط فيها ما دامت محتملةً أو مظنونة، نعم لو حصل القطع بعدم وجود تكليف من التكاليف لم يحكم العقل بلزوم الطاعة فيه وإن كان موجوداً في الواقع.
إذن فالخلاف منصبّ على أنّ التكليف غير الواصل ـ بالمعنى المذكور من الوصول ـ هل يحكم العقل فيه بضرورة الامتثال والطاعة بحيث يحقّ للمولى أن يعاقب على مخالفته أو لا يحكم بذلك، بل يعتبر العبد معذوراً وغير مستحقٍّ للعقاب؟ وهذا ـ كما ترى ـ يختلف اختلافاً جذريّاً عن الخلاف فيما لم يصدر فيه البيان من الأساس، فإنّه داخل ضمن بحث آخر بحثه القدماء ـ في حدود الشّبهة التحريميّة ـ تحت عنوان أنّ الأصل في الأشياء هل هو الحظر أو الإباحة، فقال بعضهم: إنّ الأصل في الأشياء هو الحظر إلى أن تصدر فيها الإباحة، وقال بعضهم: إنّ الأصل في الأشياء هي الإباحة إلى أن تصدر فيها الحرمة، وقال بعضهم بالتوقّف، على كلامٍ في معنى التوقّف1
تجد هذا البحث في كتاب العدّة للشيخ الطوسي رحمه الله 2: 295 ـ 296 من الطبعة الحجرية.
فإذا قصد بقبح

  • تجد هذا البحث في كتاب العدّة للشيخ الطوسي رحمه الله 2: 295 ـ 296 من
9
العقاب بلا بیان قبح العقاب فیما لم یصدر فیه البیان رجع ذلك إلى هذا البحث وأصبح بعيداً عن محور بحث المتأخّرين، وهذا ما احتملنا إرادته من كلام الوحيد البهبهانيّ مع فرق كونه أوسع من بحث القدماء لشموله للشّبهة الوجوبية أيضاً، نعم من المحتمل بالإضافة إلى ذلك أنّ الوحيد البهبهاني رحمه الله كان يبني على أنّ عدم وجدان البيان بعد الفحص يورث الاطمئنان بعدم صدوره، فيطبّق فكرة قبح العقاب على حالة عدم وصول البيان بعد دعوى استكشاف عدم الصدور منه، كما نقل ذلك عن المحقّق الحلّيّ رحمه الله1
مباحث الاُصول، الجزء الثالث من القسم الثاني: 66 ـ 67.
. وبهذا يظهر أنّ كلام المحقّق الحلّيّ أيضاً بعيد عن محور بحث المتأخرين.
الأمر الثاني: ما أشرنا إليه أيضاً من أنّ الأصل العمليّ العقليّ عند كلا الفريقين ـ أي عند القائلين بالبراءة العقليّة والقائلين بالاحتياط العقليّ ـ مشروط عقلاً بعدم وصول موقفٍ شرعيّ مخالفٍ له، سواء كان ذلك الموقف الشرعيّ ضمن ما يسمّى بالأمارة أو ما يسمّى بالأصل العمليّ. فإذا وصلنا موقف شرعيّ يتضمّن لزوم الاحتياط تجاه الحكم الواقعيّ المشكوك

  • الطبعة الحجرية.
  • مباحث الاُصول، الجزء الثالث من القسم الثاني: 66 ـ 67.
10
ارتفع بذلك موضوع البراءة العقليّة عند القائلين بها، كما أنّه لو وصلنا موقف شرعيّ يتضمّن البراءة تجاه الحكم الواقعيّ المشكوك ارتفع بذلك موضوع الاحتياط العقليّ عند القائلين به، وهذا يعني أنّ المقصود بالبيان عند القائلين بقبح العقاب بلا بيان يشمل بيان الحكم الواقعيّ وبيان الحكم الظاهريّ بالاحتياط، فإذا وصلنا البيان بأحد المعنيين انتفى قبح العقاب، كما أنّ المقصود بالتكليف المحتمل عند القائلين بشمول حقّ الطاعة للتكاليف الاحتماليّة هو التكليف الذي لم يصل إلينا دليل على نفيه لا بالمعنى الواقعيّ ولا بمعنى الحكم الظاهريّ بنفيه، فإذا وصلنا دليل على نفيه بأحد المعنيين انتفى حقّ الطاعة.
الأمر الثالث: إنّ المحور الأصليّ للخلاف هو تقييم وظيفة العبد تجاه المولى في محكمة العقل العمليّ وليس هو تقييم وظيفة المولى تجاه العبد في تلك المحكمة.
توضيح ذلك: أنّ هناك قضيّتين مطروحتين أمام محكمة العقل العمليّ:
الاُولى: متى تجب الطاعة على العبد تجاه مولاه؟
والثانية: متى تجوز للمولى ممارسة العقاب تجاه عبده؟
وهاتان القضيّتان وإن كانتا مطروحتين معاً أمام محكمة العقل العمليّ لكنّ حكم العقل العمليّ في القضيّة الثانية إنّما هو
11
في طول حكمه في القضيّة الاُولى، بمعنى أنّ العقل العمليّ إنّما يجوّز للمولى ممارسة العقاب على العبد فيما إذا كانت طاعته واجبةً على العبد عقلاً، أمّا في الحالة التي لا تجب طاعته على العبد ـ كما في حالة العجز مثلاً ـ فلا يجوّزللمولى ممارسة العقاب عليه، إذن فحكم العقل بوجوب الطاعة دخيل في موضوع حكمه بجواز العقاب، والحكم الأوّل تقييم عقليّ مباشر لعمل العبد، والحكم الثاني وإن كان تقييماً لعمل العبد أيضاً بمعنىً من المعاني ـ لأنّه يعيّن أنّ هذا العمل هل يستحقّ عليه العقاب أو لا يُستحقّ عليه العقاب ـ لكنّه بما أنّ العقاب عمل المولى وليس عملاً للعبد فهو إذن تقييم مباشر لعمل المولى وليس تقييماً لعمل العبد إلّا بواسطة الحكم العقليّ الأوّل الذي اُخذ في موضوع هذا الحكم.
وبهذا يظهر أنّه في حالة عدم الوصول القطعيّ للتكليف ـ بالمعنى الذي مضى شرحه ـ وإن وقع الخلاف بين المشهور وبين اُستاذنا الشّهيد رحمه الله على كلا هذين الصيدين ـ أي على صعيد تقييم عمل العبد وعلى صعيد تقييم عمل المولى ـ لكنّ المحور الأصليّ للخلاف إنّما هو على الصعيد الأوّل أي على صعيد تقييم وظيفة العبد ووجوب طاعته تجاه المولى، وأمّا على الصعيد الثاني أي على صعيد تقييم وظيفة المولى وجواز ممارسته
12
للعقاب تجاه العبد فهو مترتّب على الأوّل ويكون الخلاف فيه ناشئاً من الخلاف في الأوّل.
نعم قد يقال بأنّ عدم جواز العقاب عقلاً يدلّ بالدلالة الإنّية على عدم وجوب الطاعة لكنّ هذا داخل في مقام الاستدلال لا في مقام تحرير محلّ النزاع الذي نحن الآن بصدده، وسيظهر من أبحاثنا القادمة أنّ مثل هذا الدليل على عدم وجوب الطاعة عند عدم وصول البيان غير تامًّ لأنّه مصادرة، وسيبقى المحور الأصلي للخلاف هو وجوب الطاعة عقلاً وعدمه عند عدم وصول البيان القطعي على الحكم، لا جواز العقاب عليه من المولى وعدم جوازه.
الأمر الرابع: لا شكّ في أنّ الخلاف بين القائلين بالبراءة العقليّة والقائلين بالاحتياط العقليّ إنّما ينصبّ على التكاليف المحتمل صدورها من قبل المولى لا من قبل أيّ شخصٍ آخر، فلو احتملت صدور التكليف عليك من قبل صديقك مثلاً لم تجب عليك طاعته بالضّرورة وهو خارج عن محور هذا الخلاف، وهذا يعني أنّ موضوع بحثنا الذي وقع فيه الخلاف إنّما هو تكليف المولى لا تكليف أي شخص كان، وهذا واضح إجمالاً، لكنّ الجدير بالذكر أنّ أخذ عنوان (المولويّة) في موضوع البحث عن حقّ الطاعة لا يخلو عن تسامح، وذلك لأنّ (المولويّة) عبارة اُخرى عن
13
حقّ الطاعة فعندما نقول: ((إنّ الله تبارك وتعالى مولانا)) إنّما نعني بذلك أنّ له حقّ الطاعة علينا، وهذا يعني أنّ مولويّة الله تبارك وتعالى هي عين حقّ طاعته وليس لها معنىً آخر غير حقّ الطاعة حتّى يقع موضوعاً لحقّ الطاعة، فالخلاف في شمول حقّ الطاعة للتكليف المحتمل وعدمه تعبير آخر عن الخلاف في شمول المولويّة له وعدمه، وكلّ من يؤمن بشمول حقّ طاعة الله تبارك وتعالى لتكاليفه الاحتماليّة فهو يؤمن بشمول مولويّته لذلك، وكلّ من يؤمن بعدم شمول حقّ طاعة الله تبارك وتعالى لتكاليفه الاحتماليّة فهو يؤمن بعدم شمول مولويّته لذلك، وهذا من باب العينيّة بين معنى (المولويّة) ومعنى (حقّ الطاعة) وليس من باب التلازم بينهما، ولا يمكن أن يؤخذ الشيء في موضوع نفسه كما هو واضح، إذن فالبحث المختلف فيه هو المعنى المعبّر عنه تارةً بحقّ الطاعة واُخرى بالمولويّة، موضوع هذا البحث عبارة عن التكاليف المحتمل صدورها من الله تبارك وتعالى مثلاً بما هو الله لا بما هو مولى، فيقع الخلاف في أنّ التكاليف المحتمل صدورها من الله تعالى هل يوجد له فيها حقّ طاعة ومولويّة على الناس أو لا يوجد؟
نعم لمّا كان هذا الحقّ منوطاً بملاك معيّن كالخالقيّة أو المنعميّة لا بدّ وأن نلحظ ذلك الملاك أيضاً في موضوع البحث،
14
فيرجع البحث إلى أنّ خالقيّة الله تعالى مثلاً أو منعميّته هل تستدعي المولويّة، بمعنى حقّ الطاعة له في تكاليفه الواصلة بالوصول القطعيّ فقط، أو تستدعي المولويّة بمعنى حقّ الطاعة له في تكاليفه الظنيّة والاحتماليّة؟ وعلى هذا الأساس قلنا بأنّ هذا البحث لا يشمل حالة احتمال صدور التكليف من قبل صديقٍ لك مثلاً إذ لا يوجد فيه ملاك المولويّة وحقّ الطاعة أصلاً حتى نبحث عن أنّه هل يستدعي ثبوت هذا الحقّ في حدود التكاليف القطعيّة فحسب أو في التكاليف الظنيّة والاحتماليّة أيضاً.
الأمر الخامس: إنّ المولويّة التي وقع الكلام في هذا البحث حول شمولها للتكاليف الاحتماليّة وعدم شمولها لذلك، إنّما يقصد بها المولويّة التي يدركها العقل العمليّ بصورة مباشرة ومرجعها إلى الحسن والقبح العقليّين، وهي التي عبّر عنها اُستاذنا الشّهيد رحمه الله بالمولويّة الذاتيّة، وليس المقصود بها الحقّ الذي قد يفترضه العقلاء لشخصٍ أو يفترضه الشخص لنفسه، أو لغيره، أو يفترضه صاحب المولويّة الذاتيّة لغيره1
وهذا ما سيأتي البحث عنه بالتفصيل في تقييم بعض أدلّة البراءة العقليّة.
من دون أن يدركه العقل العمليّ مباشرةً، وهو الذي عبّر عنه اُستاذنا الشّهيد بالمولويّة المجعولة؛ وهذا يعني أنّ مجرّد ثبوت حقّ الطاعة لشخص معيّن

