أصول الفقه – يوم الأربعاء ٣٠ ربيع الثاني ١٤٤٥
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.
قلنا إنّ هناك وجوهاً للقول بعدم وجوب الاجتناب من الثوب الملاقي لأحد طرفي العلم الإجماليّ وكان الوجه الأوّل من السيّد الخوئي رضوان الله تعالى عليه الذي استفاد من التقدّم والتأخّر الزمانيّين، والوجه الثاني للشيخ الأعظم الأنصاريّ رضوان الله تعالى عليه المستفيد من التقدّم والتأخّر الرتبيّين، والوجه الثالث للمحقّق العراقيّ رضوان الله تعالى عليه الذي نبدأه الآن والوجه الرابع للمحقّق النائينيّ.
الوجه الثالث لجريان الأصل المؤمّن في الملاقي
المحقّق العراقيّ رضوان الله تعالى عليه كالشيخ الأنصاريّ يستفيد من التقدّم والتأخّر الرتبيّين لتوجيه جريان الأصل المؤمّن في الملاقي، ولكنّه يقول إنّ هذين العلمين الإجماليّين [أي العلم الإجمالي بثبوت النجاسة بين ألف وباء، والعلم الإجمالي بثبوت النجاسة بين باء وملاقي ألف]، تارة يكون هذا متقدّماً رتبة وذاك متأخّراً وتارة بالعكس وتارة هما سواء في الرتبة.
الحالة الأولى: تقدّم العلم الإجماليّ الأوّل على الثاني
وهذا لأنّ العلم الإجماليّ الأوّل بنجاسة إمّا ألف أو باء يكون تارة سبباً لحصول العلم الإجماليّ بنجاسة إمّا الملاقي لألف وإمّا الطرف الآخر وهو باء، فإذا كان العلم الإجماليّ بنجاسة إمّا ألف أو باء سبباً لما ذكر فهذا تقدّم رتبيّ للعلم الإجماليّ بنجاسة إمّا ألف أو باء على العلم الإجماليّ بنجاسة إمّا ملاقي ألف وإمّا باء.
الحالة الثانية: تقدّم العلم الإجمالي الثاني على الأوّل
وتارة يكون بعكس هذا، وهو فيما إذا علمنا إجمالاً – بقطع النظر عن العلم الإجماليّ الأوّل بين ألف وباء – بأنّه إمّا ملاقي ألف نجس أو باء، وعرفنا بعد ذلك أنّه لا سبب في نجاسة هذا الملاقي إلّا ملاقاته لألف. [توضيح ذلك أنّه] إذا لم يكن لدينا الاطّلاع على أنّه لا سبب لنجاسة الثوب إلّا ملاقاته لألف فلا يحصل العلم الإجماليّ بنجاسة إمّا ألف أو باء، ولكن بمجرّد اطّلاعنا على أنّه لا سبب لنجاسة الثوب إلّا ملاقاته لألف، يؤدّي هذا إلى انعقاد العلم الإجماليّ عندنا بأنّه إمّا ألف نجس أو باء. فيكون العلم الإجماليّ بنجاسة إمّا الثوب وإمّا باء سبباً لانعقاد العلم الإجماليّ بأنّه إمّا ألف نجس أو باء. ففي هذه الحالة أصبح العلم الإجماليّ بنجاسة إمّا ملاقي ألف أو باء مقدّماً وسابقاً رتبة على العلم الإجماليّ بنجاسة إمّا ألف أو باء، فصار التقدّم والتأخّر الرتبيّين بالعكس.
الحالة الثالثة: التساوي في الرتبة بين العلمين الإجماليّين
وتارة ثالثة بأن يكون العلمان الإجماليّان يتساويان في الرتبة، وذلك فيما إذا علمنا بمخبر صادق مورث لليقين دفعة واحدة بأنّه إمّا ألف مع ملاقيه الثوب نجس وإمّا باء، وهذا في الحقيقة يعني أنّه يحدث علمان إجماليّان في رتبة واحدة، وهذا ينحلّ إلى علمين في الحقيقة، ولكن دفعة واحدة.
فيقول [المحقّق العراقي رحمه الله] بأنّه لا يحصل الانحلال الحكميّ في هذه الحالة الثالثة؛ لأنّهما في رتبة واحدة، فكلاهما يتنجّزان فلا بدّ من الاجتناب من الثلاثة حتّى الثوب. ولكن في الحالة الأولى والثانية، المتقدّم رتبةً يصبح حاكماً على المتأخّر ويوجب انحلاله الحكميّ.
