أصول الفقه – يوم السبت ٢٨ ربيع الأول ١٤٤٥
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.
قلنا: إنّ أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه اختار عشرة أبحاث تحت عنوان تطبيقات منجزيّة العلم الإجماليّ وهذه الأبحاث بعضها بحثناها بمناسبات سابقة وبعضها لم نبحثها، ولهذا لا بدّ وأن نختار الأبحاث التي لم نبحثها سابقاً.
وهذه الأبحاث هي:
أوّلاً: زوال العلم بالجامع.
ثانياً: الاضطرار إلى بعض الأطراف.
ثالثاً: انحلال العلم الإجماليّ بالتفصيليّ.
رابعاً: الانحلال الحكميّ بالأمارات.
خامساً: اشتراك علمين إجماليّين في طرف.
سادساً: حكم ملاقي أحد الأطراف.
سابعاً: الشبهة غير المحصورة.
ثامناً: إذا كان ارتكاب الواقعة في أحد الطرفين غير مقدور، وهذا عكس البحث الذي بحثناه أنّه إذا كان أحد طرفي العلم الإجماليّ مضطرّاً إليه.
تاسعاً: العلم الإجماليّ بالتدريجيّات.
عاشراً: الطوليّة بين طرفي العلم الإجماليّ.
وبحثنا الأوّل والثاني والثالث والرابع، وكذلك الشبهة غير المحصورة (أي السابع).
فنختار الآن التطبيق الخامس من هذه الأبحاث وهو اشتراك علمين إجماليّين في طرف من أطرافهما.
التطبيق الخامس: اشتراك علمين إجماليّين في طرف من أطرافهما
مثاله: ما إذا كانت عندنا أواني ثلاثة، فالأوّل نسمّيه إناء «ألف» والثاني إناء «باء» والثالث إناء «تاء»، فسقطت قطرة بول أو دم وحصل علم إجماليّ عندنا بأنّ هذه القطرة من النجاسة هل وقعت في «ألف» أو في «باء»؟ وسقطت قطرة من عين النجاسة – من البول مثلاً – وعلمنا إجمالاً بأنّه هل سقطت هذه القطرة الأخرى في «باء» أو «تاء»؟
فهناك يوجد علمان إجماليّان: علم إجماليّ بتنجّس إمّا «ألف» أو «باء»، وعلم إجماليّ بتنجّس «باء» أو «تاء»، فـ«باء» مشترك في العلمين الإجماليّين، حيث كان طرفاً في العلم الإجماليّ الأوّل وكذا طرفاً في العلم الإجماليّ الثاني.
والغريب أنّ أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه لم يذكر لهذا البحث مثالاً في الحلقات، والمثال المذكور من تقرير الشيخ عبد الساتر.
وهنا يبحث عن أنّه تارة نفترض أنّ العلمين الإجماليّين حصلا في زمان واحد مقترنين، وتارة نفترض أنّ العلمين الإجماليّين حصلا غير مقترنين، بأن يحصل علماً إجماليّاً أوّلاً، ثمّ يحصل العلم الإجماليّ الثاني.
الحالة الأولى: علمان إجماليّان مقترنان في الزمان
أمّا في حالة ما إذا اقترنا في الزمان – مثل ما إذا سقط قطرتان من النجاسة دفعة واحدة إحداهما وقعت إمّا في إناء ألف أو في إناء باء، والقطرة الأخرى وقعت في نفس الزمان إمّا في باء أو في تاء – فهذان العلمان الإجماليّان بمنزلة علم إجماليّ واحد؛ لأنّهما يؤدّيان إلى العلم الإجماليّ بأنّ المتنجّس في الحال الحاضر – بعد سقوط هاتين القطرتين – إمّا ألف أو باء – ولو بسببين – وإمّا تاء. يعني أنّ العلم الإجماليّ ثلاثيّ الأطراف.
ولا يكون موجب لسقوط المنجّزية، لا لهذا العلم الإجماليّ ولا لذاك العلم الإجماليّ، وإنّما هما أصبحا بمنزلة علم إجماليّ واحد ذو ثلاثة أطرف: ألف وباء وتاء.
غاية الأمر أنّ باء إن كان هو المتنجّس فهو متنجّس بقطرتين منجّستين، وليس هو مانعاً عن كونه طرفاً من الأطراف الثلاثة. وهذا علم إجماليّ منجّز بالأطراف الثلاثة. والأصول المؤمّنة في هذه الأطراف تتساقط؛ لأنّه إن أجرينا الأصول المؤمّنة فيها جميعاً أدّى إلى المخالفة القطعيّة، وإن أجريناها في بعضها دون بعض فهو ترجيح بلا مرجّح، وهذا بحثه مضى في محلّه.
فحكم الحالة الأولى واضح جدّاً.