  • وهذا ما سيأتي البحث عنه بالتفصيل في تقييم بعض أدلّة البراءة العقليّة.
15
في نظر العقلاء على مستوى المولويّة المجعولة أو عدم ثبوته كذلك بلحاظ التكاليف الاحتماليّة… لا يحقّق غرض هذا البحث إلّا إذا ثبت التلازم بين حدود تلك المولويّة المجعولة وبين حدود المولويّة الذاتيّة التي يدركها العقل العمليّ، وهذا ما يخرج عن إطار تحرير محلّ النزاع الذي نحن بصدده الآن، ويدخل في إطار الاستدلال على هذا الرأي أو ذاك، وسيأتي الكلام في مثل هذا الاستدلال.
الأمر السادس: إنّ المولويّة الذاتيّة بالمعنى الذي ذكرناه والتي وقع الخلاف في ثبوتها ونفيها بلحاظ التكاليف الاحتماليّة، إن قلنا باختصاصها من حيث الأساس بذات الله تبارك وتعالى اختصّ هذا البحث بالتكاليف المحتمل صدورها من الله سبحانه وتعالى، وأمّا إن قلنا بإمكان تحقّق المولويّة الذاتيّة بالمعنى الذي ذكرناه بشأن غير الله سبحانه وتعالى ـ كما قد يدّعى ذلك بالنسبة إلى أولياء النعم من البشر ـ أمكن جريان هذا البحث بشأن التكاليف المحتمل صدورها من غيره من الموالي، لكنّه لمّا لم تكن المولويّة بالمعنى المذكور مأخوذة في موضوع هذا البحث ـ كما سبق ـ ، بل إنّما هي تعبير عن نفس الأمر المختلف فيه سلباً وإيجاباً في هذا البحث، وموضوعها عبارة عن التكاليف المحتمل صدورها من كلّ مصداقٍ من المصاديق التي وقع الكلام
16
في مدى ثبوت حقّ الطاعة له ذاتاً، فسيجري هذا البحث بشأن الله تبارك وتعالى بصورة مستقلّة عن جريانه بشأن أيّ مصداق آخر من المصاديق التي تشتمل على المولويّة الذاتيّة ـ إن تعقّلناها بشأن غير الله تبارك وتعالى ـ وهذا يعني أنّ البحث في مولويّة غير الله تعالى وحقّ طاعته بلحاظ التكاليف الاحتماليّة لا يغنينا عن البحث في مولويّة الله تبارك وتعالى وحقّ طاعته بلحاظ تلك التكاليف، فيبقى المحور الأصلي لهذا البحث عبارة عن مدى سعة المولويّة الذاتيّة لله تبارك وتعالى من حيث شمولها للتكاليف الظنيّة والاحتماليّة وعدم شمولها لذلك، سواء تعقّلنا ثبوت المولويّة الذاتيّة لغير الله تعالى أو لم نتعقّل، وسواء كانت هذه المولويّة شاملةً للتكاليف الظنيّة والاحتماليّة لغير الله تعالى ـ على فرض تعقّلها لغيره ـ أو لم تكن شاملةً لذلك. نعم قد يدّعى ثبوت التلازم بين حدود مولويّة الله تبارك وتعالى وحدود مولويّة غير، وهذا ما لا دليل عليه طبعاً وهو خارج عن إطار تحرير محل النزاع وقد يدخل في مقام الاستدلال، وسنوضّح بطلانه إن شاء الله تعلى عند التعرّض لبيان الأدلّة.
هذه جملة من التوضيحات الراجعة إلى أصل هذه المسألة وتحديد موضوعها ومحور النزاع فيها؛ ويمكن تلخيص ما ذكرناه في نقاط:
17
1ـ إنّ مصبّ هذا الخلاف عبارة عن حالة عدم الوصول القطعيّ للتكليف مع احتمال صدوره في الواقع، وليس عبارة عن حالة عدم صدور البيان عليه من الأساس.
2ـ إنّ الأصل العمليّ العقليّ عند كلا الفريقين ـ أي عند القائلين بالبراءة العقليّة والقائلين بالاحتياط العقليّ ـ مشروط عقلاً بعدم وصول موقفٍ شرعيّ مخالف له.
3ـ إنّ الغرض الأصليّ لهذا البحث عبارة عن تعيين وظيفة العبد تجاه المولى من حيث وجوب الطاعة وعدمه في حال الشّكّ، ويترتّب على ذلك تعيين وظيفة المولى تجاه العبد من حيث جواز العقاب وعدمه.
4ـ لا يصحّ أخذ عنوان المولويّة في موضوع هذا البحث ـ إلّا من باب التسامح في التعبير ـ فإنّ المولويّة تعبير آخر عن حقّ الطاعة وهو الأمر المختلف فيه نفياً وإثباتاً، وموضوعه عبارة عن التكليف المحتمل صدوره من ذات المصداق الذي وقع الكلام في حدود مولويّته.
5ـ إنّ المولويّة التي وقع الخلاف في هذا البحث حول شمولها للتكاليف الاحتماليّة وعدم شمولها لذلك إنّما يقصد بها المولويّة الذاتيّة التي يدركها العقل العمليّ بصورة مباشرة.
6ـ إنّ المحور الأصليّ لهذا البحث عبارة عن مدى سعة
18
المولويّة الذاتيّة لله تبارك وتعالى من حيث شمولها للتكاليف الظنيّة والاحتماليّة وعدم شمولها لذلك، سواء تعقّلنا ثبوت المولويّة الذاتيّة لغير الله تعالى أو لم نتعقّل، وسواء كانت هذه المولويّة شاملةً للتكاليف الظنيّة والاحتماليّة لغير الله تبارك وتعالى ـ على فرض تعقّلها لغيره ـ أو لم تكن شاملةً لذلك.
وبمجموع ما ذكرنا يظهر أنّ مرجع الخلاف بين القائلين بأصالة البراءة والقائلين بأصالة الاحتياط إلى أنّ الله تبارك وتعالى هل له حقّ الطاعة والمولويّة علينا في خصوص تكاليفه الواصلة إلينا بالوصول القطعيّ فحسب؟ أو أنّ له حقّ الطاعة والمولويّة علينا حتّى في التكاليف الظنيّة والاحتماليّة ما لم نحرز الترخيص الشرعيّ من قبله بترك الاحتياط فيها؟
فالقول بالبراءة العقليّة لا يعبّر إلّا عن ضيق دائرة مولويّة الله تبارك وتعالى واختصاصها بالتكاليف القطعيّة، والقول بأصالة الاحتياط لا يعبّر إلّا عن سعة دائرة مولويّة الله تبارك وتعالى وشمولها للتكاليف الظنيّة والاحتماليّة.
ملاكات حقّ الطاعة:
ولأجل تعيين الموقف تجاه هذا الخلاف لا بدّ من الرجوع إلى ملاكات حقّ الطاعة والمولويّة والتأمّل فيها من زاويتين:
19
أوّلا: من زاوية العقل النظريّ، وهي عبارة عن مدى تواجد تلك الملاكات بشأن الله تبارك وتعالى.
وثانياً: من زاوية العقل العمليّ، وهي عبارة عن مدى ترتّب حقّ الطاعة والمولويّة على تلك الدرجة المتواجدة بشـأن الله تبارك وتعالى من تلك الملاكات.
وقد اشتهر بين الأصحاب ذكر ملاكين لحقّ الطاعة والمولويّة:
الأوّل: المنعميّة التي تستتبع وجوب الشّكر عقلاً.
والثاني: الخالقيّة التي تستتبع الملكيّة الحقيقيّة عقلاً.
ونحن الآن لا نريد الدخول في الصراع القائم بين أتباع ملاك (المنعميّة) وأتباع ملاك (الخالقيّة) فإنّه أقرب إلى أبحاث علم الكلام منه إلى أبحاث علم الاُصول، وإنّما نريد أن نتأمّل في هذين الملاكين من الزاويتين اللتين ذكرناهما بعد فرض صحّة كلّ منهما على الإجمال.
أمّا من زاوية العقل النظريّ فلا شكّ في توفّر كلا الملاكين بشأن الله تبارك وتعالى بأعلى ما يتصوّر من درجات: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعمَةَ ٱللَّهِ لَا تُحصُوهَآ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾1
النحل: 18.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ

  • النحل: 18.
20
اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾1
النساء: 1.
ولا نريد الآن الدخول في تفاصيل البحث الفلسفيّ والكلاميّ حول كيفيّة الخلق والإنعام، إذ لا خلاف إجمالاً بين القائلين بأصالة البراءة والقائلين بأصالة الاحتياط في أنّ الله تبارك وتعالى هو الخالق والمنعم على الإطلاق، إذا صدق عنوان (المنعم) على بعض المحسنين من البشر، وعنوان (الخالق) على بعض من هو سهيم في الإيجاد بمعنىً من المعاني كالأب، فهو إمّا صدق مجازيّ أو هو صدق غير مطلق على أفضل تقدير، فلا يصدق العنوانان صدقاً حقيقيّاً مطلقاً إلّا على ذات الله تبارك وتعالى.
وأمّا من زاويّة العقل العمليّ فيقع الكلام في أنّ هذه الدرجة العالية من المنعميّة أو الخالقيّة الثابتة بشأن الله تبارك وتعالى هل تستتبع عقلاً ـ بمقتضى وجوب الشّكر أو بمقتضى الملكيّة الحقيقيّة ـ وجوب طاعته في خصوص تكاليفه الواصلة إلينا بالوصول القطعيّ فحسب؟ أو أنّها تستتبع وجوب طاعته حتّى في التكاليف الظنيّة والاحتماليّة؛ بمعنى وجوب المبادرة إلى فعلها

  • النساء: 1.
21
سواء كانت صادرة منه في الواقع أو لا؟
وهذا السؤال لا مرجع نرجع فيه إليه إلّا نفس العقل العمليّ الذي يقضي بضرورة حفظ غاية ما يمكن من حرمة الله تبارك وتعالى والقيام بجميع مستلزمات احترامه سواء على مبنى (شكر المنعم) أو على مبنى (مالكيّة الخالق). ولا شكّ في أنّ من جملة مراتب احترام الشخص وحفظ حرمته هو القيام بكلّ ما نحتمل إرادته له، فيجب المبادرة إلى امتثال كلّ تكليف نحتمل صدوره من الله تبارك وتعالى حفظاً لغاية مراتب الاحترام والتجليل الواجب له عقلاً، وهذا يعني أنّ الله تبارك وتعالى له حقّ الطاعة علينا بحسب إدراك العقل العمليّ لا في تكاليفه القطعيّة فحسب بل في كلّ تكليف نحتمل صدوره منه أيضاً ما لم نحرز ترخيصه هو في ترك الاحتياط تجاه ذلك التكليف، وهذا ما سمّاه اُستاذنا الشّهيد رحمه الله ب ((نظرية حقّ الطاعة)) وهو أمرٌ وجداني في غاية الوضوح بمقتضى وجدان العقل العمليّ مباشرةً؛ ألا ترى أنّ من قام بامتثال التكاليف الاحتماليّة بالإضافة إلى التكاليف القطعيّة لله تبارك وتعالى فقد حفظ حرمته وأدّى حقوقه بدرجة أعلى وأرفع ممّن لم يقم إلّا بامتثال تكاليفه القطعيّة؟ فما هو المبرّر عقلاً للتخلّف عن حفظ هذه الدرجة من حرمته وحقوقه؟ بعد وضوح أنّ ملاك المولويّة في الله تبارك وتعالى ـ سواء كان هو المنعميّة
22
أو الخالقيّة ـ قد أوجب علينا الحفاظ على غاية ما يمكن من حرماته وحقوقه ما لم يبلغنا إسقاطه هو لبعض هذه الحقوق ورفع يده عنها بالترخيص في ترك التحفّظ.
ولا نقصد بما ذكرنا إقامة البرهان على سعة هذا الحقّ و شموله للتكاليف المشكوكة حتى يرد عليه إشكال المصادرة ـ ببيان أنّه وإن كان يجب علينا حفظ جميع حرمات الله وحقوقه، إلّا أنّ كون هذا من جملة حرماته وحقوقه أوّل الكلام ـ أو غير ذلك من الإشكالات، وإنّما نقصد إثارة الوجدان على ما يدركه العقل العمليّ من سعة حقّ الطاعة لله تبارك وتعالى.
النظريّة ليست برهانيّة: وقد صرّح اُستاذنا الشّهيد رحمه الله أنّ هذه النظريّة ليست برهانيّة وإنّما هي من مدركات العقل العمليّ مباشرةً، حيث قال: ((ونحن نؤمن في هذا المسلك بأنّ المولويّة الذاتيّة الثابتة لله سبحانه وتعالى لا تختصّ بالتكاليف المقطوعة بل تشمل مطلق التكاليف الواصلة ولو احتمالاً، وهذا من مدركات العقل العمليّ، وهي غير مبرهنة، فكما أنّ أصل حقّ الطاعة للمنعم والخالق مدرك أوّليّ للعقل العمليّ غير مبرهن، كذلك حدوده سعة وضيقاً))1
دروس في علم الاُصول، القسم الثاني من الحلقة الثالثة: 33 ـ 34، طبعة مجمع الشّهيد الصدر.
.

