أصول الفقه – يوم الأربعاء ٢۳ رجب ١٤٤٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.

كان الكلام حول ما قد يقال من لابدّيّة تعارض وتساقط الاطمئنانات التي تحصل في أطراف الشبهة غير المحصورة عند وجود علم إجماليّ بثبوت التكليف في واحد منها، ومن أنّ حالها كحال الأمارات المؤمنّة والأصول المؤمّنة في أطراف العلم الإجماليّ؛ فإنّها اطمئنانات بعدم ثبوت التكليف في هذه الأطراف الكثيرة؛ فإذا كانت هذه الاطمئنانات حجّة أدّت حجّيّتها إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة ولا يجوز الترخيص في المخالفة القطعيّة، إذن فهي تتعارض وتتساقط.

و[ادّعي بأنّه] لا يمكن البناء على الحجّيّة التخييريّة لبعضها؛ لأنّ الحجّيّة التخييريّة على خلاف القاعدة كما في العلم الإجماليّ في الشبهة المحصورة؛ فإنّه لا يقول أحد بالحجّيّة التخييريّة للأمارات التي قد تحصل بنفي التكليف في أطراف الشبهة المحصورة.

وقد تصدّى أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه للردّ على هذا الإشكال على ثلاث مستويات.

ففي المستوى الأوّل يوضّح أنّ الحجّيّة التخييريّة – وإن كانت ليست على طبق القاعدة في الشبهة المحصورة – لكنّها في الشبهة غير المحصورة تكون على طبق القاعدة، فيمكن البناء على الحجّيّة التخييريّة.

وفي المستوى الثاني يوضّح أنّ هذه الاطمئنانات – حتّى وإن كانت كلّها حجّة – ليست متعارضة في الحجّيّة حتّى تتساقط.

وفي المستوى الثالث يوضّح أنّه لا مانع من حجّيّة جميع هذه الاطمئنانات حتّى إذا آمنّا بعدم جواز الترخيص في المخالفة القطعيّة كما عليه المشهور؛ لأنّ هذه الاطمئنانات لو صارت حجّة لا تؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة.

الردّ على الإشكال على المستوى الأوّل

أمّا على المستوى الأوّل فيقول بأنّ الحجّيّة التخييريّة في العلم الإجماليّ القليل الأطراف على خلاف القاعدة، ولكنّها في العلم الإجماليّ في الشبهة غير المحصورة فليست على خلاف القاعدة.

وذلك لأنّه عندما تأتي الأمارات الظنّيّة في الأطراف القليلة فقد تكون كاشفيّة هذه الأمارات الظنّيّة بطبعها (لو لا العلم الإجماليّ) ثلاثة أرباع من رقم اليقين (مثلاً)، فنظنّ صدقها خمسة وسبعين في المائة ونحتمل بطلانها خمسة وعشرين في المائة، والطرف الآخر أيضاً هكذا والطرف الثالث أيضاً كذلك.

ولكن عند ما يجيء العلم الإجماليّ فإنّه يقلّل أكثر من كاشفيّة هذه الأمارات. فالأمارة التي كانت بطبعها تورث الظنّ بدرجة خمسة وسبعين في المائة فبعد مجيء العلم الإجماليّ بوجود تكليف في أحد هذه الأطراف ينزل درجة كاشفيّة هذه الأمارات وتصير كاشفيّتها خمسين في المائة مثلاً.

ولهذا لا يبنون العقلاء على هذه الأمارات حتّى على نحو التخيير؛ لأنّ قيمتها قلّت، وإنّما كانت حجّة على أساس أنّها تورث الظنّ بخمسة وسبعين في المائة والآن قلّت كاشفيّتها، فتسقط هذه الأمارات عن الحجّيّة إذا كانت الأطراف قليلة.

أمّا إذا كانت الأطراف كثيرة على مستوى الشبهة غير المحصورة فيقبلون أنّ المولى يبني على تقديم الملاكات الترخيصيّة الكثيرة الواقعيّة – المختلطة على نحو التزاحم الحفظيّ – على ملاك إلزاميّ واحد. فيضحّي بالملاك الإلزاميّ الواحد في مقابل حفظ الملاكات الترخيصيّة الكثيرة ولو على نحو التخيير.

