أصول الفقه – يوم الاثنين ٧ رجب ١٤٤٤
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.
قلنا: إنّ عندنا على منهج الحلقات نقاطاً.
الأولى: أصل قاعدة منجّزيّة العلم الإجماليّ، والثانية: أركان منجّزيّة العلم الإجماليّ، والثالثة: تطبيقاتها.
وانتهينا من النقطة الأولى وهي أصل قاعدة منجّزيّة العلم الإجماليّ ولا نزال نبحث في النقطة الثانية، أي أركان منجّزيّة العلم الإجماليّ، وبالنسبة إليه قلنا توجد أركان أربعة لمنجّزيّته.
الركن الأوّل كان عبارة عن وجود العلم بالجامع. والركن الثاني كان عبارة عن وقوف العلم على الجامع وعدم سرايته إلى بعض الأطراف. والركن الثالث كان عبارة عن شمول الأصل المؤمّن لجميع الأطراف.
وبالنسبة إلى هذا الركن الثالث قلنا: إنّ هذه الصياغة لا تناسب مباني المحقّق العراقيّ رضوان الله تعالى عليه؛ فهو لا يفرّق بين شمول الأصل المؤمّن لجميع الأطراف وبين شموله لبعض الأطراف؛ لأنّه يرى علّيّة العلم الإجماليّ لتنجيز وجوب الموافقة القطعيّة، فإذن الأصل المؤمّن في رأيه لا يمكن أن يشمل بعض الأطراف كما لا يمكن أن يشمل جميع الأطراف.
وأمّا على رأي الآخرين من الميرزا النائينيّ وأمثاله، هذه [الصياغة من الركن الثلاث] يؤثّر في الحساب؛ لأنّهم يرون أنّ منجّزيّة العلم الإجماليّ تتوقّف على تساقط الأصول بين الأطراف فلا بدّ من أن يكون الأصل المؤمّن صالحاً للجريان في كلا الطرفين حتّى يتساقطا وبالتالي تتمّ منجّزيّة العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة.
إذن فهذه الصياغة للركن الثالث تناسب رأي المحقّق النائينيّ وأمثاله الذين يؤمنون بأنّ منجّزيّة العلم الإجماليّ تتوقّف على تساقط الأصول.
أمّا بناءً على مدرسة المحقّق العراقيّ رضوان الله تعالى عليه فقد غيّروا صياغة الركن الثالث فقالوا إنّ هذا الركن ليس كما ذكر، بل هو عبارة عن كون العلم الإجماليّ صالحاً لتنجيز معلومه على كلا التقديرين. يعني أنّه صالح لتنجيز معلومه سواء كان معلومه في هذا الطرف أو في ذاك الطرف.
الآن قد انتهينا من البحث حول الركن الثالث، ولا بدّ من البحث عن الركن الرابع.
فالركن الرابع من أركان منجّزيّة العلم الإجماليّ هو «إمكان وقوع المخالفة القطعيّة بسبب البراءة». وهذا الركن بهذه الصياغة أيضاً يناسب مباني المحقّق النائينيّ وأمثاله القائلين بأنّ منجّزيّة العلم الإجماليّ تتوقّف على التساقط، فقالوا بأنّه إن كانت الأصول المؤمّنة تشمل جميع أطراف العلم الإجماليّ ولكنّه ما كان من الممكن الاستفادة من هذا الأصل المؤمّن في كلّ الأطراف؛ لكثرتها أو لكون بعضها خارجاً عن قدرة المكلّف أو ممارسته، [فالعلم الإجماليّ لا يكون منجّزاً].
ومثاله ما إذا كان أطراف العلم الإجماليّ على شكل الشبهة غير المحصورة مثل ما إذا علم إجمالاً بأنّ أحد الأجبان في العالم نجس، فأطرافه واسعة جدّاً ولا يمكن للمكلّف أن يستفيد من كلّ الأطراف.
نعم قد يكون قادراً على الاستفادة من بعضها على سبيل البدل، لكنّ الاستفادة منها جميعاً لا يمكنه؛ إمّا لكثرتها (في الشبهة غير المحصورة) أو لخروجه عن محلّ ابتلائه لبُعد بعضها عن المكلّف؛ لأنّه مثلاً أنّ هذا الجبن يفسد إلى أن يوصل من أمريكا.
ففي هاتين الصورتين (الشبهة غير المحصورة، والتي يكون بعض أطرافها خارجاً عن محلّ ابتلاء المكلّف) لا تتمّ منجّزيّة العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة؛ لأنّه لا مانع عن إجراء البراءة – أو أيّ أصل مؤمّن آخر (مع ملاحظه مناقشة أستاذنا الشهيد رحمه الله في جريان البرائة في أطراف العلم الإجماليّ) مثل أصالة الإباحة والاستصحاب [النافي للتكليف] – في جميع الأطراف.
فجريان الأصل المؤمّن في جميع الأطراف هنا لا يؤدّي إلى المخالفة القطعيّة؛ لأنّ المكلّف لا يمكنه أن يخالف مخالفةً قطعيّة، فلكي يتمّ تنجيز العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة لا بدّ من أن يكون جريان الأصل المؤمّن في جميع الأطراف مؤدّياً إلى إمكان وقوع المخالفة القطعيّة.
