أصول الفقه – يوم الأحد ٨ جمادى الآخرة ١٤٤٤
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين. أستغفر الله ربّي وأتوب إليه.
قلنا: إنّ المحقّق النائينيّ رضوان الله تعالى عليه – بحسب نقل أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عنه – قال بأنّ الثمرة العمليّة المترتّبة على «الخلاف بين القائلين بعلّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة، وبين القائلين باقتضاء العلم الإجماليّ للمخالفة القطعيّة» تظهر فيما إذا كان الأصل العمليّ المؤمّن جارياً في أحد الطرفين فقط دون الطرف الآخر.
فحينئذ بناءً على العلّيّة فالعلم الإجماليّ ينجّز كلّاً من الطرفين بقطع النظر عن الأصول المؤمّنة، إذاً فالأصل المؤمّن في طرف واحد يسقط بمنجّزيّة العلم الإجماليّ. وأمّا بناءً على الاقتضاء فالأصل العمليّ في أحد الطرفين يجري بدون معارض فتسقط منجّزيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة.
يقول [المحقّق النائينيّ رحمه الله]: هذه الثمرة وإن كانت صحيحةً نظريّاً وبحسب الافتراض، ولكنّه عملاً لا تحصل هكذا حالة ليكون الأصل العمليّ يجري في طرف واحد فقط. فهذه الثمرة غير جارية عملاً، وإن كانت صحيحة نظريّاً.
أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه – في مقابل هذا الكلام الذي نقله عن الميرزا النائيني – صار بصدد بيان الصور التي يجري فيها الأصل المؤمّن في طرف واحد، ولا يجري في الطرف الآخر في ثلاث صور:
الصورة الأولى: ما إذا كان الأصل المؤمّن في أحد الطرفين جارياً أساساً، وأمّا الطرف الآخر لا يكون مجرى لأصل مؤمّن أساساً؛ لكونه من موارد الشكّ في الامتثال، فيجري فيه الحكم العقليّ بأنّ التكليف اليقينيّ يستدعي الفراغ اليقينيّ.
والصورة الثانية: ما إذا كان الأصل المؤمّن في كلا الطرفين بطبعهما جارياً، ولكنّ الأصل العمليّ المؤمّن في أحد الطرفين ابتلي بأصل مثبت للتكليف حاكمٍ عليه.
في هذه الصورة الثانية قلنا توجد شبهةٌ لا بدّ من التغلّب عن تلك الشبهة.
الشبهة هي أنّه ليست المشكلة [المانعة عن جريان الأصول المؤمّنة في أطراف العلم الإجماليّ] مشكلةَ التعارض بين الأصلين المؤمّنين حتّى نقول بأنّه «لولا الأصل الحاكم على هذا الأصل في أحد الطرفين لتعارضا وتساقطا، ولكن عندما يأتي الأصل الحاكم على الأصل المؤمّن في أحد الطرفين هذا الأصل المؤمّن في أحد الطرفين يسقط بالأصل الحاكم عليه، وفي الطرف الآخر يبقى سليماً عن المعارض». وإنّما المشكلة مشكلةُ إجمال دليل الأصل المؤمّن، لأنّه توجد قرينةٌ دالّة على عدم شموليّة دليل الأصل المؤمّن لكلا طرفي العلم الإجماليّ، فلا نعلم أنّه هل يشمل هذا الطرف أو ذاك الطرف؟ فيكون دليل الأصل المؤمّن مبتلى بالإجمال، لأنّ القرينة تكون قرينةً لبّيّة بمنزلة المتّصلة، والقرينة اللبّيّة التي بمنزلة المتّصلة – أو أيّ قرينة متّصلة سواء كانت غير لبّيّة أو كانت لبّيّة بمنزلة القرينة المتصلة – فهي إنّما توجب الإجمال ولا توجب التعارض.
وذلك لأنّ القرينة – فيما نحن فيه – إمّا عبارة عن قرينة عقليّة (كما قال به الأصحاب؛ لأنّ العقل عندهم يدرك امتناع التأمين في كلا طرفي العلم الإجماليّ؛ لأنّه تأمين وترخيص في القبيح أو ترخيص في المعصية لأنّه هذا ترخيص في المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي وهذا عقلا غير ممكن عند الاصحاب).
