أصول الفقه – يوم الإثنين ٥ جمادى الأولى ١٤٤٥
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.
إعادة الدرس السابق بتوضيح أكثر ودقّة أعلى
كان حاصل بيان المحقّق العراقيّ رضوان الله تعالى عليه لبيان عدم وجوب الاجتناب عن الثوب الملاقي لأحد طرفي العلم الإجماليّ معتمداً على نظريّته هو في تفسير الانحلال الحكميّ للعلم الإجماليّ؛ لأنّه يفسّره بأنّ العلم الإجماليّ لا بدّ من أن يكون صالحاً لتنجيز معلومه على كلّ حال سواء كان معلومه في هذا الطرف أو في ذاك، فإذا لم يكن كذلك فينحلّ بالانحلال الحكميّ. فيقول: إنّ العلم الإجماليّ الثاني ينحلّ بالانحلال الحكميّ؛ لأنّ العلم الإجماليّ الثاني – وهو العلم الإجماليّ بأنّه إمّا باء نجس أو الثوب – على تقدير كون المعلوم بالإجمال فيه في أحد تقاديره (أي باء) غير صالح للتنجيز فينحلّ بالانحلال الحكميّ؛ لأنّ معلومه بالإجمال إذا كان في باء فهذا العلم الإجماليّ لا يصلح لتنجيزه؛ لأنّ باء منجّز بمنجّز في رتبة سابقة؛ لأنّ العلمين الإجماليّين يوجد تقدّم رتبيّ بينهما بأنّ العلم الإجماليّ الأوّل بنجاسة إمّا ألف أو باء سابق رتبة على العلم الإجماليّ بنجاسة إمّا باء أو الثوب، إذاً باء منجّز بمنجّز سابق وهو العلم الإجماليّ الأوّل؛ لأنّ العلم الإجماليّ الأوّل قد نجّز باء وهو سابق ومتقدّم رتبة على العلم الإجماليّ الثاني، إذاً فالعلم الإجماليّ الثاني غير صالح لتنجيز معلومه؛ لأنّ معلومه منجّز من قبل في رتبة سابقة (لا من قبل زماناً)، فالعلم الإجماليّ الثاني ينحلّ بالانحلال الحكميّ بالمعنى الذي يؤمن به المحقّق العراقيّ.
هذا بيان للمحقّق العراقيّ لسقوط العلم الإجماليّ الثاني عن التنجيز وانحلاله وبالتالي ينجو الثوب عن التنجيز.
ثمّ لأستاذنا الشهيد إشكالان على بيان المحقّق العراقيّ وفقا لمبانيه.
الإشكال الأوّل على بيان المحقّق العراقيّ رضوان الله تعالى عليه
فيقول: صحيح أنّ العلم الإجماليّ الثاني متأخّر رتبة عن العلم الإجماليّ الأوّل؛ لأنّه يكون لنفس العلمين الإجماليّين نسبة التقدّم والتأخّر الرتبيّين بينهما؛ لأنّ العلم الإجماليّ الثاني تولّد بالعلم الإجماليّ الأوّل فهو متأخّر عن الأوّل، ولكنّ منجّزيّتهما في رتبة واحدة، وإذا كان كذلك فلا ينطبق كلامه القائل بابتلاء العلم الإجماليّ الثاني في أحد طرفيه بمنجّز سابق؛ لأنّ هذا المنجّز ليس سابقاً بل في عرض منجّزيّته هو، إذاً فنضع هدفنا في الإشكال عليه إثبات أنّ المنجّزيّتين تكونان في رتبة واحدة.
ونوضّح ذلك ضمن مرحلتين، أوضّح بالمرتبة الأولى رتبة العلم الإجماليّ الثاني، وبالمرحلة الثانية المنجّزيّةَ الحاصلة به وبيان رتبتها.
