أصول الفقه – يوم الاثنين ٢٣ جمادى الآخرة ١٤٤٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.

قلنا: إنّ لأستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه مناقشات لما قاله السيّد الخوئيّ في جهات ثلاث:

الجهة الأولى كانت بشأن ما قاله رضوان الله تعالى عليه في المثال الثالث وهو الذي جعله مستثنى من القاعدة الثانية التي فيما إذا كان الأصلان الأوّليّان من سنخين ودليلهما غير مشترك، فلا يبتلى دليلهما بالإجمال فيسقطان معاً ويسقط معهما الأصل الطوليّ فيصير التعارض والتساقط ثلاثيّ الأطراف. فاستثنى منها ما إذا كان لكلٍّ من الأصلين الأوّليّين أصل طوليّ ولكن أحدهما مثبِت للتكليف والآخر مؤمّن، فقال: إنّ الأصل المثبت للتكليف يُحلّ العلم الإجماليّ، فبإمكاننا التمسّك بالأصل الطوليّ المؤمّن.

وقال أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه: هذا كلام لا يناسب مشرب العلّيّة ولا مشرب الاقتضاء. وشرحنا ذلك في اليوم الماضي.

والآن نبدأ بالجهة الثانية، ويتّجه كلام أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه نحو ما قاله السيّد الخوئيّ في الحالة الأولى، وهي ما إذا كان الأصلان الجاريان في طرفي العلم الإجماليّ من سنخ واحد ويبتلى دليلهما بالإجمال فيسقطان به لا بالتساقط، فيمكن التمسّك بالأصل الطوليّ لأحدهما.

وكان مثاله عبارةً عمّا إذا علم إجمالاً بنجاسة هذا الماء أو هذا الثوب، فالأصلان الأوّليّان من سنخ واحد وهي أصالة الطهارة، فيبتلى دليلهما بالإجمال بسبب القرينة العقليّة أو العقلائيّة المقتضية لعدم جريان الأصول المؤمّنة في أطراف العلم الإجماليّ، فهذه القرينة بمنزلة القرينة المتّصلة وتورث الإجمال، فلا تجري أصالة الطهارة لا في الثوب ولا في الإناء. فبالنتيجة يمكن التمسّك بالأصل الطوليّ وهي أصالة الحلّ الذي في طول أصالة الطهارة التي تجي في طرف الماء فقط. ونبّهنا سابقاً أنّ سبب طوليّته هو كون الشكّ في الحلّيّة مسبّبةً من الشكّ في النجاسة.

ويعلّق عليه أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه بأنّ نكتة جواز العمل بالأصل الطوليّ في أمثال هذا هو كون الأصلين من سنخ واحد والأصل الطوليّ بدليل مستقلّ غير دليلهما. فكونه طوليّاً لا دخل له بحسب مبنى السيّد؛ فبأنّ دليل الأصل الثالث غير دليلهما لا يبتلى بالإجمال.

فالأصل الثالث إذا وجد [بأيّ نحو]، لا بدّ للسيّد الخوئيّ من أن يقول بإمكان التمسّك به وإن كان في عرضهما. فلا وجه لتخصيص إمكان التمسّك به بكونه طوليّاً.

ومثّل أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه بمثالين، والمثال الأوّل وإن كان أوضح إلّا أنّه قد يطابق بعض مباني السيّد الخوئيّ فلا يكتفي به، ويمثّل بمثال أكثر تعقيداً [ولكن يتناسب مع جميع مباني السيّد الخوئي رضوان الله تعالى عليه].

المثال الأوّل: ما إذا كان في أحد طرفي العلم الإجماليّ أصالة الطهارة فقط، وفي طرف الثاني أصالة الطهارة مع استصحاب الطهارة. فأصالة الطهارة توجد في كلا الطرفين. وقلنا: إنّ الأصحاب اعتبروا الاستصحاب حاكماً على أصالة الطهارة، لكن على مبنى أستاذنا ومبنانا إنّه لا يكون حاكماً عليها إلّا إذا كان نتيجتهما متفاوتة فيكون طوليّاً مع أصالة الطهارة، أمّا إذا كانا متّفقة في النتيجة فلا طوليّة بينهما [ويجريان معاً في عرض واحد]، فالمثال يكون على هذا المبنى.

ولعلّ السيّد الخوئيّ رحمه الله يخالف هذا المبنى؛ ولذا لم يكتف أستاذنا الشهيد بهذا المثال فقط.

ففي هذا المثال دليل أصالة الطهارة يبتلى بالإجمال ويبقى استصحاب الطهارة. ولمّا كان الاستصحاب في منجى من الإجمال – لأجل استقلال دليله – لا يبتلى بالإجمال ولا بالتعارض، لأنّ دليل أصالة الطهارة ابتلي بالإجمال فلا يكون صالحاً للتعارض مع دليل الاستصحاب.

والمثال الثاني: ما إذا كان ثلاث أواني، أبيض وأسود وأخضر، وصار عندنا علمان إجماليّان: علم إجماليّ بنجاسة الإناء الأبيض أو الأسود، وعلم إجماليّ آخر بنجاسة الأسود أو الأخضر، ولا يكون الأوّلان موردان للاستصحاب كما لا يكون الأخضر مورداً لأصالة الطهارة بل يجري فيه الاستصحاب.

فالمفروض من السيّد الخوئيّ رحمه الله أن يقول: إنّ أصالة الطهارة تلغو بالإجمال؛ لأنّ دليلها مشترك فتسقط بالإجمال بسبب القرينة العقليّة أو العقلائيّة المعتبرة كالمتّصلة، واستصحاب الطهارة في الإناء الأخضر يكون في عرض أصالة الطهارة الجارية في الإناء الأوّل والثاني؛ ولا تقدّم للاستصحاب على أصالة الطهارة إلّا إذا كانا في موضع واحد.

وحيث يكون الاستصحاب في الأخضر فقط، وتكون أصالة الطهارة في الأوّلين فقط، لا يكون الاستصحاب في طول أصالة الطهارة الجارية في الإناء الأسود فيعتبر عرضيّاً.

فأصالتا الطهارة في الأوّلين تسقطان ويبقى الاستصحاب في الثالث، والمفروض من السيّد الخوئيّ أيضاً الأخذ بالأصل الثالث.

فترى أنّ التمسّك بالأصل الثالث لا يختصّ بما إذا كان طوليّاً بل يمكن التمسك بالأصل الثالث ولو كان عرضيّاً، في حين أنّ السيّد الخوئيّ رضوان الله تعالى عليه خصّص كلامه بطوليّة الأصل الثالث.

لكنّه لعلّه يقبل المثالين حتّى لا يرد عليه النقض، ولكن هناك مثال ثالث لا يقبل بالعمل بالأصل الثالث. ويأتي إن شاء الله في الدرس القادم.

والحمد لله ربّ العالمين.