أصول الفقه – يوم الثلاثاء ١٥ ربيع الثاني ١٤٤٥
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.
خلاصة الدرس السابق
كان حاصل البيان الذي ذكره السيّد الخوئيّ رضوان الله تعالى عليه عدم وجوب الاجتناب من الثوب الملاقي لأحد طرفي العلم الإجماليّ لسقوط الأصلين المؤمّنين في طرفي العلم الإجماليّ الأوّل (يعني ألف وباء) وعدم بقاء أصل مؤمّن في باء، فعند حصول الملاقاة بين الثوب وبين ألف يجري الأصل في الثوب بدون معارض.
واستشكل أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه بإشكالين على كلامه وقد بيّنّا الإشكال الأوّل في الدرس الماضي، وكان حاصله أنّ العلم الإجماليّ الذي حصل صباحاً ليس هو الذي يُسقط الأصل المؤمّن في باء إلى حدّ العصر الذي حصلت الملاقاة فيه بين الثوب وبين ألف، بل هذا العلم الإجماليّ في كلّ مقطع زمانيّ يسقط الأصول العمليّة بين طرفيه في ذلك المقطع الزمانيّ، إذاً ففي الزمان الذي تحصل الملاقاة بين الثوب وبين ألف، يحصل التعارض بين الأصول المؤمّنة الثلاثة دفعة واحدة، وهي الأصول الجارية في ألف وباء والثوب. فلا يمكن القول بأنّ الأصل المؤمّن في باء سقط قبل [الملاقاة].
الإشكال الثاني على بيان السيّد الخوئي رضوان الله عليه
والإشكال الثاني على بيانه يرتبط بالمباني الفكريّة للسيّد الخوئيّ وجملة من الأصحاب رضوان الله عليهم حيث تورّطوا في خطأ مبنائيّ في كيفيّة حصول التعارض بين الدليلين.
فيقول أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه إنّ هذا التصوّر الذي أبرزه السيّد الخوئيّ (من أنّ التعارض يحصل من قبل بين أصالة الطهارة في ألف وأصالة الطهارة في باء وتتساقطان ثمّ تحصل الملاقاة وتبقى أصالة الطهارة في الثوب الملاقي وتنجو عن المعارضة) فهذا التصوّر يكون مبتنياً على أحد تصوّرين مبنائيّين كلاهما باطل.
التصوّر الأوّل
التصوّر المبنائيّ الأوّل أن تقاس هذه الأصول الثلاثة بثلاث كلمات نقلت لنا من الشارع، فصدر صباحاً من الشارع كلامان متعارضان وهما أصالة الطهارة في ألف وأصالة الطهارة في باء، فكأنّه قد صدر جعلان أو يُلقَى إلينا أنّ الشارع قد صدّر كلامين صباحاً وهذان متعارضان؛ لوجود العلم الإجماليّ، ثمّ صدر منه كلام ثالث عصراً وهو أنّ هذا الثوب الملاقي لألف محكوم بالطهارة فكأنّما صدر من المولى ثلاث كلمات اثنان منها في الصبح وقد تعارضا وتساقطا والكلام الثالث يبقى حجّة.
وهذا قياس مع ما قد يتحقّق في غير موارد العلم الإجماليّ. مثل ما إذا ذكر شخص كلامين متعارضين من أنّ زيداً جاء من السفر، وأنّه لم يجئ من السفر فهما قد سقطا بالتعارض، ثمّ اختار عصراً أحدهما وقال: جاء زيد من السفر، فنعتمد عليه.
وجه بطلان التصوّر الأوّل
هذا قياس باطل مع الفارق؛ لأنّ ما نحن فيه لم يصدر فيه من المولى كلامان متعارضان، بل العلم الإجماليّ هو الذي أدّى إلى عدم إمكان جريان الأصل المؤمّن في الطرفين، وليس هذا كلاماً مستقلّاً وذاك كلاماً مستقلّاً تساقطا، حتّى يبقى الكلام الثالث الذي صدر عصراً بلا معارض.
فإنّما الأصل المؤمّن في ألف صالح للجريان بطبعه الأوّليّ وكذلك الأصل المؤمّن في باء، وإنّما تعارضا لوجود العلم الإجماليّ بأنّه إمّا هذا نجس أو ذاك، فليس ما نحن فيه من ذاك القبيل.
التصوّر الثاني
والتصوّر الثاني الذي هو باطل أيضاً هو أن يقال بأنّ التعارض مبدئيّاً يحصل بين حكمين فعليّين وقبل الفعليّة لا يوجد تعارض، ويطبَّق هذا التعارض على الأصول العمليّة في ما نحن فيه.
فمثلاً إذا وصل إلينا دليلان متعارضان أحدهما يقول العنب إذا غلى يحرم والآخر يقول إنّه إذا غلى لا يحرم، فهذان الدليلان إنّما يتعارضان – حسب هذا التصوّر الثاني – بعد الغليان ويكون التعارض في عالم الفعليّة.