  • دروس في علم الاُصول، القسم الثاني من الحلقة الثالثة: 33 ـ 34، طبعة
23
ولا يخفى أنّه رحمه الله يقصد بذلك أنّ تلك الدرجة العالية من المنعميّة والخالقيّة المتواجدة في الله تبارك وتعالى تستتبع بحكم العقل العمليّ الأوّليّ دائرةً واسعة من حقّ الطاعة بحيث تشمل التكاليف الاحتماليّة أيضاً، ومعنى كون هذا حكماً عقليّاً أوّليّاً غير مبرهن عليه أنّ أصل كون هذه الدرجة من المنعميّة والخالقيّة مستتبعةً لهذه الدرجة من حقّ الطاعة أمرٌ عقليّ أوّليّ وليس مستنتجاً من مقدّمات أسبق منه، ولا ينافي ذلك أن تدخل هذه القضيّة نفسها في البرهنة على سعة حقّ الطاعة لله تبارك وتعالى بوصفه مشتملاً على تلك الدرجة من المنعميّة والخالقيّة، فيقال مثلاً: إنّ الله تبارك وتعالى له هذه الدرجة من المنعميّة والخالقيّة، وكلّ من له هذه الدرجة من المنعميّة والخالقيّة وجبت طاعته حتى في التكاليف الاحتماليّة، ونستنتج أنّ الله تبارك وتعالى تجب طاعته حتى في التكاليف الاحتماليّة، وهذا برهان عقليّ مكوّن من صغرى يدركها العقل النظريّ وكبرى يدركها العقل العمليّ، وبهما تتمّ نظرية حقّ الطاعة ويثبت وجوب الاحتياط عقلاً في كلّ تكليف نحتمل صدوره من الله تبارك وتعالى ما لم نحرز ترخيصه هو في ترك الاحتياط.

  • مجمع الشّهيد الصدر.
24
إذن فيمكن أن نعتبر النظريّة برهانيّةً بهذا المعنى، لكنّه لمّا كان منشأ الخلاف في هذه النظريّة هي الكبرى التي ذكرناها، وأمّا الصغرى فهي محلّ الاتفاق بين القائلين بأصالة البراءة والقائلين بأصالة الاحتياط معاً، والكبرى التي ذكرناها إنّما هي من المدركات الأوّليّة للعقل العمليّ كما ذكرنا وليست مستنتجةً من مقدّمات عقليّة أسبق منها، لهذا اعتبر اُستاذنا الشّهيد رحمه الله هذه النظريّة غير برهانيّة، لأنّ الخلاف فيها نشأ من كبرى عقليّة أوّليّة.
أمّا كيف وقع الخلاف في قضيّة معتمدة على كبرى عقليّة أوّليّة ولا خلاف في صغراها؟
فالواجب: أنّنا نعتقد أنّ القائلين بالبراءة العقليّة لا يخلو أمرهم من أحد وجهين:
فإمّا أنّهم لم يتّضح لهم محل النزاع بدقّة سواء بسبب الخلط بين عدم وصول البيان وعدم صدوره، أو الخلط بين البيان الواقعيّ والبيان الظاهريّ، أو بسبب التشويش في فهم معنى المولويّة، أو في فهم علاقة الترتّب بين حقّ العقاب وحقّ الطاعة، أو غير ذلك ممّا وضّحناه بالتفصيل في تحرير محلّ النزاع، فإنّ عدم وضوح هذه الأبعاد يؤدّي بطبيعة الحال إلى عدم الفهم الصحيح لنظريّة البراءة العقليّة؛ فقد يقول القائل بهذه النظريّة وهو لا يعلم أنّها تعبير آخر عن ضيق دائرة مولويّة الله تبارك وتعالى واختصاصها
25
بالتكاليف الواصلة بالوصول القطعيّ، وأنّ الله تبارك وتعالى ليس له المولويّة علينا في غير ذلك من التكاليف!
وأمّا أنّهم قد تأثّروا ببعض البراهين المزعومة لنظريّة البراءة العقليّة وحصلت لهم شبهات تجاه القول بأصالة الاحتياط ممّا أدّى إلى وقوع الخلل في وجدان العقل العمليّ عندهم في هذه المسألة، فإنّ الإنسان قد يبتلى ببعض الشّبهات والبراهين المزعمومة في أبده البديهيّات ولا يستطيع التخلّص منها فيفقد بذلك سلامة الوجدان في إدراك تلك البديهة، كما حصل ذلك عند روّاد بعض المدارس الفكرية في مسألة استحالة الجمع بين النقيضين.
أمّا من يتعرّف على محور النزاع وأبعاده بدقّة، ويلتفت إلى أجوبة الشّبهات والبراهين المزعومة في هذه المسألة ويتفطّن إلى حلّها بالوجه الصحيح فسيدرك مَعَنا بالضرورة، سعة حقّ الطاعة لله تبارك وتعالى ويعترف بصحّة نظريّة حقّ الطاعة وبطلان نظريّة البراءة العقليّة وما يسمى بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.
وقد وضّحنا في تحرير محلّ النزاع ما أمكننا توضحيه من أبعاد هذه المسألة وحدودها، فلا يبقى علينا الآن إلّا أن نتعرّض للشّبهات والبراهين المزعومة التي تمسّك بها القائلون بالبراءة العقليّة ونوضّح الجواب عليها بدقّة لكي نسترجع إلى هذه المسألة
26
بداهتها ووضوحها بحسب إدراك العقل العمليّ.
ونحن حينما نتصدّى للجواب عن الشّبهات والبراهين التي تمسّك بها القائلون بالبراءة العقليّة فهذا لا يعني التصدّي للبرهنة على صحّة نظريّة حقّ الطاعة وإنّما يعني التصدّي لدفع المانع عن فعليّة الإدراك البديهيّ لهذه النظريّة.
أدلّة البراءة العقليّة: هناك وجوه كان يتمسّك بها بعضهم للبراءة العقليّة قبل بروز فكرة قبح العقاب بلا بيان1
ويمكن الرجوع بهذا الصدد إلى ما تعرّض له اُستاذنا الشّهيد رحمه الله تحت عنوان ((تأريخ البراءة العقليّة)) ونقله السيد الحائريّ في الجزء الثالث من القسم الثاني من كتاب ((مباحث الاُصول)): 64 ـ 71.
، من قبيل (قبح التكليف بما لا يطاق) و(استصحاب حال العقل) وقد أصبح فسادها واضحاً لدى المتأخرين ولا داعي لإطالة البحث فيها.
وأمّا من حين بروز فكرة (قبح العقاب بلا بيان) وإلى يومنا هذا فهناك وجوه يمكن اقتناصها من خلال مجموع كلمات الأصحاب للبرهنة على البراءة العقليّة سواء قصدوا بها البرهنة على ذلك أو لا.

  • ويمكن الرجوع بهذا الصدد إلى ما تعرّض له اُستاذنا الشّهيد رحمه الله تحت عنوان ((تأريخ البراءة العقليّة)) ونقله السيد الحائريّ في الجزء الثالث من القسم الثاني من كتاب ((مباحث الاُصول)): 64 ـ 71.
27
1ـ البيان الساذج لقبح العقاب بلا بيان:
الوجه الأوّل: التمسّك بالبيان الساذج لفكرة (قبح العقاب بلا بيان) لإثبات البراءة العقليّة.
ولا يخفى أنّ هذه الفكرة ببيانها الساذج لا تكفي للبرهنة على البراءة العقليّة وذلك لأنّ البراءة العقليّة ـ كما شرحناها في تحرير محلّ النزاع ـ إنّما تعني اختصاص وجوب طاعة الله تعالى عقلاً بالتكاليف الواصلة بالوصول القطعيّ، وأمّا فكرة (قبح العقاب بلا بيان) فإن قصد بها نفس هذا المعنى أصبح الدليل عين المدّعى، وإن قصد بها عدم جواز العقاب بما هو فعل للمولى فهومتوقّف على البراءة العقليّة بالمعنى الذي ذكرناه، وذلك لما مضى شرحه من أنّ تقييم العقل العمليّ لوظيفة المولى من حيث جواز العقاب وعدمه متوقّف على تقييمه لوظيفة العبد من حيث وجوب الطاعة وعدمه، فيصبح الدليل متوقّفاً على المدّعى، وعلى كلا التقديرين يفقد الدليل قيمته العلميّة في مقام الاستدلال. وكلّ استدلال من هذا القبيل ـ أعني ما يتمسّك فيه بنفس المدّعى أو بما يتوقّف على المدّعى ـ يعبّر عنه اصطلاحاً بالمصادرة، ولا يصحّ الاعتماد على ذلك في مقام الاستدلال.
28
2ـ مفهوم حجيّة القطع:
الوجه الثاني: التمسّك بالمفهوم المعاكس لقاعدة (حجيّة القطع) لإثبات البراءة عن التكليف عند انتفاء القطع.
توضيح ذلك: أنّهم قالوا بأنّ الحجيّة من اللوازم الذاتيّة للقطع، وإن اختلفوا في أنّها هل هي من لوازم الماهيّة بالنسبة للقطع كالزوجيّة بالنسبة للأربعة، أو أنّها من لوازم الوجود كالحرارة بالنسبة إلى النار؟ وقصدوا بذلك على كلا التقديرين أنّ الحجيّة من ذاتيّات القطع بما هو كاشف تامّ، والنتيجة الطبيعيّة لهذه الفكرة أنّ الحجيّة تنتفي عند انتفاء الكشف التامّ، لأنّها من ذاتيّات هذا الكشف ولا معنى لثبوت ذاتيّ شيءٍ في ذات شيءٍ آخر ـ ولهذا قالوا باستحالة صدور الواحد الّا من واحد ـ وعلى هذا الأساس قالوا بأنّ التكليف الشرعيّ يستحيل أن يتنجّز إلّا بالكشف التام الذي هو القطع، وهذا يعني عدم تنجّز التكليف بمجرّد الظّنّ والاحتمال، ويترتّب على ذلك قبح العقاب بلا بيان، لأنّ التكليف ما لم يتنجّز يقبح العقاب عليه.
وبهذا يظهر أنّ قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) نتيجة طبيعيّة لقاعدة (حجيّة القطع) بالمعنى المشهور لدى الأصحاب، لأنّها مستنبطة من المفهوم المعاكس لقاعدة حجيّة القطع. ولكنّا إذا
29
تأمّلنا في قاعدة (حجيّة القطع) بالمعنى الذي فهمه الأصحاب نجد أنّها قضية حمليّة بشرط المحمول، وذلك لأنّهم قصدوا بالقطع القطع بتكليف المولى لا القطع بتكليف أيّ شخص كان، وحينما نتأمّل في معنى (المولويّة) نجد أنّها إنّما تعني حقّ الطاعة ـ كما سبق توضيح ذلك ـ وحينما نتأمّل في معنى (الحجيّة) نجد أنّها أيضاً تعبير عن لزوم الطاعة عقلاً، فحينما نقول: ((إنّ القطع بتكليف المولى حجّة)) سيكون معنى ذلك: (إنّ القطع بتكليف من يجب طاعته يجب طاعته) وهذه قضيّة حمليّة بشرط المحمول كقول القائل: (زيد القائم قائم)1
جاءت هذه الفكرة في الحلقة الثانية من دروس في علم الأصول: 36 ـ 37، طبع مجمع الفكر الإسلامي.
.
وبهذا يظهر أنّ الحجيّة ليست من لوازم القطع بما هو قطع وبغضّ النظر عن متعلّقه من حيث كونه تكليفاً مشمولاً لحقّ الطاعة أو غير مشمول لحقّ الطاعة، وإنّما الحجيّة تعبير آخر عن حقّ الطاعة والمولويّة، فما لم نفترض شمول هذا الحقّ لمتعلّق القطع لم تثبت فيه الحجيّة، وإذا افترضنا شموله فقد افترضنا حجيّته أيضاً؛ ومن الواضح أنّ هذا النحو من ثبوت الحجيّة للقطع ثابت أيضاً للظّنّ والاحتمال، فإنّ الظنّ والاحتمال أيضاً ـ على

