أصول الفقه – يوم السبت ٢٨ جمادى الآخرة ١٤٤٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.

قلنا: إنّ أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه تعرّض لذكر ثلاث صور لكون الأصل المؤمّن في طرف واحد لا في كلا الطرفين حتّى تتساقط، ويتوقّع فيها سقوط منجّزيّة العلم الإجماليّ عن وجوب الموافقة القطعيّة.

وكانت الصورة الثالثة عبارة عمّا إذا كان الأصلان الأوّليّان الجاريان في طرفي العلم الإجماليّ يتساقطان وتصل النوبة إلى أصل مؤمّن طوليّ في أحد الطرفين دون الآخر.

ولكنّ السيّد الخوئيّ رضوان الله تعالى عليه فصّل بين ما إذا كان الأصلان المؤمّنان الأوّليان من سنخ واحد وبين ما إذا كانا من سنخين متفاوتين، وقال في الأوّل بسقوط الأصلين بإجمال دليلهما بعد القرينة العقليّة أو العقلائيّة كالمتّصلة، لا بالتساقط، وفي الثاني بتعارض الأصلين وتساقطهما ودخول الأصل الثالث في التعارض؛ لأنّ الطوليّة الرتبيّة لا تمنع عن ذلك.

ولكنّ أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه ناقشه في ثلاث جهات. الجهة الأولى كانت حول ما استثناه السيّد الخوئيّ رضوان الله تعالى عليه من الحالة الثانية في مثالٍ ثالث. والجهة الثانية كانت حول الحالة الأولى التي كان الأصلان الأوّليان فيها من سنخ واحد.

أمّا الجهة الثالثة فتكون في تحقيق الحال في فرض كون الأصلين الأوّليّين من سنخين متفاوتين (أي الحالة الثانية). فقال السيّد الخوئي رحمه الله بتعارض الأصلين (لأنّهما من سنخين مختلفين) ودخولِ الأصل المؤمّن الثالث أيضاً في التعارض والتساقط؛ لأنّه يرى أنّ الطوليّة الرتبيّة لا تمنع عن انخراط الأصل الثالث في التعارض.

في هذه الجهة الثالثة أستاذُنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه وافق السيّدَ الخوئيّ رضوان الله تعالى عليه في رأيه هذا وقال بأنّه هذا الأصل الثالث ينخرط بالتعارض والتساقط أيضاً، ولكن توجيهه لذلك مفصّل جدّاً. فذكر خمسة وجوه لعدم انخراط هذا الأصل الثالث في التعارض، وقال بأنّ هذه الوجوه كلّها مخدوشة فلا يبقى وجه لذلك، وبالتالي ينخرط الأصل الطوليّ في التعارض. ولا داعي في تطويل بحثنا بذكر هذه الوجوه وإشكالاتها.

وبعد ذلك توجّه أستاذنا الشهيد إلى ما ذكره الميرزا النائينيّ رضوان الله تعالى عليه من أنّ فكرة كون الأصل المؤمّن في أحد الطرفين دون الطرف الآخر وإن جُعلت ثمرةً للفرق بين القول بالعلّيّة وبين القول بالاقتضاء إلّا أنّه إنّما صحيح نظريّاً ولكنّه لا يوجد مورد يكون الأصل المؤمّن في طرف واحد فقط.

ثمّ توجّه أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه إلى توجيه هذا الكلام – وإن كان يقول بأنّه عبارة الميرزا النائينيّ رضوان الله تعالى عليه غير كافية لفهم هذا التوجيه، ولكنّه محتمل في مراده – وذكر أنّه لو أريد إجراء الأصل المؤمّن في طرف واحد فعلى أيّ أساس لا يجري في الطرف الآخر؟ فإنّ الشكّ في الطرف الآخر إن كان شكّاً في المكلّف به (يعني شكّاً في الامتثال) – الذي يجري فيه قاعدة «الاشتغال اليقينيّ يستدعي الفراغ اليقينيّ» – لا شكّاً في التكليف الذي يجري فيه الأصل المؤمّن، فالأصل المثبت للتكليف يوجب انحلال العلم الإجماليّ سواء قلنا بالعلّيّة أو الاقتضاء. فلا يبقى فرق بين القول بالعلّيّة والاقتضاء؛ لأنّه لا يوجد علم إجماليّ بعد.

وأمّا إذا كان الشكّ في الطرف الآخر شكّاً في التكليف الذي يجري فيه الأصل المؤمّن، فيتعارض ويتساقط مع الأصل الجاري في الطرف الأوّل. فلأصلان لا يجريان سواء قلنا بالعلّيّة أو الاقتضاء، فبناءً على العلّيّة القائل بها المحققّ العراقيّ رضوان الله تعالى عليه؛ فلعدم جريان الأصل المؤمّن في طرفٍ دون الآخر، وبناءً على الاقتضاء فلا مانع من جريانهما؛ فيتساقطان. فلا يبقى فرق بين القولين العلّيّة والاقتضاء.

هذا هو التوجيه الذي ذكره أستاذنا الشهيد للدفاع عن رأي الميرزا النائيني رضوان الله تعالى عليهما.

ثمّ يقول: إنّ هذا التوجيه غير صحيح مبنىً وبناءً.

أمّا مبنىً، فلأنّنا لا نقول بأنّ الأصل المثبت للتكليف يوجب سقوط منجّزيّة العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة أو يوجب انحلال العلم الإجماليّ. فالمبنى المشهور بين الأصحاب – ومنهم الميرزا النائينيّ – من انحلال العلم الإجماليّ بالأصل المثبت للتكليف – الذي يعتمد على «أنّ الاشتغال اليقينيّ يستدعي الفراغ اليقينيّ» – لا يقبله أستاذنا الشهيد في البحث مع الأخباريّين.

أمّا من حيث البناء فتظهر الثمرة في موردين ولا تظهر في موردين آخرين. ويأتي البحث عنه إن شاء الله والحمد لله ربّ العالمين.