أصول الفقه – يوم الأربعاء ١٨ جمادى الآخرة ١٤٤٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.

كانت الصورة الثالثة من الصور التي ذكرها أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه لجريان الأصل المؤمّن في أحد الطرفين دون الآخر عبارةً عمّا إذا كان هناك أصلان مؤمّنان في طرفي العلم الإجماليّ وكان لأحدهما أصل مؤمّن طوليّ، وذينك الأصلين المؤمّنين يتعارضان ويتساقطان وبعدئذٍ تصل النوبة إلى الأصل المؤمّن الطوليّ الذي يختصّ بأحد الطرفين دون الآخر، فبناءً على القول بالاقتضاء يجري هذا الأصل العمليّ فيه بدون معارض وتسقط منجّزيّة العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة.

ولكنّ جملة من الأصحاب قالوا بعدم إمكان العمل بهذا الأصل الطوليّ بعد سقوط الأصلين العرضيّين في الطرفين إمّا إطلاقاً أو في بعض الحالات.

وكان المحقّق النائينيّ رحمه الله من الذين قالوا بالعدم إطلاقاً وذلك كان بالوجهين اللذين ذكرهما وردّ عليهما أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه.

والآن نبحث عن القول القائل بجريانه في بعض الحالات فقط وهو السيّد الخوئيّ رضوان الله تعالى عليه، فإنّه فصّل بين حالة ما إذا كان الأصلان المؤمّنان الجاريان في طرفي العلم الإجماليّ في عرض واحد من سنخ واحد ودليلهما مشترك بأن يكون كلاهما أصالة الطهارة مثلاً، وبين ما إذا كان الأصلان المؤمّنان الجاريان في الطرفين من سنخين وليس دليلهما مشتركاً.

ثمّ قال بتساقط الأصلين وإمكان التمسّك بالأصل المؤمّن الطوليّ في الحالة الأولى، وبعدم إمكان التمسّك بالأصل الطوليّ في الثانية؛ فإنّه يتساقط مع الأصلين الآخرين ويكون التساقط ثلاثيّاً.

والظاهر أنّ السبب الذي جعله يفرّق بين الحالتين – كما نبّه عليه أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه – هو أنّه يرى في الحالة الأولى أنّ الأصلين يسقطان بإجمال دليلهما لا بالتساقط بأن يراد إجرائهما في الطرفين وحيث يسبّب إجراؤهما معاً المخالفةَ القطعيّة يتساقطان. بل دليلهما يبتلى بالإجمال؛ لما قلنا سابقاً من أنّ هناك قرينة عقليّة أو عقلائيّة كالمتّصلة – بناءً على أنّها قرينة كالمتّصلة – وقلنا ربما قد يناقش أحد في كونها بمنزلة المتّصلة أو المنفصلة، ولكن يبدو أنّ السيّد الخوئيّ رحمه الله بانٍ على أنّ تلك القرينة – التي على مبنى الأصحاب عقليّةٌ وعلى مبنى أستاذنا الشهيد عقلائيّةٌ – بمنزلة قرينةٍ متّصلةٍ تدلّ على عدم إمكان جريان الأصل المؤمّن في كلا طرفي العلم الإجماليّ، فتوجب الإجمال في دليل الأصل المؤمّن الذي يريد أن يجري في كلا الطرفين.

فهذه القرينة تورث الإجمال في الدليل المشترك للأصلين المؤمّنين في الطرفين إذا كانا من سنخ واحد، فيسقط دليل الأصل المؤمّن بسبب الإجمال لا بالتساقط حتّى يقال بأنّ التساقط ثلاثيّ الأطراف. وحينئذ يصبح الأصل الطوليّ صالحاً للجريان؛ لأنّه لا يتساقط مع أصل.

ومثاله ما إذا علم إجمالاً بنجاسة هذا الماء أو نجاسة هذا الثوب، فتوجد في كلّ منهما أصالة طهارةٍ تجري بطبعها. إذاً فهما من سنخ واحد.

وبعد تساقطهما يمكن التسمّك بجريان الأصل الطوليّ الذي يصلح للجريان في الماء فقط وهو «أصالة الحلّ». فلا يمكن إجراؤها في الثوب؛ لأنّ الثوب لا يصلح للحلّيّة والحرمة، وإنّما يصلح لصحّة الصلاة وعدمها فيه. وأصالة الحلّ هذه تكون في طول أصالة الطهارة في الماء، لأنّ أصالة الطهارة في الماء تعتبر أصلاً سببيّاً وأصالة الحلّ أصلاً مسبّبيّا؛ لأنّ سبب الشكّ في الحلّيّة هو الشكّ في الطهارة، فالأصل الذي يجري في الطهارة أصل سببيّ والذي يجري في الحلّيّة مسبّبيّ.

والمثال المعروف للأصل السببيّ والمسبّبي ما إذا غسلنا الثوب المتنجّس بماء مستصحب الطهارة، فاستصحاب الطهارة في الماء سببيّ واستصحاب نجاسة الثوب مسبّبيّ، والأصل السببيّ يتقدّم على المسبّبيّ.

وهنا كلام في تقدّم الأصل السببيّ بأنّه هل هو إنّما فيما إذا كان نتيجتهما مختلفة؟ – مثل ما إذا كان أحدهما يؤدّي إلى النجاسة والآخر إلى الطهارة كما في المثال المعروف حيث يؤدّي السببيّ فيه إلى طهارة الثوب والمسبّبي إلى نجاسته – أم أنّه مقدّم حتّى إذا كانت النتائج متّفقة كما فيما نحن فيه؟

ويبدو أنّ السيّد الخوئيّ يعتقد بتقدّمه حتّى فيما إذا كانت نتيجتهما متّحدة، [فتتقدّم أصالة الطهارة على أصالة الحلّ هنا وتكون أصالة الحلّ أصلاً طوليّاً بالنسبة إلى أصالة الطهارة].