  • جاءت هذه الفكرة في الحلقة الثانية من دروس في علم الأصول: 36 ـ 37، طبع مجمع الفكر الإسلامي.
30
فرض كون متعلّقهما مشمولاً لحقّ الطاعة والمولويّة ـ صحّ التعبير عنهما بالحجّة، وعلى فرض عدم شمول حقّ الطاعة والمولويّة لمتعلّقهما لم يصحّ التعبير عنهما بالحجّة، وذلك لرجوع معنى الحجيّة إلى حقّ الطاعة والمولويّة كما ذكرنا، وسيكون البحث بهذا النحو بحثاً افتراضياً محضاً كقول القائل: ((إنّ زيداً على فرض كونه قائماً فهو قائم وعلى فرض عدم كونه قائماً فهو غير قائم)) ومن الواضح أنّ مثل هذا البحث لا جدوى فيه سواء على صعيد حجيّة القطع أو على صعيد حجيّة الظّنّ والاحتمال.
فلكي يكون البحث واقعيّاً ومجدياً لا بدّ من حذف عنوان المولويّة من موضوع البحث وإدخالها في المحمول فحسب ـ كما أكّدنا على ذلك سابقاً ـ فبدلاً عن البحث في أنّ تكليف المولى ـ بما هو مولى ـ متى يكون حجّةً، فهل يكون حجّةً عند القطع به فحسب، أو يكون حجّة حتى عند الظّنّ والاحتمال؟ لا بدّ وأن نبحث في أنّ تكليف الله تبارك وتعالى ـ لا بوصفه مولى بل بوصفه الشخصيّ المشتمل على المنعميّة والخالقيّة ـ متى يكون حجّةً؟ فهل يكون حجّة ومشمولاً لحقّ الطاعة والمولويّة عند القطع به فحسب أو يكون كذلك حتى عند الظّنّ والاحتمال وإن لم يصب الواقع؟
31
وإذا طرحنا البحث بهذه الصيغة أصبح من الواضح جداً أنّ التمسّك بحجيّة القطع لإثبات عدم حجيّة الظّنّ والاحتمال غير صحيح، لأنّ معنى حجيّة القطع حينئذٍ عبارة عن أنّ تكاليف الله تبارك وتعالى مشمولة لحقّ طاعته عند القطع بها، وهذا لا ينافي كونها مشمولة لذلك أيضاً عند الظّنّ والاحتمال.
وأمّا دعوى (أنّ الحجيّة ـ وإن رجعت إلى معنى المولويّة وحقّ الطاعة ـ إنّما هي من اللوازم الذاتيّة للقطع بتكاليف الله تبارك وتعالى بما هو قطعٌ بذلك وكاشف تامّ عنه، فيدلّ ذلك على عدم حجيّة غير القطع من الظّنّ والاحتمال) فهي مصادرة واضحة؛ لأنّ كون الحجيّة من لوازم القطع بما هو قطع يستبطن دعوى عدم شمول حقّ الطاعة للظّنّ والاحتمال، إذ لو كان حقّ الطاعة شاملاً للظّنّ والاحتمال لكانت الحجيّة من لوازم القطع لا بما هو قطع بل بما هو فرد من مطلق الكشف الشامل لظّنّ والاحتمال أيضاً، فيكون الدليل مستبطناً للمدعى فيفقد قيمته العلميّة في مقام الاستدلال.
3ـ بيان المحقّق النائينيّ رحمه الله:
الوجه الثالث: ما ذكره المحقّق النائيني رحمه الله وحاصله: أنّ الأحكام الشرعيّة ليس لها اقتضاء التحريك بوجودها الواقعيّ ولا
32
بوجودها الاحتماليّ، بل إنّما يكون لها اقتضاء التحريك بوجودها العلميّ، وما ليس له اقتضاء التحريك يقبح العقاب على مخالفته، وبذلك يستنتج حكم العقل بالبراءة تجاه كلّ تكليف لم يصل بيانه إلى المكلّف بصورة قطعيّة1
أجود التقريرات 2: 182، مطبعة العرفان ـ صيدا.
.
وهذا الوجه أيضاً غير صحيح، وذلك لما نبّه عليه اُستاذنا الشّهيد رحمه الله2
دروس في علم الاُصول، القسم الثاني من الحلقة الثالثة: 29 ـ 30، طبعة مجمع الشّهيد الصدر.
من أنّ دعوى عدم اقتضاء الحكم للتحريك بوجوده الواقعيّ ولا بوجوده الاحتماليّ متوقّفة على عدم شمول حقّ الطاعة والمولويّة للتكاليف الاحتماليّة، وهذا هو المدّعى المطلوب إثباته بهذا الدليل فيكون الدليل متوقّفاً على المدعى وهو مصادرة واضحة.
4ـ بيان المحقّق الإصفهانيّ رحمه الله:
الوجه الرابع: ما ذكره المحقق الإصفهانيّ رحمه الله من: ((أنّ حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ليس حكماً عقليّاً عمليّاً منفرداً عن سائر الأحكام العقليّة العمليّة، بل هو من أفراد حكم العقل بقبح الظلم عند العقلاء، نظراً إلى أنّ مخالفة ما قامت عليه الحجّة

  • أجود التقريرات 2: 182، مطبعة العرفان ـ صيدا.
  • دروس في علم الاُصول، القسم الثاني من الحلقة الثالثة: 29 ـ 30، طبعة مجمع الشّهيد الصدر.
33
خروج عن زيّ الرقيّة ورسم العبوديّة وهو ظلم من العبد على مولاه، ويستحقّ منه الذمّ والعقاب، كما أنّ مخالفة ما لم تقم عليه الحجّة ليست من أفراد الظلم، إذ ليس من زيّ الرقيّة أن لا يخالف العبد مولاه في الواقع وفي نفس الأمر، فليس مخالفة ما لم تقم عليه الحجّة خروجاً عن زيّ الرقيّة حتّى يكون ظالماً))1
نهاية الدراية 4: 84، طبعة مؤسسة آل البيت عليهم السلام.
.
وهذا البيان يرجع بروحه إلى صغرى وكبرى:
أمّا الصغرى فهي عبارة عن: أنّ التكليف ما لم يصل بيانه بصورة قطعيّة لم تكن مخالفته مصداقاً للظلم، لأنّه لم تقم عليه الحجّة، فليست مخالفته خروجاً عن زيّ العبوديّة حتّى يكون ظلماً.
وأمّا الكبرى فهي عبارة عن أنّه كلّ ما لم يكن مصداقاً للظلم فهو ليس قبيحاً، وذلك لأنّ أحكام العقل العمليّ راجعةٌ جميعاً إلى حسن العدل وقبح الظلم، فما لم يكن الشيء ظلماً لم يكن قبيحاً.
والنتيجة: أنّ التكليف الذي لم يصل بيانه بصورة قطعيّة ليست مخالفته قبيحةً عقلاً، وهذا يعني أنّ المولى ليس له حقّ الطاعة في التكليف الذي لم يصل بيانه إلى المكلّف بصورة قطعيّة.

  • نهاية الدراية 4: 84، طبعة مؤسسة آل البيت عليهم السلام.
34
ويمكن المناقشة في كلّ من الصغرى والكبرى من هذا البرهان:
أمّا الصغرى فبأنّها مصادرة، لأنّ تعليل نفي الظلم عن مخالفة التكليف الاحتماليّ بأنّه لم تقم عليه الحجّة لا يتمّ إلّا بدعوى عدم حجيّة الاحتمال وهو تعبير آخر عن نفي حقّ الطاعة في التكليف الاحتماليّ، وهذا هو المطلوب إثباته بهذا الدليل، فيكون الدليل متوقّفاً على المدّعى وهو مصادرة.
وأمّا الكبرى فبأنّها قضيّة بشرط المحمول وحالها حال قول القائل ((زيد القائم قائم)) وذلك لأنّنا إذا حلّلنا مفهوم (الظلم) وجدنا أنّه عبارة عن الاعتداء وسلب الغير حقّه، وإذا حلّلنا مفهوم الحقّ وجدنا أنّه عبارة عمّا يقبح سلبه عن الغير، وهذا يعني أنّ معنى القبح مستبطن في مفهوم الظلم، فما جاء في الكبرى المذكورة من أنّ ما ليس مصداقاً للظلم فهو غير قبيح يكون بمنزلة قول القائل: ((إنّ ما ليس قبيحاً فهو غير قبيح)) وهذا لا قيمة له عقلاً زائداً على ما يحكم به العقل مباشرةً من إثبات القبح أو نفيه في الصغريات، وأمّا ما اشتهر من رجوع أحكام العقل العمليّ كلّها إلى حسن العدل وقبح الظلم فلا يمكن المساعدة عليه، والصحيح: أنّ العقل العمليّ يدرك الحسن والقبح في الصغريات مباشرةً وليست قضيّة (العدل حسن) و(الظلم قبيح) إلّا تعبيراً عن
35
تكرار ما هو المفترض مسبقاً من حسن أو قبح، فلا بدّ وأن نرجع إلى المصداق المطلوب في كلّ موردٍ لنرى هل يحكم العقل فيه بالحسن ليكون عدلاً، أو يحكم فيه بالقبح ليكون ظلماً، أو لا يحكم فيه بشيء من ذلك. وقد عرفت في مناقشة الصغرى في ما نحن فيه أنّ نفي عنوان (الظلم) ـ المستبطن لمعنى القبح ـ عن مخالفة التكليف الذي لم يصل بيانه بصورة قطعيّة مصادرة.
هذا مقتضى الوجه الفنّيّ للجواب على بيان المحقّق الإصفهانيّ رحمه الله وقد تعرّض له اُستاذنا الشّهيد رحمه الله من دون أن يحلّل أصل البيان إلى صغرى وكبرى ممّا أدّى إلى عدم التمييز الواضح بين المناقشة الصغرويّة والكبرويّة في الجواب عنه1
لاحظ: بحوث في علم الاُصول 5: 27 ـ 28، ودروس في علم الاُصول، القسم الثاني من الحلقة الثالثة:
30 ـ 31، طبعة مجمع الشّهيد الصدر.
.
5ـ البيان الثاني للمحقق الإصفهانيّ رحمه الله: الوجه الخامس: ما ذكره المحقق الإصفهاني أيضاً من: ((أنّ مدار الإطاعة والعصيان على الحكم الحقيقيّ، وأنّ الحكم الحقيقيّ متقوّم بنحوٍ من أنحاء الوصول،

  • لاحظ: بحوث في علم الاُصول 5: 27 ـ 28، ودروس في علم الاُصول، القسم الثاني من الحلقة الثالثة:
    30 ـ 31، طبعة مجمع الشّهيد الصدر.
36
لعدم معقوليّة تأثير الإنشاء الواقعيّ في انقداح الداعي، وحينئذٍ فلا تكليف حقيقيّ مع عدم الوصول، فلا مخالفة للتكليف الحقيقيّ فلا عقاب، فإنّه على مخالفة التكليف الحقيقيّ))1
نهاية الدراية 4: 83، طبعة مؤسسة آل البيت عليهم السلام.
.
وهذا ـ كما ترى ـ يبتني على دعوى عدم محركيّة التكليف إلّا بالوصول القطعيّ وهو تعبير آخر عن عدم شمول حقّ الطاعة للتكاليف الاحتماليّة، وهذا هو المدّعى المطلوب إثباته بهذا الدليل، فيكون الدليل متوقّفاً على صدق المدّعى وهو مصادرة، وقد مضى ما يشبهه في بيان المحقق النائينيّ رحمه الله وأجبنا عليه بمثل هذا الجواب.
6ـ الاستشهاد بالأعراف العقلائيّة:
الوجه السادس: ما جاء على ألسنة الأصحاب من الاستشهاد بالأعراف العقلائيّة الجارية بين الموالي والعبيد، حيث إنّ العقلاء لا يرون للموالي حقّ المؤاخذة والعقاب على عبيدهم عند مخالفة التكليف إلّا بعد وصول ذلك التكليف بصورة قطعيّة، وهذا يعني أنّ حقّ طاعة الموالي مشروط في نظر العقلاء بالوصول القطعيّ أي بالوصول إلى حيث لو فحص عنه العبد لوجده، ويقاس على ذلك حقّ طاعة الله تبارك وتعالى فيقال: إنّه مشروط أيضاً بمثل هذا الوصول.