أمّا إذا لم يكن كذلك – كما في الشبهة غير المحصورة أو التي يكون بعض أطرافها خارجاً عن محلّ الابتلاء – فلا بأس بجريان الأصول المؤمّنة في جميع الأطراف ولا تتساقط حتّى يزيل منجّزيّةَ العلم الإجماليّ؛ لأنّها لا تؤدّي إلى المخالفة القطعيّة بينما كان المحذور أداؤه إلى المخالفة القطعيّة.
فلأجل الوصول إلى منجّزيّة العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة لا بدّ من أن يكون الأصل المؤمّن في جميع الأطراف مؤدّياً إلى إمكان وقوع المخالفة القطعيّة حتّى تتساقط.
إذن فالركن الرابع عند المحقّق النائينيّ وأمثاله هو إمكان وقوع المخالفة القطعيّة بسبب الأصل المؤمّن.
والمظنون عندي أنّ المحقّق العراقيّ [الذي يبني على علّيّة العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة] قال بوجوب الموافقة القطعيّة حتّى في الشبهة غير المحصورة، يعني أنّه لا يجوز للمكلف حتّى المخالفة الاحتماليّة لبعضها بل لا بدّ له من الامتناع عن كلّ الأطراف في الشبهات التحريميّة، فإنّما الممتنع في الشبهات التحريميّة غير المحصورة هو المخالفة القطعيّة، وأمّا الامتناع من كلّ الأطراف (أي الموافقة القطعيّة) فيها ممكن. فسوف نبحث عن رأي المحقّق العراقيّ بعداً.
وأمّا السيّد الخوئيّ الذي [لا يبني على علّيّة العلم الإجماليّ] يرى [أيضاً] عدم جواز ارتكاب بعض الأطراف في الشبهة غير المحصورة، فهذه الصياغة من الركن الرابع لا تفيده، لأنّها عبارة عن أنّ العلم الإجماليّ إنّما ينجّز وجوب الموافقة القطعيّة فيما إذا أمكن مخالفة القطعيّة [وفي الشبهات غير المحصورة لا يمكن ذلك، فلابدّ أن يرى جواز ارتكاب بعض الأطراف] فلا يناسبه هذه الصياغة. فماذا يمكن أن يقال [في تصحيح رأيه] بالنسبة إلى الشبهة غير المحصورة؟
ولهذا بدّل السيد الخوئي صياغة هذا الركن. فإننّا تارةً نقول: إنّ الركن الرابع عبارة عن كون إجراء الأصل المؤمّن في جميع الأطراف مؤدّياً إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة. فإن كانت صياغته هكذا فهو غير متوفّر في أطراف الشبهة غير المحصورة. إذن تسقط منجّزيّة العلم الإجماليّ.
ولكن إذا قلنا – كما بدّله السيّد الخوئيّ –: إنّه عبارة عن أن يكون جريان الأصول المؤمّنة في جميع الأطراف مؤدّياً إلى الترخيص القطعيّ في المخالفة الواقعيّة (لا مؤدّياً إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة) فتبقى المنجّزيّة [في الشبهات غير المحصورة].
فإذا قلنا بهذه الصياغة الأخيرة فالنتيجة أنّه في الشبهة غير المحصورة وإن كان المخالفة القطعيّة – بأن يرتكبها جميعاً – غير ممكن ولكنّ المخالفة الواقعيّة ممكن؛ لأنّه إذا جاء ببعض هذه الأطراف على نحو البدل يقدر على ارتكابه، فهذا [الترخيص في ارتكاب جميع الأطراف] يؤدّي إلى الترخيص القطعيّ في المخالفة [الواقعيّة]. يعني أنّ الشارع قد رخّص في ارتكاب هذا [الطرف] ولو كان ارتكاب الكلّ غير ممكن. وأيضاً بالنسبة إلى الطرف الثاني والثالث إلى المئات والألوف؛ لأنّ الشبهة غير محصورة وواسعة جداً.
فالشارع قد رخّصه في ارتكاب المخالفة الواقعيّة [قطعاً]، والمخالفة الواقعيّة واحد من هذه الأطراف، والمخالفة الواقعيّة يعني أنّ كلّ طرف من هذه الأطراف يجوز ارتكابه، وبالتالي يجوز أن يرتكب المخالفة الواقعيّة وهذا يؤدّي في موارد الشبهة غير المحصورة إلى عدم انتفاء منجّزيّة العلم الإجماليّ؛ لأنّ هذا الركن ينطبق بالصياغة الثانية.
و[القطع بـ]المخالفة الواقعيّة شيء والمخالفة القطعيّة شيء آخر؛ لأنّ المخالفة القطعيّة يعني أن يرتكبها جميعاً وهذا غير ممكن في الشبهة غير المحصورة، ولكن المخالفة الواقعيّة عبارة عن ارتكابها على وجه البدل.
فعلى مبنى الصياغة الأولى يجوز مخالفة بعض أطراف الشبهة غير المحصورة؛ لأنّ منجّزيّته زالت بانطباق الصياغة الأولى للركن ولكنّ الصياغة الثانية لا تنطبق؛ لأنّه يؤدّي إلى الترخيص القطعيّ في المخالفة الواقعيّة، وإذا أدّى إلى ذلك فتتمّ منجّزيّة العلم الإجماليّ وهذا الركن ليس متوفّراً بلحاظ هذه الصياغة الثانية.
والحمد لله ربّ العالمين.