أصول الفقه – يوم السبت ٥ رجب ١٤٤٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.

قلنا إنّ أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه رجع مرّة أخرى إلى ما نقله الميرزا النائيني رضوان الله تعالى عليه حول ثمرة الفرق بين القول بالاقتضاء وبين القول بالعلّيّة حيث اشتهر أنّ الثمرة بينهما تظهر فيما إذا كان الأصل المؤمّن في أحد الطرفين دون الآخر.

فبناء على الاقتضاء يكفي في إسقاط العلم الإجماليّ للموافقة القطعيّة هذا الأصل المؤمّن الواحد الذي هو بدون معارض.

أمّا بناءً على العلّيّة فبما أنّ العلم الإجماليّ علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة فالأصل المؤمّن لا يجري.

ولكنّ الميرزا النائيني قال في هذه الثمرة: إنّه صحيح نظريّاً ولكنّه لا يوجد مورد لجريان الأصل المؤمّن في طرف واحد دون الآخر حتّى تظهر هذه الثمرة.

ويبدو أنّ الدليل المناسب للميرزا النائيني لعدم وجود مورد كذلك ما ذكره أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه دفاعاً عنه، فلعلّ هذا ما يقصده من الدليل.

وبيان الدليل: هو أنّه إن أردنا جريان الأصل في أحد الطرفين فما هو حكم الطرف الآخر؟

فإن كان الشكّ في ذاك الطرف الآخر شكّاً في المكلّف به – أي الشكّ في الامتثال الذي يجري فيه قاعدة «الاشتغال اليقينيّ يستدعي الفراغ اليقينيّ» وهذا أصل مثبت للتكليف لا ناف له – فالأصل المثبت للتكليف يُحلّ العلم الإجماليّ على مبناهم، ويمكن بعده إجراء أصل مؤمّن واحد؛ لعدم وجود علم إجماليّ لا بالاقتضاء ولا بالعلّيّة فلا تظهر ثمرة الفرق بين القولين.

وأمّا إذا كان شكّاً في التكليف – فيكون نافياً للتكليف؛ لأنّه شكّ في التكليف لا المكلّف به – فالأصل الجاري فيه أصل مؤمّن وهو يتساقط بالتعارض عند القائلين بالاقتضاء ويتساقط بالعلّيّة عند القول بها فالنتيجة أيضاً واحدة.

فإذا بنينا على الاقتضاء يتعارضان ويتساقطان، وإذا بنينا على العلّيّة هي تكفي للمنع عن إجراء هذا الأصل وذاك الأصل معاً لأنّه علّة تامّة لتنجيز الموافقة القطعيّة. فلا يبقى مورد لجريان الأصل المؤمّن في طرف واحد حتّى تظهر الثمرة بين القولين.

لكنّ أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه يقول: هذا باطل مبنىً وبناءً.

أمّا مبنىً فلأنّا نخالف الرأي القائل – وعليه مدرسة المحقّق النائيني ولعلّه المشهور – بأنّ الأصل المثبت للتكليف يوجب انحلال العلم الإجماليّ. فنحن نقول ببقاء العلم الإجماليّ، فإذا كان الأصل المؤمّن في طرف واحد فقط، لا يحصل تعارض.

وأمّا بناءً فنقول: يوجد موردان لظهور هذه الثمرة، وكذا موردان لعدم ظهورها. نردّ على الميرزا النائيني بالموردين الظاهر فيهما الثمرة.

المورد الأوّل: ما لو كان دليل الأصل المؤمّن في أحد الطرفين غير ناظر إلى التكليف الحاصل بالعلم الإجماليّ.

توضيح ذلك:

قد سبق القول منّا في الأبحاث الماضية بأنّ بعض الأصول المؤمّنة الجاري في طرف من أطراف العلم الإجماليّ لا يجري بوصفه طرفاً للعلم الإجماليّ بل بوصف كونه يحتمل التكليف الإلزامي في حدّ ذاته. وذكر أستاذنا الشهيد رحمه الله أنّ أصالة البراءة من هذا القبيل؛ لأنّ دليلها – الذي هو «رفع عن أمتي ما لا يعلمون» – دالّ على رفع كلّ تكليف مجهول وغير ثابت فهو يرفع التكليف الاحتماليّ، أمّا التكليف الحاصل من منجّزيّة العلم الإجماليّ لا يرفعه دليل أصالة البراءة. وإنّما يرفع التكليف المحتمل بطبعه، لا بوصفه معلوماً بالإجمال. ولعلّ أصالة الطهارة أيضاً هكذا عند أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه.

أمّا البعض الآخر من الأصول المؤمّنة من قبيل الاستصحاب أو أصالة الحلّ، تتمايز عن حديث الرفع بأنّها لا فرق فيها بين احتمال الحكم الإلزاميّ بطبعه وبين التكليف الحاصل بالعلم الإجماليّ، خلافاً لحديث الرفع ببيان ما وضّحناه؛ لأنّ دليل أصالة الحلّ – مثلاً – الذي يقول بحلّيّة ما كان فيه حلال وحرام، يشمل حتّى مورد العلم الإجماليّ.

فنقول: إذا كان الأصل المؤمّن في أحد الطرفين ممّا يجري لدفع احتمال الحكم الإلزامي بطبعه الأوّليّ كأصالة البرائة، فهو غير صالح للتعارض مع الأصول المؤمّنة الجارية في الطرف الآخر التي هي كأصالة الحلّ أو الاستصحاب.

فلا يحصل التعارض بين حديث الرفع والاستصحاب أو أصالة الحلّ؛ لأنّ الأصل في الطرف الأوّل أصلٌ غير ناظر للإلزام المحتمل الناشئ عن العلم الإجماليّ. فالطرف الأوّل يصير كاللغو والثاني يجري فيه أحدهما بلا معارض.

ففي هذا المورد تظهر ثمرة الفرق بين الاقتضاء والعلّية؛ لأنّه بناءً على الاقتضاء يجري الأصل المؤمّن (الاستصحاب أو أصالة الحلّ) ويُسقط منجّزيّة العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة، وبناءً على العلّية فمنجّزيّة العلم الإجماليّ تمنع جريان الأصل المؤمّن؛ لأنّه علّة تامّة لعدم التأمين.

أمّا المورد الثاني: فهو ما إذا كان الأصل النافي للتكليف في كلا الطرفين من سنخ واحد وكان أصل مؤمّن آخر في أحد الأطراف فقط.

ففي هذه الصورة – كما أشار إليه السيّد الخوئيّ رضوان الله تعالى عليه – فيبطلان الأصلان المتناسخان بإجمال دليلهما، لا بالتساقط، كما سبق توضيحه بأنّهما ما داما من سنخ واحد فدليلهما مشترك، وعندنا قرينة عقليّة أو عقلائيّة كالمتّصلة تدلّ على عدم جريان هذا الدليل المشترك إمّا في هذا الطرف أو في ذاك الطرف، فيصير مجملاً.

وبالنتيجة يجري الأصل الآخر غير متناسخ لهما بعد سقوطهما ولا يبتلى بالإجمال ولا بالتعارض. فبناءً على القول بالاقتضاء يجري بلا معارض، وبناءً على العلّيّة فلا يمكن جريانه؛ لأنّ العلم الإجماليّ علّة تامّة لعدم التأمين عن كلّ من الطرفين.

والحمد لله ربّ العالمين.