أصول الفقه – يوم السبت ١٤ جمادى الآخرة ١٤٤٤
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.
قلنا إنّ المحقّق النائيني رضوان الله تعالى عليه قال – بحسب ما نقله عنه أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه – أنّ ما يقال بشأن ثمرة الفرق بين مبنى العلّيّة ومبنى الاقتضاء في كون العلم الإجمالي مستدعياً لتنجيز الموافقة القطعيّة، تظهر فيما إذا كان الأصل العمليّ المؤمّن في أحد الطرفين فحسب. فقال النائيني رضوان الله تعالى عليه أنّ هذا وإن كان صحيحاً نظريّاً ولكنّه عملاً لا يوجد أن يكون أصلٌ عمليّ مؤمّن يجري في طرف واحد فقط دون الطرف الآخر. فأستاذنا الشهيد صار بصدد ذكر ثلاث صور لكون الأصل العمليّ خاصّاً بأحد الطرفين، دون الطرف الآخر.
الصورة الأولى كانت عبارة عن أن يكون العلم الإجمالي بطبعه بين ما تجري فيه قاعدة أنّ الامتثال اليقينيّ يستدعي الفراغ اليقينيّ؛ فلا تجري فيه الأصول المؤمّنة، وبين ما تجري فيه الأصول المؤمّنة.
والصورة الثانية كانت فيما إذا كان الأصل المؤمّن شاملاً بطبعه كلا الطرفين، ولكن ابتلي في أحد الطرفين بأصل مثبتٍ للتكليف حاكمٍ عليه.
والصورة الثالثة التي بدأنا بها في الدرس الماضي، هي صورة ما إذا كان هناك أصل طوليّ مؤّمن في أحد طرفي العلم الإجمالي (لا أصلٌ حاكم، فإنّه فرق بين الأصل الحاكم والأصل الطوليّ). فالأصلان في الطرفين يتعارضان ويتساقطان، ولكن في أحد الطرفين يوجد أصلٌ مؤمّن أيضاً في طول ذلك الأصل المؤمّن الذي سقط. فإنّه ما لم يسقط الأصل المؤمّن الأوّل في ذلك الطرف، لا تصل النوبة إلى هذا الأصل المؤمّن الثاني، ولكن إذا سقط، عندئذ يجري الأصل المؤمّن الثاني.
مثاله الأوّل: ما إذا علمنا إجمالاً بوجوب شيء أو حرمة شيء آخر، وكان كلا الطرفين مسبوقاً بالعدم – فيوجد هنا استصحابان اللذان يتعارضان ويتساقطان – وتوجد في طول الاستصحاب أصالة الحلّ (كلّ شيء لك حلال …) التي لا تجري في الشبهات الوجوبيّة؛ بل تجري في الشبهات التحريميّة فقط.
فهنا بعد سقوط الاستصحابين تصل النوبة إلى أصالة الحلّ، وأصالة الحلّ هنا إنّما تجري في الطرف الثاني الذي تكون الشبهة فيه شبهةً تحريميّة. ففي هذا المثال يمكن القول بأنّ الاستصحابان يتساقطان وتصل النوبة إلى أصالة الحلّ التي هي هنا أصل طوليّ، لأنّ الاستصحاب أصل محرز (أو أصل تنزيليّ) بينما أصالة الحلّ أصلٌ بحت، فإذا جريا في مورد واحد، مادام الاستصحاب موجود، لا تجري أصالة الحلّ.
ولكنّ هذا المثال إنّما يكون مثالاً للصورة المذكورة على مباني أستاذنا الشهيد، لا على مباني الأصحاب. لأنّه قدّس سرّه يعتقد عدم جريان أصالة البرائة في أطراف العلم الإجماليّ، لما سبق وأن قلنا في بعض أبحاثنا السابقة من أنّ البراءة إنّما تجري للتأمين عن أصل احتمال الإلزام، أمّا التأمين عن الإلزام الناشئ من العلم الإجمالي، فالبراءة لا تجري للتأمين عنه.