وإمّا ارتكازٌ عقلائيّ، كما عند أستاذنا الشهيد الذي يقول: [الترخيص في المخالفة العقليّة] ممكن عقلاً ولكنّ الارتكاز العقلائيّ يمنع عن ذلك.
فعندئذ إذا كانت هذه القرينة بمنزلة القرينة المتّصلة فهي توجب الإجمال في دليل ذلك الأصل العمليّ المؤمّن. وإذا حصلت الإجمال، لا يمكن للاستصحاب أن يزيل الإجمال. فإنّه إذا كان الأصل المؤمّن جارياً بطبعه، فالاستصحاب يحكم ويتغلّب عليه، أمّا إذا كان الأصل المؤمّن بطبعه ابتلي في دليله بالإجمال فالاستصحاب ماذا يصنع؟ لا يمكن للاستصحاب أن يرفع الإجمال.
هذه شبهة جارية فيما إذا كان الأصل المؤمّن في الطرفين بدليل مبتلى بالإجمال بسبب القرينة التي ذكرنا أنّه قرينة عقليّة أو عقلائيّه.
أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه قبل أنّ يرد على هذه الشبهات يذكر أنّ هذه الشبهة لا تجري دائماً، بل يوجد أربعة فروض لعدم جريان هذه الشبهة. فهذه الشبهة تختصّ بما عدا هذه الفروض الأربعة:
الفرض الأوّل: كان عبارة عمّا إذا كان القرينة الدالّة على عدم شمول دليل أصالة الحلّ لتمام أطرف العلم الإجماليّ قرينةً منفصلة لا متّصلة. وقال أستاذنا الشهيد بأنّها على مبنانا – من أنّ تلك القرينة ارتكازيّة عقلائيّة – تعتبر كالمتصلة حتماً. ولكن إذا كانت القرينة عقليّةً فهناك مجال للبحث في أنّ هذه القرينة العقليّة هل هي بمنزلة المتّصلة أو بمنزلة المنفصلة؟ لأنّ الإدراكات العقليّة بعضها واضحة وبديهيّة إلى درجة بحيث تعتبر كالقرينة المتّصلة، وبعضها بحاجة إلى دقّة وتأمّل يدركه شخصٌ واحد، فقد يقال بأنّها تعتبر كالقرينة المنفصلة.
فعلى مبنى الأصحاب يوجد مجالٌ للقول بأنّ هذه القرينة كالمنفصلة لا المتّصلة، والقرينة المنفصلة – بخلاف القرينة المتّصلة – لا توجب الإجمال. هذا هو الفرض الأوّل.
وأمّا الفرض الثاني: ما إذا كان دليل الأصل المثبت للتكليف الحاكم على الأصل المؤمّن في أحد الطرفين نفسَ دليل الأصل المؤمّن في الطرفين.
هذا قد يبدو غريباً لأوّل وهلة. كيف يمكن أن يكون دليل الأصول الثلاثة (يعني الأصل المؤمّن في هذا الطرف والأصل المؤمّن في ذاك الطرف والأصل المثبت للتكليف في أحدهما الحاكم على الأصل المؤمّن) كلّها راجعة إلى دليل واحد؟
مثاله: ما إذا علم المكلّف بعلم إجماليّ بأنّه إمّا هذا الإناء نجس وإمّا أنّ هذه المرأة زوجته فيجب عليه الإنفاق عليها. هذا علم إجماليّ بالتكليف في أحد الطرفين. إن كان الإناء نجس يجب عليّ أنّ أتجنّب عنه، وإن كانت المرأة زوجتي يجب عليّ الإنفاق عليها. فهناك يوجد حكم تكليفي إلزاميّ، إمّا الحكم التكليفيّ الإلزاميّ بإزاء الإناء أو حكم تكليفيّ إلزاميّ بإزاء هذه المرأة. وكلاهما فيهما استصحاب العدم، الإناء مجرى لأصالة عدم النجاسة لاستصحاب عدم النجاسة، وأيضاً المرأة مجرى لاستصحاب عدم الزوجية، فالاستصحابان المؤمّنان في هذين الطرفين استصحابان عدميّان، استصحاب عدم نجاسة هذا الإناء واستصحاب عدم زوجيّة هذه المرأة. ولنفرض في المثال أنّ الطرف الثاني – أي زوجيّة المرأة – ابتلي باستصحاب حاكم عليه، كيف؟ نفرض أنّ الشكّ في زوجيّتها ناشئ عن الشكّ في بقاء هذه المرأة على إسلامها حين إجراء عقد الزواج عليها، فيكون مجراً لاستصحاب بقاءها على إسلامها. هكذا تكون الأصول الثلاثة كلّها استصحابات، الأصلان المؤمّنان في هذا الطرف وفي ذاك الطرف استصحابان والأصل الحاكم على أحد الطرفين أيضاً استصحاب.