وفي ما نحن فيه أيضاً يقال بأنّ التعارض يقع في عالم الفعليّة، والأصول التي كانت صالحة للجريان في ألف وفي باء كانت مشروطة بعدم وجود علم إجماليّ بنجاسة أحدهما، ومنذ الصباح عندما جاء علم إجماليّ بنجاسة إمّا ألف أو باء زالت فعليّة هذين الأصلين؛ لأنّ فعليّتهما كانت مشروطة بعدم وجود علم إجماليّ، فأصالتي الطهارة زالتا لزوال فعليّتهما وبعد ذلك يأتي زمان فعليّة أصالة الطهارة في الثوب عند حصول الملاقاة عصراً، وأصالة الطهارة تجري في الثوب بلا معارض؛ لأنّه عند حصول فعليّته لا يوجد علم إجماليّ يسبّب سقوط الشرط؛ لأنّ العلم الإجماليّ الذي سبّب عدم جريان الأصل المؤمّن في الثوب كان هو العلم الإجماليّ في باء والثوب وطرف باء ليس فعليّاً والأصل المؤمّن فيه ساقط.
وجه بطلان التصوّر الثاني
وهذا التصوّر المبنائيّ الثاني باطل أيضاً. ولتوضيح بطلانه ينبّه أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه إلى أمرين من المبادئ الجارية في باب التعارض، وبمجموع هذين الأمر يظهر بطلان هذا التصوّر.
الأمر الأوّل: أنّ الأدلّة تدلّ على الجعل لا على الفعليّة غالباً؛ لأنّ الأدلّة التي وصلت إلينا تكون على نحو القضيّة الحقيقيّة لا القضيّة الخارجيّة، إذاً فهي تدلّ على الجعل. والفعليّة بحاجة إلى تحقّق الشرط في الخارج حتّى يصير الحكم فعليّاً.
مثل «كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم» فلعلّه لا يجب الصيام على الناس في ذاك الوقت. أو الحجّ مثلاً عند صدور وجوبه ربما لم يكن أحد مستطيعاً في ذلك الحين. فالحكم قد صدر ولكن على نحو القضيّة الحقيقيّة، والمستفاد منه الجعل، أمّا الفعليّة فهي تستفاد من تحقّق الشرط وهو تحقّق الاستطاعة مثلاً.
والأمر الثاني: أنّ التعارض بين الأدلّة إنّما هو في عالم الدلالة مبدئيّاً، إذاً فتعارض هذا الدليل مع ذاك الدليل يكون في عالم الدلالة، أي أنّ دلالة هذا الدليل تعارض دلالة ذاك الدليل، وقد قلنا في الأمر الأوّل أنّ الأدلّة تدلّ على الجعل، فالتعارض أيضاً يكون في عالم الجعل لا الفعليّة.
وإذا انتبهنا إلى هذين الأمرين يظهر بالنتيجة أنّ تصوّر السيّد الخوئيّ رضوان الله تعالى عليه من (وجود التعارض بين أصالة الطهارة في الإناء الأوّل وأصالة الطهارة في الإناء الثاني في العالم الفعليّة) يكون باطلاً وإنّما تعارض إنّ صحّ فهو في عالم الجعل، فحصل في عالم الجعل التعارض بين جعل أصالة طهارة قابلة للانطباق على ألف وجعل أصالة طهارة قابلة للانطباق على باء.
والآن نأتي إلى أصل كلامنا في ضوء ما ذكرنا، فهل يمكن أن تتساقط الأصول المؤمّنة في ألف وباء ثمّ يأتي أصل مؤمّن في الثوب الملاقي لألف؟
لا يتمّ هذا الكلام؛ لأنّ أدلّة الأصول المؤمّنة كلّها مشتركة بدليل أصالة الطهارة، وعندنا مخصّص يخرج ألف عن إطلاق أدلّة الأصول المؤمّنة ومخصّص يخرج باء عن إطلاق أدلّة الأصول المؤمّنة، وهذا المخصّص هو العلم الإجماليّ. فهذان قد خرجا عن أدلّة الأصول المؤمّنة من عالم الجعل حسب التوضيح المذكور، والثوب أيضاً هكذا يخرج عن إطلاق دليل أصالة الطهارة من عالم الجعل.
فعالم الجعل لهذه الثلاثة عالم واحد [ويحصل التعارض بينهم في لحظة واحدة] حتّى إذا كان مثلاً دليلان صدر أحدهما من الإمام الصادق عليه السلام والآخر من الإمام العسكري عليه السلام في زمانين، فإنّ الأحكام الشرعيّة متكاملة مبيَّنة بذكرها من الأئمّة الأطهار عليهم السلام.
فيحصل في زمان واحد ما يخرج الطرفين عن إطلاق دليل أصالة الطهارة وما أخرج الثوب عن دليل أصالة الطهارة. فهذه الأمور الثلاثة حصلت دفعة واحدة في عالم الجعل؛ لأنّ عالم الجعل كلّه عالم واحد وفي لحظة واحدة، فليس اثنان منها صباحاً وواحد منها عصراً حتّى يأتي كلام السيّد الخوئيّ من أنّ أصالة الطهارة في ألف وباء سقطتا صباحاً فلم يبق معارض لأصالة الطهارة في الثوب؛ لأنّ هذه الأصول الثلاث كانت في عالم الجعل سويّة، وسقطت في هذا العالم معاً.
والحمد لله ربّ العالمين.