أصول الفقه – يوم الأربعاء، ١٦ ربيع الثاني ١٤٤٥
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.
خلاصة البحث
قلنا توجد أربعة وجوه للقول بعدم وجوب الاجتناب عن الثوب الملاقي لأحد طرفي العلم الإجماليّ، وكلّ وجه ببيان واحد من الأصحاب.
الوجه الأوّل كان للسيّد الخوئي رضوان الله تعالى عليه وقد ناقشه أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه بمناقشتين.
الوجه الثاني لجريان الأصل المؤمن في الملاقي بلا معارض
والوجه الثاني الذي بحثه سيّدنا الأستاذ يكون للشيخ الأعظم الأنصاريّ رضوان الله تعالى عليه.
وهذا الوجه يشبه ما قاله السيّد الخوئيّ من تساقط الأصل الجاري في طرف ألف مع الأصل الجاري في طرف باء وأنّه بعد سقوط الأصل الجاري في طرف باء لا يبقى معارض للأصل الجاري في الثوب، فإنّ هذا المقدار مشترك بين هذا الوجه والوجه الأوّل. ولكنّ السيّد الخوئيّ استفاد في ذلك من التقدّم والتأخّر الزمانيّين وقال إذا حصل ملاقاة الثوب لألف بعد زمان العلم الإجماليّ بنجاسة إمّا ألف أو باء فالأصل الجاري في باء قد سقط في الزمان المتقدّم السابق، بينما أنّ الشيخ الأنصاري رضوان الله تعالى عليه لا يستفيد من التقدّم والتأخّر الزمانيّين بل يستفيد من التقدّم والتأخّر الرتبيّين، ويقول إنّ الأصل الجاري في الطرفين ألف وباء متقدّمان رتبة على الأصل الجاري في الثوب، فالأصل الجاري في ألف أصل حاكم على الأصل الجاري في الثوب الذي يكون في طوله.
وسبق وأن وضّحنا أنّه إذا كان هناك طوليّة بين الأصل الجاري في شيء وبين الأصل الجاري في الشيء الآخر تُسبّب هذه الطوليّة حكومةَ الأصل الأوّل على الأصل الثاني. ومثّلنا بما إذا كان عندنا ماء مستصحب الطهارة وغسلنا به ثوباً نجساً. فاستصحاب الطهارة في الماء حاكم على استصحاب النجاسة في الثوب، فلا يجري استصحاب النجاسة في الثوب ونبني على طهارة الثوب.
فالشيخ الأنصاري رضوان الله تعالى عليه يستفيد في ما نحن فيه من هذه الفكرة وهي فكرة الطوليّة أو الحاكميّة، أي حاكميّة الأصل الجاري في طرف ألف على الأصل الجاري في الثوب. فيقول يوجد هنا تقدّم وتأخّر رتبيّ، فالأصل الجاري في ألف سابق ومتقدّم رتبة على الأصل الجاري في الثوب؛ لأنّ الثوب حصل فيه الشكّ بالملاقاة بألف، وإلّا فهذا الثوب كان طاهرا بطبعه، فالأصل الذي نجريه في ألف يؤثّر على قبول طهارة الثوب أيضاً. فالأصل الجاري في الثوب متأخّر رتبة عن الأصل الجاري في ألف. والأصل الذي هو في عرض الأصل الجاري في ألف – وهو الأصل الجاري في باء – في عرض ومستوى واحد من حيث الرتبة مع الأصل الجاري في ألف، فهو يصبح سابقاً رتبة على الأصل الجاري في الثوب أيضاً؛ لأنّه مساوٍ رتبة مع الأصل الجاري في ألف. وإذا كان كذلك فعند سقوط الأصل الحاكم يحيى الأصل الذي هو في طوله، يعني أنّ أصالة الطهارة تجري في الثوب بلا معارض، مثل مثالنا في الأصل الطوليّ: إذا سقط استصحاب طهارة الماء يحيى استصحاب نجاسة الثوب الذي وصل بهذا الماء. وهكذا في ما نحن فيه أيضاً؛ لأنّ المتوقّع تعارض الأصل الجاري في الثوب مع الأصل الجاري في باء – وهما أصالتا الطهارة فيهما – وعند سقوط أصالة الطهارة الجارية في باء بتعارضه مع أصالة الطهارة في ألف – وهو أسبق رتبة من الأصل الجاري في الثوب – يحيى الأصل الجاري في الثوب [ويجري بلا معارض].