بيان وجه الانحلال الحكميّ
ولحصول الانحلال الحكميّ للعلم الإجماليّ يوجد مسلكان كما مرّ في الدروس الماضية، المسلك الأوّل – ونقدّم هنا مسلك المحقّق العراقيّ بخلاف السابق حيث كنا نقدّم مسلك النائينيّ – هو المسلك المعتمد على فكرة أنّ العلم الإجماليّ لا بدّ وأن يكون معلومه قابلاً للتنجيز على كلا التقديرين، سواء كان معلومه الواقعيّ في هذا الطرف أو في ذاك الطرف، أمّا إذا أصبح معلومه قابلاً للتنجيز على بعض التقادير فقط فهذا نسمّيه بالانحلال الحكميّ.
فالانحلال الحكميّ يكون حسب ذوق المحقّق العراقيّ هو أن يكون العلم الإجماليّ غير صالح لتنجيز معلومه على كلّ تقدير بل صالح له على بعض التقادير ولا يكون صالحاً له على بعض التقادير الأخرى.
والمسلك الثاني الذي يناسب مباني المحقّق النائينيّ رضوان الله تعالى عليه، هو أنّه إذا جرى أصل مؤمّن شرعيّ في أحد طرفي العلم الإجماليّ ولم يجر في الطرف الآخر حتّى يعارضه، فهذا العلم الإجماليّ ينحلّ بالانحلال الحكميّ ونسمّيه به، فلا يجب تحصيل اليقين بالامتثال بالاحتياط.
ويذكر السيّد الشهيد فارقين بين هذين المسلكين، الفارق الأوّل أنّ مسلك المحقّق العراقيّ يناسب القول بالعلّيّة بينما أنّ مسلك المحقّق النائينيّ إنّما يجري على القول بالاقتضاء لا بالعلّيّة. والفارق الثاني أنّه بناء على أحدهما بعد الانحلال يحصل البراءة العقليّة (قبح العقاب بلا بيان) كالبراءة الشرعيّة، وعلى المبنى الآخر لا تجري البراءة العقليّة وإنّما تجري الشرعيّة.
والمهمّ مجيء تساؤل أمام الوجه المذكور من المحقّق العراقيّ والإيجاب على هذا التساؤل.
وهو أنّه لمَ طبّق الانحلال الحكميّ على التقدّم والتأخّر الرتبيّين ولم يطبّق على التقدّم والتأخّر الزمانيّين؟ وسبق ما قلنا من أنّ السيّد الخوئيّ انتهى إلى سقوط العلم الإجماليّ الثاني زماناً بالتقدّم والتأخّر الزمانيّين، والشيخ الأنصاري بالتقدّم والتأخّر الرتبيّين، فلماذا صبّ المحقّق العراقيّ فكرته هذه على التقدّم والتأخّر الرتبيّين فحسب دون الزمانيّين؟
فيقول أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه: لم نجد كلاماً واضحاً في كلماته في الجواب على هذا السؤال، ولكن من خلال بعض كلماته قد نصل إلى الإجابة عن هذا، وهو أنّه إذا كان أحدهما متقدّماً زمانا فحسب لا رتبة فذاك المتقدّم زماناً بوجوده البقائيّ يصل إلى زمان العلم الإجماليّ الثاني، لا بوجوده السابق زماناً.
وهذه الفكرة وضّحناها سابقا من أنّ العلم حتّى في العلم التفصيلي – فكيف بالعلم الإجماليّ – إذا أردنا الاستفادة منه في زمان متأخّر فهذا العلم بوجوده البقائيّ يؤثّر في المستقبل لا بوجوده الحدوثيّ، فيصير معاصراً مع ذاك الزمان المتأخّر، فعلى أيّ أساس يتقدّم عليه أو يحكم عليه؟
وهذا الكلام لا يجري في المتقدّم والمتأخّر رتبة؛ لأنّ التقدّم الرتبيّ يستفاد منه لإسقاط المتأخّر الرتبة لا بوجوده البقائيّ؛ لأنّ التقدّم الرتبيّ لا يقول إنّ هذا التقدّم الرتبيّ بوجوده البقائيّ يؤثّر، بل بأصل تقدّمه الرتبيّ.
فهو استفاد من التقدّم والتأخّر الرتبيّين لا من التقدّم والتأخّر الزمانيّين.
ولكنّ أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه يحاول الردّ على هذا البيان ويأتي بحثه في الدرس القادم إن شاء الله.
والحمد لله ربّ العالمين.