  • نهاية الدراية 4: 83، طبعة مؤسسة آل البيت عليهم السلام.
37
وأنت ترى أنّ هذا البيان بهذا المقدار لا يكفي لإثبات اختصاص حقّ طاعة الله تبارك وتعالى عقلاً بالتكاليف القطعيّة ما لم يظهر وجه التعديّ من المولويّات العرفيّة العقلائيّة إلى مولويّة الله تبارك وتعالى، فلا بدّ من إضافة شيء إلى البيان المذكور لتوجيه هذا التّعدّي من قبيل التمسّك بأنّ الله تبارك وتعالى سيد العقلاء وطليعتهم فما يصدق عليهم يصدق عليه كما ذكره بعضهم في غير هذا المجال.
ولكنَّ هذا التوجيه غير صحيح وذلك لسببين:
أوّلاً: إنّ المطلوب إثباته هو اختصاص حقّ طاعة الله تبارك وتعالى من ناحية إدراك العقل العمليّ المحض بالتكاليف الواصلة بالوصول القطعيّ، فما لم يثبت مسبقاً اختصاص حقّ طاعة غيره تبارك وتعالى من الموالي بحسب إدراك العقل العمليّ المحض بالتكاليف الواصلة بالوصول القطعيّ لم يفدنا التّعدّي من حقّ طاعة هؤلاء الموالي إلى حقّ طاعة الله تبارك وتعالى، فإنّ اختصاص حقّ طاعة هؤلاء الموالي بالتكاليف القطعيّة إن لم يكن بحسب الإدراك العقليّ بل بحسب الجعل العقلائيّ لكان مقتضى التّعدّي أنّ الله تبارك وتعالى شريك لهم في هذا الجعل لأنّه سيّد العقلاء وطليعتهم، وغاية ما يترتّب على ذلك إثبات البراءة الشرعيّة دون العقليّة.
38
وثانياً: حتّى لو سلّمنا باختصاص حقّ طاعة غير الله تبارك وتعالى من الموالي بالتكاليف القطعيّة بحسب إدراك العقل العمليّ المحض، فمقتضى كون الله تبارك وتعالى سيّد العقلاء وطليعتهم أنّه شريك لهم في هذا الإدراك العقليّ، وهذا يعني أنّه كما أنّ العقلاء يدركون ـ بعقلهم العمليّ ـ اختصاص حقّ طاعة هؤلاء الموالي بالتكاليف القطعيّة فالله تبارك وتعالى أيضاً يدرك اختصاص حقّ طاعتهم بذلك، وهذا لا يستلزم اختصاص حقّ طاعته هو تبارك وتعالى أيضاً بذلك، فقد تختلف شروط حقّ طاعة الله تبارك وتعالى عقلاً عن حقّ طاعة غيره من الموالي.
وبهذين السببين يصحّ القول بأنّ مجرّد كون الله تبارك وتعالى سيّد العقلاء وطليعتهم لا يبرّر التّعدّي من المولويّات العرفيّة العقلائيّة إلى مولويّة الله تبارك وتعالى في اشتراط حقّ الطاعة بالوصول القطعيّ للتكليف.
بيان الشّيخ الآصفيّ:
ولعلّه لهذين السببَين انتقل فضيلة العلّامة الشيخ محمد مهدي الآصفي حفظه الله تعالى إلى وجه جديد لتبرير التّعدّي من المولويّات العرفيّة العقلائيّة إلى مولويّة الله تبارك وتعالى في اشتراط حقّ الطاعة بالوصول القطعيّ للتكليف، وذلك في مقالٍ له
39
تحت عنوان ((دور الوحيد البهبهانيّ في تجديد علم الاُصول))1
نشر في مجلّة (الفكر الإسلامي) العدد الثالث والرابع، وفي مقدمة كتاب (الفوائد الحائريّة) للوحيد البهبهانيّ رحمه الله، طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ.
.
ويمكن تحليل وجه التّعدّي عنده في ذلك إلى أمرين أساسيّين:
الأمر الأوّل: ما جاء في النقطة الاُولى من النقاط الثلاث التي نظّم بها بيانه لإثبات البراءة العقليّة وهو أنّ اشتراط حقّ طاعة غير الله تبارك وتعالى من الموالي بالوصول القطعيّ للتكليف من مدركات العقل العمليّ: ((ومَثَله في ذلك مثل حكم العقل بحسن العدل وقبح الظلم، وهو حكم عقليّ قطعيّ، وأمارة ذلك تطابق العقلاء على ذلك))2
مجلة (الفكر الإسلامي)، العدد الثالث والرابع: 125.
.
ويمكن أن نعتبر هذا الأمر محاولةً منه للتغلّب على السبب الأوّل من السببين اللذين رفضنا بهما الوجه السابق للتّعدّي من المولويّات العقلائيّة إلى مولويّة الله تبارك وتعالى، وقد استدلّ في ذلك بتطابق العقلاء على اشتراط حقّ الطاعة بالوصول القطعيّ للتكليف.
والأمر الثاني: ما جاء في النقطة الثالثة من بيانه وهو

  • نشر في مجلّة (الفكر الإسلامي) العدد الثالث والرابع، وفي مقدمة كتاب (الفوائد الحائريّة) للوحيد البهبهانيّ رحمه الله، طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ.
  • مجلة (الفكر الإسلامي)، العدد الثالث والرابع: 125.
40
دعوى: ((وحدة مصدر الطاعة الشرعيّة، أو وحدة حقّ الطاعة؛ فلیس لدينا حقّان ومصدران للطاعة، حقّ الطاعة لله وحقّ الطاعة لغير الله تعالى من الموالي، وإنّما هو حقّ واحد ومصدر واحد))1
المصدر نفسه: 129.
.
وذكر في توضيح ذلك: ((أنّ الطاعة لا تزيد على حالتين: إمّا أن تكون طاعة شرعيّة أو تكون طاعة غير شرعيّة. والطاعة الشرعيّة هي طاعة الله وطاعة كلّ من يأمر الله تعالى بطاعتِه من أنبيائه ورسله عليهم السلام وأوصيائهم عليهم السلام ومن يؤمرونهم على الناس من الاُمراء ومن الدرجة الثانية والثالثة… وتدخل في هذا الحقل من الطاعة طاعة الزوج، وطاعة الوالدين، وطاعة الأجير، فإنّ كلّ ذلك يتمّ بأمر من الله تعالى وفي الحقيقة هي مصاديق لطاعة الله تعالى، وفي امتداد طاعة الله وتحمل نفس قيمة وقوّة طاعة الله، وإن كانت تختلف عن طاعة الله في مساحة الطاعة فإنّ حقّ طاعة الزوج محدود في مساحة معيّنة، بعكس مساحة حقّ الطاعة لله فإنّها مساحة مطلقة وغير محدودة))2
المصدر نفسه: 129 ـ130.
.
ويمكن أن نعتبر هذا الأمر محاولةً منه للتغلّب على السبب الثاني من السببين اللذين رفضنا بهما الوجه السابق للتّعدّي من

  • المصدر نفسه: 129.
  • المصدر نفسه: 129 ـ130.
41
المولويّات العقعلائيّة إلى مولويّة الله تبارك وتعالى، فقد استنتج بضمّ هذا الركن إلى الركن السابق إمكان تعميم ما حكم به العقل من اشتراط حقّ طاعة غير الله تعالى من الموالي بالوصول القطعيّ للتكليف إلى حقّ طاعة الله تعالى وذلك: ((لوحدة حقّ الطاعة ومصدرها فما يشترط من شرط في حقّ الطاعة هناك يشترط في حقّ الطاعة لله وما لا يشترط هناك لا يشترط في حقّ الطاعة لله، وذلك لأنّ هذه النماذج من الطاعة واحدة))1
المصدر نفسه: 130.
.
وأنا اعتقد أنّ هذين الأمرين هما الركنان الرئيسيان في بيان فضيلة الشّيخ الآصفيّ (حفظه الله) فقد حاول التّعدّي في شرط الوصول القطعيّ للتكليف من مجال مولويّة غير الله إلى مجال مولويّته تبارك وتعالى بدعوى أنّ هذا الشرط شرط عقليّ أوّلاً، وأنّ حقّ الطاعة في المجالين من نوع واحد ثانياً، فإذا حكم العقل بهذا الشرط في المجال الأوّل حكم به في المجال الثاني، وبه تتمّ البراءة العقليّة عند الشكّ في التكاليف الشرعيّة.
وأمّا ما ذكره في النقطة الثانية من بيانه من أنّ كلّ تكليف لا يشمله حقّ الطاعة سيكون العقاب على مخالفته قبيحاً عقلاً، فهو من المسلّمات التي لم يقع فيها خلاف بيننا وبين المشهور،

  • المصدر نفسه: 130.
42
لكنّه لا يعبّر إلّا عن كبرى كليّة لا دخل لها في إثبات البراءة العقليّة، وذلك لأنّ هذه الكبرى لا تنفي العقاب على مخالفة التكاليف الشرعيّة غير الواصلة بالوصول القطعيّ إلّا على فرض عدم شمول حقّ طاعة الله تعالى لها، فإن تمّ إثبات عدم شمول حقّ طاعة الله تعالى لها من خلال ما ورد في الركنين الأساسيّين من بيانه، تمّت البراءة العقليّة من خلال ذينك الركنين مباشرة لا بواسطة فكرة قبح العقاب، لأنّ البراءة العقليّة لا تعني سوى عدم لزوم طاعة الله تعالى عقلاً عند الشّكّ في التكليف، وهذه البراءة هي التي تثبت قبح العقاب على مخالفة التكليف المشكوك لا أنّ قبح العقاب على ذلك يثبت البراءة العقليّة، لما سبق من أنّ حكم العقل بقبح العقاب في طول حكمه بالبراءة العقليّة. وأمّا إن لم يثبت عدم شمول حقّ طاعة الله تعالى للتكاليف غير القطعيّة من خلال ذينك الركنين فلا يثبت نفي العقاب على مخالفة هذه التكاليف بالكبرى المذكورة لأنّها مقيّدة بعدم شمول حقّ الطاعة. إذن فهذه الكبرى الكليّة لا تساهم في إثبات البراءة العقليّة على كلّ تقدير وإن كانت صحيحة في حدّ ذاتها. فالمهمّ تقييم الركنين الأساسيين الواردين في النقطة الاُولى والثالثة من بيانه.
43
تقييم الركن الأوّل من بيان الشَّيخ الآصفيّ:
أمّا الركن الأوّل فيرد عليه ـ بقطع النظر عن أنّ تطابق العقلاء على شيء هل يدلّ على أنّه من مدركات العقل المجرّد أو لا يدلّ على ذلك ـ أنّ أصل المولويّة وحقّ الطاعة ما لم يكن مدركاً بإدراك العقل العمليّ لم يمكن أن يكون شرطه مدركاً بذلك، لأنّ الشرط لا يعني إلّا ضيق دائرة المشروط، فدعوى اشتراط حقّ طاعة غير الله تعالى من الموالي بشرط الوصول القطعيّ للتكليف مرجعه إلى ضيق دائرة ذلك الحقّ واختصاصه بالتكاليف الواصلة بالوصول القطعيّ، إذاً فلا بدّ أن نرجع إلى مولويّة غير الله تعالى من الموالي وحقوق طاعتهم لنجد بأنّها هل هي مدركة بالعقل العمليّ ليكون شرطها ـ أي ضيق دائرتها ـ عقليّاً، أو أنّها مجعولة بجعل جاعل ليكون شرطها ـ أي ضيق دائرتها ـ تابعاً لحدود ذلك الجعل، وفي هذا الصدد يمكن تقسيم المولويّات التي تدّعى لغير الله تبارك وتعالى إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأوّل: المولويّة التي يفرضها العقلاء لشخصٍ أو يفترضها الشخص لنفسه أو لغيره ولا يترتّب عليها حقّ الطاعة عقلاً، وهي التي عبّر الشّيخ الآصفيّ عن الطاعة فيها بالطاعة غير الشرعيّة. والواقع أنّه لا مولويّة في هذا القسم أصلاً لأنّ المولويّة
44
ـ كما ذكرنا سابقاً ـ تعبير آخر عن حقّ الطاعة، فما لم يحصل حقّ الطاعة عقلاً لم تتمّ المولويّة، وإنّما نعبّر عنها بالمولويّة مجاراةً لجعل جاعلها وافتراض من يفترضها، فهي إذاً مولويّة مجعولة وهي تابعة لحدود جعلها من حيث السعة والضيق، وليس شرط الوصول فيها عقليّاً لعدم كونها عقليّة من أساسها.
القسم الثاني: المولويّة الحاصلة بجعل من الله تبارك وتعالى بصورة مباشرة أو غير مباشرة، كمولويّة الأنبياء والرسل وأوصيائهم عليهم الصلاة والسلام ومن يؤمّرونهم على الناس من الاُمراء، ومن هذا القسم ولاية الفقيه وولاية الأب وولاية الزوج وأمثالها من الولايات الراجعة إلى جعل وجوب الطاعة لشخص من قبل الله تبارك وتعالى بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
ولا شكّ في هذا القسم من المولويّة أنّ العقل العمليّ يدرك ضرورة الطاعة والامتثال في إطار التكاليف المشمولة لذلك الجعل الصادر من الله تبارك وتعالى بصورة مباشرة أو غير مباشرة؛ ولكن هل هذا يعني أنّ حقّ طاعة هذا الرجل ـ الذي أمر الله بطاعته بشكل مباشر أو غير مباشر ـ من مدركات العقل العمليّ؟
والجواب أنّه ليس كذلك بالرغم من حكم العقل بضرورة امتثال التكليف الصادر منه في حدود ما أمر الله تعالى بطاعته، وذلك لأنّ الفعل الذي أمر به هذا الرجل ـ إن كان داخلاً في
45
حدود ما أمر الله تعالى بطاعته ـ سيجتمع عليه وجوبان طوليان؛ وجوب صادر من قبل هذا الرجل وهو متعلّق بهذا الفعل بعنوانه الأوّليّ، ووجوب صادر من قبل الله تعالى وهو متعلّق بهذا الفعل لا بعنوانه الأوّليّ بل بعنوان كونه طاعةً لهذا الرجل، والذي يقع مصباً لحكم العقل بلزوم الطاعة إنّما هو الوجوب الثاني، وأمّا الوجوب الأوّل فلزوم طاعته شرعيّ وتابع لحدود الجعل الشرعيّ، وليس عقليّاً.
توضيح ذلك: أنّه لو أمر الأب ابنه بسقي الحديقة مثلاً، وقد افترضنا أنّ الله تبارك وتعالى قد أمر بطاعة الأب، فسيجتمع على هذا الفعل وجوبان:
الأوّل: وجوب صادر من الأب، وهو متعلّق بالعنوان الأوّليّ لهذا الفعل وهو عنوان (سقي الحديقة).
والثاني: وجوب صادر من الله تبارك وتعالى، وهو متعلّق بالعنوان الثانوي لهذا الفعل وهو عنوان كونه (طاعة الأب)، فما لم يصدق على سقي الحديقة عنوان كونه (طاعة الأب) لم يشمله الوجوب الصادر من الله تعالى.
ولمّا كان صدق هذا العنوان متوقّفاً على صدور الوجوب الأوّل من الأب أصبح الوجوب الثاني في طول الوجوب الأوّل، والذي يحكم العقل العمليّ بلزوم طاعته انّما هو الوجوب الثاني
46
الصادر من الله تبارك وتعالى، وأمّا الوجوب الأوّل الصادر من الأب فليس لزوم طاعته عقليّاً وانّما هو شرعيّ، بمعنى أنّ (طاعته) مصبّ لوجوب شرعيّ وهو الوجوب الثاني الصادر من الله تبارك وتعالى. ومجرّد اشتراك هذين الوجوبين في تحقق الامتثال بفعل واحد لا يعني التلازم بينهما في حكم العقل بلزوم الامتثال، فإنّ العقل إنّما يحكم بضرورة القيام بهذا الفعل لا لكونه امتثالاً لوجوب (سقي الحديقة) الصادر من الأب بل لكونه امتثالاً لوجوب (طاعة الأب) الصادر من الله تبارك وتعالى.
وقد تقول: إنّه إذا حكم العقل بضرورة القيام بهذا الفعل لكونه امتثالاً لوجوب (طاعة الأب) فهذا يعني حكم العقل بضرورة امتثال الوجوب الأوّل الصادر من الأب، لأنّ (طاعة الأب) إنّما تعني امتثال الوجوب الأوّل الصادر من الأب.
والجواب: أنّ (طاعة الأب) وإن كانت تعني امتثال الوجوب الأوّل الصادر من الأب، ولكنّ ما حكم به العقل ليس هو ضرورة القيام بهذا الفعل لكونه (طاعةً للأب) مباشرةً لكي يعني حكمه بضرورة امتثال الوجوب الأوّل الصادر من الأب، بل إنّ ما حكم به العقل هو ضرورة القيام بهذا الفعل لكونه (امتثالاً لوجوب طاعة الأب) الذي هو صادر من الله تعالى، وهذا إنّما يعني حكمه بضرورة امتثال الوجوب الشرعيّ المتعلّق بامتثال الوجوب الأوّل
47
ولا يعني حكمه بضرورة امتثال الوجوب الأوّل مباشرةً.
وبهذا يظهر: أنّ حقّ طاعة من أمر الله تعالى بطاعته ليس من مدركات العقل العمليّ وانّما هو تعبير عن وجوب شرعيّ متعلّق بطاعته، وهذا الوجوب الشرعيّ يحقّق بدوره موضوع حقّ طاعة الله تبارك وتعالى.
إذن فهذا القسم من المولويّة مولويّة شرعيّة مجعولة من قبل الله تعالى وليست مولويّة عقليّة، نعم إنّما هي تحقّق موضوع مولويّة الله تعالى التي هي مولويّة عقليّة، وهذا لا يعني أنّها هي أصبحت مولويّة عقليّة1
سيأتي توضيح ذلك في مناقشة الركن الثاني.
.
ويترتّب على ذلك أنّ هذه المولويّة تتبع حدود جعلها الصدار من الله تبارك وتعالى، والتحديد تارةً يكون بلحاظ متعلّق التكليف الصادر ممّن جعل الله تعالى له حقّ الطاعة، فللأب مساحة معيّنة من الاُمور يحقّ له أن يكلّف بها ابنه، وللزوج مساحة معيّنة من الاُمور يحقّ له أن يكلّف بها زوجته، وهكذا. واُخرى يكون بلحاظ نفس التكليف من حيث مستوى وصوله إليه، فقد يجعل له حقّ الطاعة في التكاليف الواصلة بالوصول القطعيّ فحسب، وقد يجعل له حقّ الطاعة حتّى في التكاليف

