أصول الفقه – يوم الثلاثاء ١ ربيع الثاني ١٤٤٥
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.
كان الكلام حول حكم ملاقي أحد أطراف العلم الإجماليّ وقلنا يوجد تقريبان للقول بعدم وجوب الاجتناب عن الملاقي لأحد طرفي العلم الإجماليّ، وكان مثاله أنّ العلم الإجماليّ تعلّق بألف أو باء ثمّ لاقى ثوبي لألف.
التقريب الأوّل كان يعتمد على دعوى كون هذا البحث مصداقاً من مصاديق البحث السابق أي البحث في اشتراك العلمين الإجماليّين في طرف واحد. وبحَثْنا هذا وناقشنا فيه فلم يتمّ هذا التقريب.
التقريب الثاني لإثبات عدم لزوم الاجتناب عن ملاقي أحد أطراف العلم الإجمالي
فيقال إنّا نغضّ النظر عمّا قيل في التقريب الأوّل ونقول إنّ الأصل المؤمّن – كأصالة الطهارة – في ألف قد تعارض مع الأصل المؤمّن في باء بسبب العلم الإجماليّ؛ لأنّه لو تمسّكنا بكلا الأصلين يؤدّي إلى المخالفة القطعيّة للعلم الإجماليّ، وعليه فهذان الأصلان قد تساقطا، أمّا الثوب فلا يبقى معارض لأصله المؤمّن؛ فإنّه وإن يوجد فيه علم إجماليّ ثانٍ بأنّه إمّا الثوب متنجّس أو باء نجس؛ ولكنّ هذا الثوب لا يوجد فيه أصل معارض لأصله؛ لأنّ معارضه قد تساقط مع الطرف الآخر للعلم الإجماليّ، يعني أنّ الباء فقدَ أصله المؤمّن بالتساقط مع الأصل المؤمّن في ألف، فالأصل المؤمّن في الثوب ينجو عن المعارض فيجري، وهذا يعني أنّ العلم الإجماليّ الثاني لا يؤثّر للاحتياط في الثوب، فلا يجب الاحتياط فيه.
ثمّ إنّه يوجد إشكالٌ على هذا التقريب وجوابٌ له.
الإشكال على التقريب الثاني
فالإشكال هو أنّه عندما وقع التعارض بين الأصل المؤمّن في ألف والأصل المؤمّن في باء فالأصل المؤمّن في الثوب يدخل في التعارض بين الأصلين في ألف وباء، بأنّ الأصل المؤمّن في باء يتعارض مع الأصل المؤمّن في ألف وفي الثوب معاً، ولا يقع التعارض بين الأصلين في ألف وباء فقط حتّى يقال إنّ الأصل المؤمّن في الثوب في منجى عن المعارض. وإنّما يقع التعارض من أوّل الأمر بأنّ أحد طرفي التعارض هو الأصل الجاري في باء والطرف الآخر هو الأصل الجاري في ألف والثوب معاً؛ لأنّ ألف والثوب حكمهما حكم واحد؛ لأنّه لاقى الألف، فلا يبقى أصل مؤمّن في الثوب.
الجواب عن الإشكال
والجواب أنّ الشكّ الحاصل في الثوب قد حصل من الشكّ الحاصل في الإناء، أي أنّهما يدخلان في فكرة الشكّ السببيّ والمسبّبي.
فلنوضّح هذه الفكرة، فنقول: لو كان يدي اليمنى مستصحبة النجاسة ولاقى يدي اليسرى، فاليمنى مسبوقة النجاسة واليسرى مسبوقة بالطهارة؛ لأنّها قبل الملاقاة كانت طاهرة، فبما أنّه لا يوجد تعارض بين الاستصحابين، هل يمكننا أن نعمل بكلاهما؟
لا! بل الاستصحاب في اليد اليمنى حاكم على الاستصحاب في اليسرى، فلابدّ من الاجتناب عنهما معاً؛ لأنّ الحكم الجاري في الشكّ السببيّ حاكم على الحكم الجاري في الشكّ المسبّبي.
ومثال آخر هو ماء مستصحب الطهارة وغسلنا به ثوباً نجساً، فلولا كون الشكّ في الماء الذي أجرينا فيه استصحاب الطهارة سببيّاً والشكّ الجاري في الثوب مسبّبيّاً لقلنا بأنّ الماء مسبوق بالطهارة فنبقي على طهارته، ولكنّ الثوب الذي غسلناه بهذا الماء مسبوق النجاسة – ولا نعرف أنّ غَسْلنا بهذا الماء هل طهّره أو لا؛ لأنّ الماء ليس متيقّن الطهارة بل مستصحب الطهارة – فالثوب مستصحب النجاسة. لكن بما أنّ الشكّ في الماء سببيّ وفي الثوب مسبّبي فالاستصحاب الجاري في الماء حاكم على الاستصحاب الجاري في الثوب.
وما نحن فيه من هذا القبيل، لأنّ الشكّ الحاصل في إناء ألف سببيّ والشكّ الحاصل في ثوبي الذي لاقاه مسبّبيّ؛ لأنّ الشكّ في الثوب حصل بسبب ملاقاته لألف، وبالتالي لا يمكن أن نجمع بين الألف والثوب معاً ونجعلهما طرفاً للتعارض مع الأصل الجاري في باء كما قاله صاحب الإشكال، والأصل الجاري في السبب يتقدّم على الأصل الجاري في المسبّب، فلا يتساقطا معاً، بل الأصل الجاري في ألف يتساقط مع الأصل الجاري في باء، وهذا الثوب الذي هو مسبّبيّ فالأصل يسري إليه، فينجو عن وجوب الاحتياط.
ولا فرق في هذا بين ما إذا حصل الملاقاة مقارنة للعلم الإجماليّ أو متأخّرة عنه كما يأتي إن شاء الله في الدرس الآتي.