هذه خلاصة الوجه الصادر من الشيخ الأنصاريّ وقلنا إنّ فرقه مع الوجه السابق من السيّد الخوئيّ هو أنّ السيّد الخوئيّ استفاد من التقدّم والتأخّر الزمانيّين والشيخ الأنصاريّ من التقدّم والتأخّر الرتبيّين.
ويقول أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه: هذا الوجه صار هو المعروف بين الأصحاب بعد الشيخ الأنصاريّ فاستمرّ تمسّك الآخرين بهذا الوجه بعده.
ويقول إنّ هذا الوجه يبتني على أمور أربعة لو استطعنا أن نبطل أو نناقش أيّ واحد منها لبطل هذا الوجه، ويذكر فهرسة هذه الأمور التي يبتني عليها هذا الوجه ثمّ يناقشها.
الأمور الأربعة التي يبتني الوجه الثاني عليها
الأمر الأوّل: القول بالاقتضاء في منجّزيّة العلم الإجماليّ
فيقول: هذا الوجه يبتني أوّلاً على القول باقتضاء العلم الإجماليّ للتنجيز لا العلّيّة له. والسرّ في أنّ هذا الوجه مبتن عليه هو أنّ العلم الإجماليّ الثاني بناء على العلّيّة ينجّز ولو أحد الطرفين، فعند سقوط تنجّز أحد الطرفين يبقى الطرف الآخر منجَّزاً؛ لأنّ القائل بالعلّيّة – مثل المحقّق العراقيّ رضوان الله تعالى عليه – يقول: حتّى لو سقطت منجّزيّة العلم الإجماليّ في أحد طرفيه لا تسقط في الطرف الآخر. فبناء على العلّيّة لا يجري هذا الوجه؛ لأنّ العلم الإجماليّ الثاني سقط تنجيزه بلحاظ باء ولا يسقط بلحاظ الثوب فيبقى الثوب منجَّزاً.
ثمّ يقول أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه إنّما نقبل هذا الأمر الأوّل فقط، وأمّا الأمور الثلاثة الأخرى فكلّها نناقشها.
الأمر الثاني: الطوليّة في الرتبة يستلزم عدم سقوط الأصل الطولي بالمعارضة
والأمر الثاني هو أنّ الطوليّة في الرتبة تستطيع أن تنجي الطرف المتأخّر رتبةً عن التنجيز. فإذا جرى أصل مؤمّن ووقع الشكّ في طوله في المسبّب عن هذا الذي جرى فيه الأصل المؤمّن، فجريان الأصل المؤمّن في شيء ينجي المسبّب عن ذلك الشيء عن التنجيز ويفسح له المجال للأصل المؤمّن. ولكنّه هذا أوّل الكلام ونبحثه، فإنّ هذه الطوليّة هل تؤثّر حقّاً أو لا تؤثّر كما ادّعاه الشيخ الأنصاريّ حيث يقول: إنّ هذه الطوليّة الرتبيّة تؤثّر، بينما أنّ هذا بحاجة إلى البحث والإثبات.
الأمر الثالث: كون الأصل الجاري في الملاقي في طول الأصل الجاري في باء
والأمر الثالث تطبيق هذه الفكرة، فلو سلّمنا كبرويّاً بأنّ الطوليّة في الرتبة تؤثّر، ولكنّه هل يوجد طوليّة في الرتبة فعلاً في بحثنا هذا؟ وهل أنّ الأصل الجاري في الثوب في طول الأصل الجاري في ألف وباء؟ فهذه بحث صغرويّ لا بدّ من بحثه.
الأمر الرابع: عدم وجود أصل طوليّ في الطرف الآخر (باء)
والأمر الرابع هو القول بعدم وجود أصل آخر في طول أصالة الطهارة الجارية في طرف الملاقىٰ (بالفتح) [أي باء] وإلّا لوقع التعارض بين ذاك الأصل الآخر وأصالة الطهارة في الملاقي.
لكن ماذا هو الأصل الآخر المتوقّع الذي قد يجري ويقع التعارض بينه وبين أصالة الطهارة في الملاقي؟ [يأتي بحثها إن شاء الله.]
فهذا الوجه لا يتمّ إلّا بعد تماميّة هذه الأمور الأربعة.
والحمد لله ربّ العالمين.