  • سيأتي توضيح ذلك في مناقشة الركن الثاني.
48
الظنيّة والاحتماليّة، وهذا يعني أنّ حقّ الطاعة والمولويّة في هذا القسم ليس مشروطاً عقلاً بشرط الوصول القطعيّ للتكليف، وإنّما هو تابع لحدود جعله الصادر من الله تبارك وتعالى، فكما يمكن عقلاً أن يجعل الله تعالى حقّ الطاعة للأب على ابنه في خصوص التكاليف التي يحصل له القطع بصدورها من أبيه، كذلك من الممكن عقلاً أن يجعل له حقّ الطاعة في كلّ تكليف يحتمل صدوره منه وإن لم يكن صادراً منه في الواقع، وهذا ليس من باب جعل الاحتياط عند الشك في التكليف ـ كي يقال بأنّه ممكن حتّى في إطار مولويّة الله تبارك وتعالى ولا علاقة له بسعة دائرة حقّ الطاعة بالمعنى المطلوب ـ وإنّما هو من باب سعة حقّ طاعة الأب من أساسه تبعاً لسعة جعله، وهذا لا إشكال في إمكانه، عيناً من قبيل ما إذا جعل الشارع موضوع حرمة الخمر عنوان (محتمل الخمريّة) لا عنوان (الخمر) بذاته، فإنّ الحرمة الواقعيّة ستشمل حينئذٍ حالة الشكِّ في الخمر وليس ذلك من باب الحكم بالاحتياط عند الشكّ.
وهكذا يتّضح أنّ حال هذا القسم من مولويّة غير الله تعالى كحال القسم الأوّل من حيث عدم اشتراطه عقلاً بالوصول القطعيّ للتكليف وخضوع هذا الشرط فيه نفياً وإثباتاً لحدود جعله، لأنّها مولويّة مجعولة وإن كان جاعلها هو الله تبارك وتعالى، بخلاف
49
المولويّة في القسم السابق حيث كان جاعلها غير الله تبارك وتعالى، وهذا الفرق لا يؤثّر في ما نحن بصدده من شرطيّة الوصول القطعيّ للتكليف أو عدم شرطيّته بحسب الإدراك العقليّ، وإن أثّر في ترتّب حقّ طاعة الله تعالى عقلاً على المولويّة المجعولة في القسم الثاني دون القسم الأوّل.
ولا يخفى أنّ التكليف الذي نفينا شرطية وصوله القطعيّ في هذا القسم من المولويّة بحسب الإدراك العقليّ إنّما هو التكليف الصادر من قبل من أمر الله تعالى بطاعته ـ كالأمر بسقي الحديقة الصادر من الأب في المثال المذكور ـ وأمّا أصل جعل المولويّة له أي الأمر بطاعته من قبل الله تبارك وتعالى فإنّ شرطيّة وصوله وعدمها مبنيّة على أصل الخلاف في مدى سعة حقّ طاعة الله تبارك وتعالى، فإنّه لو كان شرطاً فإنّما هو شرط في حقّ طاعة الله تعالى لا في حقّ طاعة من أمر الله تعالى بطاعته، وذلك لما قلنا من أنّ حقّ طاعة من أمر الله تعالى بطاعته إنّما هو تعبير عن الوجوب الشرعيّ لطاعته لا الوجوب العقليّ، وهذا الوجوب الشرعيّ موجود بحقّ المكلّف سواء علم به أو لم يعلم، وأمّا وجوب طاعة هذا الوجوب الشرعيّ عقلاً فهو من حقّ طاعة الله لا من حقّ طاعة هذا الرجل الذي أمر الله تعالى بطاعته، فلو قيل بشرطيّة وصوله القطعيّ فهو من ضيق دائرة حقّ الله تعالى لا من ضيق دائرة حقّ من أمر الله تعالى بطاعته.
50
وبهذا يظهر أنّ ما انطلق منه فضيلة الشَّيخ الآصفيّ من شرطيّة الوصول القطعيّ للتكليف في حقّ طاعة غير الله تعالى من الموالي واعتبره من الاُمور البديهيّة لا يشمل الوصول القطعيّ لأصل جعل المولويّة من قبل الله تعالى في هذا القسم من المولويّة، لأنّه إن كان شرطاً فهو شرط في حقّ طاعة الله تعالى ـ كما ذكرنا ـ وليس شرطاً في حقّ طاعة غيره من الموالي، وهذا داخل في أصل الخلاف بيننا وبين المشهور، والتسليم به في مقام الاستدلال مصادرة.
القسم الثالث: المولويّة التي تحصل لغير الله تبارك وتعالى لا بجعل جاعل بل بملاك من ملاكات المولويّة التي يدركها العقل، كملاك المنعميّة بالنسبة إلى أولياء النعم من البشر بناءً على كفاية مثل ذلك عقلاً لحصول مستوىً من المولويّة وحقّ الطاعة، وكملاك البيعة أو الانتخاب الشعبيّ بناءً على كفاية ذلك أيضاً لحصول المولويّة وحقّ الطاعة عقلاً في حدود غرض البيعة أو الانتخاب1
ولا يخفى أنّ النظريّة الديمقراطية للانتخاب الشعبيّ يمكن تفسيرها بنحوين: الأوّل: مجرّد تباني العقلاء على طاعة من يفوز في الانتخاب من دون دعوى ترتّب حكم عقليّ عليه، وبناءً على هذا التفسير ستدخل مولويّة من يفوز في الانتخاب في القسم الأوّل من الأقسام الثلاثة التي ذكرناها لمولويّة غير الله تعالى. والثاني: دعوى حكم العقل العمليّ بلزوم طاعة من يفوز في الانتخاب، وبناءً على هذا التفسير ستدخل مولويّة من يفوز في الانتخاب في القسم الثالث من الأقسام الثلاثة. وقد يدّعى قيام دليل شرعيّ على نفوذ الانتخاب ولو بسبب كونه مستبطناً للبيعة، وبناءً على هذا ستدخل مولويّة من يفوز في الانتخاب في القسم الثاني من هذه الأقسام.
.

  • ولا يخفى أنّ النظريّة الديمقراطية للانتخاب الشعبيّ يمكن تفسيرها بنحوين: الأوّل: مجرّد تباني العقلاء على طاعة من يفوز في الانتخاب من دون دعوى ترتّب حكم عقليّ عليه، وبناءً على هذا التفسير ستدخل مولويّة من يفوز في الانتخاب
51
ولا شكّ أنّ حقّ الطاعة في هذا القسم سيكون عقليّاً على فرض التسليم بالمبنى، لكن اشتراط هذا الحقّ عقلاً بالوصول القطعيّ للتكليف لا يخلو من تأمّل، وذلك لمناقشة المبنى تارةً ومع التسليم بالمبنى تارة اُخرى.
أمّا من حيث المبنى فإنّ المعروف اختصاص حقّ الطاعة والمولويّة عقلاً بالله تبارك وتعالى، ولا أظنّ أحداً من علمائنا ناقش في ذلك، وقد صرّح به الشَّيخ الآصفيّ أيضاً في مقاله حيث قسّم الطاعة إلى طاعة شرعيّة وطاعة غير شرعيّة، وحصر الطاعة الشرعيّة بطاعة الله وطاعة كلّ من أمر الله تعالى بطاعته، ثمّ أرجع طاعة من أمر الله تعالى بطاعته إلى طاعة الله تبارك وتعالى1
مجلة الفكر الإسلامي، العدد الثالث والرابع: 129 ـ 130.
. وهذا يعني أنّه لا ملاك لحقّ الطاعة والمولويّة عقلاً إلّا بشأن الله تبارك وتعالى، فالقسم الثالث من المولويّة لا موضوع له من

