أصول الفقه – يوم الأحد ١٥ جمادى الآخرة ١٤٤٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.

قلنا: إنّ أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه صار بصدد بيان الصور التي يمكن فيها القول باختصاص الأصل المؤمّن بأحد طرفي العلم الإجماليّ فلا يتمّ التساقط. فبذلك قد تظهر ثمرة الفرق بين القول بالعلّيّة والقول بالاقتضاء، فنقول هذا الأصل الذي يجري في أحد الطرفين دون الآخر يوجب إسقاط منجّزيّة العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة بناءً على الاقتضاء خلافاً للعلّيّة؛ فإنّه إذا بنينا عليه – كما قال به المحقّق العراقيّ رحمه الله – فالعلم الإجماليّ يسقط هذا الأصل المؤمّن وإن كان في طرف واحد.

والصور التي ذكرها سيّدنا الأستاذ هي ما يلي:

الصوة الأولى: ما إذا كان أحد الطرفين مجرى لأصالة الاشتغال فيجري الأصل المؤمّن في الطرف الآخر بدون معارض.

والثانية: ما إذا كان هناك أصل مثبت للتكليف في أحد الطرفين وحاكم على الأصل المؤمّن في نفس مورده، فلا يجري الأصل المؤمّن في مورده؛ لوجود أصل مثبت للتكليف حاكم عليه، والأصل المؤمّن في الطرف الآخر يجري بدون معارض.

والثالثة: ما إذا كان في طرفي العلم الإجماليّ أصل مؤمّن طوليّ، بمعنى أنّ هناك أصلاً أوّليّاً يتعارض مع أصل أوّليّ في الطرف الآخر، فيتساقطان وتصل النوبة إلى الأصل الطوليّ. وذكرنا لذلك مثالين، والمثال الأوّل كان يعدّ مثالاً على مبانينا فقط، والمثال الثاني كان مثالاً حتّى على مباني الأصحاب.

وهو ما إذا علم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين وكان أحدهما غير مسبوق لا بالطهارة ولا بالنجاسة، فلا يجري فيه الاستصحاب. ولكنّ الطرف الثاني مسبوق بالطهارة فيجرى فيه استصحاب عدم النجاسة أو استصحاب الطهارة، فما دام هذا الاستصحاب موجوداً فلا يجري الأصل البحت كأصالة الطهارة؛ لأنّ الاستصحاب – بما أنّه أصل تنزيليّ أو محرز – مقدّمٌ على الأصول البحتة، ولكنّ هذا الاستصحاب يتساقط مع الأصل في الطرف الذي لا استصحاب فيه، وهذا الأصل – وهو أصالة الطهارة – لا مانع لجريانه؛ لأنّه ليس مسبوقاً بحالة قطعيّة من الطهارة ولا من النجاسة. [فبالتالي يتعارض مع الاستصحاب الجاري في الطرف الآخر ويتساقطان.]

ولا يقال: إنّ الاستصحاب مقدّم على أصالة الطهارة، [فلا تصل النوبة إلى التعارض والتساقط].

لأنّ تقدّم الاستصحاب على أصالة الطهارة إنّما يكون فيما إذا اجتمعا في مورد واحد، وأمّا إذا كانا في طرفين مختلفين يتعارضان ويتساقطان، كما في المثال.

وبعد سقوطهما تصل النوبة إلى جريان أصالة الطهارة في الطرف الذي كان مجري للاستصحاب. ففي هذا المورد يوجد أصل أوّليّ وأصل طوليّ، والأصل الأوّليّ كان الاستصحاب وقد سقط، والأصل الطوليّ أصالة الطهارة [التي تجري وتبقى بلا معارض].

ولكن ناقش جملة من الأصحاب في الاعتماد على هذا الأصل الطوليّ – ومنهم المحقّق النائينيّ رضوان الله تعالى عليه – إمّا دائماً وإطلاقاً، وإمّا في بعض الحالات، وذكر وجوهاً له:

الوجه الأوّل الذي كان يقول به المحقّق النائينيّ رحمه الله هو أنّ المتعارضان هما المجعولان، فيتساقطان. والمجعول بالجعل الاستصحابيّ والمجعول بجعل أصالة الطهارة في الطرف الذي فيه الاستصحاب شيء واحد، فإذا سقط المجعول، سقط عنهما معاً ولا يمكن أن يحيى بلسان آخر (لسان أصالة الطهارة الطوليّة) وإن كان دليلهما مختلفين.

وذكر المحقّق العراقيّ رحمه الله في الجواب على هذا الوجه أنّه يبتني على أن يكون المجعول في كلا الجعلين واحداً في حين أنّ المجعول فيهما ليس واحداً بل المجعول بالاستصحاب شيء والمجعول بالجعل الحاصل بأصالة الطهارة شيء آخر.