الحالة الثانية: علمان إجماليّان غير مقترنان في الزمان
وأمّا الحالة الثانية – وهي حالة ما إذا تأخّر أحد العلمين الإجماليّين عن الآخر – ففي هذه الحالة بنى عدد من العلماء على أنّ العلم الإجماليّ الأوّل الأسبق زماناً يوجب سقوط العلم الإجماليّ الثاني عن التنجيز، وبالتالي ينجو تاء عن وجوب الاحتياط. يعني أنّ العلم الإجماليّ الأوّل منجّز والعلم الإجماليّ الثاني ليس منجّزاً.
ولعلّ الميرزا النائيني قائل بهذا الرأي؛ لأنّه مخرّج من أجود التقريرات.
فالعلم الإجماليّ الأوّل ينجّز طرفيه «ألف» و«باء»، والعلم الإجماليّ الثاني يسقط عن التنجيز. ولكن على أيّ أساس يسقط هو عن التنجيز؟
يقول – ولعلّ هو الميرزا النائيني –: إنّ العلم الإجماليّ الثاني يسقط عن التنجيز باختلال الركن الثالث من أركان منجّزيّة العلم الإجماليّ.
وسبق وأن قلنا إنّ الركن الثالث له صيغتان. صيغة تناسب مباني المحقّق النائينيّ القائل بالاقتضاء لا بالعلّيّة، والصيغة الثانية تناسب مباني المحقّق العراقيّ القائل بالعلّيّة.
الركن الثالث حسب الرأي المحقّق النائيني: هو أن يكون كلّ من طرفي العلم الإجماليّ مشمولاً لأدلة الأصول المؤمّنة، فإذا لم يكن بعض أطرافه مشمولاً لأدلّة الأصول المؤمّنة يسقط هذا العلم الإجماليّ عن التنجيز.
فهنا يقال إنّ هذا العلم الإجماليّ الثاني ليس كلا طرفيه مشمولاً للأصول المؤمّنة؛ لأنّ أحد طرفيه قد تنجّز بالعلم الإجماليّ الأوّل وهو طرف باء (الطرف المشترك). فإذا وصل دور العلم الإجماليّ الثاني فهذا الطرف منجَّز سابقاً وهذا (أي كونه منجّزاً بالعلم الإجماليّ الأوّل) يعني أنّ أصله المؤمّن ساقط بالعلم الإجماليّ الأوّل، فبالتالي يكون أحد طرفي هذا العلم الإجماليّ (الثاني) غيرَ مشمول للأصول المؤمّنة. [فيختلّ الركن الثالث من أركان منجّزيّة العلم الإجماليّ في العلم الإجماليّ الثاني وبالتالي لا يكون منجّزاً.] هذا بحسب صيغة المحقّق النائينيّ للركن الثالث من أركان منجّزيّة العلم الإجماليّ.
الركن الثالث حسب رأي المحقّق العراقيّ: وأمّا بحسب صيغة المحقّق العراقيّ فإنّه قد غيّر صيغة الركن الثالث وقال بأنّه عبارة عن أن يكون كلّ أطراف العلم الإجماليّ قابلاً لجريان الأصول المؤمّنة عملاً، لا أنّه مشمول لأدلة الأصول المؤمّنة كما قاله المحقّق النائينيّ.
فيقول المحقّق العراقي هنا: إنّ الركن الثالث – بصيغته الخاصة به – مختلّ أيضاً؛ لأنّ هذا الطرف الذي تنجّز بالعلم الإجماليّ الأوّل غير قابل للتنجّز بالعلم الإجماليّ الثاني؛ لأنّ المنجّز لا يتنجّز ولا معنى لأن يتنجّز مرّة ثانية.
وبالتالي فهذا الركن الثالث – سواء كان بصيغة المحقّق النائينيّ أو بصيغة المحقّق العراقيّ – مختلّ.
والنتيجة: أنّ العلم الإجماليّ الثاني يسقط عن التنجيز، وإذا سقط عن التنجيز ينجو الطرف الثالث – وهو تاء – عن وجوب الاحتياط، فيجري الأصل المؤمّن في الطرف الثالث بدون معارض.
هذا هو ما قيل في حالة ما إذا تأخّر أحد العلمين الإجماليّين عن الآخر، ولكنّ أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه يقول بأنّ الصحيح هو أنّ هذا العلم الإجماليّ الثاني لا يسقط عن المنجّزية ولا يختلّ ركنه الثالث، لا بصيغة المحقّق النائينيّ ولا بصيغة المحقّق العراقيّ، إذن فلا ينجو إناء تاء عن وجوب الاحتياط. وهذا ما سيأتي توضيحه في الدرس القادم إن شاء الله.
والحمد لله رب العالمين.