أصول الفقه – يوم الاثنين ٩ جمادى الآخرة ١٤٤٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.

قلنا إنّ الصورة الثانية من الصور التي أشار إليها أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه لجريان الأصل المؤمّن في أحد الطرفين بدون معارض، هي ما إذا كان الأصل المؤمّن جارياً بطبعه في كلا الطرفين ولكن في أحد الطرفين ابتلي بأصل حاكم عليه، فيجري الأصل المؤمّن في الطرف الذي لم يبتل بالأصل الحاكم عليه بدون معارض.

في هذه الصورة الثانية قال أستاذنا الشهيد بأنّه يوجد شبهة لا بدّ من التغلّب عليها، والشبهة تقول بأنّه إذا كان الأصل المؤمّن صالحاً للجريان بطبعه في كلّ من الطرفين فدليل هذا الأصل المؤمّن الجاري في كلا الطرفين سيصبح مجملاً بسبب القرينة العقليّة أو العقلائيّة القائلة بأنّه لا يمكن التأمين عن كلا طرفي العلم الإجمالي. هذه القرينة بمنزلة القرينة المتّصلة، والقرينة المتّصلة توجب الإجمال في الدليل، فيصبح دليل الأصل المؤمّن مجملاً ولا يمكنه أن يشمل كلا طرفي العلم الإجماليّ. فلا نعلم أنّه هل لا يجري في هذا الطرف أو لا يجري في ذاك الطرف؟ وهذا الإجمال لا يمكن رفعه بذلك الأصل الحاكم؛ لأنّ الأصل الحاكم يحكم على ذلك الأصل المؤمّن الذي في مورده، وأمّا إذا كان دليله مبتلى بالإجمال لا يرفع هذا الأصل الحاكم الإجمال، فيبقى دليل هذين الأصلين المؤمّنين مجملاً، فلا يصحّ القول بأنّ الأصل المؤمّن يجري في أحد الطرفين ولا يجري في الطرف الآخر، بل لا يجري في كلا الطرفين بسبب الإجمال. هذه الشبهة التي لا بدّ من حملها.

هذه الشبهة قال عنها أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه إنّها إن تمّت في نفسها فلا تتمّ في أربعة فروض، يذكر هذه الفروض الأربعة ثمّ يرد الإشكال على أصل هذه الشبهة.

نحن إلى حدّ الآن ذكرنا الفرض الأوّل والثاني والثالث، يبقى الفرض الرابع من الفروض التي لا تجري فيها هذه الشبهة.

الفرض الرابع هو ما إذا كان الأصل المثبت للتكليف الجاري في أحد الطرفين الحاكم عليه رافعاً لموضوع دليل الأصل المؤمّن في مورده، مثل الورود.

الفرق بين الورود والحكومة أنّه في الورود، الدليل الوارد يرفع موضوع الدليل المورود حقيقةً ووجداناً، وأمّا في الحكومة فالدليل يرفع موضوع الدليل المحكوم اعتباراً وتنزيلاً لا حقيقةً.

ولكنّ المشهور أو بعض المشهور في مدرسة المحقّق النائينيّ رحمه الله ذهبوا إلى أنّ الحكومة كالورود يرفع موضوع الدليل المحكوم حقيقةً وإنّما اللفظ يختلف.

ففيما نحن فيه نقول بأنّه إذا كان هذا الدليل الذي يعتبرونه دليلاً حاكما على الأصل المؤمّن في أحد الطرفين إذا رفع موضوع هذا الأصل المؤمّن في مورده فلا يبتلى بالإجمال.

مثاله ما إذا كان الأصل المؤمّن في كلا الطرفين أصالة الحلّ مثلاً، ولكن في أحد الطرفين ابتلي باستصحاب بقاء الحكم الإلزاميّ (الحرمة مثلاً). فقالو إنّ هذا الاستصحاب حاكم على أصالة الحلّ في ذلك الطرف الذي جرى فيه استصحاب الحرمة. هذا الاستصحاب الحاكم إذا اعتبرنا حاله حال الورود ورفع موضوع هذا الأصل المؤمّن حقيقةً – كما هو رأي مدرسة النائينيّ أو قسم من مدرسة النائينيّ رحمه الله – يسقط به الأصل المؤمّن لانتفاء موضوعه. وبالتالي دليل هذا الأصل المؤمّن لا يصبح مجملاً بل يرتفع موضوعه في هذا الطرف ويبقى موضوعه ثابتاً في الطرف الآخر الذي لم يجر فيه استصحاب الحرمة. فلا يوجد موجبٌ للإجمال. القرينة العقليّة أو العقلائيّة التي ذكرناهما – وهو حكم العقل أو الارتكاز العقلائيّ بأنّه لا يمكن التأمين عن كلا طرفي العلم الإجمالي لأنّه يوجب الترخيص في المخالفة القطعيّة – إنّما تجري فيما إذا أراد التأمين أن يشمل الطرفين معاً. أمّا هنا فالتأمين في أحد الطرفين انتفى بانتفاء موضوعه بدليل وارد عليه، وعليه فتلك القرينة العقليّة أو العقلائيّة لا تنفي الأصل المؤمّن في طرف واحد بعد. إنّما القرينة توجد فيما إذا كان الأصل المؤمّن شاملاً لكلا الطرفين وهنا غير شامل لكلا الطرفين؛ لأنّه في أحد الطرفين انتفى موضوعه، فيجري الأصل المؤمّن في الطرف الآخر ولا يزول، لا بسبب الإجمال ولا بسبب التعارض.