وذكر أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه أنّه إن كان مراد المحقّق النائينيّ رحمه الله بوحدة المجعولين وحدة المُنشَأ بالإنشاء الاستصحابيّ والمنشَأ بالإنشاء الأصالة الطهارتيّ فنعم، هما اثنان. ولكن إن كان مراده أنّ النتيجة المطلوبة بالاستصحاب والنتيجة المطلوبة بأصالة الطهارة شيءٌ واحد وهو «التأمين عن النجاسة المحتملة» أو «البناء الظاهريّ على الطهارة» فهذا شيء واحد يحصل بالاستصحاب وأصالة الطهارة معاً.

والوجه الثاني للمناقشة في الاعتماد على الأصل الطوليّ في هذه الصورة الثالثة – الذي أيضاً من المحقّق النائينيّ رضوان الله تعالى عليه – هو أنّ الأصل الطوليّ لو جرى لإسقاط منجّزيّة العلم الإجماليّ استلزم الدور أو روح الدور وهو إسقاط نفسه بنفسه بأن يستلزم من وجوده عدمه وهو مستحيل.

وحاصل بيان ذلك أنّ هذا الأصل الطوليّ إنّما انتهينا إليه ببركة منجّزيّة العلم الإجماليّ. فهذا الأصل الطوليّ متوقّف على تساقط الأصلين الجاريين في الطرفين، والتساقط متوقّف على منجّزيّة العلم الإجماليّ، فبالتالي إنّ هذا الأصل المؤمّن إنّما حصل بفضل منجّزيّة العلم الإجماليّ ومتوقّف عليها بواسطة واحد.

لكنّ المراد من هذا الأصل الطوليّ إسقاط منجّزيّة العلم الإجماليّ، حتّى يتمّ أصل طوليّ في أحد الطرفين بدون معارض، بناء على الاقتضاء لا العلّيّة. وكيف يمكن أن يُسقط هذا الأصل منجّزيّةَ العلم الإجماليّ في حين أنّه هو وليدها ومتوقّف عليها بواسطة؟ فإنّ معناه أن يسقط نفسه بنفسه ويستلزم من وجوده عدمه، وهذا مستحيل.

وأستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه يوضّح الخلط في ذهن المحققّ النائينيّ. ويقول أنّه خلطٌ بين منجّزيّة العلم الإجماليّ لحرمة المخالفة القطعيّة وبين منجّزيّته لوجوب الموافقة القطعيّة. فإنّه يوجد مستويان لمجّزيّة العلم الإجماليّ: منجّزيّة العلم الإجماليّ على مستوى حرمة المخالفة القطعيّة، ومنجّزيّة العلم الإجماليّ على مستوى وجوب الموافقة القطعيّة، بمعنى أنّه لو تمتّ هذه المنجّزيّة وجب على المكلّف أن يمتثل كلا الطرفين بأن يحتاط بالعمل بهما.

فنقول: إنّ منجّزيّة التي ولّدت التساقط ثمّ ولدّ التساقطُ الأصلَ الطوليّ هي المنجّزيّة بالمستوى الأوّل، أي منجّزيّته لحرمة المخالفة القطعيّة لا منجّزيّته لوجوب الموافقة القطعيّة.

فمنجّزيّة العلم الإجماليّ لحرمة المخالفة القطعيّة هي التي أدّت إلى التساقط؛ لأنّه إذا أجرينا الأصول المؤمّنة في كلا الطرفين يؤدّي إلى المخالفة القطعيّة، والتساقط أدّت إلى إحياء هذا الأصل الطوليّ.

إذن فالأصل الطوليّ الذي يتوقّف بواسطة على منجّزيّة العلم الإجماليّ إنّما يتوقّف على منجّزيّة العلم الإجماليّ لحرمة المخالفة القطعيّة لا منجّزيّته لوجوب الموافقة القطعيّة. والمنجّزيّة التي تسقط بهذا الأصل الطوليّ هي منجّزيّته لوجوب الموافقة القطعيّة لا لحرمة المخالفة القطعيّة، فلا يُسقط نفسَه بنفسه.

لأنّا لو كنّا نريد بهذا الأصل أن نسقّط منجّزيّة العلم الإجماليّ لحرمة المخالفة القطعيّة لصحّ ما قال المحقّق من إسقاط نفسه بنفسه ولكن لا نريد هذا، بل نريد أن نسقّط به وجوب الموافقة القطعيّة، وهذا لا يؤدّي إلى إسقاط نفسه بنفسه؛ لأنّه وليد منجّزيّة العلم الإجماليّ بمعنىً ويسقّط منجّزيّة العلم الإجماليّ بمعنىً آخر. إنّه وليد منجّزيّة العلم الإجماليّ بمعنى تنجيزه لحرمة المخالفة القطعيّة، ويسقّط منجّزيّة العلم الإجماليّ بمعنى أنّه يسقّط منجّزيّة العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة، وهذا غير ذاك.

فلا يوجد هنا دورٌ، ولا إسقاطُ شيءٍ نفسَه، ولا أن يكون شيءٌ يحصل من وجوده عدمه.

وبقي وجه ثالثٌ للقول بأنّ هذا الأصل المؤمّن لا يمكن أن يعتمد عليه إلّا في بعض الحالات، الذي ذكره السيّد الخوئيّ رضوان الله تعالى عليه، ونبحثه في الدرس القادم إن شاء الله.

والحمد لله ربّ العالمين.