أصول الفقه – يوم الأحد ٢٠ رجب ١٤٤٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.

قلنا: إنّ الركن الرابع من أركان العلم الإجماليّ حسب ما اختاره الميرزا النائيني رضوان الله تعالى عليه عبارة عن إمكان وقوع المخالفة القطعيّة بسبب الأصل المؤمّن.

فمورد الاستفادة من هذا الركن يكون في الشبهة غير المحصورة، مثل ما إذا وقع العلم الإجماليّ بنجاسة جبن من أجبان كثيرة واسعة عدداً مع قطع النظر بانضمام بعض أمور أخرى كخروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء وما شابهه.

فالسؤال هو أنّ نفس كثرة الأطراف هل تؤدّي إلى سقوط منجّزيّة العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة بدعوى انتفاء هذا الركن أو لا؟ وفي ذلك مقامان.

المقام الأول: في سقوط أو عدم سقوط العلم الإجماليّ في موارد الشبهة غير المحصورة بحسب جريان الأصول المؤمّنة في تمام الأطراف، فكان البحث في أنّ الأصول العمليّة هل تجري في جميع الأطراف أو لا؟

والمقام الثاني: في سقوط أو عدم سقوط منجّزيّة العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة بقطع النظر عن الأصول المؤمّنة في الأطراف بل بسبب الاطمئنانات التي تحصل في أطرافه بعدم وجود المعلوم بالإجمال فيها؛ لأنّ الأطراف كبيرة جداً، فاحتمال انطباق المعلوم بالإجمال على هذا الطرف ضئيل جدّاً كما هو كذلك في ذاك الطرف أيضاً بل يوجد في كلّ طرف اطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال عليه، فهل هذه الاطمئنانات حجّة؟ وبالتالي هل يسقط منجّزية العلم الإجماليّ عن وجوب الموافقة القطعيّة بها فيجوز المخالفة في بعض الأطراف؟

ملخّص المقام الأوّل

وأمّا ملخّص المقام الأوّل بدقّة أكثر فهو أنّ المحقّق النائينيّ صاغ هذا الركن بالصياغة التي ذكرنا وهي إمكان وقوع المخالفة القطعيّة بسبب الأصول المؤمّنة في الأطراف وقال بعدم إمكان وقوع المخالفة القطعيّة في الشبهات غير المحصورة؛ لأنّ المكلّف غير قادر على أكل كلّ الأطراف غير المحصورة من أفراد الأجبان وبالتالي ينتفي هذا الركن فتنتفي منجّزيّة العلم الإجماليّ.

فعدم إمكان وقوع المخالفة القطعيّة على رأيه سبب لجريان الأصول المؤمّنة في جميع الأطراف وذلك لأنّه كان يقول بأنّ الأصول العمليّة إنّما تتساقط في أطراف العلم الإجماليّ لعدم جواز الترخيص في المخالفة القطعيّة بما أنّه ترخيص في القبيح، وهنا يقول بأنّ المخالفة القطعيّة ما دامت غير ممكن فهي غير قبيح.

والسيّد الشهيد – ولعلّ بعض الأصحاب أيضاً – قالوا بأنّ القبح غير متوقّف على القدرة، ولهذا قد يؤوّل مراد المحقّق النائينيّ بقوله «هذا غير قبيح» بأنّه لا يجري فيه الترخيص في المخالفة القطعيّة ما دامت غير ممكنة، فـ«غير قبيح» شيء و«عدم حصول الترخيص» شيء آخر، فكان مراده من عدم القبح، كون الترخيص غير حاصل في المخالفة القطعيّة في جميع الأطراف، إذن فالترخيص حاصل في بعض الأطراف وهذا يعني أنّه سقط هذا العلم الإجماليّ عن تنجيز وجوب الموافقة القطعيّة فيجوز ارتكاب البعض؛ لانتفاء هذا الركن.

ولكنّ السيّد الخوئيّ رضوان الله تعالى عليه قال بأنّ كون الترخيص في المخالفة الواقعيّة في جميع أطراف العلم الإجماليّ غير ممكن، هذا صحيح، ولكنّ القبيح ليس الترخيص في المخالفة القطعيّة فقط، بل الترخيص القطعيّ في المخالفة الواقعيّة قبيح أيضاً. فإنّه يوجد فرق بينهما، لأنّه [بجريان الأصول المؤمّنة في جميع الأطراف] لا يحصل «الترخيص في المخالفة القطعيّة»، ولكنّه يحصل «الترخيص القطعيّ في المخالفة الواقعيّة». فالمخالفة الواقعيّة بخلاف المخالفة القطعيّة يمكن ارتكابها، بمعنى أنّ كلّ طرف ممكن الارتكاب وإن كانت آلافاً أو ملايين، فالمخالفة الواقعيّة مقدور عليها بخلاف المخالفة القطعيّة.