فهنا أيضا لا تأتي الشبهة القائلة بأنّ دليل الأصل المؤمّن يبتلى بالإجمال وهذا الأصل الحاكم لا يستطيع رفع الإجمال. هذه هي الفرضيّة الرابعة التي ذكرها أستاذنا الشهيد للفروض التي لا تجري فيها هذه الشبهة.

إذن فهذه الشبهة إن جرت فإنّما تجري في غير هذه الفروض الأربعة.

فهرس الفروض الأربعة:

الفرض الأوّل: فيما إذا كان المحذور العقليّ أو العقلائيّ بمنزلة القرينة المنفصلة.

الفرض الثاني: ما إذا كان الأصل الحاكم مدلولاً لنفس دليل الأصل المحكوم.

الفرض الثالث: ما إذا كان الأصل النافي للتكليف في أحد الطرفين غير الأصل النافي في الطرف الآخر.

والفرض الرابع الذي الآن درسناه: ما إذا كان الأصل المثبت للتكليف رافعاً لموضوع الأصل المؤمّن حقيقةً كما في الورود.

في هذه الفروض الأربعة، السيّد الشهيد الصدر رحمه الله يقول بأنّه لا تجري شبهة ابتلاء دليل الأصل المؤمّن بالإجمال.

وبعد هذا يذكر أستاذنا الشهيد رحمه الله الردّ على أصل هذه الشبهة، فيقول: الجواب على أصل هذه الشبهة هو أنّ الإجمال قد يجري في غير هذه الفروض الأربعة:

مثلاً إذا كان هناك علم إجماليّ بنجاسة أحد الإناءين، أصالة الطهارة تريد أن تجري في كليهما وابتليت بأحد الطرفين باستصحاب النجاسة، والاستصحاب لو قلنا بأنّه لا يرفع موضوع أصالة الطهارة رفعاً حقيقيّاً كالورود.

فإذن هذا لا يدخل في الفرض الأوّل بأن يكون القرينة بمنزلة القرينة المنفصلة، لا، نفترض القرينة العقليّة أو العقلائيّة متّصلةً كما هو الصحيح.

ولا يدخل في الفرض الثاني، يعني أنّه ليست هذه الأصول الثلاثة كلّها من دليل واحد، هذا الأصل الحاكم دليله الاستصحاب وذينك الأصلين أصالة الطهارة، دليله «كلّ شيء لك طاهر حتّى تعلم أنّه قذر»، فليس من الفرض الثاني.

وليس من الفرض الثالث؛ لأنّ الفرض الثالث كان فيما إذا كان الأصل النافي للتكليف في أحد الطرفين غير الأصل النافي في الطرف الآخر، لا، بل في هذا المثال الأصل النافي في الطرفين كلاهما أصالة الطهارة.

ولا نفترض رفع الموضوع حقيقةً؛ لأنّنا نبني على أنّ الحكومة ليست حالها حال الورود فلا يرفع الأصل الحاكم موضوع دليل المحكوم رفعاً حقيقيّاً. فليس هذا المثال داخلاً في شيء من الفروض الأربعة.

لكن يقول أستاذنا الشهيد: إنّه فليبتل بالإجمال. دليل أصالة الطهارة أو أصالة الحلّ الجارية في كلا الطرفين لو ابتلى بالإجمال – بسبب القرينة العقليّة أو العقلائيّة التي نعتبرها كالمتّصلة، والقرينة المتّصلة توجب الإجمال – فليبتل بالإجمال، ولكن هذا الإجمال بأيّ مقدار؟ يكون الدليل مجملاً من حيث شموله لهذا الطرف بالذات ومن حيث شموله لذاك الطرف بالذات، ولكن ليس مجملاً بلحاظ أحد الفردين. العنوان «أحدهما» أو «أحد هذين الطرفين» خرج بالقرينة المتصلة، وما ندري أيّهما خرج. هذه القرينة المتّصلة قد أخرجت أحد طرفي العلم الإجمالي عن إطلاق دليل هذا الأصل المؤمّن. إطلاق دليل الأصل المؤمّن إمّا لا يشمل ذاك الطرف وإمّا لا يشمل هذا الطرف، هذا المقدار مجمل، ولكن أحدهما يبقى داخلاً في إطلاق دليل هذا الأصل المؤمّن. الأصل المؤمّن يقول بأنّ أحد هذين الطرفين مؤمّن عنه. هذا يبقى بهذه الطريقة وبالتالي يمكن أن يجري الأصل المؤمّن في الطرف الآخر على إجماله. ما ندري أيّهما هو. لكن على الإجمال، إمّا في هذا الطرف أو في ذاك الطرف يجري الأصل المؤمّن.