طبعاً هذه النظريّة ذكرها أستاذنا الشهيد رحمه الله خلافاً للمشهور، وأمّا المشهور لا يرى فرقاً بين أصالة الحلّ وأصالة البراءة في جريانهما لرفع الإلزام الناشئ من العلم الإجماليّ. إذن فعلى مبنى الأصحاب بعد سقوط الاستصحابين يوجد أصالة البراءة في كلا الطرفين، فأيضاً يتعارضان ويتساقطان.
أمّا المثال الثاني الذي يتناسب حتّى مع مباني الأصحاب هو أنّه لو علمنا إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين وكان أحدهما غير مسبوق لا بالطهارة ولا بالنجاسة. ففي توارد الحالتين لا تجري استصحاب. والطرف الآخر مجرى لاستصحاب عدم النجاسة. فالطرف الذي يجري فيه استصحاب الطهارة يسقط استصحاب بالتعارض مع أصالة الطهارة التي تجري في الطرف الأوّل.
لا يقال «إنّ الاستصحاب أصل محرز أو تنزيليّ، فلماذا لا يتقدّم على أصالة الحلّ التي هي أصل بحت؟» لأنّهما في موردين. فإذا كانا الأصلان في مورد واحد، كان يتقدّم الاستصحاب على أصالة الطهارة.
فإذن بعدما سقط الاستصحاب بالتعارض مع أصالة الطهارة في الطرف الأوّل، تصل النوبة إلى هذا الأصل الطوليّ، وهو أصالة الطهارة في الطرف الذي كان فيه استصحاب الطهارة، فتجري بلا معارض.
هذا المثال الثاني يتناسب مع مباني الأصحاب أيضاً ولا يختصّ بمباني أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه.
ولكنّ بعض الأصحاب قالوا بعدم جريان هذا الأصل الطوليّ بعد سقوط الاستصحاب، وبالتالي فيلغى هذه الصورة الثالثة، إمّا إطلاقا – بأنّها لا تجري أبداً – أو أنّها تجري في بعض الأحيان دون الآخر.
ذكروا وجوهاً ثلاثة لتقريب دعواهم. الوجه الأوّل والثاني للمحقّق النائينيّ [والوجه الثالث للسيّد الخوئيّ] رضوان الله تعالى عليهما.
الوجه الأوّل الذي ذكره المحقّق النائينيّ رحمه الله لإثبات عدم جريان هذا الأصل المؤمّن الطوليّ، هو أنّ الاستصحاب والأصل الطوليّ (أي أصالة الطهارة) في هذا الطرف يكونان معاً طرفاً للتعارض مع الأصل المؤمّن في الطرف الآخر، فيسقطان معاً.
لماذا؟ لأنّ المجعول بالجعل الاستصحابيّ والمجعول بالأصل المؤمّن الطوليّ – وهو أصالة الطهارة – مجعول واحد. هما متّحدان. صحيح أنّه الجعل جعلان، جعل التأمين عن النجاسة هنا تارةً بلسان الاستصحاب وتارة بلسان أصالة الطهارة. ولكنّ المجعول فيهما شيء واحد وهو التأمين عن النجاسة، أو الطهارة الظاهريّة أو قل نفي النجاسة ظاهراً. وهذا المجعول الواحد هو الطرف للتعارض مع المجعول لأصالة الطهارة في الطرف الآخر – الذي لا يجري فيه الاستصحاب – فيتساقطان، وبعد ذلك فلا دور لأصالة الطهارة في هذا الطرف الثاني الذي كان مجرى للاستصحاب وسقط فيه استصحابه. لأنّ الساقط هو المجعول الاستصحابيّ الذي هو نفس المجعول لأصالة الطهارة هنا. نعم، لو كان الساقط هو الاستصحاب فقط، كان بإمكان أصالة الطهارة الطوليّة أن تجري بعده.