المرحلة الأولى من الإشكال
أمّا المرحلة الأولى فنقول: إنّ العلم الإجماليّ الثاني إنّما هو متأخّر رتبة عن نفس العلم الإجماليّ الأوّل لا عن منجّزيّته، فالعلم الإجماليّ الثاني لو قايسناه مع العلم الإجماليّ الأوّل لوجدنا اختلاف الرتبة ولكن لو قايسنا مع المنجّزيّة الحاصلة من العلم الإجماليّ الأوّل لوجدناهما في رتبة واحدة؛ لأنّ العلم الإجماليّ الأوّل ولّد شيئين دفعة واحدة في عرض واحد: الأوّل هي منجّزيّته نفسه؛ لأنّ منجّزيّة كلّ علم إجماليّ موجودة بذلك العلم، والثاني هو العلم الإجماليّ الثاني، فالعلم الإجماليّ قد ولّد شيئين في عرض واحد، ففي هذه المرحلة قد وضّحنا أنّ العلم الإجماليّ الثاني بلحاظ نفس العلم الإجماليّ الأوّل متأخّر ولكن بلحاظ منجّزيّة العلم الإجماليّ الأوّل ليس متأخّراً بل هو في رتبته.
المرحلة الثانية من الإشكال
أمّا المرحلة الثانية فنحن ندّعي أنّ موضع المنجّزيّة الحاصلة بالعلم الإجماليّ الثاني في رتبة مساوية لمنجّزيّة العلم الإجماليّ الأوّل ولكنّه على أيّ أساس؟ فإنّه لقائل أن يقول: ما دام آمنتم في المرحلة الأولى بأنّ العلم الإجماليّ الثاني في رتبة منجّزيّة العلم الإجماليّ الأوّل فما كان متأخّراً عن أحدهما متأخّرٌ عن الآخر أيضاً على أساس فكرة – لعلّها مشهورة عند الأصحاب – من أنّه إذا كان هناك شيئان في رتبة واحدة وكان شيء ثالث متأخّراً عن أحدهما فهو متأخّرٌ أيضاً عن الآخر؛ لأنّهما في رتبة واحدة، وكأنّما يقيسون بوقوف أشخاص ثلاثة على الأرض فالاثنين زيد وعمرو يقفون متساويين والثالث يقف خلف أحدهما، وإذا كان خلف أحدهما يصير خلف الآخر أيضاً؛ لأنّ الاثنين أمامه.
ولكن نقول – وفي تقرير السيّد الهاشمي يعبّر بأنّا ذكرنا كراراً –: إنّا لا نقبل هذه القاعدة، وإذا كانت غير مقبولة عندنا فنقول: إنّ منجّزيّة العلم الإجماليّ الثاني وإن كانت متأخّرةً عن نفس العلم الإجماليّ الثاني ولكنّها ليست متأخّرة عن منجّزيّة العلم الإجماليّ الأوّل، فتصبح منجّزيّة العلم الإجماليّ الثاني في رتبة منجّزيّة العلم الإجماليّ الأوّل.
وهذا هو الهدف الذي وضعنا نصب عيننا في الإشكال الأوّل على المحقّق العراقيّ. فنقول في هذا الإشكال: العلمان الإجماليّان وإن يوجد بينهما بنفسهما تقدّم وتأخّر رتبيّين، ولكن في منجّزيّتهما لا يوجد تقدّم وتأخّر في الرتبة، وإنّما منجّزيّة العلم الإجماليّ الثاني في رتبة منجّزيّة العلم الإجماليّ الأوّل، فإذا كان كذلك لم يتنجّز باء على تقدير كون المعلوم بالإجمال فيه بمنجّزيّة سابقة بل بمنجّزيّة مساوية، والحال أنّ المحقّق العراقيّ ادّعى أنّ باء قد تنجّز بمنجّز سابق (أي بالعلم الإجماليّ الأوّل) فهو غير صالح للتنجيز مرّة أخرى بالعلم الإجماليّ الثاني.
وهذا هو الإشكال على المحقّق العراقيّ رضوان الله تعالى عليه، والظاهر أنّه تحقيق لطيف لأستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه للإشكال على المحقّق العراقيّ في هذه المسألة وأمّا الإشكال الثاني عليه فسيأتي توضيحه في الدرس القادم إن شاء الله.
والحمد لله ربّ العالمين.