أصول الفقه – يوم الثلاثاء، ٢٢ ربيع الثاني ١٤٤٥
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.
خلاصة البحث السابق
قلنا إنّ بيان الشيخ الأنصاريّ رضوان الله تعالى عليه في القول بعدم وجوب الاجتناب في الثوب الملاقي لأحد طرفي العلم الإجماليّ – مثل ما إذا لاقى طرف الألف وعندنا علم إجماليّ بنجاسة إمّا ألف أو باء – كان يعتمد على التقدّم والتأخّر الرتبيّين فقال بأنّ الأصل المؤمّن – كأصالة الطهارة الجارية في الثوب – ما دام متأخّراً رتبة عن الأصلين الجاريين في ألف وباء فهما يتعارضان ويتساقطان في رتبة سابقة وتصل النوبة في الرتبة المتأخّر إلى الأصل المؤمّن في الثوب فيجري بدون معارض.
وقلنا إنّ هذا البيان يبتني على أربعة أمور.
الأمر الأوّل: أن يكون تنجيز العلم الإجماليّ اقتضائيّاً لا علّيّاً وهذا ما نوافق عليه.
والأمر الثاني: أنّه كلّما كان أصل عمليّ متأخّراً رتبة عن أصل عمليّ آخر ووقع التعارض بينهما، يزول التعارض باختلاف الرتبة، [حيث أنّ اختلاف الرتبة يكون كافياً لنجاة المتأخّر رتبة عن التعارض، لتساقط الأصل المتقّدم رتبةً مع معارضه في العلم الإجمالي الأوّل وبقاء الأصل المتأخّر رتبةً بلا معارض].
ولا زلنا نبحث عن هذا الأمر وحاصله أنّ اختلاف الرتبة بين المتعارضين يوجب زوال التعارض، فإذا سقط المتقدّم رتبة بسبب من الأسباب لا يسقط معه المتأخّر رتبة ويجري فيه الأصل المؤمّن بدون معارض.
وكان للسيّد الخوئيّ عليه إيرادين:
الإيراد الأوّل: أنّه لا يوجد اختلاف رتبيّ؛ لأنّ هذا الثوب اختلافُه الرتبيّ مع ألف وتَعارُضُه مع باء، فلا يوجد اختلاف رتبيّ مع ما يعارضه، بل معارضته مع شيءٍ واختلافُه الرتبيّ مع شيء آخر.
والإيراد الثاني: أنّه لو سلّمنا اختلاف الرتبة مع معارضه، فاختلاف الرتبة لا يؤثّر في المقام ولا يوجب نجاة المتأخّر رتبة، فإنّ اختلاف الرتبة يؤثّر في القضايا الرتبيّة، والقضايا الشرعيّة ليست رتبيّة بل إنّما هي زمانيّة.
وبحثنا في الإيرادين وناقشناهما، فبالتالي أنّ هذا الأمر الثاني سلم عن الإشكالين لظاهر الحال فيه وحسب تسلسل هذا البحث، فلنقبل هذا الأمر من أنّه إذا تعارض أصل من الأصول مع أصل آخر وكان بينهما رتبيّة طوليّة مثل ما إذا كان أحدهما متأخّر رتبة والآخر متأخّر رتبة وتعارضا فذاك المتقدّم رتبة إذا سقط بسبب من الأسباب فلا يشترك معه في السقوط هذا المتأخّر ويجري.
وهذا الكلام لا دليل لعدم قبوله منّا حيث ناقشنا كلا إيرادي السيّد الخوئيّ ولكن نجد أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه يقول – بعد أن يكمّل مناقشاته على الإيرادين –: «وعلى أيّة حال فقد عرفت عدم تماميّة الأمر الثاني».
