أصول الفقه – يوم الاثنين ٢١ رجب ١٤٤٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.

قلنا إنّ الكلام يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في سقوط منجّزيّة العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة في الشبهة غير المحصورة بلحاظ جريان الأصول العمليّة المؤمّنة في تمام الأطراف. فهل تجري الأصول المؤمّنة الشرعيّة في جميع الأطراف حتّى توجب سقوط منجّزيّته لوجوب الموافقة القطعيّة أو لا؟

وانتهينا إلى إمكان جريانها في جميع الأطراف على رأي أستاذنا الشهيد.

والمقام الثاني: في أنّه بقطع النظر عن الأصول المؤمّنة، هل يمكن القول بسقوط منجّزيّة العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة على أساس الاطمئنانات الموجودة في أيّ طرف من الأطراف بعدم انطباق المعلوم بالإجمال عليه أو لا؟

وذلك ببيان أنّ العلم الإجماليّ مهما كثرت أطرافه ضعف احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على كلّ طرف من الأطراف؛ لأنّه إذا كان نسبة احتمال وجود المعلوم بالإجمال على حدّ سواء، ينقسم احتمال اليقين بعدد الأطراف، فإذا كان عدد الأطراف ألفاً يكون احتمال الانطباق في كلّ طرف احتمال الواحد في الألف، وكذا إذا كان مليون طرفاً فيكون احتمال وجوده في كلّ طرف واحد في المليون، فيحصل الاطمئنان في كلّ طرف بعدم وجوده فيه.

فهذه الاطمئنانات إذا كانت حجّة فهذا يعني سقوط منجّزيّة العلم الإجماليّ؛ وذلك لأنّه يوجد في كلّ طرف اطمئنان بعدم انطباقه على المعلوم بالإجمال، وهذا الاطمئنان يكون مؤمّناً عقليّاً للمكلّف على ارتكاب ذلك الطرف، على خلاف في أنّ حجّيّة الاطمئنان عقليّ أو شرعيّ مستفاد من عدم ردع الشارع عن السيرة العقلائيّة على العمل على طبقه.

ويقع الكلام في هذا المقام تارةً في أصل صحّة حصول هذه الاطمئنانات، وتارةً في حجّيّته بعد فرض حصوله.

أمّا الكلام في الجانب الأوّل:

فللمحقّق العراقيّ كلام يقول: إنّ هذه الاطمئنانات [بعدم انطباق المعلوم بالإجمال بأيّ طرف من الأطراف] لو حصلت فبمجموعها يحصل الاطمئنان بعدم وجود المعلوم بالإجمال في جميع الأطراف [على نحو السالبة الكلّيّة]؛ فإنّه إذا حصل اطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على هذا الطرف، وأيضاً على ذاك الطرف، وهكذا إلى كلّ الأطراف، فهذه الاطمئنانات تستوجب الاطمئنان بعدمه فيها جميعاً وهذا مناقض للعلم الإجمالي؛ لأنّ العلم الإجماليّ يعبّر عن أنّ المعلوم بالإجمال يكون في بعضه على نحو الموجبة الجزئيّة، ونقيض الموجبة الجزئيّة هي السالبة الكليّة التي حصل بهذه الاطمئنانات بعدم وجوده في الأطراف.

وعليه فلا يمكن أن تجتمع هذه الاطمئنانات مع العلم الإجماليّ، لأنّ النسبة بينهما نسبة النقيضين.

وأجاب هو عن هذا الإشكال بأنّا ليس لدينا اطمئنان بكلّ واحد واحد في الأطراف فعلاً، بل الاطمئنان في أيّ واحد من الأطراف يكون على نحو البدليّة، بأن نطمئنّ بعدم وجوده في هذا أو في ذاك أو في ذاك الثالث على نحو البدليّة.