أنتم تعرفون بأنّه الأصل السببيّ حاكم ومقدّم على الأصل المسبّبيّ. مثلاً بالنسبة إلى الثوب النجس أو المتنجس إذا غسّلناه بماء مستصحب الطهارة، فإذا لاحظنا الاستصحاب في الثوب، الاستصحاب استصحاب النجاسة؛ لأنّا غسّلناه بماء مشكوك الطهارة والنجاسة، فاستصحاب النجاسة يجري في الثوب. ولكن إذا لاحظنا الاستصحاب بشأن الماء، الماء مستصحب الطهارة، فبناء على استصحاب طهارة الماء فلا بدّ أنّ نبني على طهارة الثوب الذي غسل بهذا الماء. فيقال بأنّ استصحاب طهارة الماء أصل سببيّ واستصحاب نجاسة الثوب أصل مسبّبيّ؛ لأنّ الشكّ في نجاسة الثوب ناشئ من الشكّ في طهارة الماء، والأصل السببيّ متقدّم على الأصل المسبّبيّ.
مثل هذه الفكرة تجري في ما نحن فيه. فنقول بأنّه شكّنا في أنّ هذه المرأة زوجته أو ليست زوجته ناشئ من الشكّ في أنّه عند ما عقد عليها هل كانت باقية على إسلامها أو كفرت قبل إجراء العقد عليها؟ إذا كانت باقية على الإسلام فعقده عليها صحيح وإذا كانت قد كفرت قبل إجراء عقد الزواج عليها فعقده باطل. ﴿وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾ [الممتحنة: 10] فلا يجوز أنّ يتزوّج بالكافرة.
هذا الشكّ في وجوب الإنفاق عليها أو عدم وجوب الإنفاق عليها ناشئ من الشكّ في بقائها على الإسلام حين إجراء عقد الزواج عليها، واستصحاب بقاء إسلامها أصل سببيّ واستصحاب عدم زوجيّتها أصل مسبّبيّ ويتقدّم الأصل السببيّ على الأصل المسبّبيّ. فهنا استصحاب عدم زوجيّة هذه المرأة أو عدم وجوب الإنفاق عليها محكوم لأصل استصحاب سببيّ. فالاستصحاب المؤمّن بالنسبة إلى المرأة – أي استصحاب عدم زوجيّتها – الذي يقتضي عدم وجوب الإنفاق عليها، ابتلي بأصل سببيّ حاكم عليه فيسقط، وأمّا الاستصحاب في الطرف الآخر – أي استصحاب عدم نجاست هذا الإناء – ليس مبتلى بشيء. فالأصل المسبّبي يسقط بابتلائه بالأصل السببيّ والطرف الآخر يجري بلا معارض.
وهنا ليست المشكلة مشكلة الإجمال – إجمال الدليل – حتّى تأتي تلك الشبهة، لا عندنا قرينة عقليّة ولا قرينة ارتكاز عقلائيّ بحيث يؤدّي إلى الإجمال.
في أحد الطرفين الأصل المؤمّن ابتلى بالأصل السببيّ فسقط وفي الطرف الآخر وحده، لا يوجد قرينة عقليّة ولا قرينة عقلائيّة لعدم شمول دليل الأصل له.
فإذَن الشبهة المذكورة – القائلة بأنّ دليل الأصل المؤمّن قد ابتلي بالإجمال والأصل الحاكم لا يستطيع أنّ يزيل الإجمال – لا تجري في هذه الفرضيّة، لأنّ الأصل المؤمّن في أحد الطرفين ابتلي بأصل حاكمٍ عليه فسقط، والأصل في الطرف الآخر استصحاب عاديٌّ لا يوجد أصلٌ سببيّ حاكم عليه.