إذن فهذا العلم الإجماليّ تنحلّ بعدم وجود تعارض بينهما؛ لأنّ التأمين سقط في أحد الطرفين – ولو بدون أن نعرف ما هو – وهذا يكفي في انتفاء التعارض، بعد لا يوجد تعارضٌ بين التأمين في هذا الطرف والتأمين في ذاك الطرف، وبالتالي يجري التأمين لأحد الطرفين على وجه الإجمال، وهذا يعني سقوط العلم الإجمالي عن منجّزيّته لوجوب الموافقة القطعيّة. فبالنتيجة لا يوجد الإجمال الذي أراده صاحب هذه الشبهة. هذه الشبهة كانت تتخيّل بأنّه مع الإجمال المذكور لا يبقى أصل مؤمّن نهائيّاً، بينما نحن نقول له: يبقى أصل مؤمّن في أحد طرفي هذا العلم الإجماليّ على وجه الإجمال، فهذه الشبهة تزول.

يشبّه أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه جريان الأصل المؤمّن في أحد الطرفين – وإن كنّا لا ندري في أيّهما – بعامٍّ مع مخصّص متّصل. نفترض أنّه يوجد دليل عامّ يقول «أكرم كلّ عالم» وكان في هذا الدليل مخصّص متّصل قال «إلّا زيداً». وكان من العلماء شخصان اسمهما «زيد» ولا ندري أنّ المولى هل قصد بقوله «إلّا زيداً» هذا الزيد أو ذاك الزيد.

فهنا هل نقول بأنّ دليل «أكرم كلّ عالم إلّا زيداً» يصبح مجملاً بالنسبة إلى كلا الزيدين؟ لا! هذا الإجمال بالنسبة إلى هذا الزيد بالذات مجملٌ وبالنسبة إلى ذاك الزيد بالذات أيضاً مجمل، ولكن هل هو بالنسبة إلى «أحدهما» مجمل؟ بالنسبة إلى أحدهما ليس مجملاً! فإطلاق أو عموم وجوب إكرام كلّ عالم إلّا زيداً يشمل عنوان أحدهما ويتنجّز، ويصبح من المنجّز علينا إكرام أحدهما.

فإذا وجد علم إجماليّ بوجوب أحدهما ينتج وجوب الاحتياط عند الشكّ في أنّه هو هذا أو ذاك، هذه ثمرة عمليّة لهذا العلم الإجماليّ الجديد الذي حصل بأنّ المقصود هل هو هذا الزيد أو ذاك الزيد.

وما نحن فيه من هذا القبيل. إنّ دليل الأصل المؤمّن بإطلاقه يقتضي شمول كلا طرفي العلم الإجمالي، كما في مثال دليل وجوب إكرام العالم، ولكن دليل الأصل المؤمّن ابتلي بقرينة متّصلة – وهي القرينة العقليّة أو العقلائيّة التي تقول بأنّه لا يمكن شمول التأمين لكلا طرفي العلم الإجماليّ – وصار مردّداً بين ما لا يشمل هذا الطرف أو ما لا يشمل ذلك الطرف. كما أنّ ذاك القرينة المتّصلة قوله إلّا زيداً ما ندري يقصد هذا الزيد أو ذاك الزيد. وفيما نحن فيه القرينة المتّصلة تدلّ على عدم شمول التأمين لأحد هذين الطرفين ولا ندري هذا الطرف أو ذاك الطرف. وبالتالي يأتي دليل الأصل المؤمّن لأحدهما على الإجمال. كما أنّه هناك دليل «أكرم العالم إلّا زيداً» يجري على أحدهما بدون تعيين، الأصل المؤمّن فيما نحن فيه أيضاً يجري على أحدهما من دون تعيين. وبهذا لا يبقى الإجمال الذي يسقط الأصل المؤمّن في كلا الطرفين، لا، يجري الأصل المؤمّن في أحد الطرفين وإن كنّا لا نميّز ما هو. وبالتالي العلم الإجمالي يسقط عن تنجيزه لوجوب الموافقة القطعيّة.

هذا جواب أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه على هذه الشبهة. وبعد هذا لا بدّ وأن نتحوّل إلى الصورة الثالثة من الصور التي يجري فيها الأصل المؤمّن في أحد الطرفين دون الطرف الآخر. ونكتفي اليوم بهذا المقدار. والحمد لله ربّ العالمين.