أصول الفقه – يوم الأربعاء ٧ جمادى الأولى ١٤٤٥
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.
قلنا هناك أربعة وجوه للأصحاب لتوضيح أنّ الملاقي لأحد طرفي العلم الإجماليّ لا يجب الاجتناب عنه. وكان الوجه الأوّل للسيّد الخوئيّ رضوان الله تعالى عليه، والوجه الثاني للشيخ الأنصاريّ رضوان الله تعالى عليه، والثالث للمحقّق العراقيّ رضوان الله تعالى عليه، والآن نأتي إلى البيان الرابع للمحقّق النائيني رضوان الله تعالى عليه وعليهم أجمعين.
الوجه الرابع للقول بعدم وجوب الاجتناب عن الملاقي، وهو ما أفاده المحقّق النائينيّ رحمه الله
ولا بدّ أوّلاً من توضيح أصل مبنى المحققّ النائينيّ رضوان الله تعالى عليه في انحلال العلم الإجماليّ بوجود منجّز سابق في أحد طرفيه كتوضيح كلّيّ لهذا المبنى قبل تطبيقه على محلّ الكلام.
فإذا كان أحد طرفي العلم الإجماليّ منجّزاً بمنجّز سابق – سواء كان هذا المنجِّز سابقاً في العلم الإجماليّ (كما في محلّ الكلام) أو كاستصحاب سابقٍ أو بأيّ نحو من الأنحاء – فلا قيمة لهذا العلم الإجماليّ ويمكن إجراء الأصل المؤمّن في الطرف الآخر.
فأوّلاً نوضّح أصل المبنى وبعد ذلك نتحوّل إلى تطبيق ذلك على محلّ بحثنا.
انحلال العلم الإجمالي بوجود منجّز سابق في أحد الأطراف على رأي المحقّق النائيني رحمه الله
فحاصل مبناه أنّه إذا كان كذلك فأصل الحكم العقليّ بالمنجّزيّة يزول. فعندنا حكم عقليّ لمنجّزيّة العلم الإجماليّ، تارة على مسلك الاقتضاء وتارة على العلّيّة، فأصل الحكم العقليّ لو انتفى لا فرق بين المسلكين، فإنّه على كليهما لا يوجد بعد علم إجماليّ، وإن كان هو قائل بالاقتضاء. بخلاف ما سبق نقله عن السيّد الخوئيّ رحمه الله من أنّه بمجرد تنجّز أحد طرفي العلم الإجماليّ بمنجّز سابق سيبقى الأصل المؤمّن في الطرف الآخر بدون معارض فيكون صالحاً للأصل المؤمّن في الطرف الآخر، فهذا المقتضي يقف أمامه الأصلُ المؤمّن الذي هو خال عن المعارض وهذا يختصّ بالقول بالاقتضاء؛ حيث لا يقول هذا العلم الإجماليّ يصير كالعدم وأصل الحكم العقليّ يزول، بل يقول بما أنّ العلم الإجماليّ ينجّز على أساس تساقط الأصول المؤمّنة في طرفيه فإذا لم تتساقط الأصول المؤمّنة بل جرى الأصل المؤمّن في أحد طرفيه بدون معارض فهذا يعني أنّ المقتضي صار أمامه مانع رفع تأثير المقتضي، بينما أنّ بيان ورأي الميرزا النائينيّ أعمق من هذا فيقول إنّ أصل الحكم العقليّ بتنجيز العلم الإجماليّ ينتفي من أساسه عقلاً سواء كان تأثيره علّيّاً أو اقتضائيّاً ويصير كالعدم.
وهذا المبنى مشارك مع مبنى المحققّ العراقيّ في أنّ أصل الحكم العقليّ يزول بوجود منجّز سابق في أحد طرفي العلم الإجماليّ. ولكنّهما يختلفان في صياغة البرهان على ذلك، فهي عند المحققّ العراقيّ ما مضى من أنّه يقول إنّ أصل حكم العقل بمنجّزيّة العلم الإجماليّ يبتني على أن يكون صالحاً لتنجيز معلومه على كلّ تقدير، فإذا أصبح العلم الإجماليّ غير صالح لتنجيز معلومه على أحد التقديرين فلا يُحكم عقلاً بحكم التنجيز، ويصبح غير صالح للتنجيز فيما إذا تنجّز أحد الطرفين بمنجّز سابق، لأنّ المنجَّز لا يُنجَّز.
