أصول الفقه – يوم السبت، ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٥

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.

الجهة الثالثة من بحث تبادل الحكم بين الملاقي والملاقى: وهي حكم الثوب بعد رجوع ألف إلى محلّ الابتلاء

قلنا بأنّه بعد رجوع ألف إلى محلّ الابتلاء يجب الاجتناب عن ألف ولا يجب الاجتناب عن الثوب حسب مبنى السيّد الخوئي رحمه الله، وهذا يعني تماميّة الدعوى التي ادّعاها البعض على مبنى السيّد الخوئيّ، وأمّا بناءً على مبنى الشيخ الأنصاريّ رحمه الله فقد قلنا بأنّه لا يجب الاجتناب عن الثوب بعد رجوع ألف إلى محلّ الابتلاء، وهذا يعني أنّه لا يتمّ دعوى تبادل الحكمين على مبناه.

الجهة الثالثة على مبنى المحقّق العراقيّ والميرزا النائينيّ رضوان الله تعالى عليهما

وأمّا على مبنى المحققّ العراقيّ ومبنى الميرزا النائينيّ رحمهما الله – بعد تضمين مبنى المحقّق النائينيّ بمبنى المحقّق العراقيّ (وإن  كان يبني المحقّق النائينيّ على التقدّم والتأخّر زماناً أو رتبةً بين المعلومين بدون تقييد المعلومين بالتنجّز، بخلاف المحقّق العراقيّ الذي كان يبني على التقدّم والتأخّر الرتبيّ فقط بين العلمين) لأجل دفع النقض عليه بالشبهات البدويّة بأنّ المفروض أنّه يضيف «منجّزاً» على «المعلومين» – فإنّه لا يجب الاجتناب عن الثوب بعد رجوع ألف إلى محلّ الابتلاء كما لم يكن يجب الاجتناب عنه قبل رجوع ألف إلى محلّ الابتلاء.

وذلك لأنّنا قبل رجوع ألف إلى محلّ الابتلاء كنّا نقول بأنّ العلم الإجماليّ بين باء والثوب قد ابتُلي – على هذا المبنى – بعلم إجماليّ سابق رتبة منجّزٍ، ولهذا يجب الاجتناب عن الثوب؛ وأنا قلت سابقاً في بياني: «لأنّهما في رتبة واحدة» بينما يبدو أنّ مراد السيّد – بقرينة ما ذكره هنا – لا لكونهما في رتبة واحدة بل هما في رتبتين؛ لأنّ العلم الإجماليّ [الأوّل] بين ألف وباء علّة لحدوث العلم الإجماليّ [الثاني] بين باء والثوب، فالتقدّم والتأخّر الرتبيّ موجود، ولكنّه لم يكن منجّزاً سابقاً لأنّه كان أحد طرفيه خارجاً عن محلّ الابتلاء، ولهذا كنّا نقول بأنّ هذا العلم الإجماليّ بين ألف وباء غير منجّز من أساسه؛ لأنّ أحد طرفيه خارج عن محلّ الابتلاء؛ فلا يمكنه أن يوجب انحلال العلم الإجماليّ الآخر، فيبقى العلم الإجماليّ بين باء والثوب منجّزاً، فالثوب يجب الاجتناب عنه. فهذا ما نقول به في حالة ما قبل رجوع ألف إلى محلّ الابتلاء، والآن بعد أن رجع ألف إلى محلّ الابتلاء زالت هذه المشكلة التي كانت أمام العلم الإجماليّ بين ألف وباء وهي كون أحد طرفيه خارجاً عن محلّ الابتلاء، فالآن دخل في محلّ الابتلاء، إذاً فإنّ العلم الإجماليّ بين ألف وباء صار منجّزاً ومتى صار منجّزاً – وهو أسبق رتبة من العلم الإجماليّ بين باء والثوب – فهو يوجب انحلال العلم الإجماليّ الثاني بين باء والثوب؛ لأنّ المنجّز لا ينجّز، والمحققّ العراقيّ يقول بصراحة بأنّ المنجّز لا ينجّز مرّة أخرى والمحققّ النائينيّ وإن لم يقله بصراحة لكنّنا عندما أضفنا على كلامه قيد «كونه منجّزاً» صار يشبه كلام المحققّ العراقيّ، فلهذا على كلا المبنيين ننتهي إلى أنّ الثوب لا يجب الاجتناب عنه؛ لانحلال العلم الإجماليّ بين باء والثوب.

