أصول الفقه – يوم الثلاثاء ٢٢ رجب ١٤٤٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.

كان الكلام في أنّ أطراف العلم الإجماليّ إذا كانت عدداً واسعاً على نحو الشبهة غير المحصورة فهل الاطمئنانات التي تحصل بأنّ المعلوم بالإجمال ليس في هذا الطرف وفي ذاك الطرف وإلى آلاف الأطراف تكفي لسقوط منجّزيّة العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة أم لا؟

والتقريب الأصليّ لكفاية ذلك هو أن يقال بأنّ هذه الاطمئنانات حجّة، فتجري وتوجب سقوط منجّزيّة العلم الإجماليّ.

ولكن لقائل أن يقول بأنّ هذه الاطمئنانات إمّا ألّا تحصل وإمّا أنّها ليست بحجّة. فيقع الكلام تارةً في إمكان حصوله وتارةً في أنّها هل هي حجّة بعد تسليم إمكان حصوله أو لا؟

وقلنا إنّها يمكن تحصيلها ولكن للمحقّق العراقي إشكاليّة كنّا بصدد الإجابة عنها وهي أنّه إذا حصل الاطمئنان في كلّ طرف طرف بأنّ المعلوم بالإجمال ليس فيه فهي تستلزم الاطمئنان بعدم انطباقه على أيّ واحد من الأطراف على نحو السالبة الكلّيّة، وهي تناقض الموجبة الجزئيّة التي نعلم بها بالعلم الإجماليّ.

وهو أجاب بجواب غريب، وهو أنّ هذه الاطمئنانات تكون على نحو البدل وليست فعليّة في عرض واحد. وهذا بظاهره غريب إلّا أن يؤوّل بمعنى آخر.

وصار أستاذنا الشهيد رحمه الله بصدد الجواب عنه وقال بأنّ هذا الإشكال إنّما يعتمد على فكرة كلّيّة، وهي أنّ كلّ درجة انكشافيّة بشيء مع درجة انكشافيّة بشيء آخر أو مع درجات انكشافيّة بعدّة أشياء تستلزم نفس الدرجة الانكشافيّة بها جميعاً، فإنّ لكلّ هذه الاطمئنانات درجة انكشافيّة تستلزم منها نفس الدرجة الانكشافيّة بها جميعاً.

ولكنّ هذه القاعدة ليست صحيحة دائماً وإنّما تصحّ فيما إذا كان الدرجة الانكشافيّة في أحدهما مطلقاً من ناحية تطابق الدرجة الانكشافيّة الأخرى للواقع (أو قل: من ناحية صدق درجة الانكشاف في الطرف الآخر). يعني أنّه حتّى إذا كان الانكشاف في الطرف الآخر صادقاً في علم الله فأنا أبقى على انكشافي بنفس تلك الدرجة في الطرف الأوّل، لا أنّه على فرض صدق الانكشاف الثاني يزول الانكشاف الأول، بل هو جار حتّى على فرض صدق الانكشاف في الطرف الثاني.

ولكن إذا كان الانكشاف في الطرف الأوّل لا يجتمع مع صدق انكشاف الطرف الآخر، لا يكون الانكشافان مستلزمين لانكشافهما معاً.

وما نحن فيه من هذا القبيل، لأنّه إذا كانت الانكشافات في الأطراف الأخرى – وهي الاطمئنانات بعدم وجود المعلوم بالإجمال في كلّ الأطراف الأخرى – صادقة نرفع اليد من الانكشاف في الطرف الأوّل – التي هي الاطمئنان بعدم وجوده في هذه الطرف –.

فهذه الاطمئنانات لا تستلزم الاطمئنان بالسالبة الكلّيّة حتّى يقال بأنّ هذه السالبة الكلّيّة تناقض الموجبة الجزئيّة المستفادة من العلم الإجماليّ.

وأمّا الكلام في حجّيّة هذه الاطمئنانات فهناك إشكاليّة تقول: إنّ هذه الاطمئنانات لو كانت حجّة لتؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة والترخيص في المخالفة القطعيّة ممنوعة إمّا عقلاً أو بالارتكاز العقلائيّ، وبالتالي لا تصحّ حجّيّة هذه الاطمئنانات، والحجّيّة التخييريّة على خلاف القاعدة كما أنّه كذلك في الأمارات الأخرى، مثل ما إذا أخبر ثقة بأنّ المعلوم بالإجمال ليس في هذا الطرف وأخبر ثقة آخر بأنّه ليس في الطرف الثاني، فيقال بأنّهما يتعارضان ويتساقطان ولا يقال بالحجيّة التخييريّة، وفي ما نحن فيه أيضاً كذلك؛ لأنّ حجيّتهما جميعاً تستوجب الترخيص في المخالفة القطعيّة فلا يمكن أن تكون حجّة جميعاً فلا بدّ من تساقطهما، والحجّيّة التخييريّة على خلاف القاعدة كما في الأمارات الأخرى والأصول المؤمّنة.

وأستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه يحاول الجواب عنها بثلاث مستويات ودرجات.

أمّا في الدرجة الأدنى فيحاول فيها تصحيح الحجّيّة التخييريّة فيقول: يمكن أن نصحّحها في الشبهة غير المحصورة رغم عدم بناء العقلاء عليها في الشبهة المحصورة في الأطراف القليلة حتّى يقال إنّ سكوت الشارع يؤدّي إلى حجّيّة ذلك. ولكن يمكن أن تكون مبنيّة على البناء العقلائي في الشبهة غير المحصورة وبالتالي يكون سكوت الشارع دليلاً على رضاه.

والسبب الذي جعل العقلاء لا يقبلون الحجّيّة التخييريّة في الأطراف القليلة هو أنّ كاشفيّة الأمارة [الدالّة على عدم وجود الحكم الإلزاميّ] إذا كانت بطبعها (من دون ملاحظة العلم الإجماليّ) في الطرف الأوّل ثلاثة أرباع من رقم اليقين (أي ناقص عن رقم اليقين بخمسة وعشرين في المائة) وكذلك كان في الطرف الثاني ثلاثة أرباع من رقم اليقين، فمتى يحصل علم إجماليّ بأنّ المعلوم بالإجمال موجود إمّا في هذا أو في ذاك على خلاف هاتين الأمارتين، فهذا العلم الإجماليّ يؤدّي إلى تنزيل درجة الانكشاف – التي كانت بطبعها ثلاثة أرباع في الطرف الأوّل وثلاثة أرباع في الطرف الثاني – إلى خمسين في المائة من رقم اليقين. فإذا نزلت كاشفيّة هذه الأمارة لا يبنون العقلاء على حجّيّتها حتّى يستفاد من سكوت الشارع قبولها.

هذا هو السبب في أنّ العقلاء لا يبنون على الحجّيّة التخييريّة في الأطراف القليلة، ولكن هذا السبب لا يجري في الأطراف الكثيرة كآلاف طرف؛ لأنّنا ذكرنا سابقا: أنّ الترخيص في الأطراف الكثيرة لا ينافي ملاك المعلوم بالإجمال لا عقلاً ولا بالارتكاز العقلائيّ. أمّا عقلاً فلما قلنا من أنّه لا يوجب تناقضاً وإن كان يؤدّي إلى اضمحلال وعدم استفادة من الحكم المعلوم بالإجمال على أساس فكرة التزاحم الحفظيّ، فعلى أساسه عندما تختلط الملاكات الواقعيّة بعضها ببعض، يعبّر الشارع تعالى بالحكم الظاهريّ عن أهمّية قسم من هذه الملاكات والتضحية بقسم آخر؛ لأنّها أضعف اهتماماً للشارع فيهتمّ بحفظ الأهمّ عنده.

فإذا كانت الترخيصات قليلة فالعقلاء بارتكازهم العقلائيّ لا يقبلون أن تكون الترخيصات القليلة أهمّ عند المولى من الملاك الإلزاميّ القطعيّ بالعلم الإجماليّ. ولكن إذا كانت الملاكات الترخيصيّة كثيرة جدّاً فيقبلون أن يتقدّم اهتمام الشارع بالترخيصات، فلا يضّحي الشارع الملاكات الترخيصيّة في الآلاف في سبيل ملاك إلزاميّ واحد بل الأمر بالعكس.

وعليه نقول: لا بأس بأن تكون هذه الاطمئنانات في الأطراف بالآلاف حجّة كلّها وإن تؤدّي إلى رفع اليد عن حكم المعلوم بالإجمال، وبالتالي يمكن للعقلاء أن يبنون على الحجّيّة التخييريّة، فإنّ الحجّيّة التخييريّة تحافظ على الملاكات الترخيصيّة الكثيرة في مقابل ملاك إلزاميّ واحد.

هذا هو الدرجة الأدنى للجواب على هذه الإشكاليّة.

والحمد لله ربّ العالمين.