أصول الفقه – يوم الأربعاء ١١ جمادى الآخرة ١٤٤٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.

الصورة الثالثة من الصور التي إنّما يتمّ فيها جريان الأصل المؤمّن في طرف واحد هي ما إذا كان الأصل المؤمّن في كلّ من الطرفين يتعارض ويتساقط مع أصل مؤمّن في الطرف الآخر، ثمّ يجري أصل مؤمّن طوليّ في أحد الطرفين يختصّ بذلك الطرف خاصّة.

وهذا على مبنى لعلّه المعروف بين الأصحاب من أنّ الأصل الطوليّ يجري بعد سقوط الأصل الذي في مرتبة سابقة عليه حتّى إذا كان الأصلان متوافقين.

أمّا إذا كان الأصل الساقط مع الأصل الطوليّ غير متّحدين في النتيجة – مثل ما إذا كان الأصل الأوّلي مؤمّناً والأصل الطوليّ مثبتاً للتكليف – فواضح أنّه بعد أن سقط ذاك تصل النوبة إلى هذا الأصل الجديد.

لكن إذا كان نتيجة كليهما واحدة مثل ما إذا كان كلاهما مؤمّناً فهل تصل النوبة إلى الأصل الجديد بعد سقوط الأصل الأوّل؟

لعلّ المشهور قائلون بعدم الفرق بين ما إذا لم يكن الأصل المؤمّن الجديد الطوليّ على طبق الأصل الساقط وبين غيره.

فنقول بناءً على ذلك: إذا كان في كلا الطرفين أصل مؤمّن فتعارضا وتساقطا وكان في أحد الطرفين أصلٌ طوليّ، إنّما يجري هذا الأصل الطولي في ذلك الطرف.

أستاذنا الشهيد رضوان الله عليه جاء بمثالين لهذه الصورة:

المثال الأوّل: ما إذا علم إجمالاً بوجوب شيء أو حرمة شيء آخر وكان كلاهما مجرى استصحاب العدم، فاستصحاب عدم الوجوب في أحد الطرفين مع استصحاب عدم الحرمة في الطرف الآخر يتساقطان؛ لأنّه لو جريا معاً لأدّى إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة.

فتصل النوبة إلى أصالة الحلّ الجارية في الشبهات التحريمية فقط دون الشبهات الوجوبيّة؛ لأنّ «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه» يجري في مقابل احتمال الحرمة لا احتمال الوجوب؛ لأنّ الحلال في الحديث في مقابل الحرام وليس في مقابل الوجوب. فأصالة الحلّ مختصّة بالتحريميّة، فتجري فقط في الطرف التحريميّ.

وهذا المثال على مبانينا يكون مثالاً للمسألة، أمّا على مباني الأصحاب فلا؛ لأنّ عندهم أصالة البراءة في الشبهة الوجوبيّة أيضاً خلافا لأستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه؛ حيث لا يرى جريان أصالة البراءة في طرفي العلم الإجمالي؛ لأنّها إنّما تنفي احتمال الحكم الإلزاميّ بطبعه، ولا تنفي الاحتمال الناشئ من تنجيز العلم الإجماليّ.

أصل الاحتمال بطبعه بقطع النظر عن العلم الإجماليّ – مثل هذا الطرف إذا احتمل فيه حكم إلزامي – تجري فيه البراءة عن احتمال ذلك والطرف الآخر أيضاً كذلك إذا كان بطبعه كذلك، أمّا الحكم الإلزاميّ الناشئ من العلم الإجمالي فلا يمكن نفيه بها؛ لأنّها ليست بصدد التأمين عن كلّ حكم إلزاميّ محتمل حتّى وإن كان ناشئاً من العلم الإجماليّ. وإنّما هي بصدد التأمين عن احتمال الحرمة بطبعه الأوّليّ، ففي موارد العلم الإجمالي لا تجري كي يتعارضا ويتساقطا.

هذا على رأي أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه.

وفي هذا المثال التامّ على مبانينا لا يوجد أصالة البراءة في الأطراف، فيبقى أصالة الحلّ والاستصحابان اللذان يتعارضان فيتساقطان.

فمادام يوجد الاستصحاب وأصالة الحلّ في مورد، يتقدّم الاستصحاب؛ لكون أصالة الحلّ أصلاً بحتاً لا تنزيليّاً ولا محرزاً، بخلاف الاستصحاب حيث كان كذلك. أمّا إذا سقط هذا الاستصحاب – بتساقطه مع الاستصحاب الجاري في الطرف الآخر من العلم الإجمالي – تصل النوبة إلى أصالة الحلّ، وهذا الأصل صار أصلاً طوليّا في طول الاستصحاب؛ فمع سقوط الاستصحاب تُحيى وتجري أصالة الحلّ، وهي تبقى بلا معارض؛ لأنّ استصحاب عدم الوجوب في الطرف الآخر تساقط مع استصحاب عدم الحرمة.

لكن بناءً على مباني الأصحاب الذين لا يفرّقون بين أصالتي البراءة والحلّ – من حيث أنّهما تجريان في أطراف العلم الإجماليّ فيتعارضان ويتساقطان – إنّه حتي إذا سقط الاستصحابان تجري أصالة البراءة في كلا الطرفين – لأنّ البراءة عندهم تجري في كلا الشبهتين التحريميّة والوجوبيّة – وأيضاً تتساقطان، فلا نحصل على أصلٍ مؤمّن في طرف واحد دون الطرف الآخر، بينما هدفنا أن نحصل على جريان أصل مؤمّن في طرف واحد دون الآخر.

فلنبدّل المثال حتّى يتمّ على مبناهم، فنمثّل بالمثال الثاني: وهو ما إذا علم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين وكان أحدهما غير مسبوق لا بالطهارة ولا بالنجاسة – بسبب أنّه كان فيه تداول النجاسة والطهارة معاً فلا يمكن إجراء استصحاب أيّهما مثلاً – والطرف الثاني مسبوق بالطهارة فكان مجرى الاستصحاب، فاستصحاب الطهارة يتعارض مع أصالة الطهارة في الطرف الأوّل.

وتعلم أنّ تقدّم الاستصحاب على أصالة الطهارة إنّما يكون فيما إذا اجتمعا في مورد واحد، ولكن إذا كانا في الطرفين المختلفين – كما في المثال – يتعارضان ويتساقطان.

وبعد التساقط نجد أنّ أصالة الحلّ أو الطهارة تحيى في الطرف الذي معه الاستصحاب وإنّما لم تجر قبلُ لتقدّم الاستصحاب عليها لما قلنا بأنّها أصل طوليٌّ في طول استصحاب الطهارة.

أما الطرف الثاني فلا يبقى فيه أصل أصلاً فيكون خالياً عن المؤمّن؛ لأنّ أصالة الطهارة فيها قد سقطت بتعارضها مع الاستصحاب في الطرف الأوّل.

وهذا مثال للمسألة، على اختلاف المباني.

لكن هنا وجوه ثلاثة – لا بدّ من بيانها وتحقيقها – للقول بأنّ هذا الأصل الطوليّ لا يجري في أحد الطرفين دون الطرف الآخر، بل إمّا لا يجري إطلاقاً أو في بعض الموارد يجري وفي بعضها لا يجري.

وجهان من قبل المحقّق النائيني ووجه من المحقّق العراقيّ، فهذه الوجوه الثلاثة لا بدّ من بيانها وتحقيقها.

والحمد لله ربّ العالمين