أصول الفقه – يوم الأربعاء ٢٣ ربيع الثاني ١٤٤٥
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.
خلاصة البحث السابق
قلنا إنّ بيان الشيخ الأنصاريّ رضوان الله تعالى عليه لإثبات عدم وجوب الاجتناب عن الثوب الملاقي لأحد طرفي العلم الإجماليّ يبتني على أربعة أمور.
الأمر الأوّل – وهو ما وافقنا عليه – من كون تأثير العلم الإجماليّ على نحو الاقتضاء لا العلّيّة.
والأمر الثاني أنّه متى ما سقط أحد الأصلين المتعارضين وهو متقدّم رتبة على الآخر بأيّ سبب يبقى الأصل المتأخّر رتبة سليماً عن المعارض. هذا بصورة عامّة كبرويّة.
مضى البحث حول الأمرين الأوّلين، ويبقى البحث حول الأمر الثالث والرابع.
الأمر الثالث من الأمور الأربعة الدخيلة في صحّة وجه الثاني لإثبات جريان الأصل المؤمّن في الملاقي
والأمر الثالث هو ضرورة التأكّد من صغرى أمر الثاني، وهو عبارة عن أنّ في ما نحن فيه حقّاً يكون الأصل الجاري في الثوب متأخّراً رتبة عن الأصل الجاري في الملاقىٰ – وهو طرف ألف – و[عن الأصل الجاري في] طرف باء.
والسؤال أنّه كيف نثبت أنّ الأصل الجاري في الثوب متأخّر رتبة عن الأصل الجاري في الملاقىٰ (أي الألف)؟
فحسب ذوق الأصحاب يكون هذا التأخّر الرتبيّ على أساس كون الشكّ في الملاقىٰ شكّاً سببيّاً والشكّ في الملاقي مسبّبيّاً، والأصل الجاري في الشكّ السببيّ حاكم على الأصل الجاري في الشكّ المسبّبيّ.
ومثاله المعروف في الفقه أنّا إذا غسلنا ثوباً نجساً بماء مستصحب الطهارة، فبما أنّ الشكّ في الثوب ناشئ عن الشكّ في الماء، فإذا أجرينا استصحاب الطهارة في الماء يكون هذا الاستصحاب حاكماً على استصحاب النجاسة في الثوب؛ لأنّ استصحاب الطهارة الجاري في الماء استصحاب في الشكّ السبّبيّ.
ويطبّقون هذه الفكرة في ما نحن فيه، فيقولون إنّ الشكّ في ألف شكّ سببيّ، والشكّ في الثوب الملاقي لألف شكّ مسبّبيّ، فأصالة الطهارة في الشكّ السببيّ (في ألف) تكون حاكمة على أصالة الطهارة في الشكّ المسبّبيّ (في الثوب).
وهذا البيان لحاكميّة الأصل الجاري في ألف على الأصل الجاري في الثوب وإن كان صحيحاً مقبولاً عند الأصحاب والشيخ الأنصاري والسيّد الخوئيّ معاً ولكنّه غير صحيح عندنا حسب ما يقوله أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه، وذلك لوجهين:
الوجه الأوّل لعدم تماميّة حاكميّة الأصل الجاري في باء على الأصل الجاري في الملاقي
الوجه الأوّل أنّ حكومة الأصل السببيّ على الأصل المسبّبيّ تارة يكون في باب الأصلين السببيّ والمسبّبيّ اللذين هما مختلفان في النتيجة، مثل المثال المذكور من حكومة استصحاب الطهارة في الماء على استصحاب النجاسة في الثوب المغسول بهذا الماء، فاستصحاب الطهارة في الماء يقتضي البناء على طهارة الثوب ولكنّ استصحاب النجاسة في نفس الثوب يقتضي البناء على نجاسته، فهذان الاستصحابان السببيّ والمسبّبي مختلفان في النتيجة، [وتارة يكون في باب الأصلين السببيّ والمسبّبيّ اللذين هما متّفقان في النتيجة كما في ما نحن فيه]، فإنّ أصالتي الطهارة في ألف وفي الثوب في ما نحن فيه متّفقان في النتيجة.
وهناك بحث يقول أستاذنا الشهيد إنّا نبحثه في نهاية بحث الاستصحاب حول أنّ حاكميّة الأصل السببيّ على الأصل المسبّبيّ هل تختصّ بحالة اختلافهما في النتيجة أو حتّى إذا كان الأصلان متّفقين فيها، فيقول إنّ مبنانا هو خصوص حكومة الأصل السببيّ على المسبّبي فيما إذا كانا مختلفين في النتيجة، أمّا إذا كانا متّفقين في النتيجة فلا معنى للحاكميّة، وتوضيحه وإثباته في محلّه في نهاية بحث الاستصحاب.
