أصول الفقه – يوم الأحد ٦رجب ١٤٤٤
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.
قلنا إنّ المعروف في الألسن هو أنّ ثمرة الفرق بين القول بالاقتضاء والقول بالعلّيّة في منجّزيّة العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة تظهر فيما إذا كان الأصل المؤمّن في طرف واحد فقط، فعلى الاقتضاء لا يبتلى بالتعارض ويزيل منجّزيّة العلم الإجماليّ، وأمّا على العلّيّة فمنجّزيّة العلم الإجمالي تزيل هذا الأصل المؤمّن.
ولكنّ المحقّق النائينيّ رحمه الله قال بأنّ الثمرة معقولة نظريّاً ولكن لا يوجد عملاً مورد لجريان الأصل المؤمّن في طرف واحد.
وصوّر أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه دليلاً لصالح المحقّق النائينيّ وهو عبارة عن أنّه إن أريد إجراء الأصل المؤمّن في طرف واحد فما هو تكليف الطرف الآخر؟
الطرف الآخر إمّا مثبت للتكليف أو نافٍ له.
أمّا إذا كان مثبتاً للتكليف، فيوجب انحلال العلم الإجماليّ بناء على مبنى الأصحاب حتّى على مبنى العلّيّة، فلا يبقى علم إجماليّ حتّى تظهر ثمرة الفرق بين المبنيين.
وأمّا إذا كان أصلاً مؤمّنا نافياً للتكليف، فهذا الأصل يسقط بالتعارض بناء على الاقتضاء ويسقط بعلّيّة العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة بناء على العلّيّة.
فالأصل المؤمّن يسقط قطعاً، فلا يظهر ثمرة الفرق بين المبنيين.
وقال أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه بعدم صحّة هذا الدليل مبنىً وبناءً.
أمّا مبنىً فلأنّا نخالف المبنى القائل بأنّ الأصل المثبت للتكليف يوجب انحلال العلم الإجماليّ.
وأمّا بناءً فعلى فرض قبول المبنى المذكور سوف تبقى بعض الموارد لظهور ثمرة الفرق بين المبنيين، فتظهر الثمرة في موردين ولا تظهر في موردين آخرين.
المورد الأوّل: ما لو كان دليل الأصل المؤمّن في أحد الطرفين غير ناظر إلى التكليف الحاصل بالعلم الإجماليّ، والطرف الآخر لا فرق فيه بين التكليف الموجود في حدّ ذاته أو الحاصل باحتمال انطباق المعلوم بالإجمال عليه.
مثل ما لو كان في أحد الطرفين أصالة البراءة (حديث الرفع) وفي الطرف الآخر أصالة الحلّ أو الاستصحاب الرافع للتكليف.
وقد سبق ما قلنا من أنّ أصالة البراءة إنّما تعطي المعذّريّة عن احتمال التكليف بطبعه لا الاحتمال الحاصل بسبب انطباق المعلوم بالإجمال عليه حيث كان دليلها مسكوتاً عن هذا الاحتمال.
وهذا الذي ذكرناه كراراً [حول المعذّريّة الحاصلة من أصالة البرائة] ليس مذكوراً في «الحلقات» ولا يفرّق فيه بين حديث الرفع وبين أصالة الحلّ والاستصحاب، ولكن طرحه السيّد الشهيد رضوان الله تعالى عليه في بحث الخارج حيث فرّق بينها وبين أصالة الحلّ قائلاً إنّ أصالة الحلّ والاستصحاب تنفيان حتّى فيما إذا كان احتمال التكليف فيه ناشئاً من انطباق المعلوم بالإجمال عليه، خلافاً لأصالة البراءة.
فإذا كان المورد كذلك لا يتحقّق التعارض بناءً على الاقتضاء؛ لأنّ حديث الرفع لا قيمة له في أحد الطرفين؛ لما قلنا من أنّه إنّما يرفع الحرمة المحتملة أو الوجوب المحتمل في أحد الطرفين في حدّ ذاته؛ وهذا لا يوجب التعارض مع أصالة الحلّ الجارية في الطرف الآخر أو الاستصحاب، فيجريان بدون معارض؛ لأنّ الأصل الموجود في الطرف الأوّل أصالة البراءة وهي لا تجري عن احتمال انطباق المعلوم بالإجمال عليه، وهي بهذا المعنى لا يصلح للتعارض مع أصالة الحلّ أو الاستصحاب.