فإذن هذا الفرض هو الفرض الثاني من الفروض التي لا تأتي فيها هذه الشبهة.
الفرضيّة الثالثة: ما إذا كان الأصل النافي للتكليف في كلّ من الطرفين بدليل غير دليل الأصل النافي للتكليف في الطرف الآخر. كلّ من الطرفين مجرى لأصل مؤمّن، ولكنّ الأصل المؤمّن الجاري في هذا الطرف غير الأصل المؤمّن الجاري في الطرف الآخر. ليس الدليل عليهما واحداً حتّى يدخل الإجمال في ذلك الدليل المشترك.
الشبهة التي كانت تقول بأنّ دليل الأصلين المؤمّنين ابتلي بالإجمال، كان يفترض أنّ الأصلين المؤمّنين من نوع واحد ودليلهما مشترك، فهذا الدليل المشترك يبتلى بالإجمال؛ لأنّ القرينة العقليّة أو العقلائيّة تقول بأنّ هذا الدليل لا يمكن أن يشمل كلا الطرفين، ففي كلّ من الطرفين يبتلى بالإجمال.
أمّا في هذه الفرضيّة الدليل ليس مشتركاً. دليل الأصل المؤمّن في هذا الطرف غير الدليل الأصل المؤمّن في الطرف الآخر فلا يوجد دليلٌ مشترك حتّى يبتلى بالإجمال. مثاله: ما إذا كان الأصل المؤمّن في أحد الطرفين أصالة الصحّة – إمّا بلحاظ سوق المسلمين أو صحّة يد المؤمن المسمّى بقاعدة اليد – لا أصالة البراءة ولا أصالة الإباحة، بل أصالة الصحّة. أصالة الصحّة تجوّز لك أن تأكل من هذه الحاجة التي اشتريتها من يد بائعها.
فليفرض أن المكلّف علم إجمالاً بأنّه إمّا هذه السلعة التي اشتراها مغصوبة وإمّا أنّ شيئاً معيّناً حرام. الأصل المؤمّن الجاري في الطرف الأوّل أصالة الصحّة وفي الطرف الآخر أصالة الحلّ، لا أصالة الصحّة. وأنتم تعرفون بأنّ دليل أصالة الصحّة غير دليل أصالة الحلّ. دليل الأصل المؤمّن في هذين الطرفين ليس مشتركاً.
في هذه الحالة، الطرف الذي كان الأصل فيه أصالة الحلّ إن كان مجرى لاستصحاب عدم الحلّ – أي كان سابقاً حراماً والآن لا نعلم بأنّه حلال أو حرام – فاستصحاب بقاء التكليف يتغلّب على أصالة الحلّ (بدليل أنّ الاستصحاب أصل محرز أو بأيّ دليل آخر. فإنّ العلماء بنوا على أنّ الاستصحاب إذا تعارض أصلاً من الأصول البحتة، يتقدّم عليه).
وعليه ففي هذا المثال، الاستصحاب المثبت للتكليف يُسقط أصالةَ الحلّ، وأصالة الصحة في الطرف الآخر تبقى بدون معارض. وهنا أيضاً لا يوجد عندنا قرينةٌ عقليّة ولا عقلائيّة ضدّ إطلاق دليل أصالة الصحّة حتّى يكون مجملاً. إنّما القرينة تؤدّي إلى الإجمال فيما إذا كان دليل الأصليين المؤمّنين مشتركاً. فالقرينة تقول بأنّه لا يمكن جريان هذا الأصل في كلا الطرفين فيصبح دليل ذينك الأصلين المشتركين مجملاً. أمّا إذا كان الدليل غير مشترك، فلا يبتلى بالإجمال. وبالتالي الشبهة المذكورة لا تجري بعد.
هذا هو الفرض الثالث من الفروض الأربعة التي يذكرها أستاذنا الشهيد بأنّها لا تجري فيها هذه الشبهة.
الفرض الثالث سيأتي في الدرس القادم إن شاء الله والحمد لله ربّ العالمين.