الوجه الثاني لعدم تماميّة حاكميّة الأصل الجاري في باء على الأصل الجاري في الملاقي
وأمّا الوجه الثاني فهو أنّا لو سلّنا حاكميّة الأصل السببيّ على الأصل المسبّبيّ [في الأصلين المتّفقين]، فنقبلها في باب الاستصحاببين لا في باب أصالة الطهارة، وذلك لأنّ حاكميّة دليل على دليل آخر له ملاكان، وأيّ من الملاكين لا يجري في أصالة الطهارة، وإنّما يجريان في الاستصحاب فحسب.
الملاك الأوّل الذي يبني عليه المشهور هو «ملاك نفي الموضوع» من دون حاجة إلى كون دليل الحاكم ناظراً إلى الدليل المحكوم، فمثلاً في باب «لا ربا بين الوالد وولده» قالوا لا حاجة إلى أن نستفيد من ناظريّة دليل «لا ربا بين الوالد وولده» على دليل حرمة الربا، بل يكفينا أنّ هذا الدليل جاء بلسان نفي موضوع دليل حرمة الربا، فإنّ دليلها موضوعه الربا وهذا الدليل ينفي كون هذه الفائدة التي تؤخذ في القرض بين الوالد والولد رباً تعبّداً، فهذا وإن كان رباً واقعاً ولكنّه ليس رباً تعبّداً. فأحد الدليلين إذا كان يعبّدنا بنفي موضوع الدليل الآخر كان هو حاكماً عليه بملاك نفي الموضوع.
و[من الجدير بالذكر أنّه] يقول أستاذنا الشهيد في بحث حكومة دليل على دليل آخر – الذي يأتي في نهاية بحث الاستصحاب – إنّ مجرّد كون دليل نافياً لموضوع دليل آخر تعبّداً لا يكفي لحكومته عليه، فلهذا نحن نبني على حكومة دليل «لا ربا بين الوالد وولده» على دليل حرمة الربا بسبب الناظريّة لا بسبب نفي الموضوع فقط، فلكون قوله «لا ربا بين الوالد وولده» ناظراً إلى دليل حرمة الربا نقبل الحاكميّة.
و[على أي حال] يقول أستاذنا الشهيد إنّ هذا الملاك (أي نفي الموضوع) لا يجري في ما نحن فيه أو في باب أصالة الطهارة، لأنّ أصالة الطهارة ليست كالاستصحاب من حيث التعبّد بعدم كونك شاكّاً، بخلاف الاستصحاب الذي يعبّدنا بنفي الشكّ، فكلّ حكم أخذ في موضوعه الشكّ يكون الاستصحاب حاكماً عليه، لكنّ أصالة الطهارة ليست هكذا، فإنّها لا تنفي الشكّ وإنّما تثبّت الطهارة تعبّداً ولا تقول لستَ شاكّاً في الطهارة بل تقول «طاهرٌ».
وأمّا ملاك الثاني هو «ملاك الناظريّة»، فيقول أستاذنا الشهيد إنّا نقبل بأنّ دليل أصالة الطهارة ناظر إلى الأحكام الأوّليّة التي يشترط فيها الطهارة، مثل وجوب الصلاة في الثوب الطاهر أو حرمة شرب النجس، فتُعبّدنا أصالة الطهارة بالطهارة ناظرةً إلى هذه الأحكام، ولكنّ أصالة الطهارة لا تكون ناظرة على الأصول الأخرى، أي لا تكون ناظرة إلى مصداق آخر من مصاديق أصالة الطهارة، فلا يمكن كونه كذلك.
والمدّعى في ما نحن فيه هو حاكميّة أصالة الطهارة في الشكّ السببيّ في الملاقىٰ على أصالة الطهارة في الشكّ المسبّبيّ، فهي حاكميّة أصالة طهارة على أصالة طهارة لا على الأحكام الأوّلية التي يشترط فيها الطهارة، فلا يوجد ناظريّة.
فلا شيء من هذين الملاكين متوفّر في ما نحن فيه، فلا يثبت كون أصالة الطهارة في الملاقىٰ حاكمة على أصالة الطهارة في الملاقي.
وبما أنّ المقصود «من التقّدم الرتبيّ المدعّى عليه هنا» هو الحكومة، نرفض التقدّم الرتبيّ، لعدم تماميّة ملاك الحكومة هنا.
هذا هو الأمر الثالث من الأمور الأربعة التي يبتني عليها كلام الشيخ الأنصاري رضوان الله تعالى عليه، فقد بطل هذا الأمر أيضاً. وأمّا الأمر الرابع فسيأتي إن شاء الله في الدرس القادم.
والحمد لله ربّ العالمين.