فالحجّية التخييريّة ليست على خلاف القاعدة في الشبهة غير المحصورة وإن كانت على خلاف القاعدة في الشبهة المحصورة.

الردّ على الإشكال على المستوى الثاني

أمّا في المستوى الثاني فنقول بأنّ هذه الاطمئنانات ليست متعارضة في الحجّيّة أصلاً؛ وذلك لما قلنا ملخّصاً في الدرس الماضي والآن نوضّح على نحو التفصيل الموجود في تقرير درس أستاذنا الشهيد رضوان الله عليه.

فإنّ التعارض في حجّيّة هذه الاطمئنانات إنّما يكون بأحد الملاكين، وكلاهما غير موجودة هنا.

الملاك الأوّل: التعارض بسبب التكاذب، بمعنى أنّنا بما نعلم بوجود التكليف في أحد هذه الأطراف فحجّيّة الأمارة الدالّة على عدم الوجوب في كلّ طرف تتكاذب بالدلالة الالتزاميّة مع حجّيّة الأمارة الأخرى في الأطراف الأخرى؛ لأنّه ما دام نعلم بوجود التكليف فالأمارات الدالّة على انتفاء التكليف تكون متكاذبة بالدلالة الالتزاميّة.

والملاك الثاني: على أساس كون هذه الأمارات الدالّة على نفي التكليف توجب الترخيص في المخالفة القطعيّة والترخيص في المخالفة القطعيّة غير جائز، إمّا عقلاً أو عقلائيّاً، فحجّيّة جميع هذه الأمارات تنافي منجّزيّة العلم الإجماليّ للمخالفة القطعيّة، وعليه فلا يمكن أن تكون هذه الأمارات كلّها حجّة.

وكلا هاتين النكتتين غير جارية في الشبهة غير المحصورة.

أمّا الأولى – أي التكاذب – فلأنّ هذه الاطمئنانات إنّما تتكاذب فيما بينها إذا كانت تؤدّي إلى الاطمئنان بالجميع، وقد سبق وأن بحثنا عن أنّ [مجموع] الاطمئنانات في كلّ طرف طرف هل تؤدّي إلى الاطمئنان بكلّ متعلّقات هذه الاطمئنانات جميعاً؟ وكان المحقّق العراقيّ يقول بأنّها تؤدي إلى ذلك وأجاب عنها بأنّها اطمئنان واحد على نحو البدل، وقلنا بأنّ جوابه غير صحيح؛ بل الصحيح في الجواب هو أنّ هذه الاطمئنانات ليست مطلقةً شاملةً لفرض صدق الاطمئنانات الأخرى، بل إنّها تكون مقيّدة بعدم فرض صدق الاطمئنانات الأخرى. وعليه فلا تكاذب بين هذه الاطمئنانات حتّى يوجب التعارض والتساقط.

وأمّا السبب الثاني – أي تأدية حجّيّة الاطمئنانات للترخيص في المخالفة القطعيّة – فغير تامّ أيضاً؛ لأنّ هذه الاطمئنانات لا تعارض بعضها مع بعض الآخر – كما هو واضح – وإنّما قد يتخيّل بأنّ الاطمئنان في كلّ طرف تعارض «مجموع الاطمئنانات التي في الأطراف الأخرى»؛ بدليل أنّها توجب المخالفة القطعيّة. وهذا ما وضّحنا بطلانه عندما قلنا بأنّ هذه الاطمئنانات ليست من الأمارات التي بعضها مطلقة تجاه صدق بعض الآخر، وإنّما هذه الاطمئنانات مقيّدة بالشكّ في صدق الأمارات الأخرى – ولو بالشكّ الضئيل –، أمّا على فرض صدق الأمارات الأخرى نرفع اليد عن كلّ طرف على فرض صدق باقي الأمارات الأخرى.

فهذه الاطمئنانات ليست من نوع الأمارات التي توجب حجّيّتها الترخيص في المخالفة القطعيّة.

إذن فلا يبقى نكتة لحصول التعارض بين هذه الاطمئنانات.

والحمد لله ربّ العالمين.