أصول الفقه – يوم الثلاثاء ٨ رجب ١٤٤٤
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.
قلنا إنّ الركن الرابع من أركان منجّزيّة العلم الإجماليّ بحسب الصياغة المطروحة من المحقّق النائينيّ رضوان الله تعالى عليه عبارة عن إمكان وقوع المخالفة القطعيّة بسبب الأصل المؤمّن أو الأصول المؤمّنة، فذكر أنّه بحسب هذا الركن نستطيع أن نجوّز جريان الأصول المؤمّنة في جميع أطراف العلم الإجماليّ في الشبهة غير المحصورة.
فإنّه بسبب فقدان هذا الركن بهذه الصياغة – أي إمكان وقوع المخالفة القطعيّة بسبب الأصول المؤمّنة – تزول منجّزيّة العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة في الشبهة غير المحصورة؛ لأنّه حتّى لو أجرينا الأصول المؤمّنة في كلّ أطراف هذه الشبهة غير المحصورة لا يتحقّق المخالفة القطعيّة؛ لعدم قدرة المكلّف على مخالفة العلم الإجماليّ في هذا العدد الواسع.
بيان المحقّق النائينيّ رحمه الله لتوضيح هذا الركن بهذه الصياغة هو أنّ [الذي يمنع عن الترخيص في المخالفة القطعيّة كان استلزامَه للترخيص في القبيح، فـ]ـمتى يكون الترخيص في المخالفة القطعيّة ترخيصاً في القبيح؟
فيقول: إنّ قبح المخالفة القطعيّة منوط بإمكان صدوره من المكلّف، وإلّا فلا معنى للحكم عليه بالقبح. وبما أنّ المكلّف غير قادر على المخالفة القطعيّة في الشبهة غير المحصورة فلا قبح في المخالفة القطعيّة. وإذا كان كذلك فالترخيص فيه جائز من قبل الشارع. وبذلك تسقط منجّزيّة العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة.
لكنّ هذا البيان – الظاهر من مصادر المحقّق النائينيّ رضوان الله تعالى عليه – لا يرجع إلى محصّل – حسب تعبير أستاذنا الشهيد – لأنّه جعَل القبحَ منوطاً بالقدرة ويقول: بما أنّ المكلّف غير قادر على المخالفة القطعيّة في الشبهة غير المحصورة تكون المخالفة القطعيّة غير قبيح! وهذه النظريّة غريبة؛ لأنّ القبيح قبيح سواء كان المكلّف قادراً على فعله أو لا. فمثلاً: الظلم على أحد وضرب اليتيم بلا سبب معيّن قبيح بغضّ النظر عن قدرة المكلّف؛ فإنّ القبح العقليّ غير متقوّم بالقدرة، فلا معنى لما قاله.
ثمّ وجّه أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه كلامه بأنّه لعلّه لا يقصد أنّ إجراء هذه الأصول المؤمّنة لا يؤدّي إلى القبح حتّى يقال: لماذا لا يؤدّي إلى القبح حتّى وإن كان غير مقدور؟
بل لعلّه يقصد أنّه لا يؤدّي إلى صدور الترخيص الشرعيّ في المخالفة القطعيّة؛ لأنّ الترخيص إنّما يصدر في المقدورات، فهل يمكن للشارع أن يرخّص لشخص في الصعود إلى الجبل أو القمر وهو لا يقدر عليه والحال أنّ هذا الترخيص لغو من الشارع؟
فإنّ صدور الترخيص من الشارع لا يناسب الفعل غير المقدور له من قبل المكلّف، فلعلّ المحقّق النائينيّ لا يقصد نفي القبح بل يقصد نفي الترخيص الشرعيّ ونفي استلزام هذه الأصول المؤمّنة للترخيص الشرعيّ.
وعلى كلّ حال إنّ السيّد الخوئيّ على أساس ما وجد من الضعف في بيان المحقّق النائينيّ لهذا الركن الرابع بدّله بصياغة جديدة فقال: إنّ القبيح ليس فقط الترخيص في المخالفة القطعيّة بل الترخيص القطعيّ في المخالفة الواقعيّة قبيح أيضاً. فإنّ بين الترخيص في المخالفة القطعيّة وبين الترخيص القطعيّ في المخالفة الواقعيّة فرقاً! فيقول السيّد الخوئيّ رضوان الله تعالى عليه: لو سلّمنا عدم التأدية إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة في الشبهة غير المحصورة – لعدم القدرة عليها – لكن هذه الأصول المؤمّنة في جميع أطراف هذه الشبهة غير المحصورة تؤدّي إلى الترخيص القطعيّ في المخالفة الواقعيّة.
