أصول الفقه – يوم الإثنين ١٤ ربيع الثاني ١٤٤٥
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.
إعادة بحث ملاقي أحد أطراف العلم الإجمالي طبقاً لما جاء في مباحث الأصول
نعيد إن شاء الله بحث ملاقي أحد أطراف العلم الإجماليّ طبقاً لما جاء في تقرير سماحة السيّد الحائريّ – الله يمنّ عليه بالصحّة والعافية – في أحد تنبيهات بحث العلم الإجماليّ.
قلنا فيما إذا كان لدينا علم إجماليّ بنجاسة إمّا ألف أو باء، ثمّ حصل الملاقاة التي توجب سراية النجاسة بين الثوب وبين طرف ألف، فهذا العلم الإجماليّ مع حصول هذه الملاقاة يتولّد منه علم إجماليّ ثان وهو العلم الإجماليّ بنجاسة إمّا الثوب وإمّا طرف باء من الطرفين الأوّليّين؛ لأنّه إن كانت النجاسة الواقعيّة في ألف فقد سرَت النجاسة إلى الثوب فالثوب نجس وإذا كانت في باء فلم تسر النجاسة إلى الثوب وإنّما باء نجس. إذاً نعلم إجمالاً بأنّه إمّا باء نجس وإمّا الثوب.
فالأصحاب هنا بين القائل بعدم منجّزيّة هذا العلم الإجماليّ الثاني مطلقاً وبين القائل بعدم منجّزيّته بالتفصيل في بعض الحالات. وأمّا أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه فاختار قولاً ثالثاً وهو رأي قائل بمنجّزيّة هذ العلم الإجماليّ الثاني مطلقاً، وبالتالي وجوبِ الاجتناب عن الثوب مطلقاً.
ولا بدّ للأصحاب من إبراز نكتة لإسقاط العلم الإجماليّ الثاني عن التنجيز لكي يتخلّصوا من البناء على نجاسة الثوب، وإلّا فهذا العلم الإجماليّ الثاني ينجّز نجاسة الثوب.
وهناك تقريبات أربعة للقول بعدم منجّزيّة هذا العلم الإجماليّ الثاني وعدم وجوب الاجتناب عن الثوب.
الوجه الأوّل للسيّد الخوئي رضوان الله تعالى عليه، والوجه الثاني للشيخ الأعظم الأنصاري رضوان الله تعالى عليه، والوجه الثالث للمحقّق العراقيّ رضوان الله تعالى عليه، والوجه الرابع للمحقّق النائينيّ رضوان الله تعالى عليه وعليهم جميعاً.
الوجه الأوّل للقول بعدم وجوب الاجتناب عن الملاقي
أمّا الوجه الأوّل فيبتني على أمرين. ولو صحّ افتراض هذين الأمرين جرى هذا الوجه الذي ذكره.
الأمر الأوّل أن يكون العلم الإجماليّ بنجاسة إمّا ألف أو باء أسبق زماناً لا معاصراً لألف.
والأمر الثاني هو كون العلم الإجماليّ مبدئيّاً مقتضياً لا علّة تامّة للتنجيز.
ولو تمّ هاتان الفرضيّتان جرى وجه المذكور من السيّد الخوئيّ رضوان الله تعالى عليه.
وحاصل هذا الوجه أنّه إن كان هذا العلم الإجماليّ بنجاسة إمّا ألف أو باء قد حصل في زمان سابق على الملاقاة فقد سقطت أصالة الطهارة في باء بسبب هذا العلم الإجماليّ، فإنّ هذا العلم الإجماليّ بنجاسة إمّا ألف أو باء سبّب التساقط بين الأصول المؤمّنة في طرفيه، يعني التساقط بين أصالة الطهارة في ألف وأصالة الطهارة في باء. فباء قد فقَد أصل طهارته، وإذا زالت أصالة الطهارة في باء أمكن إجراء أصالة الطهارة في الثوب بدون معارض. وذلك لأنّا لا نقول بأنّ العلم الإجماليّ الثاني قد انتفى، ولا نقول بأنّ هذا العلم الإجماليّ الثاني ليس مقتضياً على خلاف مبنانا – يعني مبنى مدرسة المحقّق النائينيّ الذي منه السيّد الخوئيّ –، بل مقتضٍ، ولكن كلّ ما كان مقتضياً لشيء معيّن لا بدّ أن ينضمّ اقتضاؤه إلى عدم وجود المانع حتّى يؤثّر، والمانع هنا موجود وهو إمكان جريان الأصل المؤمّن في أحد طرفيه بدون معارض؛ لأنّ معارضه كما ذكرنا قد سقط (وهو أصالة الطهارة في باء) فتبقى أصالة الطهارة في الثوب بدون معارض، وهي أحد طرفي العلم الإجماليّ الثاني. وبالتالي يقول السيّد الخوئي بجريان أصالة الطهارة في الثوب من دون معارض.