فالسؤال هو أنّا كيف عرفنا عدم تماميّته مع إشكاله على السيّد الخوئيّ؟
أنا دقّقت في كلا الإيرادين وما وجدت في الإيراد الثاني أيّ ثغرة، يعني أنّ أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه أبطله نهائيّاً، فقوله «وعلى أيّة حال فقد عرفت عدم تماميّة الأمر الثاني» الظاهر أنّه يرجع إلى ما يمكن فهمه في مناقشة أستاذنا الشهيد للإيراد الأوّل، ففيه قال السيّد الخوئيّ: إنّ هذا – وهو الأصل العمليّ في الثوب – ليس معارضاً لما هو متأخّر عنه – وهو الأصل الجاري في ألف – وإنّما هو معارض للأصل الجاري في باء وهو ليس متأخّراً عنه، فالأصل الذي هو متأخّر شيء والأصل الذي يعارضه شيء آخر، هذا هو الإيراد الأوّل. وأستاذنا الشهيد ناقش هذا الإيراد الأوّل بحسب الدقّة العقليّة، ولم يلاحظ السيّد الخوئيّ الإطار العرفيّ في مناقشته وإنّما قال بحسب الدقّة العقليّة: إنّ الأصل الجاري في الثوب متأخّر رتبة عقلاً عن شيء ومعارض لشيء آخر، فبحثه بحث عقل دقّيّ وليس بحثاً عرفيّاً، وبحسب هذا البحث الدقّيّ العقليّ نحن ناقشنا وقلنا يوجد مجال للردّ على هذا الكلام بحسب البحث الدقّيّ العقليّ. والمجال هو بالرجوع إلى ما بحثناه سابقا تحت عنوان «ما إذا ابتُليَ أحد طرفي العلم الإجماليّ بأصل طوليّ»، وقلنا هناك: إنّه يكون مجال – بحسب الدقّة العقليّة – للقول بأنّ هذا الأصل الطوليّ ينجو من المعارض وذلك في ضوء نظريّة التزاحم الحفظيّ بأنّه يمكن أساساً أن يجعل الشارع الأصل المؤمّن في كلا طرفي العلم الإجماليّ، وبذاك يضحّي بالملاك القطعيّ المعلوم بالعلم الإجماليّ في سبيل الحفاظ على ملاك الإباحة الاقتضائيّة، فقلنا إنّ هذا ممكن ثبوتاً عقلاً بالدقّة العقليّة، وبهذا يمكن إجراء الأصل العمليّ حتّى في الأصل الثالث الذي هو في طول طرفي أحد العلم الإجماليّ.
ولا يمكن للسيّد الخوئيّ أن يزلّ هذا الإمكان الثبوتيّ بالدقّة العقليّة، نعم يمكن أن نبطله بحسب الفهم العرفيّ بأنّه وإن كانت أهمّيّة الملاك الترخيصيّ عند المولى من الملاك المعلوم بالعلم الإجماليّ ممكنة بالدقّة العقليّة ولكنّه غير ممكن عرفاً، وبذلك يبطل إطلاق أدلّة الأصول المؤمّنة فلا يشمل جميع أطراف العلم الإجماليّ عرفاً.
فإشكاله بحسب الدقّة العقليّة غير وارد؛ لأنّه بحسبها يمكن تخلّص الأصل الثالث من التعارض، ولكنّا لا نقبل ذلك لأجل الشبهة الإثباتيّة الذاتيّة التي ذكرناها، فنتّفق معه في النتيجة ولكن لا نقبل دليله العقليّ الدقّيّ وإنّما بدليلنا العرفيّ.
فوافقنا السيّد الخوئيّ في شيء، وهو: الإيراد الأوّل من حيث النتيجة من عدم تماميّة الأمر الثاني، وخالفناه في شيء آخر، وهو: أنّه قال ذلك بحسب الدقّة العقليّة. فيبطل الأمر الثاني من الأمور الأربعة بنتيجة ما جاء في الإيراد الأوّل من إيرادي السيّد الخوئيّ.
ولهذا يقول أستاذنا الشهيد بالأخير: «وعلى أيّة حال فقد عرفت عدم تماميّة الأمر الثاني»، فهو يقصد ظاهراً عدم تماميّته بحسب ما جاء في الإيراد الأوّل، وعدم التماميّة يكون عرفاً لا بالدقّة العقليّة.
والحمد لله ربّ العالمين.