وبهذا يظهر أنّه على هذا المبنى لا نتوصّل أيضاً إلى ما قال بعضهم من تبادل الحكمين بين ألف والثوب، فالمبنى الوحيد الذي يتمّ به تبادل الحكمين هو المبنى الأوّل للسيّد الخوئيّ رحمه الله.

ويبقى شيء وهو أنّ أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه يقول هنا: أيّ علم إجماليّ أسبق رتبة وأيهما متأخّر رتبة؟

فالمتأخّر رتبة واضح، وهو العلم الإجماليّ بين نجاسة إمّا باء أو الثوب.

[وأمّا الأسبق رتبة] فإلى حدّ الآن كنّا نقول بأنّه هو العلم الإجماليّ بين «نجاسة إمّا ألف أو باء»، ولكنّ السيّد الشهيد هنا غيّر التعبير وعبّر [عن العلم الإجماليّ المتقدّم رتبة] بـ«العلم الإجماليّ بحدوث النجاسة بملاقاة إمّا ألف أو باء لنجس» مثل أنّ قطرة من الدم وقعت إمّا في ألف أو في باء، يعني أنّ العلم الإجماليّ الذي جعله سابقاً رتبة هو العلم الإجماليّ بحدوث النجاسة لا ببقاء النجاسة.

فأيّ نكتة في ذلك؟ فلنقرأ هذه العبارة من الكتاب:

«لكن بعد رجوع الملاقى – يعني ألف – إلى محلّ الابتلاء يمكن القول بانحلال العلم الإجمالي بنجاسة إمّا الملاقي – أي الثوب – أو طرف الملاقى – يعني باء –، وذلك لمنجّزية العلم الإجمالي بملاقاة إمّا الملاقى أو طرفه للنجس»[1]، فإنّه عبّر عن العلم الإجماليّ بالنجاسة حدوثاً لا بقاءً، فلا يقول إمّا نجاسة هذا أو نجاسة ذاك ولو بقاء، [بل] يلحظ لحظة حدوث النجاسة فيقول «العلم الإجماليّ بحدوث النجاسة إمّا في ألف أو باء لوقوع قطرة دم إمّا في هذا أو ذاك» فجعل العلم الإجماليّ السابق رتبة عبارة عن العلم الإجماليّ بحدوث النجاسة لا ببقائها، فماذا هو السرّ في ذلك؟

السيّد الحائريّ حفظه الله يوضّح السرّ فيه بالهامش[2] فيقول: إنّ السرّ في ذلك أنّ العلم الإجماليّ بنجاسة إمّا باء أو الثوب إنّما متأخّر عن حدوث النجاسة لا عن بقائه؛ لأنّه إذا حصلت النجاسة فحدوثها أسبق رتبة، أمّا بقائها فهو متأخّر عن حدوثه حسب رأي الأصحاب؛ لأنّ بقاء كلّ شيء متأخّر عن حدوثه (إمّا بالنظر العرفيّ وإمّا بالنظر الفلسفيّ، مهما كان)، فهذا يعني أنّ لحدوث النجاسة بين ألف وباء أثرين متأخّرين عنه، أحدهما بقاء النجاسة والآخر توليد علم إجماليّ ثان بين باء والثوب، إذاً فبقاء العلم الإجماليّ الأوّل وتوليد العلم الإجماليّ الثاني أصبحا في رتبة واحدة، وهذا يعني أنّ العلم الإجماليّ بنجاسة إمّا باء أو الثوب إنّما متأخّر رتبة عن حدوث النجاسة بالعلم الإجماليّ بين ألف وباء لا عن بقائه، ولهذا بدّل أستاذنا الشهيد العبارة هنا، فبَدَل أن يقول «إنّه متأخّر رتبة عن العلم الإجماليّ بنجاسة ألف أو باء» قال «إنّه متأخّر عن العلم الإجمالي بحدوث النجاسة بملاقاة أحدهما بنجس».

وبهذا قد ظهر أنّ المبنى الوحيد الذي يتمّ من خلاله ما ذكره البعض من تبادل حكمي ألف والثوب هو المبنى الأوّل يعني مبنى السيّد الخوئيّ، وأمّا على المباني الأخرى فلا يتمّ في شيء منها.

والحمد لله ربّ العالمين.


[1] مباحث الأصول: الجزء الرابع من القسم الثاني، الصفحة 286.

[2] نفس المصدر، الهامش 1.