وأمّا على العلّيّة فهي تمنع عن جريان أصالة الحلّ أو الاستصحاب في طرف واحد، فتظهر ثمرة الفرق بين المبنيين.
والمورد الثاني: فهو ما إذا كان الأصل النافي للتكليف في كلا الطرفين من سنخ واحد، وكان في أحد الطرفين أصل مؤمّن آخر غير مسانخ للأصلين الأوّلين.
فالتأمين الحاصل من الأصلين الأوّلين يسقط على أساس الإجمال في دليلهما، إذ سبق وأن قلنا: إذا كان الأصلان في الطرفين من سنخ واحد فسيبتلى دليلهما بالإجمال؛ لأنّ القيد الذي دخل في هذا الحكم دخل بقرينة متّصلة، والقرينة المتّصلة توجب الإجمال.
فهنا تظهر ثمرة الفرق بين المبنيين؛ لأنّه بناءً على الاقتضاء يجري الأصل الثالث في طرف واحد ويمنع عن منجّزيّة العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة بناء على الاقتضاء، وبناءً على العلّيّة فمنجّزيّة العلم الإجماليّ ثابتة بالعلّيّة ولا يمكن جريان هذا الأصل؛ لمنع منجّزيّة العلم الإجماليّ عنه.
وأمّا الموردان اللذان لم تظهر فيهما ثمرة الفرق بين القولين، فالمورد الأوّل منهما عبارة عن: الصورة الثانية من الصور الثلاثة التي ذكرها أستاذنا الشهيد لجريان الأصل المؤمّن في طرف واحد في قبال الرأي المحققّ النائينيّ حيث ذهب إلى عدم مجال لجريان الأصل المؤمّن في طرف واحد.
وهو ما إذا كان الأصل المثبت للتكليف حاكماً على الأصل النافي للتكليف في أحد الطرفين. ومثاله: ما إذا كانت أصالة الحلّ جارية بطبعها في كلا الطرفين ولكن يوجد في أحد الطرفين استصحاب مثبتٌ للتكليف وهو مقدّم على أصالة الحلّ، فالاستصحاب وأصالة الحلّ يريدان أن يجريا في طرف واحد، لكنّ الاستصحاب يمنع عن جريان أصالة الحلّ في هذا الطرف. وأمّا في الطرف الآخر فأصالة الحلّ تجري بلا بمعارض.
فإن قلنا بأنّ الأصل المثبت للتكليف في أحد طرفي العلم الإجماليّ لا يوجب انحلاله – خلافاً لما هو المشهور في مدرسة المحققّ النائينيّ ولعلّه المشهور في مدرسة المحققّ العراقيّ أيضاً – تظهر ثمرة الفرق؛ لأنّه على مبنى الاقتضاء أصالة الحلّ في طرفٍ والاستصحاب في طرف آخر يتعارضان ويتساقطان، وتحيى أصالة الحلّ في طرف واحد وتجري بلا معارض. وأمّا على العلّيّة فهي تمنع عن جريان أصالة الحلّ حتّى في طرف واحد.
ولكن على مبنى القوم لا تظهر الثمرة؛ لأنّهم قالوا بانحلاله حينئذ، فالعلم الإجماليّ منتفٍ على كلا المبنيين.
والمورد الثاني الذي لا تظهر فيه ثمرة الفرق بين القول بالاقتضاء والقول بالعلّيّة عبارة عن الصورة الأولى من تلك الصور – التي ذكرها أستاذنا الشهيد لجريان الأصل المؤمّن في طرف واحد فقط – وهي ما إذا علم إجمالاً إمّا بوجود ما يوجب الحرمة في هذا الجبن وإمّا بعدم إتيان صلاتي التي وقتها الآن. يعني أنّ الشكّ في أحد الطرفين شكّ في الامتثال ولا يجري فيه أيّ أصل مؤمّن.
فتجري أصالة الحلّ في طرفٍ واحد وقاعدةُ الاشتغال في الطرف الآخر.
فعلى مبنى القوم من أنّ الأصل المثبت للتكليف يوجب انحلال العلم الإجماليّ، قاعدة الاشتغال هنا توجب انحلال العلم الإجماليّ؛ لأنّه أصل عقليّ مثبت للتكليف. فتجري أصالة الحلّ وهي أصل مؤمّن في الجبن.
وحيث يزول العلم الإجماليّ بجريان الأصل المثبت للتكليف، فلا يبقى فرق بين الاقتضاء والعلّيّة.
والحمد لله ربّ العالمين.