وهذا الوجه قد أُخذ من تقريرين من بحث السيّد الخوئيّ، أحدهما الدراسات للمرحوم السيّد علي الشاهروديّ والد المرحوم السيّد محمود الهاشميّ الشاهروديّ رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ومصدر آخر أيضاً.
وأستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه يناقش هذا الوجه بمناقشتين.
المناقشة الأولى أنّ العلم الإجماليّ بصورة عامّة حتّى لو خرجنا عن محلّ بحثنا في كلّ زمان، ينجّز طرفيه لذلك الزمان. يعني أنّ هذا العلم الإجماليّ صباحاً ينجّز طرفيه صباحاً وإذا استمرّ هذا العلم الإجماليّ إلى العصر ينجّز طرفيه عصراً، والعلم الإجماليّ بوجوده الصباحيّ لا ينجّز طرفيه عصراً وإنّما بوجوده البقائيّ ينجّزهما عصراً لا بوجوده الحدوثيّ، وفي ما نحن فيه نحن نريد تنجيز العلم الإجماليّ أو عدم تنجيزه بعد الملاقاة أو حين الملاقاة. وأصالة الطهارة في باء حين الملاقاة وإن صحّ أنّها ساقطة ولكنّها ساقطة لا بالعلم الإجماليّ الذي كان عندنا بين ألف وباء قبل الملاقاة، بل بهذا العلم الإجماليّ بوجوده البقائيّ، وهذا يعني أنّه عندما حصل العلم الإجماليّ بين باء والثوب فالعلم الإجماليّ الأوّل سبّب سقوط أصالة الطهارة في باء لا بوجوده الحدوثيّ وإنّما سبّب السقوط بوجوده البقائيّ، وبقي هذا العلم الإجماليّ بنجاسة إمّا ألف أو باء إلى حين ملاقاة الثوب لألف. فالعلم الإجماليّ بمقطعه الأخير الذي عاصر ملاقاة الثوب لألف سبّب سقوط أصالة الطهارة في باء، وهذا نفس المقطع الزمانيّ الذي يعارض أصالة الطهارة في باء مع أصالة الطهارة في الثوب، يعني أنّ أصالة الطهارة في باء في لحظة واحدة صارت له معارضان دفعة واحدة، وهما أصالة الطهارة في ألف – بسبب وجوده البقائيّ للعلم الإجماليّ الأوّل – وأصالة الطهارة في الثوب. وبالتالي تسقط ثلاثتهنّ؛ لأنّ أصالة الطهارة في باء وقعت طرفاً للتعارض مع أصالة الطهارة في ألف بسبب العلم الإجماليّ الأوّل، وطرفاً للتعارض مع أصالة الطهارة في الثوب بسبب العلم الإجماليّ الثاني، فأصالة الطهارة في باء يتساقط مع الاثنين دفعة واحدة أي أصالة الطهارة في ألف وأصالة الطهارة في الثوب. فلا يبقى شيء منها وبالتالي يبقى الثوب خالياً من أصالة الطهارة فلا بدّ فيه من الاجتناب.
هذا ما ذكره أستاذنا الشهيد في مناقشته الأولى لبيان السيّد الخوئيّ رضوان الله تعالى عليه، وأمّا المناقشة الثانية فستأتي في الدروس الآتية إن شاء الله.