أصول الفقه – يوم الاثنين ١٦ جمادى الآخرة ١٤٤٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.

كان البحث حول الصورة الثالثة من الصور التي طرحها أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه لوجود أصل مؤمّن واحد في أحد طرفي العلم الإجماليّ وعدم وجود أصل مؤمّن في مقابله في الطرف الآخر، وبالنتيجة أنّ الأصل المؤمّن – بناءً على الاقتضاء – يمنع عن منجّزيّة العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة، خلافاً للقول بالعلّيّة حيث إنّ منجّزيّة العلم الإجماليّ هي التي تتغلّب على هذا الأصل، وهذا الأصل وإن كان واحداً بدون معارض ولكنّه يسقط بمنجّزيّة العلم الإجماليّ.

[وهي ما إذا كان في أحد طرفي العلم الإجماليّ أصلٌ طوليّ مؤمّن يجري بعد تعارض الأصلين وتساقطهما في طرفي العلم الإجماليّ.]

وذكرنا أنّه توجد وجوه ثلاثة للقول بعدم صلاحيّة هذا الأصل الطوليّ للعمل به، إمّا مطلقاً أو في بعض الحالات.

الوجه الأوّل والثاني كانا من قِبل المحقّق النائينيّ رضوان الله تعالى عليه وكلاهما كانا يؤكّدان أنّ هذا الأصل الطوليّ لا قيمة له مطلقاً. وقد ذكرناهما مع ردّهما من أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه.

والوجه الثالث للسيّد الخوئيّ رضوان الله تعالى عليه، وهو يفصّل بين بعض الحالات وبعض الحالات الأخرى، حيث يقول في البعض بتساقط الأصلين ثمّ الرجوع إلى الأصل الطوليّ، ولا يقبل في الآخر، بل يقول بتساقط الأصول الثلاثة كلّها بالمرّة.

أمّا الحالة التي يقبله السيّد الخوئيّ رحمه الله فهي حالة ما إذا كان الأصلان المتعارضان في طرفي العلم الإجماليّ من سنخ واحد بأن يكون كلاهما أصالةَ الطهارة أو استصحاب الطهارة مثلاً، فيتعارضان ويتساقطان. فالأصل الطوليّ يحيى ويصبح صالحاً للتمسّك به.

ومثاله ما إذا علم إجمالاً إمّا بنجاسة هذا الماء فلا يجوز شربه، أو هذا الثوب فلا يجوز الصلاة فيه. ففي كلّ منهما توجد أصالة الطهارة، وهما من سنخ واحد فيتعارضان ويتساقطان وتصل النوبة إلى العمل بالأصل الطوليّ في طول أصالة الطهارة وهي أصالة الحلّ بناءً على تقدّم أصالة الطهارة على أصالة الحلّ. ولبيان الطوليّة بينهما وأنّه لِمَ تعتبر أصالة الطهارة متقدّمةً على أصالة الحلّ، مقامٌ يجب البحث عنه في محلّه.

فلو سلّمنا تقدّمه عليه تجري أصالة الحلّ – بعد تعارض أصالتي الطهارة وتساقطهما – ولكنّها لا تجري في الثوب؛ لعدم وجود معنى محصّل لـ«حلّيّة الثوب»؛ لأنّ موضوعها «كلّ شيء فيه حلال وحرام» – لا «كلّ شيء يجوز الصلاة فيه» – وحكمه أنّه «حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه»، فدليلها لا يتناسب مع الثوب وإنّما يتناسب مع الماء.

وبالتالي يتمّ القول بأنّ هذا أصل واحد جرى في أحد الطرفين دون الطرف الآخر، فبناءً على الاقتضاء، منجّزيّة العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة تسقط، خلافاً للقول بالعليّة.

والحالة التي لا يقبل فيها السيّد الخوئي رحمه الله بتساقط الأصلين ثمّ الرجوع إلى الأصل الطوليّ هي حالة ما إذا كان الأصلان المتساقطان من سنخين لا سنخ واحد.

مثاله ما إذا علم إجمالاً بتنجّس هذا الماء الذي يكون مسبوقاً بالطهارة، أو بَوليّة ذلك المائع الثاني. حيث إنّ استصحاب الطهارة في الماء يتعارض مع أصالة الطهارة في مشكوك البوليّة، وهما من سنخين – لأنّ استصحاب الطهارة دليليه «لا تنقض اليقين بالشكّ» وأصالة الطهارة في الطرف الآخر دليله «كلّ شيء لك طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» – وما دام الاستصحاب موجوداً لا يجري أصالة الطهارة في الماء؛ لأنّه أصل محرز تنزيليّ ومقّدم على أصالة الطهارة التي هي أصل بحت، ولا يمكن الرجوع إليها (بما أنّها أصل طوليّ) بعد تساقطهما أيضاً على رأي السيّد الخوئي رحمه الله.

أمّا السيّد الخوئيّ رحمه الله لم يتعرّض لذكر دليل على هذا التفصيل، فقام أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه بأن يوضّح النكتة الفارقة بين الحالتين التي جعلت السيّد الخوئيّ قائلاً بالتساقط والرجوع إلى الأصل الطوليّ في الأولى وبعدمه في الثانية فقال:

النكتة هي أنّ وحدة السنخيّة توجب الإجمال في دليل هذين الأصلين؛ لأنّنا سنعرف بقرينةٍ متّصلة (أو كالمتّصلة) أنّ هذا الأصل المؤمّن لا يجري في كلا الطرفين، ولكنّه هل يجري في هذا دون ذاك أو في ذاك دون هذا؟ فلا ندري. فأصبح دليل هذين الأصلين المؤمّنين اللذين من سنخ واحد مجملاً. فيسقط هذا الدليل بالإجمال لا بالتساقط الناشئ عن التعارض بين دليلين مختلفين. وبعدئذ تصل النوبة إلى الأصل الطوليّ.

وهذا بخلاف الحالة الثانية التي كان الأصلان فيها من سنخين مختلفين، فإنّما علمنا بالقرينة العقليّة أو العقلائيّة – بأنّ التأمين لا يمكن أن يشمل كلا طرفي العلم الإجماليّ – أنّهما لا يجريان معاً، وهذه القرينة لا توجب إجمال دليل الأصل المؤمّن؛ لأنّ دليله في هذا الطرف شيء وفي ذاك الطرف شيء آخر، فلا نقدر أن نقول: لا نعرف أنّ هذا الدليل يشمل هذا دون ذاك أو بالعكس؟ فدليل الأصل الجاري في الطرف الأوّل لا يمكن أن يجري إلّا فيه، وكذلك دليل الأصل في الطرف الثاني. فلا موجب لإجمال الدليلين.

فيقول السيد الخوئيّ رحمه الله أنّه لا يمكن إسقاطهما والرجوع إلى الأصل المؤمّن؛ لأنّ هذا الأصل المؤمّن الطوليّ أيضاً يقع طرفاً للتعارض ويسقط مع الأصلين الأوّلين؛ لأنّ هذا الأصل المؤمّن الطوليّ، طوليّته رتبيّة لا زمانيّة، فإذا لم يختلف الزمان يبقى الأصل الطوليّ كالعرضيّ لا الطوليّ فيتساقط مع الأصلين فلا يبقى أصلٌ طوليّ في المقام.

هذا كلام السيّد الخوئيّ رحمه الله وسيأتي توضيحه إن شاء الله.

والحمد لله ربّ العالمين.