وأمّا مثال الحالة الثانية – التي تكون الأصلان المتعارضان فيها مختلفين في السنخ والدليل – ما إذا علم إجمالاً بنجاسة هذا الماء المسبوق بالطهارة، أو بوليّة هذا المائع.

وأصالة الطهارة بطبعه قابلة للجريان في كليهما ولكن يوجد في طرف الماء استصحاب؛ لكونه مسبوقاً بالطهارة، وما دام الاستصحاب يجري – وهو أصل محرز – فيتقدّم على أصالة الطهارة – التي هي أصل بحت – فلا تجري أصالة الطهارة في الماء.

وفي الطرف الآخر لا يوجد استصحاب؛ لأنّا لا نعرف أنّ المائع في هذا الطرف ماء أو بول، فلا يجري استصحاب البوليّة أو المائيّة.

فيقع التعارض بين استصحاب الطهارة وأصالة الطهارة وهما من سنخين، فدليل الأصل في طرف الماء – وهو الاستصحاب – «لا تنقض اليقين بالشكّ»، وفي طرف المائع – وهي أصالة الطهارة – «كلّ شيء لك طاهر حتّى تعرف أنّه نجس». وليس المشكلة هنا مشكلة الإجمال؛ لأنّ دليليهما مختلفان، فيتعارضان ويتساقطان.

ويقول السيد الخوئي رحمه الله: إذا كانت الطوليّة في الأصل الطوليّ رتبيّةً لا زمانيّة لا تمنع عن مشاركة الأصل الطوليّ مع غيره في التساقط، بخلاف ما إذا جرى الأصل الطوليّ في زمان بعد سقوط ذينك الأصلين فلا يبتلى بالتعارض. فإذا كانت الأصول الثلاثة كلّها في زمان واحد وكان الاختلاف رتبيّاً فقط لا زمانيّاً – حيث إنّ ثلاثتها تريد أن تجري في زمان واحد – فلا قيمة للطوليّة الرتبيّة من حيث مشاركة هذا الأصل الطوليّ في التعارض والتساقط.

فبالنتيجة على رأي السيّد الخوئي رحمه الله لا نقدر أن نعتمد على هذا الأصل الطوليّ لإسقاط منجّزيّة العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة.

ولكنّه استثنى من الحالة الثانية حالةً خاصّة، وهي ما إذا كان لكلّ من الأصلين – اللذين هما بالدليلين المستقلّين – أصل طوليّ وكان الأصل الطوليّ في أحدهما مؤمّناً، وفي الآخر مثبتاً للتكليف.

ومثاله أن يكون المصلّي مشغولاً بصلاته الثانية وعلم إجمالاً – بعد موضع الركوع وتجاوزه إلى عمل آخر – بأنّه إمّا قد أتى بركوع زائد في صلاته السابقة، أو لم يركع في هذه الصلاة.

فتجري قاعدة الفراغ بالنسبة إلى الصلاة السابقة ومقتضاه أنّه يبني على عدم تحقّق الركوع الزائد فصحّت صلاته.

وتجري قاعدة التجاوز في هذه الصلاة، القائلة بأنّه إذا شكّ بعد تجاوز المحلّ فالصلاة صحيحة ويبنى على صحّتها.

ولكن يقع تعارضٌ ناشئٌ عن العلم الإجماليّ بين قاعدة الفراغ في الصلاة السابقة وقاعدة التجاوز في هذه الصلاة بناءً على أنّ دليلي القاعدتين مختلفان لا مشتركان، فلا يكون الدليلان من سنخ واحد.

فيقول السيّد الخوئيّ رحمه الله: إنّه يوجد لكلا القاعدتين هنا (الفراغ والتجاوز) أصل طوليّ؛ لأنّه بعد تساقطهما تصل النوبة إلى استصحاب عدم الإتيان بركوع زائد بالنسبة إلى الصلاة السابقة وهو أصل مؤمّن، واستصحاب عدم الإتيان بالركوع في هذه الصلاة وهو أصل مثبت للتكليف. فبالنتيجة يسقط منجّزيّة العلم الإجمالي بالانحلال الحكميّ[1] ويصير حاله حال من يعلم إجمالاً بنجاسة هذا الإناء أو نجاسة ذاك الإناء، ودلّ خبر الثقة على أنّ هذا الإناء مسبوق بالنجاسة، فيجرى فيه استصحاب النجاسة وينحلّ العلم الإجماليّ انحلالاً حكميّاً.

وهذا الأصل المثبت للتكليف في جانب قاعدة التجاوز فيما نحن فيه يُسقط منجّزيّة العلم الإجماليّ بالانحلال الحكميّ.

وبالتالي يمكن أن نتمسّك باستصحاب عدم إتيانه للركوع في الصلاة السابقة. فهذا الأصل المؤمّن يمكنه أن يجري في طرف واحد.

وسيأتي ردّ أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه على ما ذكر.

والحمد لله ربّ العالمين.


[1] ذكر السيّد الأستاذ دام ظلّه في الدرس التالي (21 جمادى الآخرة 1444) أنّه لا يعرف أنّ المقصود من «الانحلال» في كلام السيّد الخوئي رحمه الله، انحلال حكميّ أو حقيقيّ؟ فليراجع.