  • في القسم الأوّل من الأقسام الثلاثة التي ذكرناها لمولويّة غير الله تعالى. والثاني: دعوى حكم العقل العمليّ بلزوم طاعة من يفوز في الانتخاب، وبناءً على هذا التفسير ستدخل مولويّة من يفوز في الانتخاب في القسم الثالث من الأقسام الثلاثة. وقد يدّعى قيام دليل شرعيّ على نفوذ الانتخاب ولو بسبب كونه مستبطناً للبيعة، وبناءً على هذا ستدخل مولويّة من يفوز في الانتخاب في القسم الثاني من هذه الأقسام.
  • مجلة الفكر الإسلامي، العدد الثالث والرابع: 129 ـ 130.
52
الأساس حتى يكون مشروطاً بالوصول القطعيّ للتكليف. وللبحث في ذلك مجال آخر.
وأمّا على فرض التسليم بالمبنى فأصل حقّ الطاعة والمولويّة وإن كان عقليّاً لكنّ حدود ذلك من حيث السعة والضيق يكون تابعاً لمدى تواجد ملاك هذا الحقّ، فكلّما كانت المنعميّة مثلاً أوسع كان حقّ الطاعة أوسع، وكلّما كانت البيعة على طاعة أوسع كان حق الطاعة متناسباً معها، وكلّما كان تواجد الملاك أقلّ كان حقّ الطاعة أضيق. وهذه السعة والضيق كما تنعكس ـ تبعاً للملاك ـ على مدى قوّة التكليف المنكشف كذلك تنعكس على مدى قوّة انكشاف التكليف.
فمثلاً: إذا كان تواجد ملاك المنعميّة ضعيفاً وقليلاً لم يترتّب عليه حقّ الطاعة عقلاً إلّا في التكاليف التي يعتقد المكلّف بأنّها مهمة جداً في نظر هذا المولى، وإذا كان تواجد الملاك أقوى وأكثر ترتّب عليه حقّ الطاعة حتّى في التكاليف الأقلّ أهميّة، هذا من ناحية مدى قوّة التكليف المنكشف، ومثله أيضاً يقال من ناحية مدى قوّة انكشاف التكليف، فكلّما كان تواجد ملاك المنعميّة ضعيفاً وقليلاً لم يترتّب عليه حقّ الطاعة عقلاً إلّا في التكاليف المنكشفة بالانكشاف التامّ ـ أي التكاليف القطعيّة ـ وكلّما كان تواجد الملاك أقوى وأكثر ترتّب عليه حقّ الطاعة في
53
دائرة أوسع من حيث الانكشاف، فقد يشمل حقّ الطاعة التكاليف الاطمئنانيّة، وقد يشمل التكاليف الظنيّة، وقد يشمل التكاليف الاحتماليّة أيضاً، تبعاً لمدى تواجد ملاك المنعميّة في هذا المنعم. ولا مانع عقلاً عن شمول حقّ الطاعة للتكاليف الظنيّة والاحتماليّة إذا كان تواجد ملاك هذا الحقّ متناسباً مع هذه الدرجة من الحقّ.
وقد تقول: إنّ ملاك حقّ الطاعة لا يتواجد في غير الله تبارك وتعالى من الموالي بالقدر الذي يؤهّله لحقّ الطاعة حتّى في التكاليف الظنيّة والاحتماليّة.
وهذا قابل للقبول لكنّه لا يعني اشتراط حقّ الطاعة عقلاً في غير الله تبارك وتعالى من الموالي بالوصول القطعيّ للتكليف؛ وانّما يعني اشتراط حقّ الطاعة في التكاليف الظنيّة والاحتماليّة بمستوىً معيّن من المالك، وبما أنّ هذا المستوى من الملاك لم يتحقّق، لم يحكم العقل بحقّ الطاعة في ذلك، وهذا لا يعني وجود مانع عقليّ عن شمول حقّ الطاعة للتكاليف الظنيّة والاحتماليّة.
وبهذا التفصيل يظهر أنّه لا شيء من حقوق طاعة غير الله تبارك وتعالى من الموالي مشروطٌ عقلاً بالوصول القطعيّ للتكليف، وذلك لأنّ ما لم يكن منها مدركاً بالإدراك العقليّ من أساسه بل كان مجعولاً بجعل جاعل فشرطه هذا أيضاً ليس مدركاً بالإدراك العقليّ بل هو تابع لحدود جعله سواء كان جعله
54
من قبل الله تبارك وتعالى ـ كما في القسم الثاني من هذه الأقسام ـ أو من قبل غيره تبارك وتعالى ـ كما في القسم الأوّل من هذه الأقسام ـ وما كان منها مدركاً بالإدراك العقليّ فبما أنّ إدراكه العقليّ يكون في إطار ملاك خاصّ فسيكون شرطه تابعاً لحدود ذلك الملاك ولا يوجد حكم عقليّ يمنع عن شموله للتكاليف الظنيّة والاحتماليّة في حدّ ذاته.
وأمّا ما تمسّك به الشَّيخ الآصفيّ من تطابق آراء العقلاء على اشتراط الوصول القطعيّ للتكليف في حقّ طاعة غير الله تعالى من الموالي فإن قصد به تطابقهم على عدم إمكان ثبوت هذا الحقّ لغير الله تعالى في التكاليف غير الواصلة بالوصول القطعيّ فهو ممنوع، لما وضّحنا من أنّ حدود حقّ الطاعة في القسمين الأوّلييّن من الأقسام الثلاثة المذكورة تابعة لحدود جعل ذلك الحق مادام مجعولاً بجعل جاعلٍ وليس مدركاً بإدراك العقل العمليّ، وأمّا حدود حقّ الطاعة في القسم الثالث ـ بناءً على الإيمان به ـ فهي تابعة لحدود تواجد ملاك هذا الحقّ، ومجرّد عدم تواجد ملاكه الّا في حدٍّ معيّن لا يعني عدم امكان ثبوت هذا الحقّ في غير ذلك كما سبق. وإن قصد بذلك تطابقهم على عدم الوقوع لا على عدم الإمكان فهو معقول لكنّه لا يعبّر حينئذٍ عن إدراك العقل العمليّ بل إنّما يعبّر في القسم الأوّل من الأقسام
55
الثلاثة عن قيام السيرة العقلائيّة ـ فيما تبانوا عليه من حقّ الطاعة والمولويّة لبعض الأشخاص ـ على الاقتصار في هذا الحقّ على مجال التكاليف الواصلة بالوصول القطعيّ، كما أنّه يعبّر في القسم الثاني من الأقسام الثلاثة عن اختصاص جعل وجوب الطاعة من قبل الله تبارك وتعالى لمن أوجب له الطاعة بخصوص التكاليف الواصلة بالوصول القطعيّ، كما أنّه يعبّر في القسم الثالث منها عن أنّ تواجد ملاك حقّ الطاعة في مَن تواجد فيه كان ضعيفاً بحيث لم يستتبع عقلاً سوى لزوم الطاعة في التكاليف القطعيّة، وهذا كلّه بعيد عن اشتراط الوصول القطعيّ للتكليف بإدراك العقل العمليّ.
هذا كلّه في الركن الأوّل من الركنين الأساسيّين اللذين اعتمد عليهما الشَّيخ الآصفيّ (حفظه الله) في إثبات البراءة العقليّة بالتّعديّ من حدود حقّ طاعة غير الله تبارك وتعالى إلى حقّ طاعته.
تقييم الركن الثاني من بيان الشَّيخ الآصفيّ:
وأمّا ما اعتبرناه الركن الثاني من الركنين الأساسيّين في بيانه لإثبات البراءة العقليّة ـ وهو دعوى ((وحدة مصدر الطاعة الشرعيّة أو وحدة حقّ الطاعة، فليس لدينا حقّان ومصدران للطاعة، حقّ الطاعة لله وحقّ الطاعة لغير الله تعالى من الموالي،
56
وإنّما هو حقّ واحد ومصدر واحد))1
مجلّة الفكر الإسلامي، العدد الثالث والرابع: 129.
الأمر الذي يستنتج منه بالتالي عدم اختلاف حقّ طاعة الله تعالى عن حقّ طاعة غيره في الشرط الذي يدركه العقل العمليّ من الوصول القطعيّ للتكليف ـ فالنكتة الأساسية التي يعتمد عليها في ذلك هي أنّ كلّ طاعة لغير الله تبارك وتعالى إمّا هي شرعيّة أو غير شرعيّة، فما كان منها غير شرعيّ فلا اعتبار به، وما كان منها شرعيّاً فإنّما هو ((مصاديق لطاعة الله وفي امتداد طاعة الله وتحمل نفس قيمة وقوّة طاعة الله))2
المصدر نفسه: 130.
فإذا اعترفنا مسبقاً بأنّ حقّ الطاعة الشرعيّة لغير الله تعالى مشروط عقلاً بشرط الوصول القطعيّ للتكليف فقد اعترفنا بأنّ بعض مصاديق حقّ طاعة الله تعالى مشروط عقلاً بذلك، وبما أنّه لا تفصيل بين مصاديق حق طاعة الله تعالى من حيث الشروط فسيكون هذا الشرط ثابتاً في جميع مصاديق حقّ طاعة الله تبارك وتعالى.
وهذا ـ كما ترى ـ يبتني على صدق الإيمان بأنّ حقّ الطاعة الشرعيّة لغير الله تبارك وتعالى من مصاديق حقّ طاعة الله تبارك وتعالى، وبما أنّه حصر الطاعة الشرعيّة لغير الله تبارك

  • مجلّة الفكر الإسلامي، العدد الثالث والرابع: 129.
  • المصدر نفسه: 130.
57
وتعالى بطاعة من أمر الله تعالى بطاعته بصورة مباشرة أو غير مباشرة، إذن فتمام النكتة ترجع إلى أنّ حقّ طاعة من أمر الله تعالى بطاعته هل هو من مصاديق حقّ طاعة الله تبارك وتعالى أو ليس من مصاديق ذلك؟
والجواب: أنّ حقّ طاعة من أمر الله تعالى بطاعته ليس من مصاديق حقّ طاعة الله تبارك وتعالى وإنّما هو يحقّق موضوع حقّ طاعة الله تبارك وتعالى، وكم فرق بين الأمرين!
توضيح ذلك: أنّنا سبق وأن قلنا: إنّ حقّ طاعة من أمر الله تعالى بطاعته ليس من مدركات العقل العمليّ بل هو تعبير عن وجوب شرعيّ متعلّق بطاعته، وهذا الوجوب الشرعيّ وإن كان يستدعي الطاعة عقلاً لكن هذه الطاعة إنّما يحكم بها العقل العمليّ بوصفها طاعةً لله تعالى لا بوصفها طاعةً لهذا الشخص، وهذان الوصفان وإن اجتمعا على فعل واحد لكنهما طوليّان، بمعنى أنّ اتّصاف هذا الفعل بكونه طاعة لله في طول اتصافه بكونه طاعةً لهذا الرجل، وذلك لأنّ الله تبارك وتعالى لم يأمر بهذا الفعل مباشرةً وإنّما أمر بطاعة هذا الرجل، فمتى ما صدق على هذا الفعل كونه طاعةً لهذا الرجل دخل تحت أمر الله تعالى وأصبح طاعةً له. وبهذا يظهر وجود طاعتين طوليّتين في التكاليف الصادرة ممّن أمر الله تعالى بطاعته:
58
الاُولى: طاعة هذا الرجل الذي أمر الله تعالى بطاعته.
والثانية: طاعة الله تبارك وتعالى في أمره بطاعة هذا الرجل ـ ومجرّد اتّحاد الفعل المطاع به لا يعني اتحاد الطاعتين كما هو واضح ـ والطاعة الاُولى التي هي لهذا الرجل ليست واجبةً بإدراك العقل العمليّ وإنّما هي واجبة بالوجوب الشرعيّ المتمثّل في أمر الله تعالى بطاعته، وليس المقصود بحقّ طاعته سوى هذا الوجوب الشرعيّ لا غير. وأمّا الطاعة الثانية التي هي لله تبارك وتعالى فهي الواجبة بإدراك العقل العمليّ، والمقصود بحقّ طاعته تبارك وتعالى هو هذا الوجوب العقليّ.
ومجرّد كون ذاك الوجوب الشرعيّ ـ المتعلّق بطاعة ذاك الشخص ـ مشمولاً لحقّ طاعة الله تبارك وتعالى لا يعني كون حقّ طاعة ذاك الشخص مصداقاً من مصاديق حقّ طاعة الله تعالى، بل إنّما يعني كونه موضوعاً لحقّ طاعة الله على حدّ موضوعيّة أيّ تكليف من تكاليف الله تبارك وتعالى لحقّ طاعته، فإنّ حق طاعة من أمر الله تعالى بطاعته ليس إلّا تكليفاً من تكاليف الله على حدّ تكليفه بالصلاة والصوم، فكما أنّ كلاً من وجوب الصلاة ووجوب الصوم يشكّل موضوعاً لحقّ طاعة الله تبارك وتعالى كذلك وجوب طاعة هذا الشخص يشكّل موضوعاً لحقّ طاعته تبارك وتعالى، ومن الواضح أنّ مثل وجوب الصلاة
59
ليس مصداقاً لحقّ طاعة الله تعالى بل إنّما هو الموضوع الذي يترتّب عليه حقّ طاعة الله تعالى، فكذلك وجوب طاعة هذا الشخص.
إذن فليس حقّ طاعة من أمر الله تعالى بطاعته مصداقاً من مصاديق حقّ طاعة الله تعالى حتّى يكون الاعتراف بشرط معيّن فيه مستلزماً للاعتراف به في حقّ طاعة الله تعالى فقد نلتزم باختصاص حقّ طاعة من أمر الله تعالى بطاعته بخصوص التكاليف الواصلة من قبله بالوصول القطعيّ ـ تبعاً لاختصاص جعله الشرعيّ بذلك ـ ولا نلتزم باختصاص حقّ طاعة الله تعالى بمثل ذلك، بل نقول بشموله للتكاليف الظنيّة والاحتماليّة أيضاً وإن لم تكن مطابقة للواقع.
وهذا لا يعني أنّه لو لم يتمّ الوصول القطعيّ للتكليف الصادر من قبل من أمر الله تعالى بطاعته فسوف يسقط حقّ طاعته هو يبقى حقّ طاعة الله تعالى قائماً في ذلك التكليف، فإنّنا إن كنّا على اعتقاد بأنّ الله تعالى لم يجعل حقّ الطاعة لهذا الشخص إلّا في حدود التكاليف الواصلة من قبله بالوصول القطعيّ ففي التكليف غير الواصل من قبله بهذا الوصول يحصل لنا القطع بعدم وجود تكليف من قبل الله تعالى بطاعته في ذلك، فلا يشمله حقّ طاعة الله تعالى للقطع بعدم صدور تكليف من قبله تجاه ذلك وإن
60
كنّا نحتمل صدور التكليف من قبل ذلك الشخص. نعم لو لم نكن على اعتقاد باختصاص وجوب طاعة هذا الرجل شرعاً بخصوص تكاليفه الواصلة بالوصول القطعيّ بل كنّا نحتمل شمول هذا الوجوب لكلّ تكليف يحتمل صدوره من هذا الرجل فسيدخل ذلك في حقّ طاعة الله تبارك وتعالى بناءً على شمول حقّ طاعة الله للتكاليف الظنيّة والاحتماليّة، ولا يسقط هذا الحقّ إلّا بورود ترخيص ظاهريّ من قبله في ترك الاحتياط كما سبق.
والشاهد على أنّ حقّ طاعة من أمر الله تعالى بطاعته ليس مصداقاً من مصاديق حقّ طاعة الله تعالى وإنّما هو موضوع لذلك أنّه عند وقوع التزاحم بين طاعة الله تبارك وتعالى وطاعة من أمر الله تعالى بطاعته، لا تلحظ الأهمية بين متعلّق الأمر الصادر من قبل الله تعالى ومتعلّق الأمر الصادر من قبل من أمر الله تعالى بطاعته ـ كما هو ظاهر عبارة الشَّيخ الآصفيّ (حفظه الله)1
مجلة الفكر الإسلامي، العدد الثالث والرابع: 131.
ـ وإنّما تلحظ الأهمية بين متعلّق أمرين صادرين من الله تبارك وتعالى: الأوّل الأمر الصادر منه تعالى بالفعل المزاحم لطاعة من أمر بطاعته، والثاني الأمر الصادر منه تعالى بطاعة هذا الشخص، فمثلاً: إذا وقع التزاحم بين طاعة الله تعالى في أمره بردّ التحيّة