فيقول السيد الخوئيّ: إنّا نبدّل صيغة هذا الركن بأنّ الركن الرابع هو «ألّا تؤدّي الترخيصات في الأطراف إلى الترخيص القطعيّ في المخالفة الواقعيّة».

ولذلك قال السيّد الخوئي بأنّ هذا الركن في الشبهة غير المحصورة لا ينتفي؛ لأنّ الترخيص في جميع الأطراف يؤدّي إلى الترخيص القطعيّ في المخالفة الواقعيّة وإن لم يؤدّ إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة، فهذا الركن لا يزال باقياً في هذه الشبهة، فتبقى منجّزيّة العلم الإجماليّ.

أمّا أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه يقول بأنّنا في غنى عن هذا الاختلاف بينهما من أن القبيح هل هو الترخيص في المخالفة القطعيّة أو الترخيص القطعيّ في المخالفة الواقعيّة؟ وذلك لما نقول من أنّ كليهما ليسا قبيحين ثبوتاً بل ممكنين حتّى في الشبهة المحصورة فكيف بالشبهة غير المحصورة!

فإنّ أستاذنا الشهيد يرى أنّ الأصول المؤمّنة تجري في ضوء فكرة التزاحم الحفظيّ ومن الممكن في هذا الضوء أن تكون الترخيصات في الأطراف أقوى وأهمّ عند المولى من ملاك الحرمة في المعلوم بالإجمال.

فلا مشكل عندنا ثبوتاً لجريان الأصول المرخّصة في جميع الأطراف، وإنمّا المحذور الذي نقبله يكون عبارة عن الارتكاز العقلائيّ، لا المحذور العقليّ، والمحذور العقلائيّ هو أنّ العقلاء لا يقبلون أن يكون الترخيصات في أطراف العلم الإجماليّ أهمّ عند المولى من حرمة المعلوم بالإجمال، فإنّ المعلوم إذا كان حراماً ومعلوماً ولو بالعلم الإجماليّ لا يقبل أحد من الناس العرفيّين أن يضحّي [بذلك الحرام المعلوم] في سبيل الترخيصات.

ولذا قلنا: إنّ إطلاق الأدلة المؤمّنة تقيّد بهذا الارتكاز العقلائيّ ولا تشمل كلّ أطراف العلم الإجماليّ.

ولكن يقول أستاذنا الشهيد بأنّ هذا المحذور العقلائيّ لا يجري في الأطراف إذا كانت غير محصورة بحيث إذا علمنا بحرمة واحد من الآلاف من الشبهة غير المحصورة فما دام الأطراف كثيرة جدّاً فمن المعقول والمفهوم في الارتكاز العقلائيّ أن تكون الترخيصات الكثيرة في الأطراف أهمّ في التزاحم الحفظيّ من ملاك الحرمة في المعلوم بالإجمال؛ وملاك الحرمة في المعلوم بالإجمال يكون في واحد وملاكات الترخيص الذي يقابله بالآلاف المؤلّفة، فيقبل العقلاء ارتكازاً أن يقدّم المولى اهتمامه بهذه الترخيصات أكثر من اهتمامه بالمعلوم بالإجمال الذي يضحّى به. فلا ارتكاز عند العقلاء على خلافه بل لعلّ عندهم ارتكازاً يوافقه.

وبهذا لا يبقى محذور عقليّ ولا عقلائيّ في أطراف العلم الإجماليّ في الشبهة غير المحصورة، فنقول: يمكن جريان الأصول العمليّة في جميع الأطراف.

وبعد ذلك يقول أستاذنا الشهيد بأنّه يؤيد رأينا هذا روايةٌ – وإن كانت ضعيفة السند إلّا أنّها يستفاد منها على وجه التأييد – وهي رواية ابن أبي جارود: «أَمِنْ أَجْلِ مَكَانٍ وَاحِدٍ يُجْعَلُ فِيهِ اَلْمَيْتَةُ حُرِّمَ فِي جَمِيعِ اَلْأَرَضِينَ؟»[1] وهو استفهام انكاريّ، يستنكر سؤال السائل حيث سأل أنّه رأى أنّه يوضع الميتة في صناعة الجبن، فهو رأى مورداً وما رأى كلّ الآلاف المؤلّفة من الأجبان في الدنيا.

فأجاب الإمام بأنّه ليس معقولاً أن نسحق جميع الأطراف في سبيل الحرمة الواحدة.

وهذه الرواية إنّما مؤيدة لا دليل ولكنّ الأصحاب تطرّقوا إلى ذكر هذا الحديث مع ضعفه ولم يعلّق أحد منهم بأنّ هذا الاستنكار ليس في محلّه.

فبالنتيجة نؤمن بأنّ العلم الإجماليّ في الشبهة غير المحصورة ليس فيه محذور ثبوتيّ ولا محذور إثباتيّ.

والحمد لله رب العالمين.


[1] وسائل الشيعة: 25/119، كتاب الأطعمة والأشربة، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 5.       http://noo.rs/CvPnl