وهذا من غرائبه وغير صحيح بالبداهة والوضوح، إلّا أن نوجّه مراده بمعنى آخر، وذلك لأنّنا لا بدّ من أن نقسّم رقم اليقين على الأطراف المشتبه فيه فيحصل الاطمئنان في كلّ واحد بالفعل لا على نحو البدل.

ولكنّ أصل الإشكال بأنّ هذه الاطمئنانات على طرف النقيض مع العلم الإجماليّ فجوابه: أنّ الاطمئنانات المتعدّدة في الأطراف لا تستوجب الاطمئنان على نحو السالبة الكلّيّة.

فلتوضيح ذلك يقال بأنّه الانكشاف الموجود في الأطراف بأيّ درجة كان (سواء كان على درجة الظنّ أو الشكّ أو الاحتمال)، إذا كانت مطلقة غير مقيّدة من حيث صحّة وعدم صحّة الانكشاف في الأطراف الأخرى، فإنّما تستلزم حصول نفس درجة الانكشاف بها جميعاً.

فمثلاً إذا كان لدينا درجة من درجات الانكشاف لقدوم زيد ونفس الدرجة الاحتمالية لقدوم عمرو ونفسها لقدوم بكر وهكذا. فهذه الدرجات الاحتمالية إن كانت مطلقةً بعضها تجاه بعض، بمعنى أنّ لدينا هذه الدرجة الاحتماليّة في زيد سواء كان هذا الاحتمال صادق في عمرو أو غير صادق ونفس الدرجة الاحتمالية موجود في عمرو سواء كان هي في بكر صحيحاً أو باطلاً وهكذا إذا كانت كلّ درجات الاحتماليّة في الأطراف مطلقة من حيث صدق أو كذب الدرجات الاحتماليّة في الأطراف الأخرى، فعندئذ تمّ ما قيل من أن هذه الدرجات الاحتمالية في كلّ واحد واحد تستوجب نفس الدرجة الاحتماليّة فيها جميعاً، إذا كان هذا ظنّاً وذاك ظنّاً وذاك ظنّاً فالمجموع ظنّ أيضاً.

ولكن إذا كانت الدرجة الانكشاف غير مطلقة تجاه الدرجات الاحتماليّة في باقي الأطراف، بمعنى أنّ هذه الدرجة الاحتماليّة في هذا الطرف إنّما هي على تقدير عدم صحّة الدرجة الاحتماليّة في باقي الأطراف، بحيث لو لم يكن هذا الاحتمال في باقي الأطراف صحيحاً فهو صحيح في هذا الطرف ولو لم يكن هذا الاحتمال في باقي الأطراف صحيحاً فهو صحيح في ذاك الطرف وهكذا، فهذا لا يستلزم حصول نفس الدرجة الاحتماليّة فيها جميعاً.

وما نحن فيه من هذا القبيل، فكلّ اطمئنان – وهي درجة احتماليّة من درجات الانكشاف – في كلّ طرف ليس مطلقاً تجاه الاطمئنانات الموجودة في باقي الأطراف، ولا يصحّ أن نقول بأنّا نطمئن بعدم وجود المعلوم بالإجمال في هذا الطرف سواء كانت اطمئناناتنا الأخرى صحيحة أو باطلة؛ لأنّا لا نقول بأنّ هذا الطرف اطمئنانيّ سواء كانت الأطراف الأخرى صحيحة أو باطلة بل نقول به إن لم تكن الاطمئنانات الأخرى صحيحة.

وعليه فهذه الاطمئنانات في الأطراف لا تستلزم الاطمئنان الواحد بعدم وجود المعلوم الإجماليّ فيها جميعاً حتّى تشكّل سالبة كلّيّة لكى تناقض العلم الإجماليّ الذي هو الموجبة الجزئيّة.

فتبقى هذه الاطمئنانات قائمة وإذا كانت حجّة سيسقط العلم الإجماليّ عن تنجيز وجوب الموافقة القطعيّة.

والحمد لله رب العالمين.