هذا من غرائب المحقّق النائينيّ رضوان الله تعالى عليه، والمحقّق العراقي رحمه الله صار بصدد الردّ على هذا الوجه بإيرادين:
الإيراد الأولّ: عدم اتّحاد المجعول بالجعل الاستصحابيّ مع المجعول بجعل أصالة الطهارة؛ حيث إنّ الاستصحاب يجعل المتيقّن السابق باقياً تعبّداً بينما أنّ أصالة الطهارة تجعل مشكوك الطهارة طاهراً بالتعبّد. وهذان ليسا متّحدان.
ويعلّق عليه أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه بعدم معلوميّة مراد المحقّق النائينيّ بقوله: إنّ المجعولين أحدهما عين الآخر؛ فإنّه إن قصد بذلك أنّ «المُنشَأ» بإنشاء دليل الاستصحاب و«المنشأ» بإنشاء دليل أصالة الطهارة واحد فالإيراد وارد.
وإن قصد أنّ لبّ المراد بالاستصحاب ولبّ المراد بأصالة الطهارة واحد؛ لأنّه هو التأمين عن النجاسة المحتملة، فلا يرد إيراد المحقّق العراقيّ رحمه الله؛ لأنّ لبّ المراد منهما واحد حقّاً.
الإيراد الثاني: أنّه لو سلّمنا أنّ المجعولين شيء واحد، وسلمّنا أنّ هذا المجعول الذي هو شيء واحد وقع طرفاً للتعارض مع المجعول في الطرف الأوّل الذي لا استصحاب فيه، ولكن هذا لا يعني تساقط المجعولين بقطع النظر عن دليليهما.
وفي الحلقة الثالث – أظنّ – أنّ أستاذنا الشهيد قال: عندما يقع التنافي في مدلولي دليلين يقع التعارض بين دليليهما؛ حيث إنّ التعارض بلحاظ حيثيّة الدلالة، لا بلحاظ ما وقع التنافي بينهما.
فمثلاً إذا تعارض خبران دلّ أحدهما على وجوب إكرام الفقير والآخر على عدم وجوبه، فحينئذ هل يتساقط الوجوب مع عدم الوجوب؟ أم يتساقط دليل الدالّ على هذا الوجوب ودليل الدالّ على عدم الوجوب؟ الدليلان يتعارضان ويتساقطان! حيثيّة الدلالة دخيلة في التعارض والتساقط، لا ذات الشيئين المتنافيين!
فإذا سلّمنا أنّ ذات الشيئين المتنافيين هما المجعول هنا والمجعول هناك، لكن عند حصول التعارض، يقع التعارض بين هذا المجعول الذي فيه حيثيّتان للدلالة، حيثيّةٌ استصحابيّة، ومع سقوط الاستصحاب تبقى فيه الحيثيّة أصالة الطهارتيّة.
فهنا نقول: لو سلّمنا أنّ ذات الشيئين المتنافيين هو: المجعول هنا والمجعول هناك، ولكن عند التعارض يتعارض هذا المجعول الذي فيه حيثيّتان للدلالة (حيثيّة استصحابيّة وإذا سقط الاستصحاب فحيثيّة أصالة الطهارتيّة) مع المجعول في الطرف الآخر، فيقع التعارض بينهما بلحاظ الحيثيّة الأولى، ويكون التساقط بلحاظ نفس هذه الحيثيّة. ثمّ يلتفت إلى لحاظ الحيثيّة الثانيّة وهي الطهارة الظاهريّة بحيثيّة دلالة أصالة الطهارة. فإنّه بحيثيّة الاستصحاب سقط دون حيثيّة أصالة الطهارة.
وهذا ما أورد المحققّ العراقيّ ثانياً وقال عنه أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه بأنّه بغاية المتانة.