أمّا صياغة البرهان للمحققّ النائينيّ رضوان الله تعالى عليه فهو أنّه إذا كان أحد طرفي العلم الإجماليّ منجَّزاً بمنجِّز سابق فما يبقى من هذا العلم الإجماليّ لا يُثبت وجود تكليف جديد؛ لأنّ هذا الطرف تكليفه مسلّم بمنجّز آخر والطرف الآخر مشكوك فيه فلا يحصل العلم بتكليف جديد، ولهذا يسمّيه بالانحلال الحقيقيّ للعلم الإجماليّ ويمثّل – إمّا هو أو أستاذنا الشهيد – بأنّه سيكون من قبيل ما إذا قطرة دم وقعت إمّا في إناء ألف أو في إناء باء ثمّ قطرة دم أخرى ما ندري وقعت في إناء ألف أو في إنا باء، فهذا العلم الإجماليّ الثاني ماذا قيمته؟ فما دام نحتمل أنّ كلتا القطرتين وقعتا في طرف معينّ واحد لا يزوّدنا هذا العلم الإجماليّ تكليفاً جديداً؛ لاحتمال أن يكون التكليف هو التكليف الأوّل وهذا الثاني أيضاً قطرة في نفس ذلك الإناء، وهذا لا يزيد لنا تكليفاً جديداً، نعم لو كان سبب العلم الإجماليّ الثاني الغصب أو مصدر آخر بحيث له آثار أخرى فهذا بحث آخر. فهذا العلم الإجماليّ يزول ولا قيمة له.
فالمحققّ النائينيّ والمحققّ العراقيّ رضوان الله تعالى عليهما يشتركان في أصل الفكرة من زوال أصل الحكم العقلي بمنجّزيّة العلم الإجماليّ، لا أنّه يبقى على نحو الاقتضاء ويأتي مانع عن تأثير هذا الاقتضاء. ولكنّهما يختلفان في صياغة البرهان عليه.
تمايز الوجهين الثالث والرابع على الوجهين الأوّل والثاني
ويتميّز هذا الوجهان على الوجهين الأوّلين من السيّد الخوئي رحمة الله عليه والشيخ الأنصاري رضوان الله تعالى عليه بامتيازين.
الامتياز الأوّل: أنّه بناء على الوجهين الأخيرين كما ينتفي الأصل المؤمّن الشرعيّ عن الطرف الآخر كذلك ينتفي المؤمّن العقليّ يعني قاعدة البراءة العقليّة فيقول لو أنّ المؤمّن الشرعيّ لم يشمل الطرف الآخر بشكل من الأشكال فالمؤمّن العقليّ يجري، فيمكن أن نتمسّك بقبح العقاب بلا بيان، لكنّ السيّد الخوئي والشيخ الأنصاريّ إنّما يركّزان النظر على المؤمّن الشرعي وقالا المؤمّن الشرعي يبقى بلا معارض فيجري أمّا المؤمّن العقليّ فيجري أو لا؟ فلم يقولا شيئاً، بل لعلّهما ينظران إلى أنّ المؤمّن العقليّ يختلف عن المؤمّن الشرعيّ.
والامتياز الثاني: أنّ الوجهين الأخيرين لا يختصّان بمسلك الاقتضاء بل يجريان حتّى على مسلك العلّيّة، نعم إنّ المحققّ النائينيّ من أصحاب مسلك الاقتضاء ولكن بيانه يناسب المسلكين، بخلاف البيان من السيّد الخوئيّ والشيخ الأنصاريّ؛ لأنّه يقول بأنّ المقتضي للتنجيز موجود والمانع عن تأثيره أيضاً موجود، فالمانع عن تأثيره يجري بالأصل المؤمّن الشرعيّ، فهذا المقتضي ابتلي بوجود المانع أمامه، وهذا يختصّ بالقول بالاقتضاء، أمّا على القول بالعلّيّة فبمجرّد صلاحيّة أحد الطرفين للتأمين يقول المحققّ العراقيّ حتّى هذا الطرف الواحد بناءً على العلّيّة لا يجري فيه التأمين؛ لأنّه قائل بالعلّيّة وإذا قال بها فكما لا يجري التأمين في كلا الطرفين معاً كذلك لا يجري في طرف واحد أيضاً.
والسرّ في هذين الامتيازين هو أنّ الوجهين السابقين لم يركّزا على نفي الحكم العقليّ من أساسه، وإنّما ركّزا على زوال المنجّزّية بسبب البراءة في أحد الطرفين بلا معارض، أي ركّزا على أنّ المقتضي جاء في مقابله مانع عن تأثيره، فهذا هو الذي سبّب كلا هذين الامتيازين.
هذا كلّه في توضيح مبنى المحققّ النائينيّ في أصل الفكرة وأمّا تطبيقه على محلّ كلامه فسيأتي في الدرس القادم إن شاء الله.
والحمد لله ربّ العالمين.