  • مجلة الفكر الإسلامي، العدد الثالث والرابع: 131.
61
وبين طاعة الأب في أمره بمهمّة خطيرة فحينئذٍ لا تلحظ الأهميّة بين ملاك ردّ التحيّة عند الله تبارك وتعالى وملاك تلك المهمّة الخطيرة عند الأب ـ كما هو مقتضى كون طاعة الأب مصداقاً من مصاديق طاعة الله تبارك وتعالى ـ بل إنّما تلحظ الأهميّة بين ملاك ردّ التحيّة عند الله تعالى وملاك طاعة الأب عنده.
وبعبارة اُخرى: إنّ هذا الأب إذا أمر ابنه بسقي الحديقة ـ مثلاً ـ ووقع التزاحم بينه وبين ردّ التحيّة الواجب من قبل الله تبارك وتعالى فلا تلحظ الأهميّة بين ملاك ردّ التحيّة وبين ملاك سقي الحديقة بعنوانه الأوّليّ الذي أمر به الأب، وإنّما تلحظ الأهميّة بين ملاك ردّ التحيّة وملاك سقي الحديقة بعنوانه الثانويّ الذي أمر به الله تبارك وتعالى وهو عنوان (طاعة الأب) ولو كان حقّ طاعة الأب مصداقاً حقيقيّاً لطاعة الله تبارك وتعالى لكان المفروض في هذا المثال مراعاة الأهميّة بين ملاك ردّ التحيّة وملاك سقي الحديقة بعنوانه الأوّليّ الذي أمر به الأب، وهذا باطل بالضرورة، إذ إنّ سقي الحديقة قد لا يكون مهمّاً عند الله تعالى أبداً وإنّما المهمّ عنده إطاعة الأب رعايةً لعواطفه النفسيّة مثلاً فحسب، وهذا يعني ضرورة المقايسة بين ملاك ردّ التحيّة وملاك مراعاة عواطف الأب مثلاً، لا بينه وبين ملاك سقي الحديقة.
62
وبمجموع ما ذكرنا ظهر بطلان كلا الركنين الأساسيّين اللذين اعتمد عليهما فضيلة الشَّيخ الآصفيّ (حفظه الله) لإثبات البراءة العقليّة، كما ظهر وجه الضعف أيضاً في قوله:
((والفرق بين الولايتين [يقصد ولاية الله تعالى وولاية من أمر الله تعالى بطاعته] بأنّ إحداهما ذاتيّة والاُخرى مجعولة وبالعرض غير فارق فيما هو المهم من هذه المسألة في اشتراط حقّ الطاعة للمولى بوصول التكليف أو عدم الاشتراط، وذلك لأنّ المولويّات العرضيّة المشروعة التي هي من النحو الثاني تتمّ بجعل من الله تعالى وليست لها طاعة ومعصية مستقلة عن طاعة الله ومعصيته))1
مجلة الفكر الإسلامي، العدد الثالث والرابع: 131 ـ 132.
.
فإنّ مولويّة من أمر الله تعالى بطاعته وإن كانت تتمّ بجعل من الله تعالى ـ لأنّ المولويّة عبارة اُخرى عن حقّ الطاعة، وحقّ طاعة هذا الشخص شرعي وليس عقليّاً كما ذكرنا ـ ولكنّ هذا لا يعني كونها مصداقاً من مصاديق مولويّة الله تعالى وحقّ طاعته حتى يلزم اشتراكهما في الشروط، وإنّما يعني أنّها تحقّق موضوع حقّ طاعة الله ومولويّته تبارك وتعالى كما ذكرنا.

  • مجلة الفكر الإسلامي، العدد الثالث والرابع: 131 ـ 132.
63
وإلى هنا ينتهي جميع الأدلّة والبراهين التي يتوقّع الاستدلال بها لإثبات البراءة العقليّة وقد ظهر ضعفها جميعاً وعدم نهوضها بإثبات المطلوب.
وجدان العقل العمليّ:
والذي ندركه بحسب وجدان العقل العمليّ ـ بعد إبطال جميع أدلّة البراءة العقليّة ـ أنّ حقّ طاعة الله تبارك وتعالى لا يختصّ بالتكاليف الواصلة بالوصول القطعيّ، بل يشمل حتّى التكاليف الظنيّة والاحتماليّة سواء كانت صادرةً في الواقع أو لا، ما لم نحرز الترخيص من قبله تعالى في ترك الاحتياط، وذلك لما قلنا سابقاً من أنّ العقل العمليّ يدرك ضرورة الحفاظ على غاية ما يمكن من حرمة الله تبارك وتعالى والقيام بجميع مستلزمات احترامه وتعظيمه وتقديره ـ سواء على مبنى وجوب شكر المنعم أو على مبنى الملكيّة الحقيقيّة الحاصلة بالخلق ـ ، ولا شكّ أنّ من جملة مراتب احترام الشخص وتجليله هو القيام بكلّ ما نحتمل إرادته له، فيجب المبادرة إلى امتثال كلّ تكليف نحتمل صدوره من الله تبارك وتعالى حفظاً لغاية مراتب الاحترام والتجليل الواجب له عقلاً، وهذا يعني أنّ الله تبارك وتعالى له حقّ الطاعة علينا ـ بحسب إدراك العقل العمليّ ـ لا في تكاليفه
64
القطعيّة فحسب بل في كلّ تكليف نحتمل صدوره منه أيضاً ما لم نحرز ترخيصه هو في ترك الاحتياط تجاه ذلك التكليف كما مضى توضيحه سابقاً.
وهذا هو المناسب لما وقع التسالم عليه بين الأصحاب من أنّ مولويّة الله تبارك وتعالى مولويّة مطلقة، كما اعترف به الشَّيخ الآصفيّ إجمالاً في قوله: ((… فإنّ حق طاعة الزوج محدود في مساحة معيّنة بعكس مساحة حقّ الطاعة لله فإنّها مساحة مطلقة وغير محدودة))1
مجلة الفكر الإسلامي، العدد الثالث والرابع: 130.
. فإنّ مقتضى ذلك أنّ مولويّة الله تبارك وتعالى سارية في كلّ مجال إلّا ما قام البرهان فيه على نفيها، ولا فرق في ذلك بين المجالات والأنواع المختلفة لمتعلّق التكليف والمجالات والأنواع المختلفة لنفس التكليف، فكما أنّ مولويّة الله تعالى سارية مهما كانت نوعيّة متعلّق التكليف إلّا ما قام البرهان على عدم ثبوت المولويّة فيه، كما في الفعل الخارج عن قدرة المكلّف، كذلك هي سارية مهما كانت نوعيّة التكليف وظروفه إلّا ما قام البرهان على عدم ثبوت المولويّة فيه، كما في التكليف الذي يقطع العبد بعدم صدوره وإن كان صادراً في الواقع، فعلى من يدّعي عدم ثبوت المولويّة في التكاليف الظنيّة والاحتماليّة أن

  • مجلة الفكر الإسلامي، العدد الثالث والرابع: 130.
65
يقيم البرهان على ذلك كالبرهان القائم على عدم ثبوت المولويّة في التكليف الذي يقطع العبد بعدم صدوره ـ وهو عدم إمكان الانبعاث عنه ـ أمّا من يدّعي ثبوت المولويّة فيها فلا حاجة له إلى البرهان بعد التسالم على أنّ مولويّة الله تعالى مولويّة مطلقة.
وبعبارة اُخرى أقول: إنّ الإنسان المحايد عندما يقف أمام من يدّعي الوجدان على لزوم الاحتياط عقلاً في التكاليف المشكوكة ومن يدّعي الوجدان على عدم لزوم الاحتياط في ذلك فسيطالب الثاني بالبرهان دون الأوّل، لأنّ مولويّة الله تبارك وتعالى مطلقة حسب الفرض وسارية في كلّ مجال إلّا ما خرج بدليل، وقد عرفت بطلان جميع الأدلّة التي يتوقّع الاستدلال بها على ضيق دائرة مولويّة الله تبارك وتعالى واختصاصها بالتكاليف القطعيّة.
وأمّا الدليل الذي نخرج به عن حقّ طاعة الله تبارك وتعالى في التكليف الذي يقطع العبد بعدم صدوره في حين أنّه صادر في الواقع فهو لا يجري في التكاليف الظنيّة والاحتماليّة، لأنّ ذلك الدليل عبارة عن عدم إمكان الانبعاث عن التكليف الذي يقطع العبد بعدم ثبوته، والتكاليف الظنيّة والاحتماليّة يمكن الانبعاث عنها ولهذا اعترفوا فيها بحسن الاحتياط، فإنّ الاحتياط الذي اعترفوا بحسنه عقلاً إنّما هو عبارة عن الانبعاث عن التكليف
66
الاحتماليّ، والقائل بأصالة الاحتياط يقول بأنّ هذا الانبعاث ليس حسناً فحسب بل هو واجب بإدراك العقل العمليّ ما لم يرد ترخيص ظاهريّ من قبله تبارك وتعالى في ترك الاحتياط.
والنتيجة النهائيّة التي ننتهي إليها من هذا البحث أنّ نظريّة (حقّ الطاعة) التي تؤدّي إلى القول بأصالة الاحتياط عقلاً عند الشكّ في التكليف هي الصحيحة، ولا يمكن المساعدة على فكرة (قبح العقاب بلا بيان) التي اشتهرت بين المتأخّرين.
والحمد لله أوّلاً وآخراً وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين.
67