فالترخيص في المخالفة القطعيّة قد يكون متوقّفاً على القدرة – كما يدّعيه المحقّق النائينيّ – [فبصدور الترخيص في جميع أطراف الشبهة غير المحصورة لا يحصل الترخيص في المخالفة القطعيّة القبيحة] ولكنّه قد يحصل الترخيص القطعيّ في المخالفة الواقعيّة في أطراف الشبهة غير المحصورة، [لأنّ] المخالفة الواقعيّة تكون في واحدة من مفردات تلك الشبهة. مثل نجاسة إناء واحد في المليون عدداً من الأواني، فـ[ـبشرب] هذا الإناء الواحد الواقعيّ يمكن أن يخالف حكم الاجتناب، فإنّ هذا العدد الواسع لا يمكن أن يجمع بينها ولكن يمكن مخالفته على نحو البدل.
وهذا بقطع النظر عن المحاذير الأخرى مثل أن يكون خارجاً عن محلّ ابتلائه أو غير قادر على شيء منها أو ما شابه ذلك. فالبحث إنّما من جهة محذور الشبهة غير المحصورة. فإنّه قادر على ارتكاب أيّ واحد من هذه الأطراف بما فيها الحرام الواقعيّ – وإن لم يعرفه بعينه – على نحو البدل، وإن كان الجمع بينها مخالفة قطعيّة غير مقدور.
فيقول السيّد الخوئيّ: هذا الترخيص في جميع الأطراف قبيح أيضاً، لأنّه ترخيص قطعيّ في المخالفة الواقعيّة، والمخالفة الواقعيّة تحصل بواحد على نحو البدل لا بمخالفة الكلّ حتّى يقال بعدم القدرة عليه.
وعلى هذا الأساس قال السيد الخوئيّ إنّ صدور الترخيص في كلّ الأطراف قبيح أيضاً.
أمّا السيّد الشهيد رضوان الله تعالى عليه يقول: إنّ هذا الخلاف بين المحقّق النائينيّ والسيد الخوئيّ في أنّ «المحذور العقليّ هل هو في الترخيص في المخالفة القطعيّة أو في الترخيص القطعيّ في المخالفة الواقعيّة؟» فنحن في غنى عن هذا الخلاف؛ لأنّا [من الأساس] لا نرى محذوراً عقليّاً في الترخيص في المخالفة القطعيّة ولو في العلم الإجماليّ المحصور في طرفين.
فقد سبق ما شرحنا في محلّه من أنّ أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه يرى بأنّ الغرض من الترخيص الظاهريّ عندما يأتي في أطراف العلم الإجماليّ هو بيان أنّ الغرض الترخيصيّ أهمّ عند المولى من الغرض اللزوميّ الذي سيفوت؛ لأنّه إذا جاء الأصل المؤمّن في كلا طرفي العلم الإجماليّ فالغرض المعلوم بالعلم الإجماليّ يُسحَق ويزول، ولكن يحفظ الغرض الترخيصيّ الموجود قطعاً إمّا في هذا الطرف أو في ذاك الطرف، أو حتّى الغرض الترخيصيّ الاحتماليّ؛ بناءً على أنّ الاهتمام بهذا الاحتمال قويّ جدّاً. فهذا معقول عقلاً ولكنّه غير مناسب بحسب الارتكاز العقلائيّ؛ لأنّ الناس في حياتهم العقلائيّة وبحسب عاداتهم العقلائيّة وبحسب ممارساتهم العقلائيّة للتعامل بين الموالي والعبيد لا يتعقّلون وجود غرضٍ ترخيصيّ أهمّ من الغرض الإلزاميّ القطعيّ (ولو بالقطع الإجماليّ).
نعم، كون الغرض الترخيصيّ أقوى بحيث يتغلّب على الغرض الإلزاميّ فيما إذا كان الغرض الإلزاميّ احتماليّاً غيرَ معلوم بالعلم الإجماليّ معقولٌ عندهم كما في الشبهات البدويّة. ولكن هذا لا يكون معقولاً عند ارتكاز الناس فيما إذا كان الغرض الإلزامي قطعيّاً، ولهذا تصبح أدلّة الأصول المؤمّنة قاصرة – بحسب هذا الارتكاز العقلائيّ – عن شمول كلا طرفي العلم الإجماليّ.
ولكن إذا صار أطراف العلم الإجماليّ واسعة جدّاً وصارت الشبهة غير محصورة فالعقلاء لا يرون مانعاً عن كون هذه الترخيصات التي عددها بالآلاف المؤلّفة أولى وأهمّ من غرض لزوميّ عدده معدود وقليل مثل الواحد والاثنين؛ لأنّهم ليس لديهم ارتكاز بامتناع غلبة الأغراض الترخيصيّة البالغة للملايين على غرض لزوميّ معلوم بالإجمال.
فنحن إذن نقول: إنّ المحذور العقليّ فلا نؤمن به في موارد الشبهة غير المحصورة، والمحذور العقلائيّ لا يجري، بالتوضيح الذي ذكرنا. فلا مانع من جريان الأصول المؤمّنة في جميع أطراف العلم الإجماليّ في الشبهة غير المحصورة.
هذا بيان أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه في هذا البحث.
والحمد لله رب العالمين.